‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب صلاة في الحمراء. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب صلاة في الحمراء. إظهار كافة الرسائل

السبت، 25 ديسمبر 2021

كتاب صلاة في الحمراء - الإهداء والمحتويات

صلاة في الحمراء

الإهداء:

     إلى الإخوة الإسبان الذين أخذوا يعتنقون الإسلام في العقود الأخيرة، يدفعهم إلى ذلك اختيارٌ حر، وعقلٌ حصيف، وقلبٌ نقي. ثبَّتهم الله على الحق، ورزقهم الصوابَ والإخلاص، واستعملهم فيما يرضيه.

     وإلى المسلمين الذين هاجروا إلى إسبانيا واستوطنوها، فأحسنت إليهم فحفظوا لها الجميل، وصاروا برشدهم واستقامتهم ووعيهم: فسائل خير، وشموع هداية، وقدوة حسنة. حفظهم الله، وسددهم ووفقهم لما يرضيه.

---------------

المحتويات (روابط قابلة للضغط):

المحتويات ................................................................... 3
الإهداء ....................................................................... 5
صلاة في الحمراء 
.......................................................... 7
المسجد المحزون 
.......................................................... 12
لعينيك يارندة 
............................................................... 17
صخور وعزائم 
............................................................ 24
رعب في قلب مدريد 
...................................................... 34
أندلسيات حسناوات جداً 
................................................... 37
ليلة لا تنسى .
............................................................... 57
أربعون صلاة 
.............................................................. 62
عرف عمر فتوهج .
........................................................ 67
رأى ملابس الإحرام فتوهج .
............................................. 70
هلاَّ كنت الطائر المبصر .
................................................ 73
إن لله جنوداً من عسل .
.................................................... 76
ساعتي الأثيرة 
............................................................. 79
لون من المحاسبة .
........................................................ 83
يحدثونك عن النجاح، الإرادة أولاً .
...................................... 88
مع الحاج أمين الحسيني، عبرة وذكرى .
................................ 94
الطمع القاتل، مستقبل اليهود في فلسطين كما يراه محمد أسد ......... 99
التسامح الديني اختراع إسلامي .
....................................... 103
الصحابة في سقيفة بني ساعدة .
........................................ 108
حكاية عاقبة .
............................................................. 116
طه حسين وشجاعة الاعتذار .
.......................................... 120
محمود محمد شاكر، شيخ العربية وفارس الفصحى .................. 127
رسالة إلى نجيب محفوظ .
.............................................. 139
شوقي ضيف، أستاذي وأستاذ الأجيال .
................................ 150
الإكرام والطعام .
........................................................ 160
تجربة دعوية .
........................................................... 163
دموع في محراب الخشوع .
............................................ 166

دموع في محراب الخشوع

دموع في محراب الخشوع

     كان للعالم الهندي عناية الله المشرقي صلة مودة وصداقة بالعالم الإنكليزي الفلكي المشهور السير جيمس جينز، الأستاذ بجامعة كمبردج، وذات يوم كان في زيارة له بمنزله في لندن، يقول الدكتور الهندي عناية الله: وأخذ السير جيمس جينز يلقي محاضرة في تكوين الأجرام السماوية ونظامها المدهش، وأبعادها، وفواصلها الهائلة، وطرقها ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة حتى إنني شعرت بقلبي يهتز أمام هيبة الله تعالى وجلاله.

     ‏وكان الرجلان عالمين كبيرين، أما عناية الله فهو من أعظم علماء الهند في الطبيعة والرياضيات، وأما العالم الإنكليزي فهو من كبار علماء الفلك العالميين، ويبدو أنهما استغرقا في محاضرة السير جيمس جينز، وشعرا بعظمة الكون الهائلة، وامتداده الشاسع الرحيب، وآفاقه التي كلما اكتشف العلم شيئاً جديداً منها، بدا له بوضوح أن الذي يجهله أكبر بكثير من الذي يعرفه.

     ‏لقد بدا لهما أن ما يعرفانه وهو قليل، وأن ما يجهلانه وهو كثير، يدل بإتقانه الفائق، وترتيبه الدقيق، وتنسيقه المحكم، وتوازنه المعجز، وما إلى ذلك من ضروب القدرة الهائلة التي تتجاوز مقدرة البشر أجمعين، على أن عظمة الله تعالى كبيرة كبيرة، وإرادته عز وجل واسعة طليقة فوق القيود والحدود، والسدود والحواجز، فإذا بهما يستشعران الإيمان به في حالة من أصفى وأخشع ما يمر بالكائن البشري، واذا بكل خليّة من خلاياهما غارقة ‏في النور والهيبة والجلال، تسبح بحمد ربها جل شأنه.

     ‏يقول عناية الله عن العالم الإنكليزي: لقد وجدتُ شعر رأسه واقفاً، والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعشان من خشية الله، وتوقف فجأة ثم بدأ يقول: يا عناية الله، عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال والهيبة، وعندما أركع بين يديه قائلاً له: "إنك لعظيم" أجد كل جزءٍ في كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة، ‏أحس بسعادة تفوق سعادة ‏الآخرين ألف مرة، أفهمت يا عناية الله لماذا أنا مؤمن؟

     ‏ويضيف العلامة الهندي قائلاً: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفاناً في عقلي، فقلت للسير: لقد تأثرت جداً بالتفاصيل العلمية التي رويتها لي، ‏وتذكرت بهذه المناسبة آية في كتابي المقدس "القرآن الكريم" لو سمحت لي قرأتها عليك، فهز رأسه قائلاً: بكل سرور. فقرأت عليه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: ٢٧ – ٢٨].

     ‏ ‏هنا صرخ السير جيس قائلاً:

     ‏ماذا قلت! "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، مدهش وغريب وعجيب جداً، إنه الأمر الذي كشفتُ عنه بعد دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة. مَن أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقاً؟ قلت: نعم. إنها موجودة في القرآن الكريم. قال السير جيمس جينز: إذن فاكتبْ شهادة مني بأن القرآن كتاب موحى به من عند الله. واستطرد الفلكي الإنكليزي المشهور قائلاً: لقد كان محمد أمياً، ولا يمكن أن ‏يكشف عن هذا السر بنفسه، ولكن الله علّمه ذلك، إنه لأمر مدهش، ‏وغريب وعجيب جداً.

     ‏ها هو الموقف الصحيح للعلم يظهر على لساني اثنين من كبار العلماء، أحدهما غربي مسيحي ‏هو السير جيمس جينز الفلكي الذي طبقت شهرته الآفاق. والآخر شرقي مسلم، هو الدكتور عناية ‏الله المشرقي الذي كان من أعظم علماء بلاده في الطبيعة والرياضيات. يظهر موقف العلم من خلال هذين الرجلين، لينكشف أن علم الإنسان مهما زاد وعظم واتسع، قليل ضئيل بالقياس إلى أسرار هذا الكون الواسع، وأن الإنسان الذي يغوص في المعارف والعلوم، ويتوسع فيها هو الذي يعرف الله تعالى، ويرهبه ويخشاه، ذلك أنه لمس قدرته الهائلة الطليقة الشاسعة، وعرف عظمته الجبارة الكبيرة، فإذا بالرهبة تخالجه، ومشاعر الخوف ‏والخشية تسيطر عليه، واذا بالدموع تنهمر من مقلتيه.

     ‏وحين سارع العالم المسلم يقرأ على زميله الإنكليزي الآية الكريمة التي تحصر خشية الله تعالى في العلماء، وجدنا هذا الأخير يستوثق ويتأكد من أن الآية وردت في القرآن الكريم، فلما كان الجو اب إيجابياً، سارع بشجاعة أدبية ليقرر بأن القرآن الكريم موحى به من عند الله تعالى، وليس من عمل محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم المسيحيون.

     إن لنا إذن أن نقول: إن العلم اليقيني، العميق البصير، الذي يطيل الدرس والفحص، ويغوص في المعارف والأسرار، إنما هو علم مؤمن بالله، مقر بوجوده، معترف بعظمته وتدبيره للكون، وهيمنته عليه، مسبح بقدرته. أما دعاة الشك والإلحاد باسم العلم، فهم جهلة مدعون، يبرأ منهم العلم، كما يبرأ منهم الدين، وتسخر منهم الحقيقة، كما يسخر منهم الإيمان.

* * *

تجربة دعوية

تجربة دعوية

     اجتمع عدد من المسلمين المغتربين في بريطانيا للتشاور في عيد أظلهم وقته، ماذا يفعلون وأين يجدون المكان المناسب الذي يتسع لهم.

     وبعد المشاورة اتفقوا على إقامة صلاة العيد في إحدى الحدائق العامة، وهو أمر لا بد فيه من الاستئذان.

     وقد تم الحصول على الإذن من الجهات المختصة بعد مفاوضات وتعهدات، وشروط واستفسارات كثيرة.

     ومع أن المسلمين أعطوا الجهات المختصة كل ما طلبوه من الضمانات، إلا أن هذه الجهات كانت في غاية الحذر، فقد أحاطت الحديقة برجال كثيرين من المسؤولين عن الصحة، ومن المعنيين بالأمن يجوبون المكان وهم في غاية الحذر والترقب والخوف.

     التقى المسلمون في الحديقة، وصلوا العيد، وفرحوا وابتهجوا، وتبادلوا التحيات والهدايا، ووزعوا المأكولات والمشروبات، وهم في نظام بديع، وأدب جم، وذوق عال، ونظافة في الباطن والظاهر على السواء، ثم انصرفوا .

     لم يحدث أي نزاع، ولم يرتفع صوت بضجيج، تلاقوا كالحمائم، وانصرفوا كالطيور، وتركوا الحديقة كما كانت عليه، ليست عليها علبة فارغة، أو منديل ملقى، أو جريدة منسية.

     ذهب المسلمون وقد تركوا أثراً حميداً في نفوس من كانوا يراقبونهم.

     في العيد التالي حصل المسلمون على الإذن بأيسر مما كان عليه الحال في المرة الأولى، وكان من يحيط بهم أقل حذراً وتوجساً، وفي العيد الثالث ازدادت درجة اليسر، كما خفت درجة الحذر والتخوف، ثم صار الحصول على الإذن أمراً روتينياً أو يكاد .

     شدني هذا الأسلوب الرفيع من العمل الدعوي، الذي يبني ولا يستفز، ويبشر ولا ينفر، ويقدم صورة رائعة من العمل الدعوي المتحضر، الذي يجمع إلى الثبات المرونة، وإلى الحفاظ على الهوية اندماجاً حميداً.

     وذكرني هذا الأسلوب بما صنعه الحضارمة في مهاجرهم، لقد حملوا إسلامهم وعروبتهم معهم حيث رحلوا، وحافطوا على ثوابت هويتهم، واندمجوا مع الشعوب التي هاجروا إليها من ناحية، وتحلوا بالصبر، والأناة، والاستقامة، والأمانة، والعفة، واحترام الأنظمة والقوانين، فكانوا نموذجاً مشرفاً للقدوة الحسنة، وهو ما أدى إلى إسلام مئات الملايين بسببهم، في بلدان لم تطأها قدم فاتح مسلم قط.

     ليت المسلمين المغتربين في العالم يستلهمون هذه التجربة الدعوية الحصيفة، وليتهم يستلهمون التجربة الحضرمية في مهاجرهم، ليتهم يستلهمون ذلك، ويضيفون إليه ويطورونه، ليحسنوا إلى دينهم، وإلى أنفسهم، وإلى الشعوب التى أحسنت استقبالهم، وهم حين يفعلون ذلك سيدركون نجاحاً هائلاً ومتزايداً باستمرار بإذن الله.

     وليتهم أيضاً يحذرون كل الحذر من المدعين، والمزايدين، وأصحاب الشذوذ، والمتاجرين بالخلاف، والآخذين بالأعسر، ومثيري الفتن، والشاتمين للبلدان التي أكرمت مثواهم، وأهل الجدل واللغو والتنظيرات الوهمية، والرافعين لشعارات كبرى، لا هم يقدرون عليها، ولا المرحلة تطيقها، وهي مما يستفز الضمير الديني والوطني حيث يقيمون، وهو ما ينمي الخوف والحذر والتوجس من أي عمل إسلامي مهما كان سوياً ورشيداً. كما ينبغي الحذر من الذين ينبتون فجأ‏ة على أنهم دعاة، وليس لهم تاريخ يزكيهم، ومع ذلك يقدمون وتسلط عليهم الأضواء، وتوضع لهم الأهمية، وتيسر لهم الإمكانات، وهو ما يجعلهم موضع ريبة واجبة.

     ينبغي الحذر من هؤلاء أشد الحذر، لأنهم أدوات للتخريب، والتخريب يقع من الشرير، والمدسوس، ‏والعدو، كما يقع من المخلص الأحمق، ‏والمغامر المجنون، والقائد الجاهل.

* * *

الإكرام والطعام

الإكرام والطعام

     الكرم ‏صفة نبيلة محببة ترفع صاحبها عند الناس، وأهم من ذلك ترفعه عند رب الناس، وحسب الكرم شرفاً حث النصوص الشرعية عليه، وإشادة الناس به من قديم الزمان، وتاريخ الثقافة العربية - وغيرها من الثقافات الأخرى - سجل قديم جديد، يشيد بالكرم ويرفعه مكاناً علياً .

     ‏والكرم معنى واسع يتجاوز دائرة بذل اليد وبسطها بالعون والمعروف، لأن اليد المبسوطة السمحة تدل على نفسية مبسوطة سمحة، وحب للخير، وحدب على الناس، وثقة عميقة بالله تعالى، وأنه المالك الحقيقي لكل شيء، وأنه الرازق المنعم، وأنه الغني المدبر، وأنه الذي يخلف على الإنفاق بمثله وخير منه.

     ‏بل إن الدعوة إلى الله تعالى هي نوع من الكرم يدل على السخاء النفسي لمن يقوم بها، لأنه يشعر أنه امتلك شيئاً نفيساً، يريد للآخرين أن يمتلكوه كما امتلكه، يحدوه إلى ذلك صفاء قلب، وسخاء نفس، وطلاقة روح، وهذا هو الكرم في بواعثه وأعلى ذراه، ولذلك كان كرم النفس أهم من كرم اليد وكلاهما مطلوب.

وإذن فلنا - بل علينا - أن نحب الكرم، ونشيد به، ونحث الناس عليه، ونحذر من البخل ونفضحه، ونبين للناس سوءاته، خاصة أننا مسلمون، والإسلام دين الكرم، وأننا عرب، والعرب ذؤابة الكرم.

     ‏ما الذي تريد أن تضيفه هذه الخاطرة إذن مادام الذي سبق تقريره هو من "تحصيل الحاصل" كما يقولون؟

    الذي تريد هذه الخاطرة أن تضيفه هو أن الإكرام بالطعام في كل الحالات كما لو كان قاعدة مطردة خطأ ينبغي أن نتجاوزه.

     لقد ارتبط عند أكثرنا الكرم بأنه دعوة الآخرين إلى الطعام، والإكثار منه، والتفنن فيه، والإلحاح على المدعوين في تناوله مرة بعد مرة، وربما قال أحدنا لهم مداعباً وحاثاً: الأكل على قدر المحبة.

     ‏هذا الإصرار على التعبير عن الكرم بالإطعام باستمرار خطأ ينبغي أن نتجاوزه مهما كانت دوافعه طيبة.

     وابتداءً لابد من الإقرار بأن ثمة حالات يغدو فيها الإكرام بالطعام أمراً لازماً، كإنقاذ جائع، أو استضافة صديق، أو أستاذ أو وجيه بعد انقطاع طويل، وبذلك يصبح موضع الاعتراض عما وراء ذلك.

     ويبدو الأمرجلياً حين نضرب بعض الأمثلة:

     مجموعة من الإخوان يتداولون التزاور فيما بينهم، فيحرص كل منهم على أن تكون مائدته عامرة حباً للكرم من ناحية، وخوفاً من شبهة التقصير من ناحية، ويلتقي هؤلاء الإخوان ويأكلون قليلاً من الطعام الذي هو أ‏ضعاف ما يحتاجون إليه، وربما كانوا أحوج إلى الصيام منهم إلى الطعام، بسبب سمنة أو مرض.

     ‏أخ قادم في سفر لأمر ما، ووقته ضيق، وأعماله كثيرة، ومع ذلك نصر على دعوته إلى الطعام، ولعله بحاجة إلى أن نعينه في أداء أعماله لا أن نطعمه.

     طالب يعد رسالة علمية يحتاج إلينا في خطة البحث، أو اختيار الموضوع، أو تأمين المراجع، فنشغله ونشغل أنفسنا عن ذلك بالطعام.

     ‏صاحب حاجة تتوقف على إنجازها مصالح كثيرة، ويمكن لنا أن نعينه في قضائها لمعرفتنا بوجيه أو مسؤول، فنشغله ونشغل أنفسنا عنها بالطعام.

     ‏في هذه الأمثلة وما يشابهها كثير، يصبح الإصرار على الإكرام بالطعام، أمراً مفضولاً أو خطأ أو عبئاً، وربما صار حراماً.

     ويصبح هذا الإصرار بين الإخوان الذين زالت فيما بينهم الكلفة، وثبتت المودة، وتجاوزوا مرحلة الاختبار، فعرفوا بأنهم أهل كرم وأريحية، خطأ أفدح وأفدح.

     ‏وفي بعض الأحيان - وربما في أكثرها - تقوم الهدية المناسبة، واللقاء الصادق، والبشر الحقيقي، وتقديم النصح، وحل المشكلة، والحوار الفكري، وإزجاء الدعابة، مقاماً أنفع وأوقع وأجمل من الإكرام بالطعام.

     وبعد: إن الإكرام بالطعام حيث ينبغي أمر حميد ومطلوب، لكن الخطأ أن نجعله قاعدة مطردة في كل الحالات. إن الكرم من حيث هو قيمة نبيلة ثابتة، لكن التعبير عنه ينبغي أن يكون متحركاً غير ثابت.

***

أستاذي وأستاذ الأجيال شوقي ضيف

أستاذي وأستاذ الأجيال

شوقي ضيف

     رحل من العالم الفاني إلى العالم الباقي أستاذ الأجيال، وعلامة العربية، وحارس ‏التراث، وسادن الفصحى، العلامة ‏الموسوعي، والعصامي الدؤوب، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رحمه الله رحمة واسعة وأغدق عليه شآبيب رحمته، وعوض الأمة عنه خيرالعوض، بعد حياة ملأى بالإنجازات، وعطاء أصيل متنوع، بلغ فيه ذروة عالية متفردة لا يشاركه فيها أحد.

     ‏ولد في عام 1910م في إحدى قرى دمياط، وتوفي في عام 2005 ‏م، أي أنه عاش قرناً من الزمن شهد تبدلات كثيرة: ثقافية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، لكن الثوابت الكبرى في حياته لم تتبدل، فقد بقي طيلة عمره المصري، الريفي، المسلم، العربي، الذي وهب حياته للعلم، وعاش في محرابه حتى مات.

     ‏ومراحل حياته معروفة متناولة - وهي في برقية موجزة - التحاقه بالمعهد الديني في دمياط الذي تخرج منه عام 1926م ثم التحاقه بقسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول - جامعة القاهرة فيما بعد الذي تخرج منه عام 1936م، وكان أول دفعته، فاختاره الدكتور طه حسين معيداً، وهنا تدرج حتى ظفر بالماجستير فالدكتوراه فالأستاذية، ثم صار عضواً في مجمع اللغة العربية، فأميناً عاماً له، فنائباً للرئيس، فرئيساً.

     ‏تلاقت في شخصيته رحمه الله، مجموعة من العوامل، أدت إلى نجاحه الفريد.

     ‏كان متديناً تديناً عميقاً محباً للإسلام، معتزاً به، واسع الثقافة فيه، ورث ذلك عن الريف المصري الطيب الذي يتنفس الإسلام في كل حياته منذ عهد عمرو بن العاص، وعن أبيه عبد السلام، الرجل الطيب الذي تخرج في المعهد الأزهري في دمياط، وعاد إلى قريته يعلم الناس، ويسعى في مصالحهم، وأخذ ذلك عن المعهد نفسه الذي درسه حقائق هذا الدين العظيم، فكان تأصيله الشرعي متيناً، وأخذ ذلك عن حفظه للقرآن الكريم الذي ظل وثيق الصلة به طيلة حياته، يضاف إلى ذلك ‏قراءاته المستفيضة عن الإسلام التي كانت ركناً ركيناً في حياته.

     ‏حدد الرجل هدفه، ومضى إليه في خُطاً ثابتة، لم تشغله الصوارف وإن كان لها بريق، ولا المطامع وإن كان لها إغراء، مثله كمثل إنسان وقف في السهل، ونظر إلى القمة فأراد أن يبلغها، فخلا بنفسه، ورسم طريقه، وانطلق فيه، بهدوء وأناة، ولكن بتصميم وعناد، وما زال كذلك حتى ظفر بما يريد،، وفي هذا درس مهم لطلاب المعالي: أن يعرف أحدهم حقيقة قدراته، ونقطة تفوقه، والوسيلة المطلوبة، ثم يشمّر عن ساعد الجد، معتمداً على خالقه، صابراً مرابطاً مثابراً، مستعصياً على التشتت والصوارف، إن كثيراً من الأذكياء أضاعوا أنفسهم لأنهم جهلوا ذلك، وإن كثيراً من متوسطي الذكاء حققوا نجاحاً أكبر لأنهم عرفوا ذلك.

     ‏جمع الرجل بين الثقافتين، الثقافة الإسلامية الأصيلة التي تلقاها فطرة وتربية ودراسة، والثقافة الحديثة التي تلقاها في الجامعة، فحقق بذلك أفقاً واسعاً، ‏وتنوعاً، وخصوبة، أعانه في ذلك جده، وإتقانه، واعتدال مزاجه الفكري والنفسي.

     ‏كان رجلاً عفيفاً، عفيف السريرة، عفيف المظهر، لذلك كان لسانه في غاية الأدب مع من يوافقه، ومع من يخالفه، والعفة الحقيقية ليست فضيلة لسانية فقط، إنها أوسع من ذلك مجالاً، وأرحب مدىً، إنها فضيلة تومئ إلى فضائل أخرى، وحسنة تبشر بأخوات لها، والفضائل كالرذائل ينادي بعضها بعضاً، ويقود بعضها إلى بعضها الآخر، هذه العفة أكسبته - إلى جانب مزاياه الأخرى - احترام الجميع، وأضفت عليه جلال العالم، وحب الزملاء والأساتذة والطلبة، وثناء ‏الناس حيث كان.

     ‏كان فيه نوع من التصوف السوي الذي نجا من السلبية، والخرافة، وذوبان الشخصية، كما نجا من الضلالات والانحرافات، وكان لهذا ‏اللون من التصوف السوي السني فضل كبير عليه، فعاش عمره المديد المبارك، وفيه قناعة، ونقاء، وصفاء، وزهد، وعفاف، ورضا، وصبر، وتوكل، مع عمل دؤوب، وعزم قوي، وعقل يقظ، وتخطيط حكيم، وتحديد للهدف، وضبط للوسيلة، وتفان وإتقان، كل ذلك في إطار من التوازن والشمول والانسجام.

     ‏هذا التصوف السوي المتوازن أبعده عن القلق والسخط والتوتر والغضب والحسد، وما إلى ذلك من معاصي القلوب، وهي غوائل مدمرة، وصوارف ومثبطات، وملأه بالأفكار الصحيحة والمشاعر النبيلة، وهي حوافز دافعة، وقوى بانية، فكان بما نجا منه من ناحية، وما اكتسبه من ناحية، حريّاً ‏أن يصل إلى ما وصل إليه.

     ‏وتتسم كتاباته بالعمق والإحاطة التي تدل على ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وتفرغ تام، واستقصاء عميق، وقدرة كبيرة على حشد الأدلة بين يدي الأحكام التي ينتهي إليها، لذلك تظل تحترمه سواء أوافقته في الرأي أم خالفته.

     ‏كما تتسم هذه الكتابات بالوضوح فلغته تجمع إلى الصحة الجمال، ولا بدع فهو حافظ للقرآن الكريم، عليم بأسرار البيان العربي، غائص على درره ونفائسه، ثم إن شخصيته الواضحة تجعل بيانه واضحاً، ذلك أنه يكره التكلف والتشدق، وينأى عن المصطلحات الغامضة، والرموز الغريبة، والعبارات الفضفاضة، التي يلجأ إليها بعض الكتاب ليستروا بزيفها ولمعانها خواءهم الفكري، أو ضلالهم العقائدي، وليوهموا السذج من القراء أن لديهم من التميز والإبداع والتجديد أكثر من الآخرين، فيعجب بهم هؤلاء المساكين، وهم لا يعلمون أنهم مخدوعون.

     ‏أحب أساتذته الأعلام، وكانت علاقته بهم وثيقة، فيها وفاء واحترام، أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومصطفى عبدالرازق، لكن هذا كله لم يفقده ثقته بنفسه واحترامه لخصوصيته، فلم يذب في أحد منهم قط، ولعل أبرز مثل لهذا هو موقفه من طه حسين الذي اختاره معيداً، ومنحه درجة الدكتوراه بتفوق، لقد حفظ له الجميل، ولكنه خالفه في أدب وصراحة في قضية الانتحال في الشعر الجاهلي.

     ‏أعانه على إنجاز ما أنجز أنه رجل منظم، منظم في كل شيء، في الوقت، والمال، والأولويات، والعلاقات، والأرشفة، والنوم، واليقظة، والطعام، وما إلى ذلك، والإنسان المنظم يتسع وقته، ويربو عطاؤه، وتهدأ أعصابه، ويتسع مداه العقلي والنفسي ‏والشعوري، وتعظم قدرته على التركيز والإبداع والتجدد، خلافاً للإنسان الفوضوي المشوش، وصدق من قال: قل لي ما برنامجك، أقل لك من أنت؟

     ‏بعض الناس يحصلون على الشهرة من خلال مهاجمة أعلام كبار لهم وزنهم في الساحة وبعضهم من خلال ثروة مالية يوظفها لمن يكتبون عنه وله، وبعضهم من خلال موقع إداري يتيح له أن يوظف جهود عدد من مرؤوسيه للكتابة عنه وله، وهذا كله ‏سرقة وعدوان ومجد زائف.

     ‏وبعضهم يحصل على الشهرة والمجد متحاشياً ذلك كله سالكاً إلى هدفه السبيل القويم بكل مايتطلبه هذا السبيل من أخلاق وعناء ومثابرة، ومن ‏هذا الصنف أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، لم تصعد به إلى الذروة مصادفة عابرة، أو إرث مالي، أو مكانة اجتماعية، أو عصبية حزبية، أو شغب على الأعلام والثوابت، أو رعاية من ذي جاه وسلطان، بل صعدت به - بعون الله تعالى - فضائله وحدها.

     ‏وبعد :

     ‏وبعد، فإن الدكتور شوقي ضيف أعجوبة من أعاجيب عصرنا الثقافية، وهو قمة حقيقية تدعوك إلى الإعجاب وحين تعجب بالقمة، وتحاول احتذاءها وتقليدها، فالفضل لها، ذلك أن فضائلها هي التي حملتك على الإعجاب بها، فالشكر لها، والفضل لها من قبل ومن بعد.

     ‏أما الجوائز التي نالها فقد شرفها أكثر مما شرفته وزانها أكثر مما زانته.

     ‏وسوف يبقى عطاؤه - بإذن الله - دهراً طويلاً ينتفع به الناس، في الحين الذي يبيد فيه عطاء سواه من المتسلقين ‏والمدعين والمشاغبين والمزيفين والمزورين، وأهل الإيهام والإغراب والسارقين لجهود غيرهم، والمستوردين لنظريات غريبة عن دين الأمة وذوقها وتميزها ولا غرابة، فذلك قانون إلهي نبأنا به العليم الخبير حين قال: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] . ‏لو أن عصبة من أولي العزم والقوة استطاعت أن تنجز ما أنجزه الفقيد الكبير لكانت جديرة بالثناء والإعجاب، فما هو حقه علينا إذن، وقد أنجزه وحده؟

     نثار من ذكريات خاصة:

     كنت طالباً متفرغاً في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة، "1959 ــ 1963م‏" عاشقاً للعربية، حريصاً على العلم، سعيداً بالقسم وأساتذته، وفي طليعتهم شوقي ضيف، وكنت أشعر في أعماقي بفرح وزهو، لأنني كنت من تلامذته، وكان يشجعني كثيراً، ويوليني عناية خاصة.

     ‏خرجت ذات يوم من بيتي في حي الروضة حيث يقيم وأقيم للذهاب إلى محاضرة له، فوجدته ذاهباً أيضاً، عندها استوقفت سيارة أجرة، وركب فيها وركبت، وسارت السيارة إلى الجامعة، وكنت في غاية السرور أني إلى جواره، وحين دفعت للسائق الأجرة، وكانت شيئاً يسيراً أبى رحمه الله إلا أن يكون هو الدافع، وهو أحد الأساتذة القلائل الذين لا يتقبلون الهدايا.

     ‏حين تخرجت صيف عام 1963 م‏ زرته في بيته برفقة الأخ الزميل أحمد مرسي "الدكتور فيما بعد"، يومها قال لي: لا تسافر من مصر، وابق معي حتى أمنحك الماجستير والدكتوراه في خمس سنين. ولم أطعه يومها، وقد أخطأت فيما فعلت، ولكن نقول: قدر الله وما شاء فعل.

     ‏في كتابه "الترجمة الشخصية" تحدث عن أحد الأعلام، لعله محمد كرد علي، وذكر أنه زار تركيا في عهد مصلحها الأكبر أتاتورك، فعجبت من ذلك، ووجدت في نفسي الجرأة لأحدثه عن جنايات أتاتورك التي تجعله في مصاف المفسدين لا المصلحين، لم يغضب رحمه الله، بل شكرني وأخذ يدي بيده، ومشى معي قليلاً وهو يشجعني، فازددت إكباراً له.

     ‏جئت القاهرة صيف 1964م ‏لأقدم امتحان السنة التمهيدية للماجستير، وكان امتحاناً شفوياً، فوجدت اللجنة التي تختبر الطلاب قد انتهت من أعمالها، فأدركني حزن شديد لفوات الفرصة، ولما أبصرني رحمه الله، جاء إليَّ مشجعاً ومواسياً، وقادني إلى اللجنة، وأثنى علي أمامها، وطلب منها أن تعقد لي جلسة خاصة فيما بعد، واستجابت له اللجنة، واختبرتني في موعد لاحق، وكان من أعضائها الدكتور عبد العزيز الأهواني، ونسيت بقية الأسماء، وقد رضيت عني اللجنة، وسرت بإجاباتي فنجحت، وهي يد مشكورة له عليَّ تضاف إلى أياديه الكثيرة علي وعلى سواي.

     ‏زرته ذات مساء في بيته في حي الروضة، ثم تبين أن عنده لقاء مع مجموعة من أهل العلم والفضل، فأبى ‏له كرمه إلا أن يصطحبني معه، ودخلت معه الدار التي كان فيها اللقاء، وأنا بين الهيبة والفرحة، أنظر في وجوه الأعلام الذين يتحاورون، وكان من بينهم الدكتور محمد يوسف موسى، وشرّق الحديث وغرّب، حتى إذا وصل إلى نقطة سبق أن حاورته فيها، قال: ولكن لحيدر رأياً آخر في الموضوع، وأوحى إلي أن أتكلم، وهو لون كريم من التشجيع يدل على نفسية كريمة.

     ‏وفي عام 1983م ‏وكنت يومها في الندوة العالمية للشباب الإسلامي في ‏الرياض، أصابتني فرحة غامرة وأنا أشارك في إعداد المذكرة المطلوبة لترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الأدب العربي، ذلك أني وجدت في ذلك شيئاً من الوفاء، وشيئاً من رد الجميل، لعلم شهير، له أفضاله المشكورة على محبي الأدب العربي ودارسيه في كل مكان، وحين نال الجائزة كانت فرحتي أكبر.

     ‏وفي عام 1990م أكملت رسالتي للحصول على درجة الماجستير في الأدب العربي، وكان الموضوع "الرثاء في شعر البارودي وحافظ وشوقي"، وكان الإشراف للأستاذ الدكتور طه وادي، أما المناقشان الآخران فهما أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، والوزير الأديب الشاعر الدكتور أحمد هيكل، وقد لامني الدكتور شوقي في مودة حانية لأني تأخرت في متابعة دراستي العليا، خلافاً لما أوصاني به سنة التخرج، فاعتذرت منه وشكرته، وقلت له: ها قد عدت، وحين نوقشت الرسالة في المدرج العريق الشهير رقم 78 ‏ في الكلية العريقة، أبى له كرمه، وكرم الأستاذين الآخرين إلا منحي الدرجة العلمية بتقدير "امتياز"، كما أبى لهم حبهم للعلم وإخلاصهم له إلا تنبيهي إلى عدد من الأخطاء والملاحظات كنت بها سعيداً.

     ‏مقترحات:

     ‏إن النسيان سمة الإنسان، وطبع البشر، وهذا الأمر سوف يصيب أستاذنا الراحل بدرجة أو أخرى، لذلك أضع بين أيدي المهتمين هذه الاقتراحات، وفاء للراحل الكريم من ناحية، وإطالة لأمد الانتفاع من تراثه الغزير من ناحية:

- تخصص قاعة في مجمع اللغة العربية، تحمل اسمه، وتوضع فيها مكتبته، وما كتبه، وما كتب عنه، وبعض متعلقاته الشخصية من أوسمة وجوائز وشهادات، وتفتح للدارسين.

- يشجع طلبة الدراسات العليا على اختيار موضوعات للماجستير والدكتوراه تتصل به.

- تُهيأ طبعات شعبية من كتبه ليكون بوسع الفقراء امتلاكها.

- يطلق اسمه على إحدى قاعات قسم اللغة العربية الذي أفنى فيه زهرة عمره، وعلى مدرسة أو مسجد أو شارع في قريته التي نشأ فيها.

- ‏­يتبنى مجمع اللغة العر بية، وقسم اللغة العربية، إصدار كتاب جامع وثائقي عنه، يشترك فيه الأعلام من كل مكان، يؤرخ لحياته العلمية والعملية بالتفصيل، ويحصي ما كتبه، وما كتب عنه بالتفصيل أيضاً، ويتم تجديده بين الحين والآخر، ليكون المرجع الأول لكل من يريد معرفة هذا العلم المتفرد.

* * *

رسالة إلى نجيب محفوظ

رسالة إلى نجيب محفوظ

     نجيب محفوظ أديب متفرد تجاوز الدائرة المصرية إلى الدائرة العربية ثم إلى الدائرة العالمية، وأصبح بين أبناء جيله "ظاهرة" يتوقف عندها كل دارس لا مجرد أديب عادي، مثله في ذلك مثل شوقي الذي فرض نفسه بين شعراء عصره "ظاهرة" كبرى، وهما معاً يذكران المرء - من بعض الجوانب - بالمتنبي الذي لم يتوقف عنه الحديث حتى يومنا الحاضر لأنه فعلاً "مالئ الدنيا وشاغل الناس".

     وفي نجيب محفوظ أدباً وحياة وفكراً الكثير مما ينتزع الإعجاب.

     فهو في فنه صاحب موهبة صقلها بالدرس والصبر والمران، فارتقى بها حتى بلغ بها ما بلغ فكان القصاص العربي الأول.

     وهو في حياته رجل منضبط جداً بطريقة تدعو إلى الاحترام والإكبار، عرف موهبته فانكب عليها ونماها ومارسها وصقلها، ثم إنه انصرف عما لم يخلق له فنجا من شتات الأمر الذي أضاع ولا يزال يضيع مواهب الكثيرين، وعرف قيمة الوقت وهي من أجل النعم للناس عامة وللنابهين خاصة فسيطر على وقته سيطرة رائعة ووزعه توزيعاً دقيقاً بين واجباته المختلفة، وعرف قيمة المال فأحسن التعامل معه بقصد وحكمة، وعرف قيمة الصحة فعني بجسده فلم يسرف عليه وظل حريصاً على قسط من الرياضة يؤديه باستمرار، ولم يتوقف عن المشي إلا بعد أن كَلَّ جسمه وضعف سمعه وبصره وهو ما جعله عاجزاً عن ممارسة مشيته المحببة على شاطئ النيل. لذلك يمكن أن يوصف بأنه راهب من رهبان الأدب والحياة والفكر يعشق التأمل ويحب الخلوة ويجنح إلى الزهد، وهذا يفسر لنا لماذا لم يغادر مصر طيلة عمره ولماذا لم يذهب إلى السويد لاستلام جائزته في مهرجان عالمي رائع تتحلب أفواه الكثيرين إلى ما هو أقل منه؟

     وفي فكر نجيب محفوظ ما يروعك، فإذا كانت شهرته العظمى هي في المجال القصصي فإن ثمة مجالاً آخر قد يكون أعمق وإن قلت شهرته فيه وهو تلك الأفكار التي ينشرها في الصحف بأسلوب يتسم بالإيجاز شكلاً وبالعمق موضوعاً. 

     وهنا أضع بين يدي القارئ الكريم نصين له نشرهما في صحيفة الأهرام يناقش فيهما قضية العنف أنقلها من مقالة ممتازة للأستاذ فهمي هويدي عنوانها >إنصافاً لنجيب محفوظ< نشرها في صحيفة الشرق الأوسط في 19/ 5/ 1415هـ - 24/ 10/ 1994م.

     يقول النص الأول الذي يحمل اسم "فتح الطريق المسدود":

     "يحدثونك عن الإرهاب فيربطون بينه وبين أشياء كثيرة، مثل الفتاوى الخاطئة والأزمة الاقتصادية، والفراغ السياسي، والحكم الشمولي، والاستهانة بحقوق الإنسان. والإرهاب يمكنه أن يكون ثمرة مرة لجميع تلك الظاهرات مجتمعة أو لإحداها تبعاً للظروف والأحوال، غير أنهم ينسون ظاهرة أخرى، لا تقل عن أي من تلك الظاهرات عاقبة إن لم تزد، "إحباط وضيق لجيل صاعد يتطلع إلى حقوقه في الحياة" ومن بينها، وربما في مقدمتها، حق تبوّؤ السلطة.

     الحق أن كل جيل جديد يتطلع إلى السلطة أو الحكم باعتبار ذلك سبيله إلى تحقيق ذاته الفردية وحلمه الجماعي لتغيير المجتمع، ومن حق كل جيل جديد أن يتطلع إلى ذلك، بل إن واجبه وانتماءه وطموحه يملي عليه أن يتطلع إلى ذلك، ويعمل على تحقيقه بكل وسيلة مشروعة، فإذا بدا الطريق أطول مما يجب، أو طال بطريقة مفتعلة، أو سد تماماً فلا أمل في منفذ، أصبح اللجوء إلى العنف مما قد يرد على بعض الخواطر.

     لقد عاصرت الحياة قبل ثورة يوليو، وأشهد أنه لو كان الدستور قد احترم، وعرفت كل هيئة حدودها، لربما قدر لتاريخنا أن يكون غير ما كان، كان من المحتوم أن تفقد الأحزاب القديمة شعبيتها، وتحل محلها أحزاب شابة مبشرة بالتغيير الاجتماعي، وفي تقديري أن أجيال الشباب يميناً ويساراً كانت سترث الأغلبية في انتخابات 1950م، وتمضي في تطبيق ما طبقته ثورة يوليو في جو من الحرية والديمقراطية، كان خليقاً أن يجنبنا كثيراً من الأخطاء القاتلة.

     فلننظر إلى واقعنا على ضوء ماضينا من ناحية، والتسليم بالحقائق البشرية من ناحية أخرى، فنجعل لنا طريقاً ممهداً خالياً من العقبات المفتعلة والرواسب الشمولية، من أجل ذلك أقول: إن الحل الأمثل هو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان".

     ويقول النص الثاني الذي يحمل اسم "أسرة الإرهاب":

     "لعل أبسط تعريف للإرهاب هو استعمال القوة غير المشروعة في سبيل الوصول إلى غاية ما. إن صح هذا التعريف فليس الإرهاب المعروف هو الإرهاب الوحيد الذي يمارس في المجتمع، فكل ما يتحقق بالقوة لا بالقانون أو الشرعية هو نوع من الإرهاب، والقوة لا تعني الرصاص والقنابل فحسب، فهناك أيضاً قوة النفوذ والقرابة والحزب والطائفة والدين، فيمكن القول إن أية قوة تستعمل لخرق الشرعية أو تخطي القانون فهي إرهاب. ويجب أن نعتبرها كذلك وأن نضعها في كفة واحدة مع الإرهاب الذي نطارده صباح مساء. فالوصول إلى السلطة قد يكون نتيجة جهاد مشروع أو ثمرة لعنف إرهابي، وشغل الوظائف العامة قد يكون برأي المجموع أو من خلال امتحان نزيه، وقد يعتمد على قوة النفوذ والواسطة، أي على الإرهاب، والصفقات التجارية قد تعتمد على قوانين السوق، وقد يتحكم فيها النفوذ والرشوة وغير ذلك من وسائل الإرهاب الاقتصادي.

     على هذا النحو تجري الخدمات، فانظر إلى ما يقع في الطريق والمستشفى والمواصلات والمصالح الحكومية، هل تتم المعاملة وفقاً لنظام ثابت شامل لا يفرق بين شخص وآخر، أم أنه يفتح ذراعيه بحرارة الترحاب لأناس، ويصب على الآخرين عذاب المعاناة بغير حساب؟

     بعد هذا التمهيد، فإنني أدعو كل قارئ لتأمل ما يحدث في مجتمعنا، وليحكم بنفسه، أهو مجتمع قانوني شرعي أم مجتمع إرهابي، وأظنك تتفق معي على أن أولى درجات الحضارة أن يتحول المجتمع من مجتمع يقوم على الغريزة والقوة إلى مجتمع يحيا في ظل القانون والشرعية، ليحقق الحرية والعدل".

     والقارئ لهذين النصين لا يسعه إلا أن يتوقف عندهما معجباً بسبب ما فيهما من تركيز مؤد، ونظرة شمولية، وصراحة مشكورة، وحسن تعليل. إن حديثه حديث المثقف المتزن المسؤول الذي يحسب لكل كلمة حسابها، والذي يدرك أبعاد الخلل في البناء الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني الذي أفرز ظاهرة العنف، والذي ينأى بنفسه عن تلك المجموعة من الناس التي اكتفت بإدانة العنف والتسابق في سب المتهمين به والتركيز على المحسوبين منهم - بحق أو باطل - على التيار الإسلامي.

     وإني أتوج ما حاولت أن أعدد به مآثر نجيب محفوظ بتلك الكلمة الموجزة الرائعة التي وجهها وهو لا يزال يعالج في المستشفى بسبب إصابته من محاولة اغتياله إلى الندوة التي انعقدت في القاهرة تحت عنوان "نحو مشروع حضاري عربي" في شهر جمادى الثانية 1415هـ - نوفمبر 1994م والتي ألقاها عنه الأستاذ محمد سلماوي وهذا نصها: "أرحب شخصياً بجميع الإخوان المشاركين في المؤتمر من مصر والوطن العربي، وقد كنت أتمنى أن أشارك في استقبالهم جميعاً والعمل معهم في سبيل وضع مشروع حضاري عربي، ولكن نظراً للظروف التي أمر بها الآن فإني أكتفي بالمشاركة من بعيد بالإعلان عن رأيي دون الاستفادة من الاستماع لآرائكم التي كنت أتطلع إليها. ورأيي في اختصار هو أن المستقبل الحضاري يجب أن يقوم في أساسه على الإسلام، وفي تطوره على الحوار مع سائر حضارات العالم، والاستفادة من كل نقطة نور لا تتناقض مع مبادئنا الأساسية وأن يكون اعتماده في ذلك على دعامتين: القيم الموروثة من ناحية والعلم من ناحية أخرى بالإضافة لكل ما أثبت أنه مفيد في تطوير البشرية، تمنياتي القلبية بأن يوفقكم ربنا إلى وضع الأسس الصالحة لمشروعنا الحضاري وإلى العمل على تنفيذها".

     وميزة هذه الكلمة المضيئة أنها حددت لنا بإيجاز مؤد بليغ ما ينبغي أن يقوم عليه المشروع الحضاري المرجو بحيث يشيد على الإسلام فيكون روحه وقاعدته وأساسه، ويفتح بعد ذلك باب الانتفاع من الآخرين علماً وحواراً واقتباساً على ألا يتناقض شيء من ذلك مع مبادئنا الأساسية وهو استدراك ذكي وحصيف يشكر عليه الأستاذ محفوظ، وأجدني مع هذه القاعدة الراسخة، والدعوة إلى الانفتاح، والاستدراك المشكور المحمود، مؤيداً للأستاذ محفوظ في كلمته هذه تمام التأييد.

     ومما يشكر للأستاذ نجيب محفوظ إشارة طيبة جاءت في ثنايا حديث أجري معه مؤخراً عن روايته الشهيرة "أولاد حارتنا" التي صدرت عام 1959م، وأثارت لغطاً كبيراً وكانت من أكبر المآخذ الدينية عليه، ومؤدى الإشارة أن الأمور اختلفت منذ ثلاثين سنة وهو كلام طيب يوحي بالاعتذار وإن كان لا يكفي، وأهم من هذه الإشارة قوله لمحاوره: "لعلي تبت يا أخي<، وهي كلمة وجيزة فيها عبق ديني يضوع من التوبة وفيها لمسة إنسانية حانية تضوع من الأخوة، وأهم من هذين رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول التي أوردناها آنفاً بنصها.

     تبقى بعد ذلك مجموعة من الملاحظات المهمة تفرض نفسها في هذا المجال:

* تعرض هذا الرجل ذو المكانة المتميزة إلى محاولة اغتيال في يوم 14/ 10/ 1994م وهو يركب سيارة أحد أصدقائه شاء الله أن يكرمه بالنجاة منها، وقد أثارت المحاولة - وهذا هو المتوقع - جدلاً واسعاً واستنكاراً كبيراً، وقد زاد من هذه الإثارة أن المحاولة استهدفت شيخاً كبيراً في الثالثة والثمانين من عمره المديد وهن جسمه وضعف بصره وكل سمعه وصار يعيش الحياة من خلال الآخرين أكثر مما يعيشها من خلال نفسه. الأمر الظالم في حملة الإثارة أنها انصبت على التيار الإسلامي بعامة وقبل أن يقول القضاء كلمة واحدة باعتبار أن هذا التيار هو المحرض على القتل بطريقة أو بأخرى. والذي يمكن أن يحدد هوية القاتل ودوافعه هو قضاء حر نزيه فقط، هذه واحدة وأما الثانية فإذا ثبت أن القاتل ينتمي إلى مجموعة إسلامية فلا ينبغي أن ينسحب هذا الحكم على كل المجموعات الأخرى. وفي مثل الظروف التي تمر بها مصر العزيزة الآن وفي مثل طبيعة محاولة الاغتيال ترد كل الاحتمالات، فلربما كان صاحب المحاولة مخلصاً مندفعاً من نفسه، وربما كان مخلصاً محرّضاً من غيره، وربما كان مأجوراً، وربما كان يمثل نوعاً من الاختراق لصالح جهة من الجهات التي تريد بمصر وبالإسلام وبدعاته شراً مستطيراً، ومرة أخرى إن الذي يمكن أن يأتي بالقول الفصل في هذا الأمر هو قضاء حر نزيه، وفي مصر قانونيون عظام مشهود لهم بالنزاهة يمكن أن ينهضوا بمثل هذا الأمر وزيادة كالمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا.

* ينبغي ألا يغيب عن بال الأديب الكبير أن في حياته الفكرية والأدبية ما يؤاخذ عليه، ففكره خليط من الليبرالية والعلمانية، أما الليبرالية ففيها جوانب مشكورة لكنها لا تؤخذ على إطلاقها، وأما العلمانية فقد كانت إحدى الكوارث التي أوردت الأمة موارد الدمار. ثم إن الأديب الكبير كان أحد الذين دافعوا عن سلمان رشدي علماً أن كتاب سلمان تافه من الناحية الفنية وأما الناحية الموضوعية فليس له فيها أي نصيب مهما قلّ، إذ إن كتابه مليء بافتراءات وأكاذيب لو قيل بعضها في حق أي واحد منا لحكم القضاء على سلمان بجريمة القذف في حقه فكيف بها وقد قيلت في سيد البشر؟ وإذن فلنا أن نقول: إن دفاع الأديب الكبير عن الكاتب الضال، التافه فنياً، الساقط موضوعياً، غلطة كبرى منه لا تقبل منه وهو الرجل المتزن المتعمق ذو الأناة والدقة. أما رواية "أولاد حارتنا" فربما كانت أكبر أخطاء محفوظ الدينية لأنها أساءت كثيراً في حق الله تعالى والأنبياء الكرام. ربما يقول محفوظ: إن الرواية فسرت خطأ وإنه لم يقصد منها ما فهمه المعترضون وهو دفاع غير مقبول لأن بوسعه - وهو الفنان المقتدر - أن يكتبها بالطريقة التي لا تسمح بفهم خاطئ، ولأن بوسعه أيضاً أن يتحلى بشجاعة الاعتذار وهي شجاعة في الفكر لا تقل عن الشجاعة في القتال إن لم تزد عليها. ثم إن للأديب الكبير آراء في التطبيع مع اليهود تؤذي الشعور الديني والشعور الوطني على السواء، وهي آراء يجهر بها كثيراً وهي إحدى مواد الحديث في ندوته المعتادة كل يوم جمعة حتى كادت هذه الندوة تغدو منبراً من منابر الدعوة إلى التطبيع.

* ينبغي ألا يغيب عن ذكاء الأديب الكبير أن من يسمون أنفسهم دعاة "التنوير" هم طبعة جديدة من العلمانيين جرى فيها من التعديل ما تدعو إليه الظروف لكن الروح واحدة، وأن هؤلاء إنما يريدون استثمار محاولة اغتياله للإساءة إلى كل ما هو إسلامي، فهو مدعو إذن إلى أن يعي الأمر وأن يضع الأمور في نصابها والمحاولة في إطارها وحجمها.

* وينبغي ألا يغيب عن ذكائه أيضاً أن كلمته الرائعة في رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول لا تكفي، بل ينبغي أن يؤكدها بطرق شتى لأنها تمثل خلاصة عمره الفكري، ولأن في هذا التأكيد ما يجعلها حكماً على فنه وفكره، وختاماً حميداً لهما، ولعل الأديب الكبير يعي جيداً أن من أرادوا استثمار محاولة اغتياله استثماراً سيئاً قد وقعت كلمته عليهم وقوع الصاعقة لأن مؤداها في النهاية ضد ما يدعون وضد اتجاههم الفكري. ولن تزداد أيها الأديب العظيم إلا مكانة وعلواً حين تقرر أنك أصبت هنا وأخطأت هناك ونحن بشر، وليس لأحد منا عصمة، لقد أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتابه الشهير "من هنا نبدأ" وفيه قرر أن الإسلام دين لا دولة ثم عاد بعد ذلك ليصحح نفسه بنفسه في كتابه "الدولة في الإسلام"، وهي شجاعة فكر وقلب يشكر عليها، ولي ولك فيه أسوة حسنة.

* لا يصح لنا أن ننظر إلى أهل الفكر أن لهم قناعات ثابتة لا تتغير، فالإنسان حصيلة بيئته وظروفه وتفاعله، والأغبياء هم الذين لا يتغيرون على ضوء ما يمر بهم، المهم أن يحتفظ المفكر بالثوابت التي لابد منها من عقيدة صحيحة، وولاء واضح، وغيرة على البلاد والعباد، وموضوعية وأمانة، واحترام للرأي الآخر، وقدرة على الاعتراف بالخطأ وتجاوزه، وحب صادق للناس. فإذا تم له ذلك فإن التغيير واقع لا محالة. من هنا علينا أن نرحب بكل بادرة خير ونرعاها ونوسع مداها لنفوز من أهل الفكر بخير كثير، ولعلنا جميعاً نتذكر هنا أن الدكتور محمد حسين هيكل بدأ في خندق العلمانية لينتهي كاتباً إسلامياً، وأن الأستاذ خالد محمد خالد بدأ في خندق الماركسية واليسار لينتهي مع الرعيل الذي يدافع عن الإسلام بحرارة وجرأة، ومثل هذا الكلام يصح أن يقال عن الدكتور مصطفى محمود والدكتور محمد عمارة والأستاذ محمد جلال كشك والمستشار طارق البشري والأستاذ عادل حسين.

* إذا كان اعتذار الأستاذ نجيب محفوظ عن حضوره حفل جائزة نوبل مع كل مغرياته الكثيرة أمراً يمكن أن يقبل بل يمكن أن يشكر لأن فيه دليلاً على عفة وزهد وترفع فإن اعتذاره عن أداء العمرة ممن دعاه إليها أمر لا يمكن أن يقبل. ربما يعتذر الأستاذ نجيب بظروفه الصحية وهي ظروف صعبة حقاً، لكن الرحلة إلى مكة المكرمة حرسها الله لأداء العمرة يحفها ويحوطها كل ما يجعلها سهلة ميسرة من قرب ويسر وأمن ورفقة تعين على أداء النسك بما يجعله ممتعاً سهلاً جميلاً تراعى فيه كل ظروفه الصحية وغير الصحية، ومما يدعونني إلى الإلـحاح على الأستاذ نجيب محفوظ - وهو النجيب المحفوظ إن شاء الله - أمران، الأول: أن العمرة ستكون تصديقاً عملياً لتوجهاته الدينية الأخيرة تؤكدها وتبارك فيها وتجهر بها، والثاني: أن العمرة ستحقق له الكثير مما يريد ويحب وهو في ضيافة الله تعالى من أشواقه الروحية، وستمده العمرة بدفعة قوية من المشاعر النبيلة التي تلتقي مع فطرته من حب للخلوة وحدب على الناس وتأمل في الحياة ومراجعة للنفس، وتجدد واستشراف.

* أيها الأديب الكبير: لو كنت بالقرب منك يوم 14/ 10/ 1994م أثناء محاولة الاغتيال لحاولت مساعدتك، لكني مع ذلك لا أملك إلا أن أقول لك: أخطأت هنا وأصبت هناك.

* * *

محمود محمد شاكر

محمود محمد شاكر

شيخ العربية وفارس الفصحى

     محمود محمد شاكر رجل غير عادي في عصرنا، يمكن أن تصفه بأنه كان بما له وما عليه "أمة وحده" رحمه الله وغفر له.

     عاش تسعين عاماً فقد ولد في الإسكندرية في شهر المحرم من عام 1327هـ الموافق لشهر شباط "فبراير" من عام 1909م ، وتوفي في القاهرة في شهر ربيع الثاني من عام 1418هـ الموافق لشهر آب "أغسطس" 1997م.

     ولد في أسرة دين وعلم فأبوه شيخ فاضل تقلب في مناصب دينية منها أنه كان وكيلاً للجامع الأزهر، وله مقال ناري في مهاجمة كمال أتاتورك يوم ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924م، يمكنك أن تجده في كتاب الدكتور محمد محمد حسين "الاتجاهات الوطنية". أما أخوه الشيخ أحمد فكان محدثاً عاش عمره وهو يخدم السنة المطهرة.

     ولا يرمي هذا المقال إلى الكتابة عن آثاره المباركة وجهوده المبرورة في الدفاع عن أمته ودينه ولغته وحضارته، التي يمكن أن تجد حديثاً عنها في كتاب الأستاذ محمود إبراهيم الرضواني >شيخ العربية وحامل لوائها أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق<، أو في كتاب >دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبي فهر<، وهو كتاب أعده عدد من محبيه وتلامذته بمناسبة بلوغه سن السبعين وأهدوه إليه، لكن هذا المقال يرمي إلى تقديم صورة كلية عنه تحاول أن تنصفه بما له وما عليه، وتحاول أن تفسر شخصه وعصره.

     وأنا أعلم صعوبة هذه المحاولة لأن رسم الإطار العام لشخص وعصر أمر تكتنفه صعوبات كثيرة، ذلك أنك مطالب بلملمة جزئيات وأشتات كثيرة ووضعها في حيز واحد يجمع عناصرها ويفسر متناقضها، كما أنك مطالب بالنزاهة والأمانة، ثم إنك مطالب بالصراحة في تناول علم شامخ بحيث تقول ما له وما عليه، وهو علم غير عادي في عصرنا له من يحبه ومن يعاديه في كل مكان، ومع علمي هذا سأحاول ومن الله عز وجل العون والتوفيق.

     كان الفقيد مجموعة شخصيات في شخصية، كان فيه صدق المسلم المؤمن الموحد المعتز بدينه أي اعتزاز، وكان فيه خلق العربي الذي أحب أمته وما يتصل بها حباً ملك عليه أقطار نفسه، وكان فيه قدر من الإباء والعناد يمتزج بقدر مماثل من طبيعة الفارس المقاتل الذي يشعر أنه ينبغي أن يكون آخذاً بعنان فرسه على الدوام ليذود عن الحمى ويصون الذمار إذا سمع الصريخ. ولقد تملكه إحساس هائل بأن مجمل الظروف العامة والخاصة جعلته مطالباً أن يكون أكثر من سواه بشير أمته ونذيرها معاً، وهو في هذا يلتقي مع أستاذه مصطفى صادق الرافعي الذي كان يمتلكه هذا الشعور إزاء أمته، وهذا أحد الأسباب المهمة في حبه للرافعي وإعجابه به منذ أن راسله عام 1921م حتى وفاته عام 1937م، وقد حزن عليه يومها حزناً شديداً، وحين ألف الأستاذ محمد سعيد العريان كتابه الشيق "حياة الرافعي" كتب له الفقيد مقدمة بديعة، رحم الله الجميع وأحسن إليهم.

     وثمة جانب آخر في شخصية الفقيد وهو أنه يحمل قلب طفل فيه الطيبة والبراءة والعفوية والدهشة والانفعال، فضلاً عن سرعة الغضب وسرعة الرضا، والجهر بما عنده دون مداراة أو مجاملة.

* * *

     محمود محمد شاكر مسلم خالص الإسلام، عربي خالص العروبة، عاش عمراً مديداً حافلاً بالأحداث العامة والخاصة التي تركت آثارها عليه، العامة على صعيد الأمة إذ شهد انطواء الراية العثمانية التي مثلت الخلافة الإسلامية في آخر مراحلها والتي كانت - بما لها وما عليها - دولة تتبنى الشريعة وتحفظ بلاد المسلمين في رقعة واسعة ممتدة، كما كانت سداً عسكرياً منيعاً أمام الهجمة الاستعمارية الصليبية على العالمين العربي والإسلامي ولابد أنه قرأ مقال أبيه الذي سبقت الإشارة إليه في بكائها.

     وشهد كذلك سقوط العالم الإسلامي إلا قليلاً منه في قبضة الغزاة المستعمرين، وشهد حركات الجهاد والتحرير ضد هؤلاء الغزاة، وهي حركات كان وقودها الأكبر هو الحمية الدينية لدى أبناء المسلمين، ثم شهد جلاء الغزاة ومجيء الحكومات الوطنية التي قادت البلاد والعباد في مسلسل من التيه بين ثوب ديمقراطي تغريبي، أو عسكري ديكتاتوري، أو ليبرالي علماني، أو حزبي متسلط غشوم، وكان المسلسل في حقيقته مجموعة من الكوارث والنكبات، كان الفقيد يعبر عنه بمرارة فيقول لأبناء أمته: يا أبناء إسماعيل أنتم في التيه، وكأنه يراهم في تيههم يكررون تيه بني إسرائيل. وشهد الفقيد كذلك كارثة سقوط القدس وخروجها من أيدي المسلمين، ورأى تداعيات ضعف الأمة وتآكلها وانقسامها حتى باتت تلهث وراء حل سلمي مع الصهاينة لا يعيد الحقوق ولا يصون الكرامة ولا يحفظ ماء الوجه، ولابد أنه مات وفي قلبه من هذا جراحات كثيرة.

     وشهد الفقيد في العقود الأخيرة وبالذات بعد نكبة 1967م انحسار موجة الشعارات القومية والاشتراكية واليسارية والعلمانية والبعثية التي كان زعماؤها ودعاتها السبب الأكبر في النكبة. كما شهد بداية الموجة التي اصطلح على تسميتها بالصحوة الإسلامية وهي موجة متداخلة عبرت عن نفسها بممارسات كثيرة يتداولها الصواب والخطأ وهي بحاجة إلى فرز وتحليل عميقين جداً للخروج بالعبر المستقاة منها خاصة بعد الدروس المرة التي لا تخفى على أحد في أفغانستان [1] وإيران وغيرهما. ولابد أن الفقيد مات وفي قلبه من هذا جراحات وأحزان.

     هذا العصر الحافل بالأحداث العامة الكبيرة كانت له انعكاساته على حياته الخاصة، أولاً لأن التداخل بين الخاص والعام أمر لابد منه، ثم لأنه شخص كان يعيش لأمته ودينه ولغته وحضارته وثقافته، وكان يدرك حجم المؤامرة عليها كما كان يدرك حجم تقصيرها في حق نفسها، وأيضاً لأنه كان رجلاً حاد الطباع، قلق النفس، متوتراً، كأن أعصابه شعلة من نار.

     وجاءت مجموعة من الأحداث الخاصة لتلتقي مع المؤثرات العامة المشار إليها فتزيد من أزمة الفقيد وحدته، دخل الجامعة عام 1926م وتتلمذ على أستاذه الدكتور طه حسين في قسم اللغة العربية في جامعة الملك فؤاد "جامعة القاهرة فيما بعد"، وكان الدكتور طه حسين قد طلع على الناس بدعوى انتحال الشعر الجاهلي وهي قضية شغلت الناس كثيراً في حينها، وكان الفقيد يرى أن أستاذه مخطئ من جانبين، الأول: أن الفكرة في ذاتها خطأ، والثاني أن الدكتور طه أخذ الفكرة من المستشرق مرجليوث ولم يشر إلى ذلك وهو عنده سطو يخالف الأخلاق، فضلاً عن التقاليد العلمية المقررة. وكبر الأمر عليه فغادر الجامعة وهو في السنة الثانية عام 1927م دون أن يتم دراسته، وعكف في داره على تثقيف نفسه والتبشير بأفكاره والانقطاع إلى الكتابة مرة والانقطاع عنها مراراً وظل على هذا الحال سبعين عاماً منذ ترك الجامعة حتى وفاته 1418هـ - 1997م.

     وفتح الفقيد بيته وقلبه ومكتبته للناس، وبخاصة لطلبة الدراسات العليا في العلوم العربية والإسلامية الذين كانوا يؤمون الجامعات المصرية من شتى بلدان العالمين العربي والإسلامي، فاستفاد منه الكثيرون في اقتراح موضوع، أو حل معضلة، أو تحقيق قضية، فضلاً عن الانتفاع من مكتبته الزاخرة بالكتب والمخطوطات ومن نصائحه الثمينة لما يواجهونه من صعوبات، وكانت داره كأنها خلية علم لهؤلاء الطلبة ولغيرهم من أعلام الشعر والأدب والثقافة، وربما تحولت إلى ما يشبه داراً للضيافة أحياناً، ومنها تخرج أناس بلغوا أعلى المناصب وحملوا أعلى الدرجات، وقد انتهت الأمور بينه وبين بعضهم إلى الخصومة وهو ما جعله يصفهم بالعقوق.

     وفي العهد الناصري دخل السجن مرتين، وهو ما ترك في نفسه جراحاً كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه إثر خروجه من السجن نوع من الاكتئاب والسخط، تخلص منه أو من جزء منه بصعوبة بالغة.

     فإذا أضفت إلى ذلك أنه ظل سبعين عاماً، منذ أن هجر الجامعة حتى وفاته بدون دخل ثابت، تبين لك أن هذا الأمر شغله، خاصة بعد أن كبر، وجاءه ولداه فهر وزلفى في خريف العمر، ولابد أنه كان يشعر بالقلق إزاءهما وهو ينظر إلى شمسه تغرب شيئاً فشيئاً رحمه الله وأحسن إليه.

     من هنا يمكن القول: إن تلاقي الأحداث العامة مع الأحداث الخاصة في عمره المديد ترك آثاره على حياته بصورة حادة لا يخطئها من اتصل به أدنى اتصال.

* * *

محمود محمد شاكر مسلم صادق الإسلام أحب هذا الدين ومنحه ولاءه وأخلص له، وأحب نبيه الكريم r، وقرآنه العظيم، وحضارته وثقافته.

وهو عربي خالص العروبة أحب العرب وأخلص لهم ودافع عنهم، وكانت نفسه ملأى بالاعتزاز بهم وبلغتهم وبشعرائهم وبرموزهم في كل ميدان.

وقد تداخل عنده هذان الحبان، حب الإسلام وحب العرب، وهذا أمر منطقي ومبرر، فالعرب مادة الإسلام وهم حاملو رايته ولوائه، ثم إن العربية لغة هذا الدين، والعرب منحوا الإسلام ولاءهم فارتفعوا به، والإسلام يرفع معتنقيه عامة، فكيف إذا كانوا أصحاب مزايا تجعلهم جديرين بأن يكونوا أول من حمله والله أعلم حيث يجعل رسالته؟

ولما كانت اللغة العربية هي لغة الإسلام، كان ينبغي أن تحظى بعناية خاصة قبل الجميع وبالذات من المشتغلين بنشر الدعوة الإسلامية، ذلك أنها المفتاح الصحيح لفهم هذا الدين فهماً سليماً، وقد لاحظ الشاعر الكبير محمد إقبال ‘ أن العقل العربي المسلم في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أفضل من أخيه العقل المسلم غير العربي في جملته، وأرجع ذلك إلى اللغة، وقد صدق الشاعر الكبير في هذه الملاحظة التي تؤكدها شواهد كثيرة.

والملاحظ في حركة المد والجزر في التاريخ الإسلامي أنه كلما انتشر الإسلام مقترناً بانتشار العربية كان أدوم للإسلام وللعربية معاً، ولذلك حين كان ينحسر الإسلام في بلد عربي لسبب ما يظل هذا الانحسار أقل من مثيله حين يقع في بلد مسلم غير عربي، والمثال التركي أوضح الأمثلة على صدق هذا الرأي وقوته، فلقد كان حجم الانحسار في تركيا هائلاً لأسباب كثيرة منها أن الأتراك لم يتعربوا يوم كانوا قادرين على ذلك ولعل هذا هو أكبر أخطائهم على الإطلاق، ولو أنهم تعربوا لظلت صلتهم بالإسلام أفضل لامتلاكهم أهم أدوات فهمه وهي اللغة. والعبرة المستفادة من ذلك للمهتمين بنشر الدعوة الإسلامية هي أن يحرصوا على نشر العربية معها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك أعون على صحة الفهم من ناحية، وأعون على الدوام من ناحية.

     هذا الأمر وعاه الفقيد رحمه الله وأحسن إليه، وكان أحد أسباب حبه للعربية والدفاع عنها، وهو سبب يضاف إلى الأسباب الأخرى من عظمة هذه اللغة بحد ذاتها ومن عروبة الفقيد الصميمة. وحب العربية يقود بالضرورة إلى حب العرب، وحب العرب يتداخل مع حب الإسلام عند كل عربي وعند كل مسلم، وهكذا كان الفقيد.

     على أن حبه لأمته المسلمة عامة والعربية منها خاصة لم يكن يخلو من السخط عليها، فقد سخط عليها كما سخط على أعدائه وأعدائها، والفارق بين السخطين أنه جهر بسخطه على العدو في شجاعة خلافاً لسخطه على أمته الذي كان يداريه ويغالبه لكنه يأبى إلا أن يظهر بين الحين والآخر. ومرد هذا السخط إلى شعوره أن الأمة لم تبوئه المكانة التي يستحقها وذلك عنده نوع من الجحود والعقوق، ولعله نسي أنه هو بطبعه ومزاجه السبب الأكبر في ذلك.

* * *

     كانت حكمته أقل من علمه، وأنا أعلم أن هذا الكلام يغضب عدداً من محبيه وعارفي فضله وأنا واحد منهم، لكن هذه هي الحقيقة، وربما كان في الأمثلة ما يؤكد الفكرة وينفي عنها شبهة المبالغة.

     هذا الرجل الذي عاش فترة طويلة من عمره فاتحاً قلبه وعقله وبيته ومكتبته وخبرته لطلبة الدراسات العليا، كان بوسعه أن يجعل من هؤلاء الطلبة رسل خير يتبنون أفكاره الجيدة النافعة ويعممونها حيث يكونون في مختلف المواقع الثقافية التي يحتلونها وعلى امتداد العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يترك لا محالة أعمق الآثار وأنفعها للعرب والمسلمين، ولما كان يؤمن به ويدعو إليه ويبشر به ويقاتل من أجله ويحترق بسببه. لكننا لا نجد من هذه الآثار إلا النزر القليل، والسبب هو مزاجه الحاد الذي كان يصطلي به رواده ومحبوه، فينفر من ينفر ويسكت من يسكت، ولطالما سمع منه هؤلاء اتهاماً لهذا أو ذاك بالجهل أو السوء وما يشبه ذلك. لقد كانت لديه القدرة على كسب الناس ثم خسارتهم كلياً أو جزئياً، ولو كان حظه من الحلم والأناة والحكمة والتودد إلى الناس والصبر على أخطاء الطلبة الذين يرونه أستاذهم ومرشدهم مماثلاً لحظه من العلم لصنع خيراً كبيراً لهم ولأمته ولغته ودينه ولنفسه أيضاً.

     من أروع ما مر بي من ضرورة التوازن بين العلم والحكمة جملة بديعة جداً تقول: "درهم مال يحتاج إلى درهم عقل لحسن تدبيره والقيام عليه، لكن درهم علم يحتاج إلى درهمي عقل للانتفاع منه"، وهي جملة بليغة جداً، فالعلم وحده معلومات "خام" فيها صواب وفيها خطأ، والعقل هو الذي يفرز الصواب والخطأ من ناحية، ثم هو الذي يدل صاحبه كيف يستعمل الصواب منه زماناً ومكاناً ومناسبة من ناحية. ولقد أدى الخلل بين العلم والحكمة في التاريخ الإسلامي إلى كوارث محزنة في مجالات العلم والدعوة والسياسة منذ الخوارج إلى أيامنا، وسوف تظل هذه الكوارث تطل برأسها ما ظل هذا الخلل.

     ولا أزال أذكر أول مرة زرت فيها الفقيد في بيته في مصر الجديدة عام 1963م، حيث اصطحبني إليه الأخ الصديق النبيل عبد العزيز السالم وكنا طالبين في السنة الرابعة من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة وكانت صلته به أسبق من صلتي، وكيف كان الزميل النبيل يحدثني في الطريق عن بدواته ومزاجه ويدعوني لأحتمل ما قد يسوؤني منه، ومن يومها وطنت نفسي على ذلك، فما زرته في بيته في القاهرة أو في الرياض التي كان يأتي إليها لأسباب عامة أو خاصة، إلا وأنا على أتم الاستعداد لاحتمال كل ما يقول، لاقتناعي بنصيحة الزميل العاقل، ولشعوري أن هذا الرجل نادر حقاً وله مزايا كبيرة فاحتماله مكرمة لا مهانة، ولقد سمعت منه فعلاً واحتملت.

     ومن العجب أن هذا الرجل منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمت أكثر مما اختار الكلام مع كل الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إلى الكلام. يبدو لي أنه عاقب نفسه وعاقب أمته بهذا الموقف ولم يعاقب من يراهم أهل الخطأ والزيغ من مبشرين ومستغربين وعلمانيين ومن إليهم.
 
     هذا الموقف يذكرني بطرفة مرت بي في كتاب "الأيام" للدكتور طه حسين، يروي فيها أنه وزملاءه من طلبة الجامعة امتنعوا عن حضور درس لأستاذ إيطالي مستشرق كان يدرسهم احتجاجاً على إيطاليا لأنها قامت بغزو ليبيا، كما لو كان هذا الأستاذ الإيطالي "نلينو" هو المسؤول عن الغزو وكما لو كان الامتناع عن حضور درسه هو الرد الصحيح، يومها قال الأستاذ الإيطالي لطلبته: مثلكم مثل الذي أراد أن يعاقب زوجته فخصى نفسه.

     ومن العجب أيضاً أن إنتاج هذا الرجل قليل بالقياس إلى عمره المديد وإلى العقود السبعة التي عاشها متفرغاً لما يريد بدون عمل ولا دخل، ولو أنه أحسن استثمار وقته، لكان إنتاجه أكثر بكثير، فسبعون عاماً مدة طويلة مباركة، وبخاصة لشخص في ذكاء محمود محمد شاكر وعلمه وتفرغه وسعة مكتبته والتفاف الناس حوله، ولكن المزاج الحاد أضاع عليه - وعلى الأمة من بعده - هذا العطاء المنتظر. لقد كان هناك من هو أقل منه علماً وغيرة وحرقة على الدين والأمة واللغة، ولكنه كان أكثر إنتاجا منه، ومرد ذلك، إلى حسن التعامل مع الوقت ومع الناس، فضلاً عن اعتدال المزاج والتوازن بين العلم والحكمة، ولولا أن تسمية بعض هؤلاء لها محاذيرها لفعلت.

     ومن العجب أيضاً أن هذا الرجل لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين، فقد ظلت هاجساً ملحاً عليه منذ أن وقعت حتى مات، أي سبعين عاماً. حقاً لقد كانت الأزمة مهمة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أزمة ما ينبغي ألا يتحول إلى عقدة دائمة بحيث تأخذ أكبر من الاهتمام المكافئ لها وبحيث تجور على اهتمام آخر ينبغي أن يوجه لأزمة أخرى قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه - مرة أخرى - المزاج الحاد وعقابيله.

     وثمة نقطة أخرى هي من العجب، بل من أعجب العجب، وهي أن الرجل الغيور على دينه ولغته وأمته وثقافته لم يشتغل بفكر البدائل كما اشتغل بفكر المكاشفة والمواجهة. إن معرفة الداء تحتاج إلى شجاعة عقلية لأن هذه المعرفة عمل فكري بالدرجة الأولى، وإن الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية لأن الجهر قوة نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء. ولكن هذا كله هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضاً فهو تقديم البدائل، وماذا عسى ينفعك الطبيب الحاذق إذا عرف داءك وأعلمك به ولم يصف لك الدواء؟ نعم لقد كان للفقيد اجتهاده في هذا المجال لكنه كان أقل من المتوقع من رجل في حجمه، وكان أيضاً أقل مما شغل به نفسه في عمره المديد.

     أبا فهر: لقد حاولت أن أكون منصفاً صريحاً وعساي وفقت. فإن كان في حديثي ما يغضب أحداً من محبيك - وأنا منهم - فلي العذر، وقد تعلمنا منك فيما تعلمنا الشجاعة في الجهر بالرأي.

     رحمك الله يا أبا فهر وأجزل لك المثوبة "اللهم تقبل عمله واغفر زلته غير خال من عفوك ولا محروم من إكرامك، اللهم أسبغ عليه الواسع من فضلك والمأمول من إحسانك، اللهم أتمم عليه نعمتك بالرضا وآنس وحشته في قبره بالرحمة واجعل جودك بلالاً له من ظمأ البلى ورضوانك نوراً في ظلام الثرى"[2].

     أبا فهر: للشعر فيك موعد قادم بإذن الله أرجو أن أوفق فيه لما يليق بمكانتك.

* * *

-----------------------------
[1] في أفغانستان سقط الحكم الشيوعي، وآل الأمر إلى الذين قادوا الجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين فاقتتلوا فيما بينهم، وقضوا على الأمل الذي تعلق به المسلمون في العالم كله ودعموه، وهو أمل الالتفاف حول جهاد خالص يقيم حكماً عادلاً ونموذجاً مشرفاً للعمل الدعوي والجهادي إذا انتصر، وظهروا خليطاً من نسب متفاوتة من العصبية القبلية الجاهلية، والرغبة الحادة في السلطة، وولاء إسلامي مشوش، فضلاً عن الجهل بحقائق السياسة والجغرافية والاقتصاد، والعجز عن إيجاد طرق حضارية لحل الخلافات تعتمد على ضوابط ومرجعيات لها احترامها، وكل ما يقال عن التدخلات الأجنبية في إيقاد الفتن فيما بينهم لا يصلح للدفاع عنهم فهم المسؤولون أولاً وقبل كل أحد عن الكارثة، لقد كانوا - في جملتهم - نموذجاً رائعاً في إزهاق الباطل لكنهم لم يكونوا كذلك في إحقاق الحق، وكانوا نموذجاً رائعاً في مرحلة القتال لكنهم لم يكونوا كذلك في مرحلة الدولة. والتمييز بين المراحل يحتاج إلى ذكاء وشجاعة نفسية، وكما ينبغي للقائد أن يشهر سيفه عند الحاجة للحرب ويحشد الناس لها، ينبغي له أيضاً أن يغمد سيفه عند الحاجة للسلم ويحشد الناس للبناء والتعمير. إن للموت صناعة، وإن للحياة صناعة، ولا بد من كل منهما في ظروفه، على أن صناعة الحياة أهم وأجدى، ودواعيها أكثر، وحساباتها أدق، والحكيم من يحسن اختيار الصناعة المطلوبة أولاً، ويعرف أدواتها ثانياً.
[2] هكذا دعا الفقيد لأخيه الشيخ أحمد رحم الله الجميع.

طه حسين وشجاعة الاعتذار

طه حسين وشجاعة الاعتذار

تظل للدكتور طه حسين "1889 - 1973م" مكانة متميزة في وجدان الأمة، ذلك أنه كان - بما له وما عليه - شخصية لها حضورها البارز، لقد كان الرجل بعاهته وصبره ومثابرته وبيانه ومؤلفاته وأفكاره الصائبة والخاطئة، وبدعوته إلى التجديد، وجرأته المحمودة والمذمومة، شخصية مثيرة للجدل من شأنها أن تكسب الأصدقاء والأعداء على السواء.

     في العشرينات من القرن المنصرم أصدر الدكتور طه حسين كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" الذي ادعى فيه أن الشعر الجاهلي منحول، وقال في حق الدين كلاماً منكراً فتح عليه باب خصومه وأعطاهم حجة قوية ضده، وانتهى الأمر بعد أن أصدر طبعة معدلة من الكتاب هي "في الأدب الجاهلي" ولكنْ بعد أن حقق شهرة هائلة جعلته حديث القاصي والداني، فنال ما أراد وكان يومها في العقد الثالث من عمره.

     بعد قرابة عشرين عاماً أصدر كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" وأكد فيه أن مصر تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر مما تنتمي لعالم العروبة والإسلام، ودعا إلى أن نأخذ الحضارة الغربية بخيرها وشرها وما يذم منها وما يحمد. وكان يومها في العقد الخامس من عمره، أي أنه تجاوز مرحلة الشباب بما فيها من عجلة وحماسة، فلماذا قال ما قال وهو كهل من ناحية، وهو مَنْ نال الشهرة التي يريد من ناحية أخرى؟

     منذ أن درست في جامعة القاهرة على يد كوكبة من الأساتذة المتميزين - وفي طليعتهم الدكتور شوقي ضيف وهو أنجب تلاميذ الدكتور طه وأبرزهم، وكان من بين ما درست ما قاله الدكتور طه عن الشعر الجاهلي، ثم أتبعت ذلك بما قرأته للدكتور طه وما قرأته عنه - وقر في نفسي أن الدكتور طه لم يكن مقتنعاً حقاً بما قاله في كتابيه المشار إليهما سابقاً.

     حملني على ذلك أن الخطأ واضح فيما قال أشد الوضوح، وأن فيه عدواناً سافراً على الدين والدين أهم ثوابت الأمة، والدكتور طه ابن الريف المصري وهو ريف يطبع أبناءه بحب الإسلام، كما أن فيه مجافاة صريحة للعقل المتوسط فضلاً عن الألمعي والدكتور طه رجل ذكي ألمعي. إذن كيف قال ما قال مما يخالف إسلامه وألمعيته؟ قال الكثيرون وأنا منهم: إن الرجل طالب شهرة، وقال كثيرون آخرون: إنه كان ينفذ مخططات معادية يحرضه أهلها ويدعمونه فليست الشهرة وحدها وراء ما فعل بدليل أنه كتب كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" بعد أن حقق شهرته الواسعة يوم أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي".

     وأياً كان فقد وجدت نفسي أدين الدكتور طه وأخالفه، لكنني ظللت في أعماقي أرى أنه مسلم محب للإسلام قال ما قال وهو غير مقتنع به طلباً للشهرة أو إرضاء لجهات معادية أو الاثنين معاً.

     ومع الزمن ازداد اقتناعي رسوخاً، حيث سمعت من الأستاذ محمود محمد شاكر ‘ في داره في القاهرة، وفي الرياض حين كان يزورها، كما سمعت من سواه، أن الدكتور طه حسين كان يسر لبعض جلسائه وخاصته أنه أخطأ فيما قال.

     ثم تكاثرت الأمارات والقرائن والأدلة على أنه اعترف بخطئه، لكن لم يصل به الأمر إلى أن يعلن ذلك في بيان شاف وعلانية جهيرة وقول فصل، وهو ما كان ينبغي له أن يعمله. فلا يجوز أن يكون الخطأ ملء السمع والبصر والاعتذار عنه في جلسات خاصة ضيقة. وغفر الله للدكتور طه، لقد امتلك الجرأة على المجاهرة بالباطل، لكنه لم يمتلك الجرأة على المجاهرة بالحق. ولو أنه فعل لشكر له الناس ذلك وأحبه حتى من عاداه، ونال رضا الخالق وهو أجل وأبقى.

     ومنذ شهور نشرت مجلة العربي الكويتية في عددها رقم 519 الصادر في فبراير 2002م مقالاً للأستاذ محمد سيد بركة عنوانه "في بيت الله الحرام طه حسين يحج والشيخ الشعراوي يستقبله". وقد ربط هذا المقال على قلبي وزادني يقيناً بما وقر في قلبي عن طه حسين من قديم.

     ذهب الدكتور طه حسين إلى جدة في مهمة ثقافية وذلك في عام 1955م أي أنه كان في السادسة والستين من العمر، وقد كبر وشاخ ونضج ونال كثيراً مما كان يطمع أن يصل إليه. وحسناً فعل حين ذهب إلى كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة.

     وحين عاد إلى القاهرة قال في مقابلة صحفية: "لقد سبق أن عشت بفكري وقلبي في هذه الأماكن المقدسة زهاء عشرين عاماً - منذ بدأت أكتب "على هامش السيرة" حتى الآن - ولما زرت مكة والمدينة أحسست أني أعيش بفكري وقلبي وجسدي جميعاً. عشت بعقلي الباطن، وعقلي الواعي، استعدت كل ذكرياتي القديمة، ومنها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة وكانت الذكريات تختلط بواقعي، فتبدو حقائق حيناً ورموزاً حيناً، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي".

     ولما سئل: هل أخرجك هذا الشعور عن المألوف؟ ابتسم وقال: "على أي حال لم أصل إلى درجة الانجذاب، كنت دائماً في كامل وعيي، أخذتني الرهبة والخشية والخشوع كل مأخذ عندما كنت وحدي".

     يقول الأستاذ محمد سيد بركة: ولقد زار طه حسين الأماكن المقدسة مرة واحدة وكان كما يقول في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسه في وقت واحد، ويوضح ذلك بقوله: "لقد جرت العادة عندما يصل المرء إلى الكعبة أو المسجد الحرام أن يتسلمه طائفة من الناس يسمون بـ "المطوّفين" أي الذين يقومون بإجراءات الطواف بالكعبة ويسمون في المدينة بـ "المزورين" أي الذين يقومون بإجراءات الزيارة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حاولت جهدي أن أتخلص من المطوفين والمزورين، ولكن محاولاتي ذهبت هباء، وجدتني بين أيديهم أردد بلا وعي ما يقولونه، ووجدتني في الوقت نفسه وحدي، وإن كنت في صحبتهم، كنت شخصين: شخصية واعية بلا كلام، وشخصية متكلمة بلا وعي، كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلام المطوفين والمزورين، وكانت الشخصية الواعية بلا كلام تناجي ربها في صدق وصمت وخشوع".

     إيمان فطري عميق! فهو ككل مسلم يهفو إلى زيارة الأراضي المقدسة وقد عبر عن مشاعره الأولى حين حل بهذه الأراضي فقال: "أول ما شعرت به وما زلت أشعر به إلى الآن هو الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام". وقد قام طه حسين بالتنبيه على مرافقه وهما يغادران مدينة جدة قاصدين البيت الحرام في مكة المكرمة أن يوقف الركب عند الحديبية، فلما توقفوا عندها ترجّل الرجل وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلاً: "والله إني لأشم رائحة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر"، وهدأ مرافقه من روع الدكتور على مدى نصف الساعة من الراحة. ثم استمر الركب حتى دخل الحرم من باب السلام، والدكتور لا يكاد يخفي وجد إيمانه عن رفيقه، وتوجها إلى الكعبة فتسلم الحجر وقبّله باكياً واستمر يطوف ويسعى في خشوع ضارع وبكاء خفي.

     ويقول أمين الخولي صاحبه في تلك الزيارة: "حين استلم طه حسين الحجر الأسود ظل يتنهّد ويبكي ويقبّل الحجر حتى وقفت مواكب الحجيج انتظاراً لأن يغادر هذا الأديب الكبير المكفوف مكانه، ولكنه أطال البكاء والتنهيد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد".

     وعند الطواف، كان طه حسين يناجي ربّه بقوله: "اللهم لك الحمد. أنت نور السماوات والأرض. ولك الحمد. أنت قيم السماوات والأرض . ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن. أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت"!

     وهو يحفظ هذا الدعاء منذ بعيد، ويرى أنه من أصح ما روي من الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يناجي ربه دائماً بهذا الدعاء وبغير هذا الدعاء.

     وفي فلورنسا في مؤتمر عن الحضارة المسيحية قال هذا الدعاء باللغة الفرنسية، ولم يكد ينتهي من إلقاء الدعاء حتى دوت قاعة المؤتمر بتصفيق شديد. وجاءته سيدة مسيحية وطلبت نسخة من الدعاء، وقالت وهي تبكي: خذ دموعي وإعجابي، وبلغها للإسلام الذي أحبه كثيراً، فقال لها: لا داعي للدموع، إعجابك يكفي، وختام هذا الدعاء النبوي الكريم اختارته أسرته الكريمة لينقش على ضريحه.

* * *

     وبعد:

     لقد أبحت لنفسي هذا النقل الطويل عن الأستاذ محمد سيد بركة، لأنني فرحت به فقد ربط على قلبي وأكد أن الدكتور طه مسلم عميق الإسلام، وإن كان هذا لا يبرر أخطاءه قط، لقد أخطأ مرتين، أخطأ حين قال ما قال، وأخطأ حين خانته شجاعته فلم يعتذر اعتذراً علنياً شافياً مكتوباً كما كان ينبغي له أن يفعل.

     وثمة درس مستفاد هو أن في الإنسان عامة والمسلم خاصة، مساحة من الخير تضيق وتتسع وتخبو وتعلو، ومن النادر أن تغيب غياباً تاماً، ومهمة الدعاة الأذكياء أن يبحثوا عن هذه المساحة بأناة وصبر، وحب للمدعوين، والاهتمام بهم، والتماس المعاذير لهم ما أمكن، وتسليط الضوء على هذه المساحة وتوسيعها واستثمارها حتى تبلغ مداها في يوم يعلمه الله وحده، نجد فيه الكافر أو المعاند أو الضال أو العاصي يفيء إلى الحق، إذا استبان له الهدى بعد ضلال، أو عزفت نفسه عن الشهرة بعد استعلائه عليها، أو غلب في نفسه داعياً من دواعي الخوف والطمع، أو انتصر على مفسدة كانت تحكمه، والأمثلة كثيرة جداً في قديم الزمان وحديثه، كانت ولا تزال تقدم لنا شواهد على صحة هذه الفكرة، في رجال آمنوا بهذا الدين وكانوا يجهلونه، وآخرين التحقوا بركبه وكانوا من أعدائه، وطائفة أخرى من أصحاب المعادن العالية والمواهب المتألقة كانوا من أشد خصومه فصاروا من أعظم فرسانه.

     ودرس آخر يهم المسلمين عامة، وأصحاب الدعوة والفكر والأدب والريادة منهم خاصة، وهو أن يمتلك الواحد منهم شجاعة الاعتذار إذا أخطأ، وأن يكون الاعتذار مكافئاً للخطأ حتى يمحوه، وأن يقصد بقوله وعمله وجه الله عز وجل، ويحذر من الانسياق الخاطئ وراء حب الشهرة فإنها مقتل، ومن الوقوع في براثن من يريد بدينه وأمته السوء فإنها كارثة.

     غفر الله للدكتور طه حسين أخطاءه، وتقبل منه حسناته، وعامله برحمته لا بعدله، وألهمنا العبرة من سيرته.

* * *

حكاية عاقبة

حكاية عاقبة

     ظل القاضي عاقبة بن يزيد يطيل النظر في الخصومة التي بين يديه، ويقلب فيها أوجه النظر، ويفكر، ويتأمل، راجياً أن يجد الحق، أين هو بين هذين الخصمين فيحكم به.

     ولم يكن عاقبة بالرجل الذي تشتبه عليه الأمور، أو المرء الذي تضطرب عنده الموازين، أو القاضي الذي يجبن أو يتلكأ، كان رجلاً ملء إهابه وأزيد، كان مؤهلاً أحسن ما يكون التأهيل ليغدو قاضياً بارعاً ممتازاً، فهو ذو علم جامع، وهو ذو ذكاء متقد، وهو صاحب صبر وأناة، ثم هو صاحب استقامة وتقوى، يصدع بالحق ويحكم به، ولا يخاف في الله لومة لائم.

     وإذن فقد اجتمعت فيه كل الصفات الممتازة النادرة، التي تتكامل وتتناغم، ليكون بها - بإذن الله - من القضاة الممتازين النادرين.

     ومع ذلك كله لم يستطع عاقبة أن يصل إلى الحق فيحكم به فيريح ويستريح، ذلك أن المشكلة معقدة، والشكوى ذات شعب وفروع، والأدلة مفقودة، والقرائن غائبة، وليس ثمة بصيص من نور.

     وكأن عاقبة وجد في التأجيل حلاً يرتاح إليه بعض الشيء، يلجأ فيه إلى الله تعالى طالباً منه العون. لذا طالت المدة واستغرقت القضية ما لم يستغرقه سواها وقتاً وجهداً، ولعله كان يبصر في تراخي الزمن راحة للنفس وأملاً في الحل.

     لكنه بعد ذلك كله، لم يصل إلى ما كان يرجوه، فلزمه حزن وهم، وجاشت في نفسه رغبة حارة أن يصطلح الخصمان حتى ينصرفا راضيين، دون أن يضطر إلى إصدار حكم ينوء به وجدانه التقي النقي.

     يا لها من قضية شائكة، ويا له من قاض متحرج، إن له حدوداً من الشرع لا يقدر على تجاوزها، وهو بها مقيد ملزم، وهو سعيد بهذه القيود، فرح بهذا الإلزام، وإن من القيود ما هو نافع أعظم النفع، وإن من الإلزام ما هو خير من الحرية. وإذن فإن عاقبة لم يكن ضيق الصدر بما يحيط به من حدود وقيود فهي ضوابط وموازين للخير والشر، لكنه كان ضيق الصدر من عجزه عن الوصول إلى الحقيقة.

     يأتي الخصم الأول ومعه شهود وحجج، ومعه بينة وأدلة، ويأتي الثاني ومعه مثل ذلك أو ما هو أزيد، ويخلو عاقبة بنفسه ليقول في ضراعة حارة: رباه أعني وارحمني وخذ بيدي في هذه المعضلة المستعصية، إنني كالسائر في ليل بهيم، والظلمة حوله مطبقة متراكبة.

* * *

     وظل أمد القضية يتراخى حتى جاء ذلك اليوم.

     قرع باب عاقبة في وقت راحة وهدأة، وكانت فرحة القاضي غامرة حين نظر فوجد أحد الخصمين واقفاً بالباب.

     فرحة من الأعماق هزت فؤاد القاضي الأمين الحائر، فإن قدوم الرجل إلى داره في مثل هذا الوقت لا يتعدى أمرين اثنين: إما أن الرجل قد وقع على أدلة لا تدفع تجعل الحكم لصالحه، وإما أنه اصطلح مع خصمه.

     والأمران طيبان، فما أحسن أن تتبدد سحب الأوهام فيحكم القاضي بالحق وهو من أمره على يقين، وإما أن يكون الصلح والصلح خير. لذا كانت فرحة القاضي كبيرة حين رأى الرجل يستأذنه في الدخول فأذن له.

* * *

     لكن فرحة عاقبة انقلبت إلى حزن وحسرة، ذلك أن الرجل القادم إليه، عرف من بعض الناس أنه يحب الرطب، فعمد إلى جمع قدر طيب منه، مما لذ منه وزكا، وجاء به إلى داره بعد أن رشا البواب ليدخل طبق الرطب إليه.

     ونظر عاقبة إلى الطبق المملوء، فأدرك أنها رشوة ذميمة من رجل ذميم، لعل صاحبها ظنه قاضياً من قضاة السوء فجاءه بها، ولم يلبث أن فعل المعهود من أمثاله، ردّ الرشوة، وطرد صاحبها، وأغلظ له القول. بل إنه أخذ يفتش في نفسه متخوفاً أن يكون فيها عيبٌ لم ينتبه إليه، جعل صاحب الرطب يظن به السوء.

* * *

     في اليوم التالي تقدم الخصمان إلى عاقبة الذي توهم أن نفسه تميل إلى صاحب الرطب، فعظم عليه الأمر، واستهوله، وتخوف أنه لم يعد قادراً على النظر إلى الخصمين بعين واحدة، وأحس أن نزاهته وتقواه، وسمعته وعدالته، موضع امتحان خطير. عندها سارع إلى المهدي، أمير المؤمنين، يحث خطاه صوب قصره في بغداد، وجاء الإذن بالدخول، كيف لا؟ والقاضي العلم النزيه هو من يستأذن؟

     وحين وقف القاضي بين يدي الخليفة، استعفاه من القضاء، ولكن الخليفة تريث، وظن أن بعض الناس تطاول عليه أو رد حكمه، فاستوضح الأمر فوضّحه له عاقبة، وبيّن له خوفه من أن طبق الرطب المردود ربما يدفعه إلى الانحياز إلى صاحبه، فجاء إلى الخليفة يطلب الإقالة قائلاً له: لا آمن أن تقع عليّ حيلة في ديني، وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المؤمنين، وأعفني عفا الله عنك.

* * *

     دهش الخليفة العظيم، وأعجب بقاضيه الألمعي النزيه، وساد الصمت الجليل المكان، وانصرف الجميع معجبين بما كان، وخلا الزمان بنفسه ليروي لنا هذه القصة الرائعة، لنجد فيها نموذجاً يحتذى، وحكاية تروى، فتملأ علينا عقولنا وضمائرنا، ونعجب بها أشد الإعجاب، ونحس بها طريّة شيّقة، بعد وقوعها بأكثر من ألف عام.

* * *

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

الصحابة في سقيفة بني ساعدة

     أدركني خوف شديد وأنا أقرأ مقالة الأستاذ إبراهيم البليهي "التشرذم العربي" في "الأربعاء" ملحق جريدة المدينة الغراء 17/ 3/ 1423هـ - 29/ 5/ 2002م، فالمقالة ملأى بالمبالغة والتعميم والنظر إلى جزء من الصورة وتجاهل أجزاء أخرى.

     وقارئ المقالة - إذا استسلم لها - سوف ينتهي إلى أن العرب أمة لا تصلح لشيء، وهي مجموعة نقائص وفضائح ومخاز مخجلة.

     وحين فكرت في الرد وجدت أن المقالة ملأى بأمور كثيرة جداً، بحيث إذا تتبعها الإنسان طال الرد وربما تحول إلى كتاب، فآثرت أن أقف عند أمر واحد فقط هو موقف الصحابة الكرامy في سقيفة بني ساعدة حين توفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

     هذا الموقف حشده الأستاذ البليهي ضمن ما حشد للعرب من مخاز ونقائص وفضائح، ووظفه على أنه تنازع على السلطة، فقال: "ثم إنه قبل أن يقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ظهر التنازع على السلطة"، ثم استرسل في استعراض ما حشده.

* * *

     والحقيقة أن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة موقف جدير بكل احترام وإجلال وثناء، إنه موقف يتسم بالشجاعة، والمسؤولية، والشورى، والحسم، والحوار الأخلاقي، ويكشف أنهم رجال دين كما أنهم رجال دنيا، ينهضون فيهما معاً نهوضاً مشرفاً يرضي الله في سمائه ويرضي عباده في أرضه.

* أدرك الصحابة أن رسولهم الكريم قد مات، وانتهت مهمته على الأرض، وأن عليهم أن يحملوا هذه المهمة الجليلة من بعده، لم يشغلهم الحزن عن الواجب، ولم تحجزهم العاطفة عن العقل، لقد استوعبوا اللحظة التاريخية وهبوا للتصدي لها فأحسنوا وأجادوا، وبداية هذا التصدي الذي جمع بين الذكاء والجرأة أن يلتقوا، فالتقوا في السقيفة، وتلك شجاعة عقلية وشجاعة نفسية أيقنوا معها أن حبهم لرسولهم وبكاءهم عليه لا يغيران من حقيقة موته. نعم لقد أحبوه، ونعم لقد بكوه، لكنهم مضوا فوراً فعملوا ما ينبغي عليهم عمله، وتلك شيمة الرجال الأحرار والمعادن المتفوقة.

* وإدراك الصحابة بفطرتهم السوية وعقولهم المتوقدة لأهمية "اللحظة التاريخية" وأداؤهم الممتاز فيها يذكر الدارس المتابع بأن في حياة الدول والحضارات والحركات والأحزاب - فضلاً عن الأفراد - حالات في غاية الدقة والخطورة يتوقف فيها النجاح والإخفاق، وربما البقاء والفناء، على إدراك أهمية "اللحظة التاريخية" وطريقة التعامل معها، وكم من نجاح وإخفاق، وبقاء وفناء، ترتب على حسن التعامل معها أو سوئه، والأمر أكثر من أن تحصى شواهده. وإذن فإن ما فعله الصحابة في السقيفة يوم وفاة رسولهم الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، هو ذروة الذروة وقمة القمم، وهو أول المواقف الحاسمة الكبرى في التاريخ الإسلامي في مرحلة ما بعد النبوة المطهرة. والصحابة الكرام يستحقون عليه مجموعة من الأوسمة، علماً أنهم أكبر من كل وسام وأغنى عن كل ثناء.

* حين التقى الصحابة الكرام في سقيفة بني ساعدة، أصَّلوا فكرة العمل المؤسسي، الذي يقر بحق الأمة في قيادتها من خلال أهل الحل والعقد، والعمل المؤسسي من أعظم الظواهر الحميدة في التاريخ، والذين يدرسون اليوم نقاط القوة في حضارة اليابان وحضارة الغرب، عليهم أن يجعلوا في مقدمة هذه النقاط احترام العمل المؤسسي وإعلاءه وتقديمه.

* وهم في لقائهم الميمون أصَّلوا أيضاً مبدأ الشورى، فلم ينفرد بالأمر أحد، ولم تلتق مجموعة منفردة وحدها لتقرر أمراً دون الآخرين ثم تأتي إليهم لتأخذ موافقتهم عليه لتضفي على قرارها صبغة الشورى، لا، لم يفعلوا ذلك لأنهم أهل دين يحجزهم عن هذا التزييف، ولأنهم رجال أحرار تأبى فطرتهم السليمة ومعادنهم العالية هذا التزوير. لقد اجتمعوا في العلانية، وتحاوروا وتجادلوا ساعة من نهار، ثم اختاروا الصديق خليفة لهم، فكان خير خلف لخير نبي.

* والصحابة الكرام حين اختاروا خليفتهم العظيم، كانوا قمة في الوعي السياسي، فلم تعش دولة الإسلام الوليدة يوماً واحداً بدون قائد لها، وهذا جعل الدولة تنجو من أي "فراغ دستوري" كما يعبر أهل القانون، فكانوا دستوريين قبل الدستوريين، وقانونيين قبل القانونيين. وتلك محمدة تذكر، ومنقبة تشكر.

* وهم حين اختاروا الصديق خليفة لهم كانوا في غاية الصواب، فقد أثبت هذا الرجل الرقيق الوديع الذي حكم عامين وبعض العام، أنه رجل مسؤولية من طراز رفيع، ورجل شجاعة لا حد لها، وأنه اتخذ أصعب القرارات الحاسمة والصائبة، ونفذها تنفيذاً مدهشاً، فكانت مدة خلافته القصيرة ملأى بالإنجازات العظيمة.

* ثم إن الأداء الرفيع للصحابة في السقيفة، يدل على نجاح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في تربيته لهم، ذلك أنه رباهم رجالاً شجعاناً أحراراً أسوياء، يعرفون ما لهم وما عليهم، ويتحملون مسؤولية هذه المعرفة فيحتملونها ويؤدونها بكفاءة واقتدار، والانتقاص من موقفهم هذا يمكن أن يفسر على أنه طعن في تربية الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لهم، بدعوى أنهم تنازعوا على السلطة فور وفاته فآثروا دنياهم على دينهم. ومعاذ الله أن أظن بالأستاذ إبراهيم ذلك، لكن هذا التفسير متاح لمن أراده.

* إن الحديث عن موقف الصحابة في سقيفة بني ساعدة، حديث يطول، وهو مفخرة لهم، وشرف وكرامة، ويبدو لي أنه يصلح أن يكون رسالة للماجستير أو الدكتوراه في العلوم السياسية، ونحن المسلمين مطالبون أن نستلهم عبره ودروسه في بناء نظامنا السياسي في حاضرنا ومستقبلنا.

* أرأيت يا أستاذ إبراهيم كيف أخطأت خطأ كبيراً حين انتقصت من موقف الصحابة الكرام في السقيفة، وهو موقف كله مناقب ومكارم وإنجازات ودروس؟

*بقيت مجموعة من الخواطر أود أن أجعلها على شكل برقيات وجيزة أوجهها إلى عقل البليهي ووجدانه، وهو المسلم العربي، الذي سمعت عن عفته ونزاهته وأمانته وتواضعه الكثير، زاده الله توفيقاً وأعانه على تصحيح أخطائه.

* ماذا يقول الأستاذ البليهي في حضارة الإسلام - وقد كان العرب روحها وجوهرها ورأس الحربة فيها - التي شهدت لها أعداد لا تحصى من غير العرب ومن غير المسلمين، من قادة وساسة وأدباء وفنانين ومفكرين ورحالة ومؤرخين، فقالت فيها كلاماً في غاية النفاسة، ولن أدل الأستاذ البليهي على الأقوال والقائلين والكتب التي عنيت بذلك، فهو قارئ ومتابع ولابد أن لديه مكتبة عامرة.

* هناك وجهة نظر شائعة لدى عدد من قادة الغرب - ولا أقول كلهم - ترى أن الإسلام الذي تسميه الخطر الأخضر، هو عدوها الأكبر بعد سقوط الشيوعية التي كانت تسميها الخطر الأحمر، وهؤلاء القادة ينتقصون المسلمين عامة والعرب خاصة، ويحرّضون عليهم، ويقفون ضدهم، وينحازون إلى أعدائهم، ويصفونهم بأسوأ الصفات، ألا يرى الأستاذ البليهي أن متابعة أخطاء العرب، وتكبيرها، وتعميمها، والإلحاح عليها، والسكوت عن فضائلهم، هو جهد خاطئ يصب في خدمة أولئك القادة بطريقة أو بأخرى بقطع النظر عن النوايا، والنوايا الطيبة لا تعني بالضرورة صواب الرأي.

* إن الله تعالى اختار جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وهو الحكيم العليم، وهو عز وجل ﴿أعلم حيث يجعل رسالته﴾ زماناً ومكاناً ولساناً وإنساناً. ومعنى ذلك أن الإنسان العربي كان المؤهل أكثر من سواه لحمل أعباء الرسالة بشهادة رب العزة والجلال، ولابد أن لهذه الأهلية مجموعة من المزايا العالية المتفوقة، فأين حديث البليهي عنها؟

     هذا على صعيد الماضي، أما على صعيد الحاضر فيبقى للإنسان العربي، والمكان العربي، واللسان العربي، الدور الأول في حمل أعباء الرسالة، ولن ننتقص من جهود إخواننا المسلمين غير العرب، ولكن هذه الحقيقة ينبغي أن تعرف. وهذه الحقيقة عرفها وجهر بها الشيخ الصالح والمربي الحكيم أبو الحسن الندوي عليه رحمة الله، فأشاد بالعرب كثيراً، وتحدث عن مزاياهم المقررة، وأكثر من التأكيد على أن العرب ينبغي أن يتقدموا المسلمين أجمعين ليكونوا القادة والرادة في ركب الإصلاح والدعوة والتغيير، وجعل قيادتهم لهذا الركب من أهم أسباب النجاح المأمول، وطالما حثّهم وحضّهم وحمّلهم المسؤولية، وحسناً فعل. وشهادة الشيخ الندوي لها قيمتها المقدرة لسببين مهمين، الأول: عفته وزهده وبراءته وغيرته المحمودة على الأمة، والثاني: معرفته العميقة بالتاريخ الإسلامي وحركات الإصلاح والتجديد فيه.

* قرر محمد إقبال وهو الشاعر المفكر الفيلسوف، أن العقل المسلم العربي في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أكثر من العقل المسلم غير العربي في جملته، وهو رأي ذكي قاله آخرون، وهي نقطة متميزة تحسب للعرب، ومن أسبابها أن اللغة العربية هي وعاء الكتاب والسنة ومعظم التراث الإسلامي، ومعرفتهم بها لأنهم أهلها جعلتهم أقدر على فهم الإسلام من سواهم، يضاف إلى ذلك أن للعقل العربي مرونة وذكاء وقدرة على التجديد، ومرة أخرى نحن لا نجحد فضائل المسلمين غير العرب ومعاذ الله أن نفعل ذلك فديننا يعلمنا الإنصاف حتى مع الخصوم لكننا نقرر حقيقة مؤكدة.

* انتشر المسلمون الحضارمة في جنوب شرقي آسيا، وفي شرق أفريقيا، فكانوا نماذج مشرفة للاستقامة والأمانة والصدق، فأسلمت الملايين على أيديهم في بلاد لم تطأها قدم جندي مسلم قط، أسلمت هذه الملايين من خلال إعجابها بالقدوة الحسنة التي مثلها المسلم الحضرمي، والحضرمي عربي صميم خالص العروبة، حمل مع إسلامه عروبته حيث هاجر. ترى أليست هذه الصفحة الحضارية الرائعة بل والمدهشة مما يحسب للإنسان العربي من مزايا نبيلة؟

* مرت بالعرب نكبات هائلة تجاوزوها وخرجوا منها منتصرين مع فداحتها، وأهمها اجتياح التتار لهم، والحروب الصليبية العاتية ضدهم، والهجمة الاستعمارية الغربية عليهم، ولولا ما للعرب من مزايا رائعة وأهمها الإسلام لانقرضوا.

* تمر الأمة المسلمة - من عرب وغير عرب - بحالة ضعف وخذلان، لكنها سوف تتجاوز بإذن الله هذه الحالة، لأنها تمتلك العقيدة الصحيحة، والموقع النفيس، والممرات الاستراتيجية، والثروات الكبيرة، والتجدد الديمغرافي، وخطها البياني - مع الإقرار بكل أخطائها - خط صاعد في الجملة، وبإذن الله سيكون يومها خيراً من أمسها، وغدها خيراً من يومها والمبشرات كثيرة ومنها ما يفعله الشعب الفلسطيني البطل الذي أخذ يعيد قضيته إلى هويتها الحقيقية وهي أنها قضية إسلامية، وأخذ يحرر نفسه من الخوف، وأخذ يستبسل في طلب الشهادة، وأخذ يقاتل تحت شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهذه هي البداية الصحيحة للتحرير الحقيقي، أن يتحرر الإنسان فيحرر المكان.

* المسلمون عامة والعرب خاصة، أمة مستهدفة، والظالمون لا يخافون إلا القوي أو من يحمل عوامل القوة فيستهدفونهم، ونحن إن لم نكن اليوم أقوياء فإننا نحمل كل عوامل القوة ونحن سنملكها - بإذن الله - في يوم قادم. ألا يرى الأستاذ إبراهيم في استهدافنا من قبل الظالمين أمارة واضحة تدل على شعورهم بأهميتنا، ومخاوفهم من غدنا الواعد الصاعد؟

* غفر الله لي وللأستاذ إبراهيم، وأعاننا على معرفة أخطائنا وتجاوزها.

* * *

الأكثر مشاهدة