بين مسلمة بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز
دخل مَسْلَمَةُ بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المَرْضَةِ التي ماتَ فيها عليه رحمةُ الله، فقال: يا أمير المؤمنين إنك فطمتَ أفواهَ ولدك عن هذا المال وتركتهم عالة، ولا بد لهم من شيء يُصْلحهم، فلو أوصيتَ بهم إليّ أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتُكَ مؤونتهم إن شاء الله.
فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: الحمد لله، أبالله تخوّفني يا مسلمة!؟ أمّا ما ذكرتَ أني فطمتُ أفواهَ ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنَعْهم حقاً هو لهم، ولم أعطِهم حقاً هو لغيرهم.
وأمّا ما سألتَ من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيّتي بهم إلى الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين.
وإنما بنو عمر أحدُ رجلين: رجلٌ اتقى الله فجعل الله له من أمره يُسراً، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجلٌ غيَّر وفَجَر فلا يكونُ عمرُ أولَ من أعانه على ارتكابِ الآثام، ادعوا لي بَنِيَّ، فدعَوْهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاماً.
فجعل يُصَعِّدُ بصرَه فيهم ويخفضه حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال:
بنفسي فتية تركتُهم ولا مالَ لهم، يا بَنِيَّ إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون على مسلمٍ ولا مُعاهَد إلّا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله.
يا بني إني قد أدرتُ رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبينَ أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيراً من دخولكم وأبيكم يوماً واحداً في النار، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم!.
وانتقل عمر بن عبد العزيز إلى رحمة الله، بعد أن تبوّأ بعظيم ما فعل مكانةً عملاقة في تاريخ الإسلام، باتَ معها سادسَ[1] الخلفاء الراشدين، والمُجَدِّدَ الأولَ لهذا الدين، ونموذجاً من أعظم نماذجه.
أمّا فتيته الذين خلّفهم صغاراً؛ فقد روى التاريخ أنه لم يَحْتَجْ أحدٌ منهم ولم يفتقرْ. لقد أغناهم الخالق عن الحاجة للمخلوق، وحفظ فيهم ولهم صلاح أبيهم المؤمن العملاق الذي كان مسلكه وهو على حافة الموت، صورة مشرّفة لما يستطيع هذا الدين أن يصنعه بالرجال، سموّاً ورفعةً وانتصاراً على النفس.
اللهم أطلِعْ علينا فجراً جديداً، وضيئاً صادقاً يقودنا فيه رجال كعمر بن عبد العزيز حتى ننجو بإذنك مما نحن فيه من تيه وضياع، وعجز وذلك وهوان.
----------------
[1] خامس الخلفاء الراشدين هو الحسن بن علي رضي الله عنه، تولى الخلافة بعد أبيه، لستة أشهر، وأصلح به الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق