شعراء ومشاعر
تزدحمُ المشاعر الكريمة، وتتدفق المعاني النبيلة في فؤاد الشاعر العربي القديم "معن بن أوس"، هو كالمقنع الكِندي أصالةً وشموخاً وارتفاعَ نفس في أبياته التي يقدمها بين يدي ابن عمه دلالةً على الوفاء والإخلاص.
هو المعنى الرائع الذي يتجاوز حدود "الأنا" الضيقة ليتصل برحاب المودة والعطاء وتَدَفُّقِ الوجدانِ بالخير، وازدحامِه بالنُبل، وارتفاعه على الصغائر.
إنه يصفح عن الإساءة عسى أن يكون هذا الصفح سبيلاً إلى تطهير نفسه:
لعَــــمْرُكَ مـا أدري وإني لأوجــلُ على أيِّنـــا تعـــدو المنيّــــــــةُ أوَّلُ
وإني أخـــوك الدائمُ العهـدِ لم أخنْ إذا ســـاءَ خصمٌ أو نَبــــا بكَ منزلُ
أحاربُ مَنْ حاربتَ من ذي عداوة وأحبـــسُ مالي إنْ غُرِمْتَ فأعقــلُ
إنّ الشاعر يؤمل أن تصنعَ هذه الحسنى صنيعَها في قلب قريبة فتجعلَه يدركُ أنَّ شاعرَنا كنزٌ له، قوةٌ ومضاء، عدةٌ يقابل بها الحادثات، إنه يدُه اليمنى، وإنه سيقطعها ويخسرها إن تخلى عنه وأهمله:
وإن سُؤْتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ ليعقـــبَ يوماً منـــكَ آخرُ مُقبِــــلُ
كأنـــكَ تشفي منـكَ داءَ إســـاءتي وسخطي وما في رِيبَتي ما تعجّلُ
وإني على أشيــــاءَ منك تَرِيبــني قديماً لَذو صَفْحٍ على ذاك مجــملُ
سَتُقْطَعُ في الدنيا إذا ما قطعـــتني يمينُـــكَ، فانظرْ أيَّ كفٍّ تبــــــدّلُ
وهذا الاتجاه الكريم نجده عند شاعرٍ آخر يتجاوز مواضعَ الهوان والإسفاف، ويرنو ببصره إلى أفقٍ سامق كريم، تشده الأخلاق العالية، وتأسِرُ قلبَه فضائل الصفات فإذا به يرى أن العفو والتسامح زينةُ الفتى، وأنّ أحسنَ خلائقِه أن يبتعد بسمعه عن الفواحش حتى كأنّ في أذنيه صَمماً عن كلِّ قولٍ مشين.
وهذا الفتى النبيل الذي يشدُّ ناظرَيْ شاعرنا "سالم بن وابصة الأسدي" سليمُ دواعي الصدر، لا يبسطُ أذى، لا يمنعُ خيراً، لا يقولُ سوءاً ولا هُجْراً. وهو إلى جانب ذلك عاقلٌ ماجد، كريمٌ حر، يلتمسُ الأعذارَ لزلةِ صديقه إذا أخطأ، غنيُّ النفس لا يذهبُ بلبِّه بريقُ الدنيا، ولا تهزُّ أعصابَه أكداسُ المال والذهب لأنه إذ ذاك سيتحولُ إلى فقيرٍ لا يشبع مهما ازداد مالُه كأن المتنبي بعينه يقول:
ومَنْ ينفق الساعاتِ في جمع ماله مخـــافةَ فقرٍ فالـــذي فعَلَ الفقــــرُ
يقول سالم بن وابصة الأسدي عن الفتى الذي يراه نموذجاً للفضائل التي يحبُّها ويتعشقُها:
أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعُـــه كـــأنَّ به عن كل فاحشـــةٍ وَقْـــرا
سليمُ دواعي الصدر لا باسطاً أذى ولا مانعاً خيراً ولا قائلاً هُجْـــــرا
إذا شئتَ أن تُدْعى كريماً مكـــرَّماً أديباً ظريفاً عاقلاً ماجداً حُــــــــرّا
إذا ما أتتْ من صـــــاحبٍ لكَ زلّةٌ فكنْ أنتَ محتالاً لزلّتــــه عُـــــذرا
غِنَى النفسِ ما يَكْفيكَ من سَدِّ خَــلَّةٍ فإن زادَ شيئاً عادَ ذاك الغنى فَقــرا
ومن أروعِ نماذج هذا الاتجاه في الشعر العربي أبياتُ الشاعرِ الحماسي "الحارث بن وَعْلة الجرمي" إذْ قتلَ قومُه أخاه "أُمَيْماً"، فهو يتحملُ المرارةَ في أسى واصطبار، وشجاعةٍ ورجولة، فيلوذُ بخُلُقِ العفو والتسامح، ويعتصمُ بمعانيهما فتحميهُ فضائلها من لذةِ الانتقام، وشهوةِ البطش والثأر.
إنّ سهمَه سيرتدُّ إليه إذا أطلقه نحوَ قومه، فهُمْ منه، وهو منهم، وستكونُ البليةُ أشدَّ وأنكى حينذاك:
قــومي هم قتلوا أُمَيْــــمَ أخي فـإذا رميتُ يُصيبني ســهمي
فلئــنْ عفـــوتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلَاً ولئنْ سطوتُ لأوهِنَنْ عظمي
لا تـــأمننْ قوماً حقـــــــرتهمُ وبدأتـــهمْ بالشتــــمِ والرَغْــمِ
أن يأبـــــروا نَخْلاً لغيـــرهمُ والأمرُ تحقـــــرهُ وقـد يَنْـمي
وزعمتـمُ أن لا حلـــــومَ لنــا إن العصا قُرِعَتْ لـذي الحِلْمِ
لقد ارتقى الشاعر في أبياته هذه درجاتٍ رائعة في فضائل الرجال والكمال، وبلغ غايةً مشرفة منيفة في درجات قهر النفس والسيطرة على نوازعها.
وفي موقف مشابه نلتقي بالشاعر العربي الذي قَتل أخوه ابناً له فأدركته الحيرة ولم يدرِ ما الذي يفعل، ثم وجدَ الخلاص في أن يراهما مثلَ يَدَيْنِ إحداهما أصابته بالأذى؛ فماذا يفعل بها؟ يقول:
أقولُ للنفس تَأْســــاءً وتعـــزيةً إحدى يدي أصابتني ولم تُـــرِدِ
كلاهما خَلَفٌ عن فقدِ صــاحبِه هذا أخي حينَ أدعوه وذا ولدي
أمّا بشار بن بُرْد فإنه يصل إلى مستوى أبعدَ من ذلك، إذْ يجعلُ من معاني العفو والتسامح منطلقاً وقاعدةً يُبْنى عليها سلوكٌ حيوي، ويحاول أن يجعلَ من هذه القاعدة قانوناً يحكمُ بين الناس، وتقومُ عليه صِلاتُ الود والمرحمة والمحبة. فعلى المرء أن يغفرَ لصديقه زلّته، وألّا يبالغَ في تعقبِ أخطائه، ويلتمسَ له العذر، وإلّا فإنه سيجدُ نفسه وحيداً في خاتمة المطاف:
إذا كـنــتَ في كل الأمور معــــاتـباً صديقَـــك لمْ تــلقَ الذي لا تعــــاتبهْ
فعِـــشْ واحداً أو صِلْ أخـــاك فإنـه مقــــارفُ ذنـــــبٍ مرةً ومجــــانبهْ
ومن ذا الذي تُرْضى سجـــاياه كلها كفى المرءَ نبـــــلاً أن تُعَدَّ معـــايبهْ
إذا أنتَ لم تشربْ مِراراً على القذى ظمئتَ وأيُّ النـــاسِ تصفو مشاربهْ
في شعرِنا العربي روائعُ خالدةٌ من الشعرِ الأصيل، وإنما يَغْفُلُ عنها جاهلٌ أو متجاهل.
وجديرٌ بنا أن نلتقيَ بها ونتعرفَ إليها، وننظرَ بازدراء إلى أولئك الذين يحتقرون تراثَ أمتهم، ويقلدون الآخرين تقليدَ القردة لأنهم قبلَ كلِّ شيء مهزومون، مهزومون نفسياً وفكرياً وحضارياً. وإن التخلصَ من هؤلاء المهزومين خطوةٌ مهمةٌ جداً لا بد أن نقطعها ونحن نبحث عن الأصالة ونحثُّ الخطى نحو النهضة الصحيحة، ونرقبُ بشوقٍ عظيم وأعصابٍ مشدودة طلوعَ الفجرِ الصادق.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق