‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب مواقف ومرافئ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب مواقف ومرافئ. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 7 يوليو 2022

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

كتاب مواقف ومرافئ من الماضي والحاضر - المقدمة والمحتويات

مقدمة:

     تاريخنا كنز ثمين، وأرض خصبة، وماض عريق.. كلما بحث الدارس في كنزه وجد جواهر ولآلئ مخبأة لم يكن رآها من قبل، وكلما حرث في أرضه وزرع استنبت من الخيرات والنعم ما لا عهد له به من قبل، وكلما أبحر في أعماقه اكتشف من المعاني والآفاق ما لم يرتده الرحالة والمكتشفون من قبل.

     كل هذا صحيح بشرط أن يكون الباحث والحارث والرحال صاحب قلب حاضر، وذهن وقاد واع، وتأمل وتفكر.. وإلا فإنه سيمر على الأحداث والمواقف غافلاً عن دلالاتها، وذاهلاً عن إرشاداتها.

     صحيح أن كل شخص يأخذ قدراً من المعنى والدلالة يرضى بها، ولكن صحيح أيضاً أن بعض الكتاب من أصحاب الأقلام النَقّادة الوَقّادة يصلون إلى ما لا يصل إليه غيرهم، وهذا كما قال يوماً حافظ إبراهيم عن اللغة العربية:

أنـــا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامن     فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

     فالذين يركبون البحر كثير، ولكنَّ الغواصين فيهم قليل، وأقل منهم الذين يصلون إلى درره ولآلئه. وهذا هو حال هذه المقالات مع كاتبها الدكتور حيدر الغدير حفظه الله ووفقه.

     استمتعت بها، واستفدت من قدحات الذهن والنظر، ولمحات الفكر والبصر فيها. وأسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

     والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------------

المحتويــــات
(روابط تنقلك إلى المواد)
***

قال.. وقلتُ..

قال.. وقلتُ..

     قال: لقد انهزمتم معشرَ المسلمين، ومع ذلك لا تزالون تفاخرون وتشمخون!.

     قلت: ولِمَ العجب؟ وأيُّ أمةٍ لم تنهزم؟

     قال: لكن هزيمتكم كانت كبيرةً مُرّة.

     قلت: صدقتَ!. وهذا سرُّ فخارِنا وشموخنا واعتدادنا وإبائنا.

     عندها استغرب وتعجّب، وفَغَرَ فاه من الدهشة والذهول...

     ثم قال: ألا ترى أن ذلك مَحْضُ غطرسةٍ وكبرياء، وإلّا فكيف تعلِّلُ ما تقول؟

     قلت: لا غطرسةَ ولا كبرياء، الأمر أبسطُ من ذلك، لو أن أمةً تعرّضت لِما تعرّضنا له من هزائم لبادت وامَّحت، وصارت خبراً من الأخبار، وبقاؤنا بالرغم مما تعيّرنا به من نكبات أعظمُ دليلٍ على أننا أقوى منها وأبقى.

     سكت يتأملُ فيما قلتُ له، فسارعتُ أروي له أخبارَ هزائمَ لا يعرفُها حلّت بأمتنا عَبْرَ تاريخها الطويل، في الشرق والغرب، وكيف خرجتْ منها تضجُّ بالحياة والعافية، والطموح والعنفوان، بعد أن ظنَّ بعضُهم أنها مضت أدراجَ الرياح.

     وبعد صمت رفعَ إليَّ وجهاً مرهقاً، تعلوه بسمةٌ صفراوية ماكرة،

     وقال: كنْ شجاعاً، وقل لي: أيهما اليوم شجرتُه أعلى وأطول أنتم أم أعداؤكم!؟

     قلت له: ربما كانت شجرة العدو كما تقول، لكنَّ شجرتَنا أرسخُ وأثبت، وأعمقُ جذوراً في الأرض، فهي أقوى إذن على مواجهةِ الرياحِ الهوج والأعاصيرِ المدمرة.

     قال: ولكنْ ألا ترى أن شجرتكم قد جفّت أوراقها واصفرّت؟

     قلت: قد يكون حقاً ما تقول، لكنني أقسمُ لك: إنَّ سِقايةً واحدةً لها كفيلةٌ أنْ تجعل الأغصان تعلو، والأوراقَ تخضر، والحياةَ تملؤها بالخيرِ والنماء.

     قال: عجباً لك أيُّ سقايةٍ هذه التي تتحدث عنها؟

     قلت: إنها شَرْبَةٌ من ماءِ الإيمان، وهو ماءٌ إذا استسقت منه أشجارنا فعل بها الأعاجيب، عطاءً وبذخاً، وجوداً وحصيلة، ونِتاجاً لا يخطرُ لك على بال.

     قال: أعداؤكم أكثرُ منكم في العددِ والعدّة.

     قلت: لا خَيْرَ في ذلك، لقد اعتدنا أن نتلقّى نصرَ الله على الرغمِ من قلةِ عددِنا وعُدَدِنا إذا كنا معه صادقين، وإن كتابَنا الكريم يقول: ﴿كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله﴾ [البقرة: 249].

     قال: أما ترى أنك تُماري وتُكابر، وتجادل وتعاند؟

     قلت له: أنت تؤكد اليوم أننا مهزومون، أليس كذلك؟

     قال: بلى.

     قلت: فاعلمْ أننا نكسبُ أنصاراً جدداً في كلِّ يوم، ورجالاً عاملين يدخلون معنا في معركتنا المصيرية. إنهم أولئك الذين يدخلون في ديننا في كلِّ يوم في شرق الأرض وغربها. أليس نصراً لنا أن يعتنقَ دينَنا أناسٌ مختلفون ونحن كما تعلم مهزومون؟ لم يجد الرجلُ جواباً.

     فسارعتُ أقول له: لا تعجبْ فليست هي المرةَ الأولى، فإن المراتِ التي كنا ننتصرُ فيها ونحن مغلوبون كثيرة، وهذا هو موطنُ العجب.

     أن تنتصرَ وأنت قويٌ ظافر، ليس ذلك عجباً قط، العجبُ هو العكسُ تماماً، وذلك ما نحن نملكه. سأعدّد لك فاحفظْ. التتارُ الذين دمّروا حضارتَنا أسلموا وهم غالبون ونحن مغلوبون. إنه لنصرٌ لنا أليس كذلك؟ هذه واحدة.

     في الفترة التي كان المسلمون في الأندلس قد سقطت دولتهم نهائياً، دخل بعضهم في الإسلام واحتمل كلَّ ما احتمل المسلمون من عناءِ التعذيبِ والطردِ والتغريبِ والمصادرة، وهذه ثانية.

     وفي الفترة التي وقعَ فيها الغزوُ الصليبي لديارنا، كان عددٌ من الغزاة الصليبيين يُسلِمون وقد جاؤوا ديارنا للقضاءِ علينا، وهذه ثالثة.

     وفي الفترة التي سقطَ العالمُ الإسلامي فيها صريعَ التخلف، فاجتاحته جيوشُ الكافرين، كان هناك مَنْ يدخلُ في دينِ الله في آسيا وأفريقيا، بل وفي البلدان التي جاء منها الغزو، وهذه رابعة.

     ودخول أناس في دين الله في أيامنا هذه، هنا وهناك، في الشرق والغرب، نصرٌ كريمٌ هو الآخر، وهذه خامسة.

     إذن فنحن قادرون على الامتدادِ والزحف حتى في عجزِنا وفرقتِنا، وهزيمتنا وتخلفنا، وتراجعنا وانحسارنا، وذلك دونَ ريب دليلٌ على قدرةٍ ذاتيةٍ عجيبة، وأصالةٍ كبيرةٍ رائعة، وذاتيةٍ قويةٍ غلّابة.

     إذا كانت لنا مثلُ هذه القدرة ونحن مهزومون، فما بالُك بقدرتِنا ونحن ظافرون؟ سكتَ ولم يَحِرْ جواباً قط.

     فقلت له: لقد هدّك الرعب إذ فاجأتكَ هذه الحقيقة التي لم تكن تعرفها، لكن لا تخفْ، إننا في حالة النصرِ لسنا مِثْلَكُم قط.

     إننا حين ننتصر لا نبغي ولا نظلم، ولا نسفكُ دماً حراماً، ولا نقطع شجرة ولا نقتلُ بريئاً ولا طفلاً، ولا عجوزاً ولا امرأة. ولا نجبرُ أحداً على الدخولِ في ديننا. مَنْ أحبّ أن يعتنقَ الإسلامَ فرحنا به أعظم الفرح ورحّبنا به، ومن أبى أخذنا منه الجزيةَ فحسب، وهي مالٌ يسير يدفعه لنا لقاءَ حمايته، وبعد ذلك فهو آمِنٌ على دينِه وماله، وتجارتِه وأهله، لا نظلمه في شيء قط. لا تعجبْ من ذلك قط، فذلك هو ما يأمرُنا به ديننا، وهو ما كانت حضارتُنا تعملُه طيلةَ أيامِ سيادتِها.

     قلْ لي أيها الرجل بعدَ الذي سمعت: ألسنا نحن المسلمين خيراً منكم في حالي الهزيمةِ والنصر؟ كن شجاعاً وأجبني، ألسنا أجدرَ منكم بقيادةِ الحضارةِ الإنسانيةِ وتوجيهها؟

*****

التسامي على الجنس

التسامي على الجنس

     في مجلة الاعتصام القاهرية كتب الأستاذ الكبير الدكتور عيسى عبده يقول:

     حدّثني أحد علماء النفس الذين تعتز بهم مصر والعالم العربي، وهو الأستاذ الدكتور أحمد عزت راجح فقال:

     إن فرويد المعروف بتركيزه على دراسة الجنس، قد عَدَلَ في أواخر حياته عن كثير مما كان يظنه صواباً، ومن ذلك ما انتهى إليه من استحالة التسامي في دافع طبيعي واحد هو رابطة الجنس بالجنس، وما عدا هذا الدافع يجوز عليه التسامي.

     وبعبارة أخرى نقول: إن ما انتهى إليه فرويد، يتلخص في أن الضعف البشري يخضع للتهذيب والإعلاء والتسامي إلا الجنس؛ فإنه أقوى من كل أساليب الردع والضبط والكبح. وإلى هنا يتوقف فرويد.

     ونزيد من عندنا -والحديث للدكتور عيسى عبده- أنه من أجل ذلك شَرع لنا الحكيمُ العليم منهجاً قويماً يبدأ بالحياء والأدب، وينتهي في قمته بالحدود، فالقول إذن بأن اختلاط الجنسين يطفئ من الجذوة المتقدة هو قول سخيف بمعايير العلوم التي يؤمن بها دعاة التغيير من أجل التغيير.

     بعد هذا البيان المشكور من الدكتور عيسى عبده، نحب أن نؤكد أن فرويد نفسَه يذكر في بعض كتبه المتأخرة بأن ممارسة الجنس مع الشعور باستقذار الفعل، وولوغه في الإثم لا يُنجي من عقدة الكبت الذي أكثر فرويد من الحديث عنه وتوسّع فيه.

     ومعنى هذا أن الغارقين في الجنس الحرام سيظلّون غارقين في الكَبت حتى عند فرويد نفسه لأن الاستقذار والإحساس بالإثم أمران متلازمان للممارسة الجنسيّة المحرّمة، ومعنى ذلك أيضاً أن تصريف الطاقة الجنسية من خلال ضوابط الحلال النظيف هو السبيل للنجاة من الكبت، وهذا يقود في النهاية إلى التأكيد بأن الأحوالَ السويّةَ للإنسان في كل شيء وحتى الجنس إنما تكون في الحلال، بينما العقد والكبت والشذوذ حلفاءُ الحرام ونتاجُه المرُّ الكريه.

     من هذا يبدو لنا أن فرويد عدل عن بعض آرائه، وانتهى أحياناً إلى شيء من الصواب، لكن الذين يريدون إشاعة الفاحشة والفساد وإعطاءهما لبوساً علمياً زائفاً من فرويد أو غيره يتجاهلون هذه الحقيقة تماماً، ويكتفون بالتركيز على آراء فرويد الخاطئة المتطرفة مما يُثبت أنهم ليسوا طلابَ علم وحقيقة، بل أصحابُ ضلالٍ ودعاةُ انحراف.

*****

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

د.عيسى عبده .. مؤسس البنك الإسلامي

     بعد أن أشرف على تأسيس البنك الإسلامي في دبي، وبدأ البنك يمارس أعماله منذ افتتاحه، عاد الدكتور عيسى عبده أستاذ الاقتصاد الإسلامي إلى القاهرة في زيارة قصيرة له ليروي تجربته الغنية الرائدة.

     كانت البداية في أوائل عام 1395هـ= 1975م، وجميع المتحمسين لفكرة البنوك الإسلامية من أساتذة الاقتصاد يشعرون بإحباط شديد، فبنوك الادخار المحلية التي أنشئت في مصر ونجحت، وكانت تعمل بلا فوائد حوربت وصُفِّيت لغير سبب مفهوم، والمساعي التي بُذلت لإنشاء بنوك إسلامية في منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا قوبلت بغير حماسة أو بغير فهم.

     وحمل عام 1395هـ= 1975م في بدايته مفاجأة؛ إذ جاء إلى السعودية أحد رجال الأعمال في دبي وهو السيد سعيد أحمد لوتاه، وطلب من الدكتور عيسى عبده الذي كان يعمل أستاذاً للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز أن يشرف على تأسيس بنك إسلامي في دبي.

     وبعد اتصالات عديدة وزيارة ميدانية لمنطقة الخليج، وبعد وقوف حاكم دبي الشيخ راشد آل مكتوم إلى جانب الفكرة صدر مرسوم بإنشاء البنك. وأحدث الخبر ردود فعل مختلفة في الدوائر الغربية.

     أذاعه راديو لندن بعد 4 ساعات من إذاعته في راديو دبي، السفراء الذين يمثلون الدول الكبرى اهتموا بالأمر، وقابل واحد منهم –ممن يعملون في إحدى دول الخليج– وزيراً عربياً مسؤولاً في المنطقة، وحاول أن يثير مخاوفه من العملية.

     والأغرب من هذا كله أن رئيس مجلس النقد الاتحادي في أبو ظبي، وهو إنكليزي رفض في البداية إعطاء رخصة للبنك بحجة أنه شركة مساهمة، ولا يقوم بالأعمال المصرفية، بل طلب أن تحذف كلمة بنك، وتوضع بدلاً منها كلمة شركة، لكن البنك الإسلامي استطاع أن يتجاوز هذه الصعاب.

     يقول الدكتور عيسى عبده: المهم أن الرخصة صدرت، وبدأ الاكتتاب عن طريق طرح أسهم للبيع، قيمة كل سهم (500) درهم، وخلال فترة قصيرة بيعت كل الأسهم، ووصلت قيمتها إلى (50) مليون درهم، أي ما يساوي (12.5) مليون دولار أمريكي ساهمت حكومة دبي بـ(20%) من رأس المال، وساهمت حكومة الكويت بـ(10%) منه، وغطى المبلغَ الباقي مساهمون من أبناء الخليج العربي.

     وبدأ بنك دبي الإسلامي أعماله، وكانت مهمته الأولى تخليص عمليات البنك بمراحلها المختلفة من الربا. ولكن كيف يحقق البنك أرباحاً إذن؟

     يجيب على ذلك الدكتور عيسى عبده، فيقرر أن الأرباح تأتي من مشاركة البنك لبعض التجار والمستوردين بنسبة النصف في أعمالهم التجارية، تضاف إلى ذلك أنواع أخرى من نشاطات البنك المربحة مثل الاتجار في العملة، والاستثمار في العقارات وما إلى ذلك.

     ولأن من مؤسسي بنك دبي عدداً كبيراً لهم خبرة بالمقاولات؛ فقد تفرّعت عن البنك إدارة للإنشاءات تتولى شراء الأراضي، وبناء العمارات، وبيع المساكن، وما يشبه ذلك.

     نقطة الضعف في التجربة هي في تعامله مع البنوك الأجنبية التي يستخدمها بنك دبي كوكلاء له في تمويل عملياته الخارجية، وقد تم الاتفاق على أن يودع بنك دبي جزءاً من أمواله لحساب عملياته، ولا يحصِّل فائدة ربوية عن هذه الإيداعات مقابل أن يؤدي البنك الأجنبي الخدمة لبنك دبي بلا مقابل.

     والمفترض في البنك الأجنبي أنه يستثمر أموال البنك الإسلامي في عمليات ربوية، وهذه مشكلة لا يمكن علاجها الآن؛ لأنه يستحيل أن تطالب البنك الأجنبي بأن يغير نظامه ليتفق مع الشريعة الإسلامية.

     والحل الحاسم هو في تكوين البنك الإسلامي الدولي الذي يفتح فروعاً له في البلاد الأجنبية، وهذه الفروع هي التي تمثل البنوك الإسلامية المحلية، في عملياتها الخارجية.

     وقال الدكتور عيسى عبده: إن نجاح تجربة دبي شجّع بعض رجال الأعمال في السعودية على التفكير في إنشاء بنك مماثل، بينما صدر في الكويت بالفعل مرسوم بإنشاء بنك إسلامي.

     وفّق الله هذه الأعمال المباركة التي هي في حقيقتها علامات وخطوات مضيئة على درب الأمة في مسعاها المشكور لاستئناف حياتها الإسلامية من جديد.

*****

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

شخصية الخديوي إسماعيل والتغريب

     يستطيع الدارس أن يجد شخصية الخديوي إسماعيل، نموذجاً صارخاً ومبكراً للعمل في خدمة قضية "التغريب" وذلك على مستوى الحكّام. ومن خلال هذا النموذج يضع الإنسان يده على بعض الخسائر الكبيرة التي أحلّها المستغربون بأمتهم.

     رُبِّيَ الخديوي إسماعيل في فرنسا، واستُدعِيَ لحكم مصر من هناك قبل أن يتم تعليمه فيها، وقد عاد من باريس وقد ذابت كل حرارة للإسلام في صدره، وبَهَتَ أيُّ ولاءٍ يشدّهُ إلى دينه، ذلك أن صالونات باريس ومنتدياتها الثقافية والاجتماعية، وصِلاتُه برجالها ونسائها، قد صاغته صياغة جديدة غريبة تماماً عن الأمة التي ابتليت به، وكان مبهوراً بما رأى وسمع وقرأ في فرنسا، ولم تكن له جذور دينية قوية تحميه من الإعصار العنيف الذي تعرّض له، فلا غرابة إذن أن يعود من باريس إلى مصر، وقد صار الغرب قبلته الفكرية والثقافية، ونموذجه الأعلى للحياة، ولا غرابة أن تصبح الأمنية التي تملك عليه أقطار نفسه هي أن يجعل مصر قطعة من أوربا كما صرّح بذلك مراراً.

     وكأي مقلد متعجل مبهور فاقد لأصالته أخذ من أوربا الشكل والمظهر، وركّز على استيراد نقاط الضعف في الحضارة الغربية، وحرص على القشور الفارغة، فأسرف إسرافاً فاحشاً في المباني المترفة، وإقامة الحدائق، ونحت التماثيل، وبناء المسارح ودُور الغناء وما إلى ذلك.

     وقد أغرق هذا الحاكم الغِرُّ بلاده في الديون وفوائدها الباهظة بسبب تصرفاته الجاهلة. ويذكر التاريخ كيف أنفق المبالغ الطائلة على حفل افتتاح قناة السويس عام 1869م، حتى اضطر إلى بيع حصة مصر إلى ألدِّ أعدائها، وكيف أنفق على بناء دار الأوبرا في مصر على ما فيها من فقر وجهل وجوع ومرض المبالغ الكثيرة، واستقدم لها المغنِّين والمغنِّيات، واستأجر أشهر موسيقيّي أوربا ليضعوا لها الألحان.

     وتعد المدة التي قضاها الخديوي إسماعيل في حكم مصر، بين عامي 1863- 1879م؛ من أخطر المراحل المبكرة التي كانت البدايات الأولى في تدمير الشخصية الإسلامية وإذابتها، وإفقادها خصائصها، وحلّ عروبتها، وإقصاء الشريعة عن الحياة والحكم إقصاءً غير مسبوق في تاريخ المسلمين، وقد كان إسماعيل أول من تجرّأ على محاربة الشريعة بهذا القدر من الإبعاد لها، والتأصيل والتثبيت لشرائع الكفار.

     وفي إطار مساعيه هذه أنشأ أول مدرسة للحقوق على النمط الفرنسي لتكون تدعيماً عملياً لوجهته الاستبدالية، وتأكيداً لقبلته الفكرية الجديدة، وقد صارت هذه المدرسة فيما بعد، المحضن الأساسي المبكر لتخريج أجيال مفتونة بالثقافة الغربية، مبتوتة الصلة بشريعة الإسلام، لصيقة بشرائع الكفار، ثم طُوِّرت هذه المدرسة لتصبح كلية، ثم كليات واسعة النطاق، تسنّم كثير من خرّيجيها مراكز مهمة في طول البلاد وعرضها.

     وقد تلاقت رغبة هذا الخديوي برغبة أخرى أذكى وأدهى، وهي رغبة أعداء الإسلام الطامعين في إقصائه عن الحياة، وقد وجد هؤلاء الأعداء في شخص هذا الخديوي معقداً من معاقد آمالهم التي يريدون لها أن تتحقق، فكان التعاون والتنسيق، وكان التوجيه الخفي والظاهر، الصريح والمُبطّن.

     ويروي محمد طلعت حرب، الاقتصادي المصري الشهير واقعة لها دلالاتها في ذلك التلاقي المُشار إليه، وذلك في كتابه "تربية المرأة والحجاب" الذي نُشِر عام 1899م رداً على كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" في عهد عباس الثاني حفيد إسماعيل مما يجعل للرواية قيمة أوثق.

     وهذه الرواية هي أن إسماعيل لمّا أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية، وعدَ ملوكَ أوربا إن أيّدوه من أجل تحقيق هدفه أن يبدّل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية، ويفصل السياسة عن الدين، ويطلق الحرية للنساء؛ بحيث يسِرْنَ في أثر المرأة الغربية، وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوربية.

     جاء ذلك في كتاب الدكتور ماهر حسن فهمي عن قاسم أمين، في الصفحة (65) من طبعة سلسلة أعلام العرب للكتاب المذكور.

*****

عبد الوهاب عزام .. والممسوخون

عبد الوهاب عزام .. والممسوخون

     "الممسوخون" اسم يمكن لنا أن نجد مسماه عند كل من يتخلى عن تراثه وتميّزه، ويمضي وراء التقليد الغبي، والتبعية المرذولة، ليفقد كل استقلال وأصالة، وليكون في مرتبة التابع الذليل والقرد المقلد. ها هو ذا الدكتور عبد الوهاب عزام يقول تحت عنوان "المسخ":

قال لي صاحبي سمعت عجيـباً     من حديث عن الزمان القــــديمِ
أن نــاساً من الخنازيرِ صاروا     وقـــروداً تُرى بخُــــلْق دميـــم
ما رأينـــاه، ما رآه ثـقــــــــاتٌ     كيف ترضى العقول بالتسليم!؟
قــلت: فاسمع هُدِيتَ تأويل هذا     واســــألَنْ إن شككت كل حكيم
إن مســـخَ الطبـــاع تأويلُ هذا     لا تظنَّ المرادَ مسخَ الجســـوم
أيُّمــا أمـــة تحـــاكي ســــواها     لا تبـــالي صحيحها من سقيــم
فاحسَـــبَنْها من القرود قبــــيلاً     حاكيـــات الفعال دون حلـــوم
وإذا أمة سعـــت في الدنـــــايا     وارتضت في الفِعـال كلّ ذميم
فاحسَبَنْها من الخنـازير ترعى     في الخبيثات كل مرعى وخيم

     وبعد أن عرفتَ "الممسوخين" عند عبد الوهاب عزام، فهيا نتعرف إلى أضدادهم الكرام في نجوى شاعر مؤمن يصور فيها وقفة المؤمن بين يدي خالقه، حيث يعرف من هو حقاً، ويحتفظ بأصالته، وينأى عن كل ما يؤدي به إلى المسخ، هيا معاً إلى الشاعر يوسف العظم حيث يقول:

ربِّ قد أقبــــلت في ظل رحـــــابِكْ     خـــاشع الطرف لدى نور شهـــابِكْ
خـــاضع النفــــس ذليــــلاً صاغراً     وفــــؤادي ســــاجد يجثـــو ببـــابِكْ
كـــم بـــكى يـــا رب في سجــــدته     إذ يهـــاب الهول في يوم حســــابِكْ
يرقـــــب الغفـــران في يوم الظَّــما     وهو يرجو الورد من فيض شرابِكْ
كـلما وســــوس شيــــطان الهــوى     قــــلت يا شيــــطان سحقاً لسرابِـكْ
أو دعـــاني خــــاطر يعصـــف بي     قــــلت: يا شـــــاعر رفقاً بشبــابِكْ
كيـــف تشــــري ضلة بعد هـــــدى     وتمني الـنفــــس ظلماً بخـــرابِكْ!؟
أنت ما زلـــت فتى لا ترعـــــــوي     ضلت الحكمة في غضِّ إهابِــــــكْ
عــــد إلى الله، ورتــــــــل آيَـــــــهُ      فـلعــــــل الله يرضى بمتــــــــابِكْ
ربِّ لن يهــــــديَني في حيــــــرتي     غيـــــر نورٍ وسنـــاءٍ من كتــــابِكْ

*****

قوم بلا أسماء

قوم بلا أسماء

     نشرت مجلة "راديانس" الصادرة في دلهي بتاريخ 17 كانون الثاني 1971م، مقابلة تمت بين كاتب المقال وأحد الشبان الأوزبكيين؛ (أي مواطن من جمهورية أوزبكستان المسلمة؛ السوفييتية آنذاك)، وكان هذا الشاب عضواً في وفد رسمي سوفييتي يزور جمهورية الهند. يقول كاتب المقابلة:

     بدأ الأوزبكي الكلام بقوله: هل أستطيع أن أجلس معك؟

     أجبته: مرحباً بك. فسحب الأوزبكي كرسياً وجلس، وانزلق حديثنا بهذه البداية برقة، فسألني عن الحياة في الهند، وسألته عن أوزبكستان. واستفسرته: هل أنت مسلم؟

     قال: نعم، ولكن ليس عندنا الآن إلا النزر اليسير من الإسلام، فدولتنا علمانية بدون دين وليس مثل دولتكم.

     فسألته: ألا يوجد هناك مساجد الآن؟

     قال: نعم، ولكن أغلبها قد تحول إلى مدارس ومستشفيات، والكبار في السن فقط هم الذين يصلون الآن.

     ثم جلس هادئاً لفترة من الزمن، استأنف بعدها قائلاً: ولكن الهلال والنجمة (يقصد العلم التركي العثماني) سوف يرفرف يوماً على وسط آسيا...

     فقلت: هل هذا ممكن؟ وكيف تتوقون إلى الهلال والنجمة وأنتم تمثلون إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي المتمتعة بالحكم الذاتي، ولقد تقدمتم مادياً بوضوح!؟

     ونظر محدثي حوله فرأى كهلاً أوزبكياً يجلس إلى طاولة بعيدة ينظر إليه، فلبث محدثي لبضع دقائق صامتاً... ثم أجاب:

     هذا بالضبط ما أقوله يا رفيقي، وما يقوله من يتحدثون عن سبيل إلى التغيير. فأنا ضد هذا كله، وهناك من يعمل لذلك، ومركزهم الرئيسي راولبندي أو بغداد، وحلمهم هو جمهورية إسلامية لوسط آسيا، بهلال ونجمة يرفرفان على وسط آسيا في كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، التي هي وطن الأتراك المسلمين، وبالرغم من أن هذا الحلم بعيد المنال إلا أنه يخبئ مشكلات للاتحاد السوفييتي والصين الشعبية على السواء.

وعندما قال هذا سألته: ما اسمك؟ قال بعد أن غمز لي وغادر: نحن قوم بلا أسماء!..

*****

المسلمون في سجون أمريكا

المسلمون في سجون أمريكا

     نشرت مجلة لايف الأمريكية، على صفحتين كاملتين تقريباً صورة لمجموعة من المسلمين السود في أمريكا، وهم يؤدون الصلاة في أحد السجون، وتحت عنوان: "إيمان صارم وراء القضبان"، كتبت عن هؤلاء تقول:

     "في الواحدة من بعد ظهر كل يوم جمعة، تنقل الكراسي من أماكنها، وتوضع بجوار الحائط في منتدى السجناء السود، وتبسط بقايا إحدى السجّادات الشرقية على الأرض، ثم تصطف حفنة من المسلمين السود المحكوم عليهم بالسجن، ويركعون باتجاه مكة المكرمة.

     وبعد ذلك يجلس المصلون لتناول الغداء الذي طبخوه بأنفسهم، والذي يطابق تعاليم القرآن الخاصة بالأطعمة. وهذه الحرية هي أمر شائع بالنسبة للمسلمين في السجون الأمريكية، وقد حققت نتيجة طيبة في سجن "والا والا" بولاية واشنطن.

     فهؤلاء المسلمون الأتقياء لا يتناولون المخدرات التي يمكن الحصول عليها بسهولة داخل السجن، والتي يستعملها حوالي نصف المساجين، وهم لا ينغمسون في شرب "البرونو"، وهو الشراب السائد في السجن، مصنوع من عصير الفواكه والسكر والخميرة. وشريعتهم تحرِّم الشذوذ الجنسي الذي هو من أسباب حوادث العنف والاضطرابات بين السجناء في أمريكا.

     أصبح السجناء المسلمون جماعة تحظى بالاحترام الكبير، وذات تأثير مضطرد على النزلاء السود الآخرين في سجن "والا والا" الذين يشكلون نسبة 23% من مجموع المسجونين.

*****

عبد الرحمن عزام.. ومشاكل العصر (2)

عبد الرحمن عزام.. ومشاكل العصر
(2)

     كان المرحوم الأستاذ عبد الرحمن عزام واحداً من الساسة العرب القلائل الذين تميزوا بالأصالة والاستقلالية، والحرص على مصالح الأمة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، سواءً أكان في عالم الفكر أم في عالم السياسة.

     ومواقفه معروفة مشهورة منذ فجر حياته، حين كان طالباً في كلية الطب، ونشبت الحرب في ليبيا بين الغزاة الإيطاليين وبين المجاهدين المسلمين من أبناء ليبيا، يساعدهم إخوتهم في العقيدة من شتى البلدان، لم يُؤْثِرِ الدراسة على واجبه، فترك كلية الطب غير آسف عليها وعبر الحدود الليبية المصرية ليقوم بواجبه في قتال المعتدين. وكان ذلك اليوم، بداية سلسلة من النشاط السياسي الواسع في خدمة الأمة على شتى المستويات وفي مختلف المراحل حتى وفاته عليه رحمة الله.

     وكان الرجل إلى جانب كونه سياسياً، يمتاز بعقلية جيدة، وقدرة فكرية طيبة، وكان في الفكر -تماماً كما كان في السياسة- يمثل خط الأمة الأصيل، وفكرها المستقل، ونزعة الحفاظ على تراثها وشخصيتها، يظهر ذلك في كتابه المعروف الذائع "الرسالة الخالدة" الذي يجد فيه المرء زاداً فكرياً أصيلاً جيداً.

· ترى كيف نستطيع أن نسمع رأي الرجل في مشاكل العصر، وثقافته، وروحه وآليّته، وقضاياه المعقدة المتزايدة!؟.

     "لقد صارت الأمم صنوفاً من الناس متقاطعة، وصار البشر مشتتين، في عالم متناكر تبلبلت فيه الأفكار، واختل العرف البشري، وتباعدت ألوان العيش المادي وتكاثرت صوره الذهنية، وتناكرت الطبقات والطوائف والأقوام. وكلما امتد دور الانتقال تعددت مظاهر الأفراد والجماعات، واستعصى الرجوع بها إلى أصول مقبولة، ومُسلّم بها من الجميع، أو مُسلّم بها على الأقل من كتل كبيرة كانت تجمعها صلات روحية قوية، في عقائد دينية مشتركة تشمل مئات الملايين من الخلق".

     لكن بعض الناس يصر على أنَّ تَدافُع الحياة المادية في طريق النمو والصعود سيؤدي باستمرار إلى مزيد تقارب وجهات النظر بين الشعوب، باعتبار أن وسائل الاتصال المادية والفكرية آخذة في النمو المطّرد، وباعتبار أن العالم صار يتخذ نماذج تكاد تكون مشتركة في قيم الذوق والجمال.

· فكيف تبدو هذه الفكرة؟

     "إن ما يُظَنُّ من أن الحياة المادية القائمة على السرعة وسيلة عاجلة لجمع البشر على نظرة موحدة للحياة المادية، وعلى أسس معنوية مقبولة من الجميع، أمر قد يكون في سبيل التحقيق، ولكنه لا يزال بعيداً جداً، وسيلقى العالم أهوال أدوار الانتقال والاستقرار، ولن يستطيع الناس أن يخلعوا التراث المعنوي والفكري كما يخلعون الثياب، ولذلك ها نحن أولاء نشهد تشعب الأفكار والآراء واضطراب الحياة.

     إن الذي اكتسبته البشرية من رقي مادي وفّر لها راحة بدنية كبرى، بحيث صار البون بين جيلها الحالي والأجيال السابقة شاسعاً جداً، فمن المستحيل أن نقنع البشرية بأن تتخلى عن هذا الكسب الكبير، فذلك يناقض طبائع الناس، ثم إن تلك المنجزات أمر يمكن أن يصير مفيداً جداً في كل الأصعدة إن أُحْسِنَ استعمالها".

· ترى كيف هو السبيل من أجل ذلك؟

     "لا بد لنا من التفكير العاجل، والعمل السريع للتوفيق بقدر المستطاع بين الحياة المعنوية الموروثة، وبين الحياة المادية المفاجئة، وتجنب أثر الصدمة التي تتولد منها هذه الانفجارات الهائلة بين الأمم، وبين الطبقات في الأمم.

     ولا بد لنا كي نتمتع بثمار المدنية الآلية، ونستكمل نعمتها من بعث الحياة الروحية بعثاً جديداً مناسباً للحياة المادية الجديدة، ففي هذه الحضارة نِعَمٌ لا حدّ لها، فقد تغلب الإنسان بالآلة والعلم على كثير من الصعاب والويلات، زاد إنتاجه، وسَهُلَ انتقاله، وقهر الأمراض الجائحة، واتقى القحط، وتعددت مصادر لهوه ومرحه، وتزيّنت له الأرض وأخذت زخرفها، ومشى في قرن واحد بالحضارة المادية ما لا يُقاس معه مَشْيُهُ في القرون الماضية، ولكنه في قرن واحد كذلك، قضى أو كاد يقضي، على تراثه المعنوي الذي كسبه في عشرات القرون.

· وماذا بعد، كيف صارت حياة الروح بالقياس إلى حياة المادة؟ وأين يقف فكر هذا العصر؟

     "نسي العصرُ اللهَ، فأنساه نفسَه، ففي جيل واحد هُزِمت حياة الروح هزيمة نكراء أمام حياة المادة، وأخذت الآلة الصماء -وقد سيطرت- تفتك على غير هدى، وبغير ضابط من دين أو خُلق أو عُرْف".

     وبعد..

     لقد ارتحلنا معاً نجوب فكر الأستاذ عبد الرحمن عزّام، ونحاول معرفة رأيه في مشكلة كبرى من مشاكل عالمنا الحديث.

     ومهما تشعبت بنا الآراء، وتعددت وجهات النظر، فأحسب أننا نلتقي حول قناعات ثلاث، تمنحها الشواهد المتكررة حكم الحقائق الراسخة:

     الأولى: هي أن عالمنا المعاصر، عالم قلق مضطرب، له خصائصه وسماته التي أبرزها الحيرة والتذمر، والجيشان الدائم، وفقدان الأمن النفسي.

     الثانية: أن تَقَدُّمَ علوم الآلة، وازدهار المنجزات المادية، يقابله انحسار روحي وأخلاقي باستمرار.

     الثالثة: أن الإسلام الذي استطاع أن يُحدِث الانسجام بين مكاسب المادة، وحياة الروح، استطاع أن يُحدِث ذلك في تصوره وفهمه للحياة، واستطاع أن يُحدِثَه كذلك في تجربته التاريخية تطبيقاً عملياً في حياة الناس.

*****

عبد الرحمن عزّام .. وهموم العصر (1)

عبد الرحمن عزّام .. وهموم العصر
(1)

     حين ينعمُ الإنسان النظر، ويطيل التفكير في أناة، حول القضايا الكبرى في العالم الحديث، والظواهر البارزة التي يمكن أن توصف بأنها طابع العصر وميسمه، وصفاته الصارخة العنيفة، يصل إلى نتيجة كبيرة، وهي أن الاضطراب والقلق، وروح التذمر، وفقدان الطمأنينة من صفات إنسان هذا العصر الذي نعيش فيه.

     الأمن النفسي العميق، الرضى الهادئ الفخور، البسمة الصافية العميقة، الطمأنينة الوادعة، السلام الداخلي الواثق، التناغم والانسجام بين ممتلكات الإنسان الخارجية وبين أعماقه الداخلية، ذلك كله بدأ ظله يتقلص باستمرار مع امتداد ثقافة العصر، وذيوع أخلاقه، وانتشار خصائصه في أصقاع المعمورة.

     إنه موجود بنسب مختلفة في بلاد العالم، لكن الملاحظ أن هناك علاقة عكسية بينه وبين خصائص العصر، فهو يتراجع حيث تتقدم هذه الخصائص وبنفس الشدة والمقدار، مما يجعل الإنسان يقرر دون تردد بأن العلاقة بين التراجع ها هنا، والتزايد ها هناك، هي علاقة السبب بالمسبب والعلة بالمعلول.

     وظاهرة كبيرة، وخطيرة جداً على مستقبل الإنسان كهذه الظاهرة، لا بد أن تشغل عقول عدد من الأذكياء ممن يُحَمِّلُونَ أنفسهم هموم العصر، وعناء التفكير في أسبابها.

     من هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن عزام الذي يقول في كتابه "الرسالة الخالدة" تحت عنوان "هزيمة القوى المعنوية":

     "سبب آخر من أسباب الاضطراب العالمي، هو انهزام القوى المعنوية أمام القوى المادية، أو بعبارة أخرى تخلّف القوى المعنوية عن اللحاق بالتطور الفجائي للحياة المادية، واختلال التوازن بين الروح والمادة.

     وكان الناس وهم على الفطرة الأولى لا يسيطرون على المادة إلّا سيطرة محدودة، ولا يطمعون في التغلب على الطبيعة طمعهم بعد اكتشاف البخار والكهرباء، ونفاذهم إلى القوى الكمينة في الذرة، وإلى عناصر المادة، وتحويل تراكيب هذه العناصر، فلما افتنّوا في استخدام الكيمياء والميكانيكا، واستخرجوا من ذلك قوى جديدة، انصرفوا عمّا وراء الطبيعة، وعن عالم الروح إلى قهر الطبيعة والإيمان بالمادة وفعلها دون سواها.

     ففي أجيال معدودة تغيّر وجه الحياة، وانعكست وجهات النظر، فلو خرج أجدادنا من أجداثهم لاستنكروا حياة أهل الحضارة الجديدة، استنكار سكان الكهوف لسكان ناطحات السحاب، فقد تغيرت أسباب العيش، وتغيرت كيفياته، وتغيرت أغراضه، وانقلب الناس إلى السرعة يطلبونها، وإلى الحركة الدائمة يستطيبونها، فنفروا من الدعة والسكون بقدر ما كان أجدادهم ينفرون من الضوضاء والسرعة".

     ولكن أمَا كان بوسع إنسان العصر أن يُحدِثَ نوعاً من الانسجام والموازنة بين حياته المادية المتقدمة، وبين حياته الروحية العميقة، التي تتصل جذورها بفطرته من حيث هو إنسان؟

     من خلال ما جاء في كتاب "الرسالة الخالدة" يستطيع المرء أن يلمس حرص مؤلفه على نمو الإنسان الروحي، وتكامل سعادته، فكيف له أن يستمع إجابة المؤلف على السؤال الموجّه له قبل قليل عن الانسجام والتوازن المطلوبَين بين حياة الروح وحياة المادة؟

     "لقد تغيّر طرز الحياة فجأة ولمّا يستقر، بل هو في تغيّر مستمر، فالفرق بيني وبين أبي هو جيل واحد. ولكنه أعظم من الفرق بين أبي وبين آبائه قبل عشرات الأجيال".

     تلكم هي الإجابة المهمة للرجل، وهي إجابة تركز على التغير المادي بقوة، "هذا التغيّر المادي المستمر، وهذه السرعة لا تزال تتضاعف دون أن تبلغ حدها الأقصى قد جعلت الإنسان وهو يلاحق الحياة المادية الجديدة يغفل أو لا يستطيع أن يحتفظ بحياة معنوية مناسبة، فهو لا يستطيع أن يساير هذه السرعة المتفجرة تفجر المادة إلى أجزائها، مسايرة يحتفظ فيها بتراثه المعنوي".

     "وما الذي تَرَتَّبَ على ذلك؟ تخلّفت الحياة الروحية التي كسبها الناس في تجربة آلاف السنين، عن الحياة المادية الجديدة التي كسبوها في قرن واحد، وتطورت هذه الحياة تطوراً فجائياً، وبقي الإنسان مُثقلاً بتراث معنوي ضخم لا يتحرك معه فخلّفه وراءه".

     لقد عرف العالم خلال رحلته الطويلة عبر الأحقاب، مجموعة من الأُطُر والقواعد ظلّت تُشكِّلُ بين أبنائه قاسماً مشتركاً موحّداً، يجعل أمام الناس عدداً من المُثل والأهداف الكبيرة، التي لا يختلفون حول الإقرار بصلاحها. وكان من فائدة هذه المُثل والأهداف، أنها أسهمت في تقريب وجهات النظر بين الناس، وأنها كانت تهيئ الفرصة للاجتماع عليها إذا اشتدت الفتن والخلافات.

     فالصدق والوفاء، والرابطة الزوجية، والتعاون بين أبناء الأسرة الواحدة، وتضحية الأب من أجل أبنائه، وطاعة الابن لوالده، والفضيلة والعفاف، والعمل الشريف من أجل العيش الكريم، وتغليب الصالح العام على الصالح الخاص، والإقرار بقيمة الإنسان على أنه أثمن ما في الحياة؛ ذلك كله كان مجموعة من القناعات العقلية والوجدانية، تشكل –في الأعم الأغلب– القاسم المشترك الأعظم بين الناس الذي يلتقون عليه، ويؤمنون به، ويمكن أن يتخذ عندهم، بشكل أو بآخر، مادة للحوار والتفاهم.

     هذه القناعات التي هي بدون شك، من إرث البشرية الثمين الذي كسبته بعد تجاربها الطويلة التي لا يمكن إحصاؤها؛ أخذت في التراجع أمام ثقافة العصر. هذه القناعات التي تنحسر باستمرار في العصر الحديث، تمثّل جانباً خطيراً من جوانب مأساة الإنسان في ظلال الحضارة المعاصرة.

*****

نبيه فارس والمبشرون

نبيه فارس والمبشرون

     كتب الأستاذ نبيه أمين فارس أحد كبار أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت: في مجلة الأبحاث عام 1958م؛ كلاماً واعياً جريئاً يجدر بالمرء أن يتوقف عنده. قال هذا المؤرخ العربي:

     بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكار بناة الإمبراطوريات، كان أيضاً مطمح أنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف، وبعبارة أخرى تَنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح.

     إن هذا الحلم المسيحي قديم قِدَمَ المسيحية ذاتها، وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أول المبشرين القدّيس لويس. ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرّةَ أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمّت في إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة تمثلت فيما سمّي بروح إنكلترا الجديدة.

     وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرّست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر.

     ويمكن أن يُضافَ إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض [يقصد الدولة العثمانية]، ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.

     ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت هذه الفترة "الجمعية التبشيرية الإنكليزية" التي أُسِّسَت في لندن عام 1799م، و"المجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية"، وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مُبشريَّة إلى الشرق الأدنى.

     ويذكر الأستاذ نبيه أمين فارس أن المبشرين الذين اختاروا أن يجعلوا ميدان نشاطهم في مناطق بلاد الشام لكسب الكفار على زعمهم إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام، سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين، وأن المبشرين صمّموا منذ البداية على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف.

     وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة عام 1822م، وفي بيروت عام 1834م، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين، وعكفوا على إنجاز إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.

     وحين تضع كلام الأستاذ المؤرخ نبيه أمين فارس، في محله من التصوّر العام للخطة الصليبية لمحاربة الإسلام والمسلمين، تجد أنك تعود إلى وصية لويس التاسع الذي ترك معالم أساسية، ومقترحات جذرية، لخطة كبيرة شاملة تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين، بوسائل شتى، أهمها "الكلمة" لعلها تنجح حيث أخفق السيف.

     وما من ريب في أن المسلمين طُعِنوا من مصادر متعددة من بينها التعليم الذي بدأته الإرساليات التبشيرية بكل ما فيه من دس وسموم، وكيد خفي وظاهر، وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم الذي أنشئ في العالم الإسلامي على أيدي قادة الاستعمار، ذلك أن هذا التعليم كان يتلاقى في النهاية مع أهداف التعليم الذي أنشأه المبشرون، وقُل مثل ذلك عن التعليم الذي أنشأه المستغربون من أبناء المسلمين، أولئك الذين نشؤوا على قيم الغرب ومفاهيمه ومُثله وثقافته، وجعلوا وجهتهم الفكرية إليه، وإعجابهم الثقافي به.

     وهنا يتلاقى عمل المبشر مثل زويمر، والقائد الاستعماري مثل كرومر، والمخطِّط الأجنبي للتعليم مثل دنلوب، والمخطِّط والمنفِّذ المستغرِب مثل طه حسين ومَنْ إليه، على خدمة الهدف الأكبر لحركتي الاستشراق والتبشير، وحركة التغريب من بعدهما.

*****

فرنسا والجزائر والإسلام

فرنسا والجزائر والإسلام

     لقد كان الشيخ الإبراهيمي هو الإمام الذي أمَّ المصلين لصلاة الجمعة في مسجد کتشاوه في الجزائر عام 1382هـ= 1962م لدى استقلال الجزائر، وكانت تلك الصلاة، أول صلاة للمسلمين منذ أن غابت شمس الإسلام عن المسجد منذ مئة وثلاثين سنة. ومسجد كتشاوه هذا لم يحوله الغزاة إلى كنيسة إلا بقوة النار والحديد، وإلا بالبطش وإراقة الدماء في تاريخ دامٍ هذا بعضٌ منه.

     وقف الطاغية "دوفيقو" في ظهيرة 18 ديسمبر سنة 1832م، من يوم الجمعة وقال: يجب أن تُتّخذ أجمل المساجد في الجزائر معبداً للإله المسيح. وأومأ بيده الى جامع "كتشاوه"، وهجم الجيش على الجامع، وهو غاصٌّ بالمصلين، فدافعوا عنه دفاع العقيدة، حتى قُتِلوا عن آخرهم، وطليت جدران الجامع بدمائهم، وقام القساوسة يتلون أناشيد الغفران على أشلائهم الممزقة".

     وطاغية آخر هو القائد الفرنسي "بيجو" تبجح وقال: آخر أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين عاماً لن يكون للجزائر إله غير المسيح، ونحن إذا أمكننا الشك في أن هذه الأرض تملكها فرنسا فلا يمكن لنا أن نشك بحال في أنها قد ضاعت من الإسلام إلى الأبد، أما العرب فلن يكونوا مُلكاً لفرنسا إلا إذا أصبحوا مسيحيين جميعاً".

     وآخر هو "سانت أرنو" القائد الفرنسي الذي يقول: "لا تسأل عن أشجار الزيتون الباسقة التي ستكون فريسة وحشيتي، واليوم في برنامجي إحراق جميع مزارع وقرى قبيلة بني سالم، وابن القاسم. لقد أحرقت أكثر من عشر قرى كانت كلها بهجة وغنى، وتركت ورائي حريقاً حافلاً لقد لعبت بالبساتين يد الخراب، كما لعبت يد المناشير بأشجار الزيتون".

     وآخر هو الكاردينال "لا فيجوري" القائل: "علينا أن نخلص هذا الشعب ونحرره من قرآنه، وعلينا أن نعنى على الأقل بالأطفال، لننشئهم على مبادئ غير التي شبَّ عليها أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر".

     وآخر هو "مانتا نياك" أحد القواد الفرنسيين الذي قال في كتابه "رسائل جندي": "لا يمكن تصور الرعب الذي يستولي على العرب حين يرون قطع رأس بيد مسيحية. فإني أدركت ذلك منذ زمن بعيد، ولن يفلت أحد من أظفاري، حتى يناله من قطع رأسه ما ينال، وقد أنذرت بنفسي جميع الجنود الذين أتشرف بقيادتهم أنهم لو أتوا بعربي حي لانهلت عليهم ضرباً بنصل سيفي، وأما قطع الرؤوس فيكون على مرأى ومسمع جميع الناس.

     هكذا يا صديقي العزيز تكون معاملة العرب في الحرب:

     قتل جميع الذكور الذين تجاوزوا خمس عشرة سنة، وسبي جميع النساء، وخطف جميع الأطفال، وشحن الجميع في السفن، ثم إقصاؤهم إلى جزر مرکیز، أو إلى الثلث الخالي من الأرض. وخلاصة القول: يجب إبادة كل من لا يتمرغ تحت أرجلنا كالكلاب".

     ونعود الآن إلى ظروف خطبة الشيخ البشير الإبراهيمي في مسجد كتشاوه أول الاستقلال. لقد كانت صلاة الجمعة تلك أول صلاة للإسلام في جامع كتشاوه بعد أن رد الله غربته الطويلة، وقد عبثت يد التشويه بالمسجد عبثاً شديداً فقد حول المتعصبون الطغاة المحراب إلى الجهة المعاكسة، فقد كان محراب المسجد يقابل مكة فجعلوه مقابلاً لباريس، بالإضافة إلى الهياكل والتماثيل التي ملؤوا بها أرجاء المسجد وقد شوهدت وهي تنكس كما نكس صحابة محمد ﷺ "الأصنام" عند فتح مكة ليعود المسجد شامخاً كما كان في أيام مجده وعهود عزه.

*****

الإسلام والاشتراكية في الجزائر

الإسلام والاشتراكية في الجزائر

     في عام 1382هـ= 1962م تم استقلال الجزائر بعد حرب طاحنة ضروس وتضحيات جسيمة، وفرح الشعب الجزائري بالاستقلال، وخرج إلى الشوارع يحتفل به، ويردد أهازيج جميلة كثيرة يقول في بعضها: "يا محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت إليك".

     وتولى أحمد بن بيلّا رئاسة الجمهورية، واختار الأسلوب الاشتراكي على أنه الحل الوحيد للنهوض بالبلاد، وبعد ثلاث سنوات حدث انقلاب أطاح به، وتولى الرئاسة هواري بومدين الذي استمر في اختيار الأسلوب الاشتراكي. ومنذ ذلك التاريخ أودِع أحمد بن بيلّا السجن، حتى أفرج عنه الرئيس الذي جاء بعد بومدين وهو الشاذلي بن جديد، بعد أن أمضى في السجن خمسة عشر عاماً.

     قال بن بيلّا لزواره الذين جاؤوا يهنئونه بالخروج من السجن:

     إن جميع التجارب الماركسية في العالم، سواءً في الاتحاد السوفياتي أو الدول الشرقية، أو الصين، عجزت عن تحقيق هدفها الأساسي وهو الإنسان، حيث لا يكفي أن نُشبِعه، بل يجب علينا أن نهيئ له فرصة المبادرة، فالمبدأ الشيوعي القائم على الشعار: أنت تعمل، أنت تأكل، يجعل الإنسان أشبه بالحيوان.

     ويشرح بن بيلّا لزائريه أنه وإنْ كان أول من دعا إلى تطبيق الاشتراكية في البلاد، إلا أنه خلال تأمله الطويل في السجن تأكد لديه أن محاربة الفساد في الجزائر لن يتم إلا عن طريق الإسلام.

     ويقول أحمد بن بيلّا: الإسلام قيمة حضارية، لقد استطاع الإسلام أن يعيش أربعة عشر قرناً، بينما لم تستطع الماركسية أن تعمّر سنوات في أي دولة، وكذلك الأمر بالنسبة للأنظمة العربية.

*****

أحمد بن بيلّا والمصحف

أحمد بن بيلّا والمصحف

     قال الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلّا عن فترة اعتقاله الأولى: "كل ما كان لدي هو المصحف الشريف، وكان بالفعل نعم الرفيق!... سكنت إليه فأنزل على قلبي وأعصابي وعقلي برداً وسلاماً".

     "أغرقت نفسي في آياته. كانت لغتي العربية وقتذاك ضعيفة ولا تسعفني، لكني واصلت من دون كلل، وشيئاً فشيئاً، فتح الله عز وجل لي الأبواب المغلقة، ودخلتُ في رحاب الطهر والحكمة الإلهية، وانفتحتْ أمامي عوالم السماوات والأرض أنهل منها بغير حساب".

     "وأمدّني القرآن بقوة داخلية غير عادية لم يسبق أن أحسست بها من قبل: قوة عقلية ونفسية وحتى بدنية. وكلما أوغلتُ في القراءة وكررتُها تعرفتُ على أشياء جديدة، وانكشف لي العديد من مغاليق أسرار الكون والحياة.

     وإذا بنظرتي إلى نفسي والناس والحياة تصبح أكثر رحابة وصفاء، متطهرة من كل حقد، أو رغبة في انتقام صغير أو كبير... ألمسُ جيداً ما وقعتُ فيه من أخطاء، وأغفرُ من القلب أخطاء الآخرين في حقي، وأعيد النظر بقدرات عقلية ومعنوية أكثر عمقاً في كل ما تقدم وتأخر من حياتي وذنوبي وذنوب الآخرين؛ لأصلَ إلى درجة حقيقية ومخلصة على ما أعتقد في نقد الذات ونقد التجربة ونقد الآخرين، بمحبة وسعة صدر.

     ومنّ الله عليّ فمكّنني من حفظ القرآن الكريم بجميع أجزائه، وإذا بلساني العربي يصير فصيحاً. من باب القرآن الكريم، دخلتُ إلى السنّة وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إلى كتب الفقه باتجاهاتها المختلفة، ثم إلى أمّهات المراجع الإسلامية".
*****

شكيب أرسلان والحضارة الغربية

شكيب أرسلان والحضارة الغربية

     يقول الأمير شكيب أرسلان في وصف الرجل الغربي، وهو الذي عاش طويلاً في الغرب، وعرف الناس هناك بدِقّة: "إنّ الإفرنجي هو الإفرنجي، ما تغيَّرَ في طبعه، فهو اليوم كما زحف إلينا قبل 800 عام بما فيه من الظمأ إلى الدماء، والقَرَم إلى اللحم، وإنّ المدنية التي يتذرع بدعواها إنْ هي إلا غطاء سطحي لِما هو كامنٌ في طبعه، متهيئ للظهور لأدنى حادث، فالمدنية العصرية لم تزد الفرنجيَّ إلا تفنّناً في آلات القتل، وفصاحةً في التمويه، وتسميةِ الأشياء بغير أسمائها".

     وقبل أن ندخلَ في دراسة هذه الشهادة الدقيقة، لا بد لنا من تقرير حقيقةٍ حضاريةٍ كبيرة، وهي أنّ الغربيَّ بالمعنى الحضاري، هو إنسانُ الحضارة الغربية الذي وضعَ ثقافتَها وتبنّاها أيّاً كانت انتماءاته السياسية التي يتوزّع الناسُ معها في دولة وأخرى. فالشرق الشيوعي كلّه جزء من الحضارة الغربية، وأمريكا كذلك جزء من الحضارة الغربية، وأيضاً أوربا بطبيعة الحال.

     ومعنى ذلك أنّ الدائرة الحضارية للغربي أوسع بكثير من دائرته الجغرافية، والمُعوّل ها هنا على الأصول الفكرية والعقائدية والأخلاقية، وموازين السلوك ومعايير الخير والشر، والقيم والمُثل، التي يشترك فيها أبناء الحضارة الغربية جميعاً، وإنْ فرّقتْ بينهم الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية.

     وكثيرةٌ هي الشواهد التي تكشف بدقة عن صحة رأي شكيب أرسلان في الرجل الغربي. لقد تمدّن هذا الرجل حقاً، وحقق إنجازات كثيرة، لكنه في أعماقه لا يزال شديد العنف والضراوة والبطش حين يتعامل مع خصومه، وما نبأ الحربين العالميتين الهائلتين عنا ببعيد، وقد كانتا تدور أساساً في بلاده وبين طوائف متقاتلة متصارعة من أبنائه.

     أمّا إذا وصل الأمر إلينا نحن -المسلمين- فإن الموقف يختلف، ذلك أن الضراوة تزداد، والعنف يكثر، والبطش يتضاعف أضعافاً هائلة. وحين وقعت ديار العالم الإسلامي في قبضة الرجل الغربي فعل بها الأفاعيل، حتى إن محاكم التفتيش في الأندلس التي أنشئت عقب سقوط الحكم الإسلامي فيها فعلت بالمسلمين من الأهوال، وصبّت عليهم من الكوارث ما جعلها تصبح أشنع ما جرى في تصفيات الخصوم، وأرهب مثل يُضرب في هذا المجال.

*****

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

محمود شيت خطّاب.. ومسجد في كل كتيبة

     للأستاذ الكريم، اللواء الركن، محمود شيت خطاب، جهود علمية مشكورة في التأليف الدقيق المتقن، فيما يتصل بالتاريخ العسكري للمسلمين، وله كتابات موسوعية في هذا الميدان، تدل على اطلاع واسع وعمل دؤوب، وله إلى جانب ذلك مشاركات إيجابية في جملة من النشاطات الإسلامية.

     وفي مؤتمر "رسالة المسجد" الذي شهدته مكة المكرمة في شهر رمضان كان للأستاذ اللواء محمود شيت خطاب إسهام جميل، تمثل في بحث علمي جاد قدمه للمؤتمر، بعنوان "الرسالة العسكرية للمسجد" وردَتْ فيه طائفة من الاقتراحات البنّاءة نجملها فيما يأتي:

1. يجب إقامة المساجد في كل وحدة عسكرية وكل معسكر، وفي كل مدرسة ومعهد وكلية، وحث التلاميذ على أداء الصلاة. لقد أقامَ الأجانب العسكريون، كنيسةً في كل بارجة ومدرعة، وفي كل وحدة وكتيبة، ومدرسة ومعهد ومعسكر، لإدراكهم أهمية الدين في نفوس العسكريين خاصة حين ينشب القتال، وتبرز أهمية القوة المعنوية عند المقاتلين.

2. يجب اختيار العلماء العاملين، ليؤدّوا واجب الإمامة في كل وحدة وكتيبة ومعهد، وكلية عسكرية وغير عسكرية، واختيار أمثال هؤلاء المخلصين ليكونوا أئمة في المساجد العامة.

3. إعادة النظر في تربية النشء المسلم، وصياغة مناهج تربيته على أسس مستمدة من تعاليم الدين الحنيف، ذلك أن مناهج التعليم الحالية في كثير من المدارس والمعاهد والجامعات تناقض الإسلام نصاً وروحاً.

4. على البلدان العربية والإسلامية، أن تختار العلماء العاملين المخلصين للنهوض بواجب التوعية الدينية في الإذاعة والصحافة وأجهزة الإعلام والمساجد والنوادي وقاعات المحاضرات.

5. إجراء مسابقات دينية بين العسكريين وغيرهم، مثل إتقان قراءة القرآن الكريم، وحفظه، وتفسيره، وما إلى ذلك.

     إن المسجد بالعالِم الديني الذي فيه لا بأحجاره، ونحن لسنا بحاجة إلى تخريج علماء موظفين، بل نحن بحاجة إلى تخريج علماء حقيقيين، ينهضون بأمانة الإبلاغ حق النهوض.

*****

دروس من الحاج أمين الحسيني

دروس من الحاج أمين الحسيني

     كان سماحة المرحوم المجاهد أمين الحسيني مجاهداً صادقاً ثابتاً من طراز نادر فذ، وقد جمع إلى إخلاصه الشديد لقضية فلسطين خاصة، وقضايا العالم الإسلامي عامة، معرفةً واسعة بالعدو الصهيوني الماكر، وخبرةً غنية جداً بطبيعته وخسّته، وكان حيث يتكلم يقدّم الأدلة القوية والحجج المقنعة على ما يقول. وأحسبُ أننا في ظرف حرجٍ دقيق يجعل من واجبنا أن نستقي الدروس من ذلك المجاهد الكبير.

     قال المجاهد المرحوم: ليست فلسطين كسائر البلاد الإسلامية التي ابتليت بالاستعمار، فهي فوق ابتلائها بالاستعمار ابتليت باليهود الذين جاؤوا للإقامة فيها بشكل دائم، وإبادة شعبها الأصلي، ولم يكن عدد اليهود حين احتلت بريطانيا فلسطين يتجاوز 4,5%؛ من عدد سكانها، لكنّ هذه الأقلية الضئيلة انقلبت إلى أكثرية بالهجرة اليهودية الدائمة التي دبّرتها بريطانيا مع اليهود مع الدول الاستعمارية الأخرى.

     إن شعب فلسطين جاهد بشرف وشجاعة وصلابة، لكنّ قوى الشر في العالم، شرقيةً وغربية تألّبت عليه وتآمرت ضده لا لشيء إلا لأن هذا الشعب مسلم بالدرجة الأولى. ولو لم يكن مسلماً لما اعتدى عليه أحد.

     ولعل أسطع برهان على جهاد شعب فلسطين وتمسكه بأرضه أن إسرائيل قامت على أرض مساحتها 7% من مساحة فلسطين كلها. وقد وردت هذه الحقيقة في تقرير بريطانيا إلى الأمم المتحدة عند رحيلها عام 1948م. وعندما اطلع الرئيس الراحل ديغول على هذه الحقيقة عام 1963م، قال مذهولاً: إنه أمر لا يكاد يُصدّق، وإنه لَعارٌ على المدنية الأوربية والأمريكية في القرن العشرين.

     إن اليهود شعب مختلف عن كل شعوب العالم بما أَخَذَ به نفسه من استعلاء وأنانية لأنه يعتقد أنه شعب الله المختار، وأنّ الدنيا ما خُلِقت إلا له، وأنّ جميع البشر هم بمثابة الحيوانات، وهم مُكلّفون بخدمة اليهود، لذلك جعلوا الوصايا العشر في تلمودهم خاصةً باليهود دون بقية الناس.

     لقد كُتِبَ علينا أن نخوض معركةً مع اليهود لا تنتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ومخطئ جاهل واهم مَنْ يظن أن صُلحاً يمكن أن ينهي هذه المعركة.

     أتُرانا نستفيد من هذه الحقيقة!؟ تُرى أنستفيد مما قاله المرحوم أمين الحسيني في ظروفنا الحالية التي تنوشُنا فيها ذئاب الغدر من كل جانب!؟

     فمن أهم ما ينبغي على الأمم الجادة أن تقوم به عنايتَها واهتمامَها بتجارب قادتها الأذكياء المخلصين خاصةً في القضايا المصيرية المهمة؛ لذلك لا غرابة إذا اقتنعنا، وإذا دعونا إلى قناعتنا هذه بأن علينا الاستفادة من تجارب المجاهد الكبير الحاج أمين الحسيني عليه رحمة الله، فهو من أكثر الزعماء المسلمين وعياً وإخلاصاً، خاصة في أهم قضايانا اليوم وهي قضية صراعنا مع العدو اليهودي. فكيف يصف الرجل المجرّب المحنك الخبير أخلاق اليهود؟ يقول الرجل في ذلك:

     وأمّا صفات اليهود فإني لا أجد أصدقَ ولا أدقَّ ولا أشملَ من الصفات التي وصفهم الله تعالى بها في كتابه العزيز وهي:

- شدة عداوتهم للمؤمنين: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة:82].

- قسوة قلوبهم: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة:74].

- طبيعتهم العدوانية: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة:78-79].

- حبهم للإفساد: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًاۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة:64].

- أنانيتهم وشحهم واستئثارهم: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [المائدة:52-53].

- استباحتهم لغيرهم من البشر: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:75].

     ترى أثمّة شك في صحّة ما قاله المجاهد المرحوم الحاج امين الحسيني!؟

     الجواب: لا..؛ إنّ ما قاله صحيح تماماً، وتشهد بصحّته قضايا وبراهين وشواهد كثيرة جداً.

     وبادئ ذي بدء إنّ القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، المحفوظ المصون، يشهد بذلك، فهذه الآيات التي قُدِّمت تعلن ذلك. إنها تصف اليهود بشدة عداوتهم للمسلمين، وتصفهم بقسوة القلب، وتصفهم بالعدوان، وتصفهم بأنهم مفسدون في الأرض، وتصفهم بالأثرة والشح وكراهية الخير للآخرين، وتصفهم بالكذب على الله، كما تصفهم بأنهم يستبيحون لأنفسهم غيرهم من الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وفي كل شيء.

     إنّ مِن أهم المهم أن يعي المسلمون ذلك، وأن تعيه الأجيال الجديدة منهم خاصة، فهناك مَنْ يحاول أن يمكّن لهم في بلادنا، ويتنازل لهم عمّا اغتصبوه من ديار المسلمين.

     وأيّاً كان فإن الصراع بيننا وبينهم لا ينتهي إلا بهلاك أحد الفريقين، ثم إن الصلح معهم لن يُنهي المشكلة قط، ذلك أنّ اليهود مشهورون بنقض العهود، وقد قال الله تعالى عنهم: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 100]، ثم إن تكاليف السلام معهم أخطر بكثير من تكاليف الحرب. وإذن فهو صراع لا سبيل لنا إلى الفكاك منه، فلْنكن فيه رجالاً مؤمنين، ولنتحمل أعباء الجهاد فيه، فذلك خير لنا وأكرم وأجدى في ديننا ودنيانا.

*****

جهاد الشيخ عز الدين القسام

جهاد الشيخ عز الدين القسام

     يُروى أن الشيخ المجاهد عز الدين القسام خجل من أن يعلّم الناس دروس الجهاد، ومتى يكون فرض عين على كل مسلم، وهو قاعد، والاستعمار جاثم على فلسطين يعمل على إعداد الأمور فيها لتكون دولة لليهود فيما بعد.

     خجل الشيخ المجاهد عليه رحمة الله من موقفه إذ هو قاعد، بينما وجب عليه النفير للجهاد في سبيل الله عز وجل، فخرج بنفسه يطبق ما يدعو إليه، وينفذ أمر دينه في وجوب المبادرة لجهاد الأعداء الذين احتلوا دار الإسلام في وطنه، ومضى في عصبة من المؤمنين المجاهدين، يقاتل العدو، فكان لتلاميذه أستاذاً في المسجد يعلمهم الحلال والحرام، وكان أستاذاً لهم في الميدان يعلمهم الجهاد في سبيل الله جل شأنه.

     وحين ضيّق عليه المستعمرون الحصار في أحد المواقع، لم يهِنْ ولمْ يلِنْ، بل صابَرَ وجاهد، وحثَّ من معه على الصبر والثبات فإما النصر وإما الشهادة، فاستُشْهِد القسام، واستُشْهِد من معه جميعاً، وأفضوا إلى ربهم شهداء كراماً، أحياءٌ عنده يُرزَقون.

     إنّ في الذي فعله الشيخ القسام رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته؛ ما يكشف عن عظمة هذه العقيدة المكافحة التي تأبى على أبنائها القعود والركون والاستسلام، وتُهيب بهم أن يكونوا على مستوى جديتها وخطورتها، لذلك توجَّب عليهم أن يتحركوا للوفاء بمستلزماتها وإن كانت الظروف شاقة، والتحديات كبيرة، وجلّت المسؤولية وعَظُمَت، وقَلَّ الناصر والمعين.

     فالقسام ومن معه كانوا قلة في العَدد والعُدد، ولم يكونوا مُدَرّبين على فنون القتال والحرب، وكانوا يواجهون استعماراً في غاية القوة والدهاء هو الاستعمار الإنكليزي، يوم كانت إنكلترا دولة لا تغرب عنها الشمس، وكانوا يواجهون كذلك إخوان القردة والخنازير وتجار الحرب والمفاسد والآثام، كانوا يواجهون الصهيونية الباغية المجرمة. ومع ذلك كله لم يَرَ القسام ومن معه بُدّاً من الخروج، ورأوا في قعودهم ما يطعن في صدق إيمانهم فخرجوا بعددهم القليل، وسلاحهم الضئيل، وإيمانهم القوي الجسور، وظلوا يجاهدون حتى فازوا بشرف الشهادة ومثوبتها.

     إنها العقيدة الإسلامية المكافحة هي التي حركتهم، وهي التي منعتهم من القعود والركون، وأبَتْ عليهم ليّن المهاد، وطيّب الطعام، ولذيذ السبات، وما زالت بهم، تحثهم على أن يرتفعوا إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه، ويثبتوا صدق انتمائهم للإسلام، وبالفعل حاولوا ونجحوا في المحاولة إلى أقصى حدود النجاح، وقدّموا نموذجاً من نماذج حركة المسلم حين تستولي عليه عقيدته، نموذجاً أساسه العقيدة الصادقة، وبنيانه التضحية الغالية في وقت كانت تبدو فيه الظروف الخارجية غير مشجعة، مما يعطي الأمر دلالة أكبر، وهي أن لعقيدة الإسلام القدرة الدائمة على الكفاح والجلاد والصبر حتى في الظروف الشاقة، فضلاً عن الظروف العادية أو تلك التي تكثر فيها الأحوال المواتية المشجّعة.

     وفي الحرب الفلسطينية الأولى التي كانت فيها جيوش عربية نظامية، وكانت فيها قوات فدائية شعبية، تجاهد هي الأخرى، دون أن ترتبط بحركات الجيوش العربية وتوجيهاتها، كنت تجد في هذه القوات الفدائية المتطوعة، رجالاً حرّكتهم العقيدة المكافحة المجاهدة فتوافدوا صابرين محتسبين لا يعرفون لجهادهم معنى إلا أنه في سبيل الله جل شأنه، توافدوا من مصر والشام، والأردن والعراق..، وغير ذلك من ديار الإسلام، بجهودهم الذاتية ومواردهم المحدودة، يتغلبون على دواعي القعود في أنفسهم أولاً، ويتغلبون على العراقيل التي كانت توضع في طريقهم، وألوان المصادرة والتضييق والتنكيل ليواصلوا المسير في طريق الجهاد، طريق القسّام الذي كان استشهاده لا يزال قريب العهد، واستطاعوا أن يسطّروا في تاريخ الجهاد صفحات رائعة مشرقة، تذكرك بصفحات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، بلغ من روعتها وصدقها وأصالتها أن شهد بها بعض قادة اليهود أنفسهم في هاتيك الأيام، وإن حاولوا أن يشوهوا دوافعها الربانية النبيلة، وهذا ينهض دليلاً صادقاً على أهمية هذه العقيدة الإسلامية ودورها المبارك في إيقاد دوافع الجهاد والكفاح لدى أبنائها.

     أن تمتلك العقيدة الإسلامية القدرة على التحرك في أوقات الرخاء والعافية والكثرة، والقوة المرهوبة الجانب، أمر حميد طيب، لكنه أمر لا تنفرد به دون العقائد الأخرى. أمّا أن تمتلك القدرة على التحرك في أوقات الشدة والمحنة والقلّة، وتكالب العدو وبغيه، فذلك هو الأمر الحميد الرائع الذي تنفرد به دون العقائد الأخرى جميعاً، وهذا يدل على مقدرتها الذاتية على التحرك، التي تتيح لها ذلك في كافة الظروف والأحوال.

     وهذه الخاصية ظلت طيلة أحقاب التاريخ الإسلامي سبباً من أسباب بقاء هذا الدين، وانتشاره من بعد التوقف، وامتداده من بعد الانحسار، وهي في جوهرها دليل كبير على أنَّ هذا الدين رباني المصدر، محفوظ بحفظ الله تعالى له.

     إنَّ وعْيَنا بهذه الحقيقة، حقيقة عقيدتنا المكافحة الصابرة، جزء من حسن فهمنا لديننا الذي ينبغي أن نتصف به، وهو بعد ذلك سبب من أسباب إدراكنا للنصر إن شاء الله في هذا الوقت الذي تنوشنا فيه التحديات من كل جانب.

*****

الأكثر مشاهدة