الثلاثاء، 12 يوليو 2022

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (5)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (5)

     في قرية صغيرة منعزلة، تقع في وادٍ غير ذي زرع، بعيدة عن مراكز الثقل السياسي والاقتصادي العالمي، ماؤها نزر قليل، وأراضيها سلسلة من الجبال المتداخلة الصمّاء، والوديان الصخرية الجرداء، لا يكاد يُرى فيها طائر ولا شجرة، تمر أحداث العالم بمعزل عنها، ويتصارع الأقوياء والأغنياء والمسيطرون، دون أن يشعروا بها، فضلاً عن أن يهتموا بها، وفضلاً عن أن يحسبوا لها حساباً.. وُلِدَ طفلٌ يتيم.

     لا بد أن كثيرين سواه ولدوا في يومه وعامه هنا وهناك. ونشأ هذا الطفل في قريته، وشبَّ هادئاً أميلَ للصمت والعزلة، وعاش فقيراً يسعى لكسب قوته، حتى عمل راعياً للغنم التي يملكها الآخرون من أجل ذلك.

     وحين بلغ الأربعين من عمره، غيّر موقفه من المجتمع الذي يعيش فيه، فطفق يخاطبه يريد إصلاحه، بل وإصلاح الناس جميعاً، والبشرية كلها. وسار في طريقه والصعوبات تلاقيه من كل مكان، والعدو كثير، والناصر قليل، ولكنه نجح أعظم النجاح، وما مات حتى دان مجتمعه له، ودانت له أمة عرفت بالتمرد الشموس، والكبرياء التي ليس لها حد، وواصل مَنْ خَلَفَهُ من بعدِه مسيرته، حتى امتدت دعوته إلى أطراف الدنيا جميعها.

     لا ريب أن ذلك موضع عجب لا ينتهي، ودهشة لا حد لها، لكنه بالرغم من ذلك العجب وتلك الدهشة حقيقة واقعة، ولولا أنَّ هذه الحقيقة نعيشها كل حين لأباها الناس أشد الإباء، ورفضوها أشد الرفض، وقالوا: إن ما تتحدثون عنه وهم من الأوهام، وخيالات لا رصيد لها من الواقع.

     أما القرية فهي مكة المكرمة، وأما اليتيم فهو محمد بن عبد الله ﷺ الذي أكرمه الله عز وجل أيّما إكرام، فبعثه لمّا بلغ من عمره الأربعين ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وليصلح بالإسلام الذي بعث به، الناس جميعاً، ولا عشيرته وأهله الأدنين فحسب.

     لا غرابة إذن أن يكون هذا الميلاد المبارك، لذلك الولد اليتيم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام (53) قبل الهجرة، الموافق للعاشر من شهر آب عام (570) للميلاد، بداية عهد جديد في تاريخ العرب وتاريخ الإنسان.

     فما كاد يمضي على ذلك الميلاد المبارك بضع وستون عاماً من عمر الزمان، حتى انطلقت مواكب الصحابة الكرام، تلاميذ ذلك المولود العظيم عليه الصلاة والسلام، خارجةً من جزيرة العرب، تهدر كالسيل، وتضيء كالنور، لتنشر دين الله تعالى في كل مكان من العالم، وترفع راية التوحيد، وتدعو الناس إلى الإيمان والحق، والعدل والفضيلة، وتقيم المجتمع الصالح، وترسي شامخ بنيانه.

     وكان ذلك الميلاد مقدمةَ جيوش الإسلام الكبرى، الزاحفة كما يزحف الليل إلى كل بقعة، لتصرع عروش الظلمة والطغاة والمتألِّهين، ولتقود مواكب الدعاة إلى الله على كل أرض، وفي كل شعب، وكان مقدمةً لمواكب العلماء التي بنت مراكز الثقافة والمعرفة والحضارة في كل مكان، ما بين الأندلس والصين، وعلّمت العقل البشري كيف ينتصر على الخرافة والجهل، والأوهام والضلالات، والشرك والوثنية، وأطلقت عقاله من إسار الجمود والتقليد، وحمت انطلاقته من أن يضيع في التيه، ويسعى فيما لا يقدر عليه ولا يقع في طوقه وإمكانه، وأرشدته كيف يعبد الله على بصيرة وهدى ونور، وأذاعت في الناس دعوة الإسلام، وقيمه الرفيعة، ومثله العظيمة، ومبادئه الخالدة المباركة.

     حدث عظيم، قاد مسيرة الحضارة الإنسانية والتقدم، والعلم والابتكار والتجديد، ووضع الدعامة الأولى لانتصار الإنسان المسلم على الجاهلية وقيمها المتخلّفة، وموازينها الضالة، وأخلاقها المنحرفة، وأخذ بيد الإنسانية كلّها إلى ما كانت تتطلع إليه من نور بعد أن أشقاها الظلام، وخير بعد أن كثرت عليها الشرور، وهداية بعد أن تعبت وهي تخبط في الضلال، وأمان بعد أن أرهقتها الفتن، وحرية طال العهد بها بعد أن تسلط الظلم والقسوة والطغيان، ومساواة راشدة كريمة، بعد أن مزّقتها إلى طبقاتٍ التمايزُ المجحف، والتفريق الظلوم.

     ولولا أن مَنَّ الله عز وجل بمحمد بن عبد الله ﷺ لعاشت الإنسانية حتى اليوم في ظلام دامس، وحيرة بالغة، وتيه وضياع، وقلق لا ينتهي، ولظلت ترسف في قيود الوثنية والجهل، والفوضى والتأخر، والهمجية والوحشية، والشقاء المريع.

     ولولا ذلكم المَنُّ الرباني الكريم؛ لما أشرق النور النبوي الأكمل والأخير على الأرض، ولما سارت مواكب العلم والتقدم والمعرفة والهداية تشق طريقها إلى كل بقعة في الأرض، ولما قامت حواضر المعرفة والمدنية التي أسدت للناس أحسن الأيادي، في شتى ديار العالم الإسلامي، من المحيط إلى المحيط.

     يا أيتها الذكرى الكبيرة الغالية.. سلامٌ عليك بما صنعت للإنسانية والإنسان..

     سلامٌ عليك بما قدمت للعالم والشعوب..

     سلامٌ عليك بما كان لك من خالد العطاء الذي لا يبلى، والخير الذي لا ينقطع..

     سلامٌ عليك في الأولين، وسلامٌ عليك في الآخرين، ولك الخلود والقبول والمجد والثناء في الأرض والسماء.

*****

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (4)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (4)

     لقد كانت ولادة رسول الله ﷺ في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مفتتح حياة جديدة كريمة للعرب في جزيرتهم، وللناس حيث كانوا، فما كاد النبي الكريم ﷺ يبلغ أربعين عاماً من عمره المبارك، حتى أرسله الله عز وجل بالدين الأخير، دين الإسلام لهداية البشرية كلها، وإخراجها من الظلمات إلى النور. وبدأت عملية الهداية العالمية بأمة العرب، فكانت أعظم وأول نموذج لها، مثّلها أشرف وأتمّ تمثيل.

     وإذن؛ فإن لنا أن نقول: لقد ولدت بمولده الشريف عليه أفضل الصلاة والسلام، أمة كانت تتفرق في الصحراء وشعاب الوديان، تتصارع بطونها على عين ماء، أو منبت كلأ، أو ناقة سُرقت، أو بئر معطلة، أو طلل هزيل. نهاية الجود عندها ذبح شاة أو بعير للضيف، وذروة البلاغة بيت من الشعر يرفع قبيلةً أو يحط أخرى، وقمة الفرح أن يظهر فيها شاب نجيب، أو ينبغ فيها شاعر، أو تُرزق مولوداً ذكراً، وغاية الشجاعة أن تغزو قبيلةٌ من القبائل قبيلةً أخرى، فتفوز عليها، وتقتل رجالها، وتسبي نساءها وصغارها، وتغنم أنعامها.

     أما عبادتها فكانت عجباً من العجب، لقد عبدت من دون الله تعالى حجارة صنعتها أصناماً بأيديها، ثم عكفت عليها، تحسبها قادرة على جلب نفع، أو دفع ضر، وكان الناس من أبنائها إذا كانوا في سفر؛ بحثوا عن أربع حجارة، اختاروا أحسنها صنماً لعبادته، وجعلوا الثلاثة الأخرى أثافيَّ لطبخ الطعام، وإذا لم يجدوا من الحجارة ما يريدون، جمعوا بعض الرمل على شكل كثيب صغير، ثم حلبوا عليه شيئاً من لبن نياقهم ليتماسك بعض الشيء، فإذا تم لهم من ذلك ما أرادوا طفقوا يطوفون به.

     ومن حيث الدولة، لم يكن لهم أي مظهر من مظاهرها، فلا قانون ولا نظام، ولا جيش ولا حدود، ولا مؤسسات ولا حكومة، ولا أي شيء من ذلك، وكانت القبيلة كلَّ شيء في حياتهم. حقاً كانت لهم أوضاع مستقرة لها شكل الدولة إلى حد بعيد لدى المناذرة والغساسنة وفي اليمن، لكنَّ ذلك كله سقط صريع الولاء والتبعية للآخرين بشكل مباشر أو غير مباشر، فاليمن كان يحكمها الفرس حكماً مباشراً بعد أخرجوا منها الأحباش، والغساسنة كانوا تابعين للروم، وإن كان حكَّامهم عرباً، والحال في المناذرة كالغساسنة في تبعيتهم للفرس.

     هذه الأمة الشقية البائسة، المنكوبة الضالة، منَّ الله عز وجل عليها بالرسول الكريم محمد بن عبد الله ﷺ فإذا بها تتبدل تبدلاً سريعاً وعميقاً وواسعاً، فإذا بها أمّة واحدة متماسكة، لها كتابٌ واحد هو القرآن الكريم، وقِبلةٌ واحدة هي الكعبة المشرفة، وقدوةٌ واحدة هو الرسول الكريم ﷺ، ودينٌ واحد هو الإسلام، وهدفٌ واحد هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، طلباً لرضوان الله تعالى، فصارت بذلك الأمة الراشدة، الوصيّة على الناس، الغالبة المنصورة، الباسطة لواءها على الأمم الأخرى، لا ظلماً ولا تسلّطاً ولا سرقةً لخيراتها، بل للهداية وللهداية فقط.

     وانطلقت كتائب هذه الأمة التي أكرمها الله عز وجل بالإسلام، وحدد لها انتماؤها لهذا الدين؛ ذلك الدور الريادي الضخم، القيادي الكبير، تجوب الدنيا وتنشر كلمة الحق، وتحطم صروح الجاهلية، فإذا بها بعد عهدٍ ليس بالطويل في حياة الأمم والشعوب، تملك رقعة شاسعة من الأرض، تطبّق في هذه الأرض كلها، حكم العدل والمساواة، وتهيئ للناس حتى من غير المؤمنين بعقيدتها، فرصة العيش الحر الآمن الكريم، وإذا بها دولة القوة والمجد، وإذا بها صولة العزة والظفر، وإذا بواحد من حكامها ينظر إلى سحائب غادية، فينظر لها باطمئنان الواثق، وعزة المالك الظافر، وامتنان الشاكر المؤمن: أمطري حيث شئت فإن خراجك لي!..

     أليس لنا إذن أن نلمس في مولده الشريف ﷺ مولد حياة جديدة لأمة العرب، نقلتهم نقلة شاسعة واسعة من حياة ضيقة جاهلة محدودة؛ إلى حياة واسعة نيّرة خصيبة، ومن اهتمامات تافهة كئيبة كابية؛ إلى اهتمامات في غاية الضخامة والقوة والرفعة، ثريّة بأكبر الأهداف على الإطلاق.

     وهل ثمة في الكون كله، هدف أعظم من هداية الناس، وقيادتهم للحق والنور، وتبصيرهم بطريق سعادتهم في الدنيا والآخرة، والسهر على شعلة الإيمان لتظل حية متوهجة يأوي إليها الناس، ويفيء إليها من أشقاهم ليل الضلال والفساد!؟

     إن هذا الهدف الجليل.. إنما اقتنعت به أمة العرب، ونهضت به، وحملت مسؤوليته الكبرى، يوم آمنت بهذا الدين العظيم، ومنحته صادق ولائها، وحملت رسالته للعالمين، فصارت بحق خير أمة أخرجت للناس؛ بعد أن تتلمذت على أكرم خلق الله وأعظمهم، المولود في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة والسلام.

*****

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (3)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (3)

     إذا ذكرت الشهور، كان لشهر ربيع الأول منزلة حبيبة خاصة في قلب كل مسلم، إنه شهر العطاء بلا حدود، والخير بدون قيود، وها هي آثار عطاياه وهداياه ماثلة حتى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

     وهذي أواصر قرباه لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر أو جاهل، وتلكم وشائج نسبه تشرق وتسمو وتزهو، لا يعتريها لبسٌ أو غموض، وكيف لا يكون كذلك، وهو الشهر المبارك العظيم الذي ولد فيه الرسول الكريم ﷺ ليحمل بعد حين من الدهر شعلة الهداية السماوية للناس، بعد أن عصفت بهم الجهالات والضلالات، وباتوا في ليل من الشقاء والفساد طويلٍ بهيم.

     وإذا قيست الأزمنة بما تقدم من الخير النافع المبارك، لا بما يدور الفلك خلالها من دورات، فإن شهر ربيع الأول تفتّح عن خير عميم، شمل الدنيا كلها، والبشرية جمعاء ولا غرابة، فقد كانت رسالته للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وصدق الله العظيم في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

     ولم يمضِ على الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل سنة 570 للميلاد أربعون عاماً، حتى بدأت سلسلة جديدة من البركة النافعة، والهدي الكريم، وارتفاع راية الحق، وتدفق أشعة النار، فلقد تنزّل جبريل الأمين عليه السلام، في ليلة رمضانية نورانية مباركة، على رسول الله ﷺ في غار حراء، ليبلغه رسالة السماء الأخيرة، رسالة الإسلام التي أتمَّها الله عز وجل، وأكملها وارتضاها ديناً أخيراً للناس، هو وحده سبيل سعادتهم الوحيد في دنياهم وأخراهم، ونهض المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، بالأمانة خير نهوض، فجاهد في إبلاغها بكل جهده حتى أتاه اليقين، فانتقل إلى خالقه عز وجل، بعد أن ترك الناس على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

     وإنه لمن الخير المبارك أن تتفتح قلوبنا لهذه الذكرى الكريمة، تمر بنا هذه الأيّام، فلا يكون شعورنا بها شعور الجماد تمر به دورات الزمان، ولكن شعور الإنسان الذكي البصير، ذي القلب الحي الواعي، يلتمس العظة والعبرة والدروس، ويستفيد مما يمر به، ويحدد على ضوء الرسالة الكريمة التي جاء بها صاحب الذكرى ﷺ ملامح شخصيته كفرد، ومعالم أمته كجماعة، جاعلاً من الإسلام نظام حياته، ومن القرآن الكريم دستوره وقانونه، ومن النبي الكريم محمد ﷺ قدوته وإمامه وأسوته. وبذلك يستفيد من الحوادث، ويتفاعل مع التاريخ، وينتفع من مرور الذكرى الطهور.

     إن الإحساس الإيجابي الصادق بهذه الذكرى الغالية، هو إحساس بسيرة صاحبها عليه الصلاة والسلام، وهو إحساس بنبل الغاية، وسمو الهدف، وعظمة الطريق، وضخامة المسؤولية، وبأن الغايات الكبار تحتاج إلى رجال كبار.

     وهو إحساس بالعظمة الخارقة في عقيدة الإسلام ونظام الإسلام، وكل ما في الإسلام من أخلاق وموازين، وقيم ومُثل، وضوابط وتوجيهات، وهو أيضاً إحساس بهذه المدرسة التي كانت الوحيدة في العالم، عندما قدَّمت آلاف النماذج العملية لما تريد، فرسول الله ﷺ لم يكتفِ بتقديم نظريات للعالم، لا تجد مَنْ يحملها، أو يحولها إلى سلوك يومي، بل قدَّم نماذج عملية لكل نظرية، ولكل خُلُق، فكان الإسلام سلوكاً وعملاً، وكان استعلاءً على جواذب الأرض ونوازعها، وكان تفوقاً ضخماً مطلقاً على كل ما سواه، إلى جانب كونه نظريات ومبادئ تقوم على سلامة العقيدة في نقائها وتوحيدها، وسمو التشريع في عدالته وواقعيته، وشموله وغناه.

     وأمتنا اليوم، التي تود أن تنهض بعد عثار، وتصحو بعد كبوة، وتتقدم بعد تخلف، وتنطلق انطلاقة الظفر والظهور والغلبة، في جميع الميادين، يحسن بها لتصح مسيرتها ويستقيم أمرها، أن تتحسس مواقعها الفكرية، وأن تمتحن طاقاتها، وأن تقوّم قناعاتها، وأن تصوغ مواقفها، وأن تحدد غاياتها ووسائلها، على ضوء الرسالة المباركة الطاهرة التي جاء بها صاحب الذكرى عليه أفضل الصلاة والسلام، وعليها كذلك أن تمتحن صدق وجدّية ولائها لقائدها وإمامها، وقدوتها وأسوتها، الذي كان لها في ذلك كله النموذج المتكامل في كل شيء، ذلك أنه ما ترك ميداناً من ميادين الحياة الخيّرة إلا ولجه وضرب فيه أحسن المثل.

     إن رسولنا الكريم ﷺ هو الذي أضاء ليل الظلام الداجي يوم كان العالم يتخبط في متاهات الضلال والحيرة، ويئن من وطأة الظلم والظالمين، يوم كان هذا العالم نهباً مقسّماً لأولئك الذين استطاعوا ببغيهم وعدوانهم وتحت شتى العناوين؛ أن يستعبدوا مَنْ دونهم من البشر، وأن يفرضوا عليهم سلطانهم بلا هوادة ولا رحمة ولا أي تقدير لكرامة الإنسان.

     لقد أضاء ذلك الليل، وجلا تلك الظلمات، وأزال هاتيك المظالم، وأطلق الإنسان من إساره، ليكون عبداً لله تعالى وحده، وبهذه العبودية يكون حراً من كل عبودية أخرى لأي إنسان كائناً من كان، وبذلك فقط تكون كرامة الإنسان.

*****

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (2)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (2)

     يحمل إلينا ربيع الأول في كل عام، ذكرى حبيبة غالية على قلب كل مسلم، هي ذكرى الميلاد النبوي الشريف، التي تعبق بشذاها العاطر الأيام، وتشدو بجمالها وجلالها الأجيال والأعوام، والتي تظل كوكباً دُرِّيّاً في مسيرة الزمان، ونقطة تحول كبير، ونقلة ضخمة في تاريخ الحضارة والإنسان. ذكرى كريمة غالية، ما أكثر ما وقف عندها القُصّاص والكُتّاب، والأدباء والفصحاء، والشعراء والمؤرخون!.. يستنبطون منها العبر، ويستخرجون منها الدروس، مأخوذين بعظمتها وغناها، وسعتها وتفوّقها، ثم لا يَبْلى الحديث، ولا تتوقف الأقلام، ولا تنضب القرائح، ويظل الكلام جديداً وأثيراً وغالياً، وتظل النفوس تهفو إليه، وهي دائماً تطلب المزيد. ويظل الموضوع قادراً على أن يفتّق أبواباً من الحديث لا نهاية لها، ويظل قادراً على العطاء الدائم وكأنه المنجم البكر والغابة العذراء.

     ونحن نقف اليوم، وقفة المعتبر بأحداث التاريخ، المعتز بعظمة ومجد الإسلام، وجلال وشموخ أمة الإسلام، المفتخر بالانتماء إلى سيد الأنبياء والمرسلين ﷺ نبياً ورسولاً، وقائداً وزعيماً، وقدوة وأسوة، المتمسك بالدين العظيم الذي جاء به، والقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى عليه.

     وتنثال على المرء العبر والذكريات، وتتسع به طرق الحديث وتتشعب، ويجد نفسه أمام بحر زاخر إزاء العظمة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فيتوقف بعض الشيء فيما يذكر من ذلك.

     أيذكر يوم الميلاد وما ترتب عليه من نتائج!؟

     أيذكر النشأة الطاهرة المبرّأة قبل البعثة بكل ما فيها من تفوق وسمو، وتألق وشموخ، وعظمة وكمال!؟

     أيذكر البعثة الطاهرة بما صحبها من جهاد كريم صادق، وتضحية وبطولة، وإخلاص منقطع النظير، ومن نزول القرآن الكريم دستوراً كاملاً ومنهج حياة، ومن هدمٍ لصروح الشرك والطاغوت، وطي لأعلام الجاهلية التي أشقت الناس، ومن حرب للفساد والضلال لا هوادة فيها!؟

     أيذكر ما أعقب انتشار الدعوة، وكفاح الرسول الكريم ﷺ وصحبه الأوفياء الكرام من أجل إبلاغها للناس كافة!؟

     أيذكر الهجرة الشريفة وانتصارات الإسلام الأولى في بدر وغير بدر من خالد الانتصارات!؟

     أيذكر الإسلام العظيم الذي أعزّ الإنسانية، ورفع كرامة الإنسان، وأقام لها أكرم وأكمل مجتمع بشري أمثل، وحرر المستضعفين والأرقّاء والمساكين، وأشعرهم بقيمتهم الإنسانية كاملةً غيرَ منقوصة، وحقق العدالة والمساواة والتآخي، ونشر الإسلام والتعاون والفضائل، والحرية والعزة والأمان، وما شئت من كريم الفضائل والأخلاق، فإذا بفجر السعادة الإنسانية، تشرق على الدنيا أنواره، وتنمو فيها وروده وأزهاره، وتضوع عاطرةً مُمَسَّكَةً آثاره!؟

     أيذكر الدين العظيم الكريم، الذي ربّى أبطالاً وأجيالاً، وشاد ممالك ودولاً، ونشر ألويته في الشرق والغرب، فتُلي القرآن الكريم في الصين، وارتفع الأذان في فرنسا والأندلس، وأقام أعظم الحضارات، وأرسى أشرف المبادئ والأنظمة والقوانين!؟

     أيذكر كيف هزَّ دينه العظيم الدنيا جميعاً، فقدّم موازين للتفاضل والتمايز أدق وأصح وأكمل، وضوابط للأخلاق أسلم وأعظم وأشمل، ونظرة للوجود رحيبة واسعة، وتصوراً للكون والإنسان والحياة أغنى وأسمى وأطهر، وطفق يجتاح معاقل السوء والشر في العالم، حرباً على الطغيان والظلمة، والجور والإرهاب، والفقر والتخلف، والجهل والفوضى، والتأخر والجمود!؟

     لقد كان المولد النبوي الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، مقدمة لهذا كله ولكثير سواه، في غاية الخصب والعظمة والتفوق، كان مقدمةً لانتصارات رائعة ظافرة في عالم الضمير وعالم الواقع، في عالم الفرد وعالم الجماعة، في عالم الأسرة وعالم الدولة، في عالم الحاكم والمحكوم، والحضارة والقانون، والتصورات والموازين، والأهداف والغايات، والوسائل والطرق، والقيم والمثل، انتصاراتٍ في كل هذه العوالم وفي غيرها، وعلى كل الأصعدة والمستويات، انتصاراتٍ حققت للإنسانية ما كانت تصبو إليه من أمانٍ وآمال، وافتتحت لها عهداً جديداً هو أكرم عهودها على الإطلاق.

     وفي تاريخ الإنسانية الطويل، كم وُلِد من أكاسرة وقياصرة، وقادة وحكّام، وأصحاب دعوات ومبادئ، ولكن لم تشهد البشرية كلها ميلاداً أجلّ، ولا أعزّ، ولا أكرم، ولا أنبل، ولا أمجد من ميلاد محمد بن عبد الله ﷺ!..

     فلقد قاد رسولنا الكريم العظيم مسيرة الحياة، وقافلة الحضارة، إلى حيث الهدى والنور، والصدق والعدل، والتوحيد والإيمان، وكان الرائد الهادي المبارك، لمواكب البشرية الطويلة الزاحفة في تيه الحياة، تنشد النور، وتطلب العدل، وتريد السلام، وتسعى لحياة حرّة كريمة، هانئة آمنة، فحقق لها المصطفى عليه الصلاة والسلام ذلك كله، وقادها في درب السعادتين؛ سعادة الدنيا، وسعادة الآخرة.

     ولئن كان الرسول الكريم ﷺ قد أفضى إلى ربّه عز وجل، فإن الإسلام العظيم الذي بُعث به، قادر باستمرار على تحقيق هاتين السعادتين للناس، ما استمسكوا به بحق وصدق، ومنحوه ولاءهم الجاد الكامل.

*****

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (1)

الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني

في ذكرى مولد الرسول ﷺ (1)

     ما أطل شهر ربيع الأول من كل عام؛ إلا وجاء يحمل معه ذكرى أثيرة غالية، يعتز بها كل مسلم ويهفو إليها، وهي ذكرى مولد الرسول الكريم ﷺ تلك التي كانت بدايةَ فجر سعيد طلع على الدنيا، وبزوغَ هداية أنقذت الناس من الضلال والفساد والحيرة، ومشرقَ حضارة كريمة عاطرة لم يعرف العالم مثيلاً لها قط، وإيذاناً بقيام دولة الحق والعدالة والمساواة، والمجتمع الراشد الأمثل.

     وإذا كان العظماء يقاسون بمقدار ما استطاعوا أن يحققوه في الواقع من العطاء المبارك النافع، فإن عظمة الرسول الكريم ﷺ بهذا المقياس الصحيح، هي العظمة الخالدة الكبرى، التي تتقطع أعناق جميع العظماء دونها، ويظلون في غاية العجب والدهشة والإكبار، وهم يمعنون فيها، ويستجلون كنوز عبرها ودلالاتها، ويتوقفون عند أبعادها الشاسعة، وأمدائها الواسعة، وغناها الذي لا ساحل له.

     وإنها لكثيرة جداً تلك النتائج المباركة التي حققها رسول الله ﷺ في دنيا الناس فأفادهم ونفعهم، وبيّن لهم السبيل القويم، وجنّبهم السوء والأذى، والشرور والمهالك، وقادهم إلى طريق سعادتهم في دينهم ودنياهم.

     إنها كثيرة جداً تفوق قدرة المرء الذي يحاول إحصاءها، فهي أكبر من طاقته وإمكاناته، وإذن؛ فإن له العذر إذا حاول التوقف عند بعض المعالم الكبرى من هاتيك النتائج، وعفواً إن فعلتُ ذلك، فالموضوع ضخمٌ عظيم، وحسبنا أن نجوب في بعض عطائه المبارك.

     أول نتيجة كبرى من نتائج دعوته ﷺ هي ذلك الجيل الرباني الفريد الذي رباه رسول الله ﷺ. لقد كان هذا الجيل أعظم جيل عرفته البشرية على الإطلاق، صحيح أن الأمة الإسلامية، ظلت طيلة عمرها، تُخرج من أبنائها مَنْ فيه مشابه كثيرة من صفات ذلك الجيل، في شتى ديار الإسلام، وعلى اختلاف الظروف والأحوال، ولكنْ صحيح كذلك أن ذلك الجيل الرباني الفريد لم يتكرر وجوده جماعة، وإن تكرر وجوده أفراداً. وهذا دليل قاطع على عظمته ﷺ وكريم نتاجه المبارك الميمون، يظهر أول ما يظهر في ذلك الجيل العجيب الممتاز، الذي غلب في نفسه أهواءها بادئ ذي بدء، ثم انطلق من بعد ذلك ليغلب العالم وليفتحه على بركة الله، وفي سبيل الله.

     والدارس لحال ذلك الجيل الأول، وعظمة آثاره في الأرض، وغناها وكثرتها وعمقها كذلك، وما فيها من تفوق نفسي باهر، وارتفاع إلى أقصى وأسمى درجات الكمال الإنساني، يجد نفسه أمام فيض زاخر من المواقف والأخبار والمعلومات تتصل به، هي ذروة التفوق البشري على الإطلاق، ولربّما ظن المرء بها المبالغة، لولا التوثيق الدقيق لتلك الأخبار، وهو توثيق علمي ممحّص يتحدى أدق معايير النقد التاريخي، ولولا قناعته أن الإيمان صانع الأعاجيب.

     كذلك كان المجتمع المسلم الذي أرسى دعائمه رسول الله ﷺ ثمرةً من أعظم ثماره المباركة الكريمة. لقد كان ذلك المجتمع، أعظم مجتمع عرفته الدنيا، وكانت معاني الكمالات الإنسانية أصلاً عميقاً فيه يكاد يكون الصفة الأساسية لجميع أفراده.

     ولقد حقق هذا المجتمع –من جملة ما حقق– مبدأ المساواة تحقيقاً عملياً ليس له نظير، وأشعر الناس بكرامتهم وعزتهم وحقوقهم، حتى كانت المرأة تتصدى لعمر بن الخطاب وهو على المنبر، وهو أمير المؤمنين فترد عليه، فيقول: أخطأ عمر، وأصابت امرأة!.

     وحقق كذلك –من جملة ما حقق– مبدأ العدالة، وأرسى دعائمه، حتى لم يعد ضعيفٌ يخاف أن يُسْلَبَ مالُه وحقُّه، ولم يعد قوي يطمع في العدوان على الآخرين، وخضع الجميع لشرع الله تعالى وهدي نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.

     ولقد كان هذا المجتمع المسلم، بداية حضارة مشرقة نادرة، أخذت تمتد مواكبها وتتسع، وتتدفق عطاياها وتنتشر، حتى شرّقت وغرّبت، وأسدت للإنسانية جميلاً رائعاً لا يُنسى، وكانت معاقلها الكبرى في دمشق وبغداد، والقاهرة وقرطبة، منائر هدي ونور وعرفان في شتى المعارف من علوم وفنون.

     وإن حضارة القرن العشرين، تدين في كثير من جذورها الكبرى السليمة إلى الحضارة الإسلامية، حيث تتلمذت أوربا على يد المسلمين في الأندلس وصقلية والحروب الصليبية بشكل خاص، وأن المنهج العلمي التجريبي الذي يقف اليوم وراء منجزات العصر؛ إنما هو من عطاء الحضارة الإسلامية كما يشهد بذلك عدد من منصفي الغرب.

     وبعد؛ فما أعظم ما قدمه رسول الله ﷺ للناس!.. وما أكرمه وأنفعه!.. إنه العطاء الذي ليس له مثيل قط، وإنها العظمة التي تبدو كل عظمة أخرى إزاءها ضئيلة صغيرة محدودة.

*****

الخميس، 7 يوليو 2022

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

مقدمة:

     تاريخنا كنز ثمين، وأرض خصبة، وماض عريق.. كلما بحث الدارس في كنزه وجد جواهر ولآلئ مخبأة لم يكن رآها من قبل، وكلما حرث في أرضه وزرع استنبت من الخيرات والنعم ما لا عهد له به من قبل، وكلما أبحر في أعماقه اكتشف من المعاني والآفاق ما لم يرتده الرحالة والمكتشفون من قبل.

     كل هذا صحيح بشرط أن يكون الباحث والحارث والرحال صاحب قلب حاضر، وذهن وقاد واع، وتأمل وتفكر.. وإلا فإنه سيمر على الأحداث والمواقف غافلاً عن دلالاتها، وذاهلاً عن إرشاداتها.

     صحيح أن كل شخص يأخذ قدراً من المعنى والدلالة يرضى بها، ولكن صحيح أيضاً أن بعض الكتاب من أصحاب الأقلام النَقّادة الوَقّادة يصلون إلى ما لا يصل إليه غيرهم، وهذا كما قال يوماً حافظ إبراهيم عن اللغة العربية:

أنـــا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

     فالذين يركبون البحر كثير، ولكنَّ الغواصين فيهم قليل، وأقل منهم الذين يصلون إلى درره ولآلئه. وهذا هو حال هذه المقالات مع كاتبها الدكتور حيدر الغدير حفظه الله ووفقه.

     استمتعت بها، واستفدت من قدحات الذهن والنظر، ولمحات الفكر والبصر فيها. وأسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

     والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------------

المحتويــــات
(روابط تنقلك إلى المواد)
***

قال.. وقلتُ..

قال.. وقلتُ..

     قال: لقد انهزمتم معشرَ المسلمين، ومع ذلك لا تزالون تفاخرون وتشمخون!.

     قلت: ولِمَ العجب؟ وأيُّ أمةٍ لم تنهزم؟

     قال: لكن هزيمتكم كانت كبيرةً مُرّة.

     قلت: صدقتَ!. وهذا سرُّ فخارِنا وشموخنا واعتدادنا وإبائنا.

     عندها استغرب وتعجّب، وفَغَرَ فاه من الدهشة والذهول...

     ثم قال: ألا ترى أن ذلك مَحْضُ غطرسةٍ وكبرياء، وإلّا فكيف تعلِّلُ ما تقول؟

     قلت: لا غطرسةَ ولا كبرياء، الأمر أبسطُ من ذلك، لو أن أمةً تعرّضت لِما تعرّضنا له من هزائم لبادت وامَّحت، وصارت خبراً من الأخبار، وبقاؤنا بالرغم مما تعيّرنا به من نكبات أعظمُ دليلٍ على أننا أقوى منها وأبقى.

     سكت يتأملُ فيما قلتُ له، فسارعتُ أروي له أخبارَ هزائمَ لا يعرفُها حلّت بأمتنا عَبْرَ تاريخها الطويل، في الشرق والغرب، وكيف خرجتْ منها تضجُّ بالحياة والعافية، والطموح والعنفوان، بعد أن ظنَّ بعضُهم أنها مضت أدراجَ الرياح.

     وبعد صمت رفعَ إليَّ وجهاً مرهقاً، تعلوه بسمةٌ صفراوية ماكرة،

     وقال: كنْ شجاعاً، وقل لي: أيهما اليوم شجرتُه أعلى وأطول أنتم أم أعداؤكم!؟

     قلت له: ربما كانت شجرة العدو كما تقول، لكنَّ شجرتَنا أرسخُ وأثبت، وأعمقُ جذوراً في الأرض، فهي أقوى إذن على مواجهةِ الرياحِ الهوج والأعاصيرِ المدمرة.

     قال: ولكنْ ألا ترى أن شجرتكم قد جفّت أوراقها واصفرّت؟

     قلت: قد يكون حقاً ما تقول، لكنني أقسمُ لك: إنَّ سِقايةً واحدةً لها كفيلةٌ أنْ تجعل الأغصان تعلو، والأوراقَ تخضر، والحياةَ تملؤها بالخيرِ والنماء.

     قال: عجباً لك أيُّ سقايةٍ هذه التي تتحدث عنها؟

     قلت: إنها شَرْبَةٌ من ماءِ الإيمان، وهو ماءٌ إذا استسقت منه أشجارنا فعل بها الأعاجيب، عطاءً وبذخاً، وجوداً وحصيلة، ونِتاجاً لا يخطرُ لك على بال.

     قال: أعداؤكم أكثرُ منكم في العددِ والعدّة.

     قلت: لا خَيْرَ في ذلك، لقد اعتدنا أن نتلقّى نصرَ الله على الرغمِ من قلةِ عددِنا وعُدَدِنا إذا كنا معه صادقين، وإن كتابَنا الكريم يقول: ﴿كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله﴾ [البقرة: 249].

     قال: أما ترى أنك تُماري وتُكابر، وتجادل وتعاند؟

     قلت له: أنت تؤكد اليوم أننا مهزومون، أليس كذلك؟

     قال: بلى.

     قلت: فاعلمْ أننا نكسبُ أنصاراً جدداً في كلِّ يوم، ورجالاً عاملين يدخلون معنا في معركتنا المصيرية. إنهم أولئك الذين يدخلون في ديننا في كلِّ يوم في شرق الأرض وغربها. أليس نصراً لنا أن يعتنقَ دينَنا أناسٌ مختلفون ونحن كما تعلم مهزومون؟ لم يجد الرجلُ جواباً.

     فسارعتُ أقول له: لا تعجبْ فليست هي المرةَ الأولى، فإن المراتِ التي كنا ننتصرُ فيها ونحن مغلوبون كثيرة، وهذا هو موطنُ العجب.

     أن تنتصرَ وأنت قويٌ ظافر، ليس ذلك عجباً قط، العجبُ هو العكسُ تماماً، وذلك ما نحن نملكه. سأعدّد لك فاحفظْ. التتارُ الذين دمّروا حضارتَنا أسلموا وهم غالبون ونحن مغلوبون. إنه لنصرٌ لنا أليس كذلك؟ هذه واحدة.

     في الفترة التي كان المسلمون في الأندلس قد سقطت دولتهم نهائياً، دخل بعضهم في الإسلام واحتمل كلَّ ما احتمل المسلمون من عناءِ التعذيبِ والطردِ والتغريبِ والمصادرة، وهذه ثانية.

     وفي الفترة التي وقعَ فيها الغزوُ الصليبي لديارنا، كان عددٌ من الغزاة الصليبيين يُسلِمون وقد جاؤوا ديارنا للقضاءِ علينا، وهذه ثالثة.

     وفي الفترة التي سقطَ العالمُ الإسلامي فيها صريعَ التخلف، فاجتاحته جيوشُ الكافرين، كان هناك مَنْ يدخلُ في دينِ الله في آسيا وأفريقيا، بل وفي البلدان التي جاء منها الغزو، وهذه رابعة.

     ودخول أناس في دين الله في أيامنا هذه، هنا وهناك، في الشرق والغرب، نصرٌ كريمٌ هو الآخر، وهذه خامسة.

     إذن فنحن قادرون على الامتدادِ والزحف حتى في عجزِنا وفرقتِنا، وهزيمتنا وتخلفنا، وتراجعنا وانحسارنا، وذلك دونَ ريب دليلٌ على قدرةٍ ذاتيةٍ عجيبة، وأصالةٍ كبيرةٍ رائعة، وذاتيةٍ قويةٍ غلّابة.

     إذا كانت لنا مثلُ هذه القدرة ونحن مهزومون، فما بالُك بقدرتِنا ونحن ظافرون؟ سكتَ ولم يَحِرْ جواباً قط.

     فقلت له: لقد هدّك الرعب إذ فاجأتكَ هذه الحقيقة التي لم تكن تعرفها، لكن لا تخفْ، إننا في حالة النصرِ لسنا مِثْلَكُم قط.

     إننا حين ننتصر لا نبغي ولا نظلم، ولا نسفكُ دماً حراماً، ولا نقطع شجرة ولا نقتلُ بريئاً ولا طفلاً، ولا عجوزاً ولا امرأة. ولا نجبرُ أحداً على الدخولِ في ديننا. مَنْ أحبّ أن يعتنقَ الإسلامَ فرحنا به أعظم الفرح ورحّبنا به، ومن أبى أخذنا منه الجزيةَ فحسب، وهي مالٌ يسير يدفعه لنا لقاءَ حمايته، وبعد ذلك فهو آمِنٌ على دينِه وماله، وتجارتِه وأهله، لا نظلمه في شيء قط. لا تعجبْ من ذلك قط، فذلك هو ما يأمرُنا به ديننا، وهو ما كانت حضارتُنا تعملُه طيلةَ أيامِ سيادتِها.

     قلْ لي أيها الرجل بعدَ الذي سمعت: ألسنا نحن المسلمين خيراً منكم في حالي الهزيمةِ والنصر؟ كن شجاعاً وأجبني، ألسنا أجدرَ منكم بقيادةِ الحضارةِ الإنسانيةِ وتوجيهها؟

*****

التسامي على الجنس

التسامي على الجنس

     في مجلة الاعتصام القاهرية كتب الأستاذ الكبير الدكتور عيسى عبده يقول:

     حدّثني أحد علماء النفس الذين تعتز بهم مصر والعالم العربي، وهو الأستاذ الدكتور أحمد عزت راجح فقال:

     إن فرويد المعروف بتركيزه على دراسة الجنس، قد عَدَلَ في أواخر حياته عن كثير مما كان يظنه صواباً، ومن ذلك ما انتهى إليه من استحالة التسامي في دافع طبيعي واحد هو رابطة الجنس بالجنس، وما عدا هذا الدافع يجوز عليه التسامي.

     وبعبارة أخرى نقول: إن ما انتهى إليه فرويد، يتلخص في أن الضعف البشري يخضع للتهذيب والإعلاء والتسامي إلا الجنس؛ فإنه أقوى من كل أساليب الردع والضبط والكبح. وإلى هنا يتوقف فرويد.

     ونزيد من عندنا -والحديث للدكتور عيسى عبده- أنه من أجل ذلك شَرع لنا الحكيمُ العليم منهجاً قويماً يبدأ بالحياء والأدب، وينتهي في قمته بالحدود، فالقول إذن بأن اختلاط الجنسين يطفئ من الجذوة المتقدة هو قول سخيف بمعايير العلوم التي يؤمن بها دعاة التغيير من أجل التغيير.

     بعد هذا البيان المشكور من الدكتور عيسى عبده، نحب أن نؤكد أن فرويد نفسَه يذكر في بعض كتبه المتأخرة بأن ممارسة الجنس مع الشعور باستقذار الفعل، وولوغه في الإثم لا يُنجي من عقدة الكبت الذي أكثر فرويد من الحديث عنه وتوسّع فيه.

     ومعنى هذا أن الغارقين في الجنس الحرام سيظلّون غارقين في الكَبت حتى عند فرويد نفسه لأن الاستقذار والإحساس بالإثم أمران متلازمان للممارسة الجنسيّة المحرّمة، ومعنى ذلك أيضاً أن تصريف الطاقة الجنسية من خلال ضوابط الحلال النظيف هو السبيل للنجاة من الكبت، وهذا يقود في النهاية إلى التأكيد بأن الأحوالَ السويّةَ للإنسان في كل شيء وحتى الجنس إنما تكون في الحلال، بينما العقد والكبت والشذوذ حلفاءُ الحرام ونتاجُه المرُّ الكريه.

     من هذا يبدو لنا أن فرويد عدل عن بعض آرائه، وانتهى أحياناً إلى شيء من الصواب، لكن الذين يريدون إشاعة الفاحشة والفساد وإعطاءهما لبوساً علمياً زائفاً من فرويد أو غيره يتجاهلون هذه الحقيقة تماماً، ويكتفون بالتركيز على آراء فرويد الخاطئة المتطرفة مما يُثبت أنهم ليسوا طلابَ علم وحقيقة، بل أصحابُ ضلالٍ ودعاةُ انحراف.

*****

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

     بعد أن أشرف على تأسيس البنك الإسلامي في دبي، وبدأ البنك يمارس أعماله منذ افتتاحه، عاد الدكتور عيسى عبده أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى القاهرة في زيارة قصيرة له ليروي تجربته الغنية الرائدة.

     كانت البداية في أوائل عام 1395هـ= 1975م، وجميع المتحمسين لفكرة البنوك الإسلامية من أساتذة الاقتصاد يشعرون بإحباط شديد، فبنوك الادخار المحلية التي أنشئت في مصر ونجحت، وكانت تعمل بلا فوائد حوربت وصُفِّيت لغير سبب مفهوم، والمساعي التي بُذلت لإنشاء بنوك إسلامية في منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا قوبلت بغير حماسة أو بغير فهم.

     وحمل عام 1395هـ= 1975م في بدايته مفاجأة؛ إذ جاء إلى السعودية أحد رجال الأعمال في دبي وهو السيد سعيد أحمد لوتاه، وطلب من الدكتور عيسى عبده الذي كان يعمل أستاذاً للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز أن يشرف على تأسيس بنك إسلامي في دبي.

     وبعد اتصالات عديدة وزيارة ميدانية لمنطقة الخليج، وبعد وقوف حاكم دبي الشيخ راشد آل مكتوم إلى جانب الفكرة صدر مرسوم بإنشاء البنك. وأحدث الخبر ردود فعل مختلفة في الدوائر الغربية.

     أذاعه راديو لندن بعد 4 ساعات من إذاعته في راديو دبي، السفراء الذين يمثلون الدول الكبرى اهتموا بالأمر، وقابل واحد منهم –ممن يعملون في إحدى دول الخليج– وزيراً عربياً مسؤولاً في المنطقة، وحاول أن يثير مخاوفه من العملية.

     والأغرب من هذا كله أن رئيس مجلس النقد الاتحادي في أبو ظبي، وهو إنكليزي رفض في البداية إعطاء رخصة للبنك بحجة أنه شركة مساهمة، ولا يقوم بالأعمال المصرفية، بل طلب أن تحذف كلمة بنك، وتوضع بدلاً منها كلمة شركة، لكن البنك الإسلامي استطاع أن يتجاوز هذه الصعاب.

     يقول الدكتور عيسى عبده: المهم أن الرخصة صدرت، وبدأ الاكتتاب عن طريق طرح أسهم للبيع، قيمة كل سهم (500) درهم، وخلال فترة قصيرة بيعت كل الأسهم، ووصلت قيمتها إلى (50) مليون درهم، أي ما يساوي (12.5) مليون دولار أمريكي ساهمت حكومة دبي بـ(20%) من رأس المال، وساهمت حكومة الكويت بـ(10%) منه، وغطى المبلغَ الباقي مساهمون من أبناء الخليج العربي.

     وبدأ بنك دبي الإسلامي أعماله، وكانت مهمته الأولى تخليص عمليات البنك بمراحلها المختلفة من الربا. ولكن كيف يحقق البنك أرباحاً إذن؟

     يجيب على ذلك الدكتور عيسى عبده، فيقرر أن الأرباح تأتي من مشاركة البنك لبعض التجار والمستوردين بنسبة النصف في أعمالهم التجارية، تضاف إلى ذلك أنواع أخرى من نشاطات البنك المربحة مثل الاتجار في العملة، والاستثمار في العقارات وما إلى ذلك.

     ولأن من مؤسسي بنك دبي عدداً كبيراً لهم خبرة بالمقاولات؛ فقد تفرّعت عن البنك إدارة للإنشاءات تتولى شراء الأراضي، وبناء العمارات، وبيع المساكن، وما يشبه ذلك.

     نقطة الضعف في التجربة هي في تعامله مع البنوك الأجنبية التي يستخدمها بنك دبي كوكلاء له في تمويل عملياته الخارجية، وقد تم الاتفاق على أن يودع بنك دبي جزءاً من أمواله لحساب عملياته، ولا يحصِّل فائدة ربوية عن هذه الإيداعات مقابل أن يؤدي البنك الأجنبي الخدمة لبنك دبي بلا مقابل.

     والمفترض في البنك الأجنبي أنه يستثمر أموال البنك الإسلامي في عمليات ربوية، وهذه مشكلة لا يمكن علاجها الآن؛ لأنه يستحيل أن تطالب البنك الأجنبي بأن يغير نظامه ليتفق مع الشريعة الإسلامية.

     والحل الحاسم هو في تكوين البنك الإسلامي الدولي الذي يفتح فروعاً له في البلاد الأجنبية، وهذه الفروع هي التي تمثل البنوك الإسلامية المحلية، في عملياتها الخارجية.

     وقال الدكتور عيسى عبده: إن نجاح تجربة دبي شجّع بعض رجال الأعمال في السعودية على التفكير في إنشاء بنك مماثل، بينما صدر في الكويت بالفعل مرسوم بإنشاء بنك إسلامي.

     وفّق الله هذه الأعمال المباركة التي هي في حقيقتها علامات وخطوات مضيئة على درب الأمة في مسعاها المشكور لاستئناف حياتها الإسلامية من جديد.

*****

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

     يستطيع الدارس أن يجد شخصية الخديوي إسماعيل، نموذجاً صارخاً ومبكراً للعمل في خدمة قضية "التغريب" وذلك على مستوى الحكّام. ومن خلال هذا النموذج يضع الإنسان يده على بعض الخسائر الكبيرة التي أحلّها المستغربون بأمتهم.

     رُبِّيَ الخديوي إسماعيل في فرنسا، واستُدعِيَ لحكم مصر من هناك قبل أن يتم تعليمه فيها، وقد عاد من باريس وقد ذابت كل حرارة للإسلام في صدره، وبَهَتَ أيُّ ولاءٍ يشدّهُ إلى دينه، ذلك أن صالونات باريس ومنتدياتها الثقافية والاجتماعية، وصِلاتُه برجالها ونسائها، قد صاغته صياغة جديدة غريبة تماماً عن الأمة التي ابتليت به، وكان مبهوراً بما رأى وسمع وقرأ في فرنسا، ولم تكن له جذور دينية قوية تحميه من الإعصار العنيف الذي تعرّض له، فلا غرابة إذن أن يعود من باريس إلى مصر، وقد صار الغرب قبلته الفكرية والثقافية، ونموذجه الأعلى للحياة، ولا غرابة أن تصبح الأمنية التي تملك عليه أقطار نفسه هي أن يجعل مصر قطعة من أوربا كما صرّح بذلك مراراً.

     وكأي مقلد متعجل مبهور فاقد لأصالته أخذ من أوربا الشكل والمظهر، وركّز على استيراد نقاط الضعف في الحضارة الغربية، وحرص على القشور الفارغة، فأسرف إسرافاً فاحشاً في المباني المترفة، وإقامة الحدائق، ونحت التماثيل، وبناء المسارح ودُور الغناء وما إلى ذلك.

     وقد أغرق هذا الحاكم الغِرُّ بلاده في الديون وفوائدها الباهظة بسبب تصرفاته الجاهلة. ويذكر التاريخ كيف أنفق المبالغ الطائلة على حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م، حتى اضطر إلى بيع حصة مصر إلى ألدِّ أعدائها، وكيف أنفق على بناء دار الأوبرا في مصر على ما فيها من فقر وجهل وجوع ومرض المبالغ الكثيرة، واستقدم لها المغنِّين والمغنِّيات، واستأجر أشهر موسيقيّي أوربا ليضعوا لها الألحان.

     وتعد المدة التي قضاها الخديوي إسماعيل في حكم مصر، بين عامي 1863- 1879م؛ من أخطر المراحل المبكرة التي كانت البدايات الأولى في تدمير الشخصية الإسلامية وإذابتها، وإفقادها خصائصها، وحلّ عروبتها، وإقصاء الشريعة عن الحياة والحكم إقصاءً غير مسبوق في تاريخ المسلمين، وقد كان إسماعيل أول من تجرّأ على محاربة الشريعة بهذا القدر من الإبعاد لها، والتأصيل والتثبيت لشرائع الكفار.

     وفي إطار مساعيه هذه أنشأ أول مدرسة للحقوق على النمط الفرنسي لتكون تدعيماً عملياً لوجهته الاستبدالية، وتأكيداً لقبلته الفكرية الجديدة، وقد صارت هذه المدرسة فيما بعد، المحضن الأساسي المبكر لتخريج أجيال مفتونة بالثقافة الغربية، مبتوتة الصلة بشريعة الإسلام، لصيقة بشرائع الكفار، ثم طُوِّرت هذه المدرسة لتصبح كلية، ثم كليات واسعة النطاق، تسنّم كثير من خرّيجيها مراكز مهمة في طول البلاد وعرضها.

     وقد تلاقت رغبة هذا الخديوي برغبة أخرى أذكى وأدهى، وهي رغبة أعداء الإسلام الطامعين في إقصائه عن الحياة، وقد وجد هؤلاء الأعداء في شخص هذا الخديوي معقداً من معاقد آمالهم التي يريدون لها أن تتحقق، فكان التعاون والتنسيق، وكان التوجيه الخفي والظاهر، الصريح والمُبطّن.

     ويروي محمد طلعت حرب، الاقتصادي المصري الشهير واقعة لها دلالاتها في ذلك التلاقي المُشار إليه، وذلك في كتابه "تربية المرأة والحجاب" الذي نُشِر عام 1899م رداً على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" في عهد عباس الثاني حفيد إسماعيل مما يجعل للرواية قيمة أوثق.

     وهذه الرواية هي أن إسماعيل لمّا أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية، وعدَ ملوكَ أوربا إن أيّدوه من أجل تحقيق هدفه أن يبدّل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية، ويفصل السياسة عن الدين، ويطلق الحرية للنساء؛ بحيث يسِرْنَ في أثر المرأة الغربية، وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية.

     جاء ذلك في كتاب الدكتور ماهر حسن فهمي عن قاسم أمين، في الصفحة (65) من طبعة سلسلة أعلام العرب للكتاب المذكور.

*****

الأكثر مشاهدة