الاثنين، 8 أغسطس 2022

كتاب نظرات أدبية ونقدية - المقدمة والمحتويات

كتاب نظرات أدبية ونقدية

المقــدمة

     محمد إقبال شاعر الإسلام والشرق، والمفكر والفيلسوف الإسلامي، الذي ملأ الدنيا، وشغل الكتاب والنقاد في الغرب والشرق، وفي العالمين العربي والإسلامي.

     أسرته انتقلت من الهندوسية إلى الإسلام، ونشأه والده تنشئة إسلامية عميقة الأثر، حرة التفكير، عزيزة النفس، منطلقة الروح، محلقة الخيال.

     عبَّ من الثقافة الغربية حتى الثمالة، صبوحاً وغبوقاً، ولكنه لم يَسْكَرْ بها لحظة واحدة، لأنه تلقاها بوعي حاضر، وذهن متفتح، وعرضها على ميزان القرآن الكريم، والسنة النبوية، فميز سقيمها من صحيحها، وخالصها من دخيلها، فزاد وعياً بأمته الحاضرة، لأنه أيقن بحقيقة رسالته التي يحملها إلى أمم الأرض.

     يقال: إن ما كتب عن إقبال يزيد عما كتب عن طاغور شاعر الهند العالمي الإنساني، وزاد عليه إقبال في "الإسلامي"، وكفى بهذه الزيادة شرفاً وعلواً.

     والدكتور حيدر الغدير أديب شاعر يطرب للكلمة، ويحلق مع الخيال، ويبتهج للمعنى البكر، فيقع أسير من يقرأ لهم من الشعراء والكتاب قديماً وحديثاً، ومن هؤلاء الذين أسروه إقبال، وقد خصه بعدد من القصائد منها قصيدته (أيها العائد) التي قدم لها بقوله: (من بستان إقبال)، يقول في مقدمتها:

     "قال لي؛ والوجه منه نور، والفرحة نشيد، والبسمة شكر: لقد أكرمني الله عز وجل بالحج، ففزت بحجة بعد انتظار طويل، أرجو أن تكون مبرورة، إنها حجتي الأولى، وقد تكون الأخيرة، ولن أنساها ما حييت. قلت له: ماذا تفعل في هذا السوق؟ قال: أختار هدايا من الأرض المباركة تكون أجمل قنية، وأغلى تذكار. قلت له: إليك هذه الهدية، قال: وما هي؟ قلت: قصيدة تلتقي مع ما تود، قرأها فقال: إنها هدية جميلة لي، ولكنْ أهدها أيضاً إلى (محمد إقبال)، فهي تصلح أن تكون مع روائعه الحسان في ديوانه: أرمغان حجاز".

     يقول د.حيدر في المقطع الأول:

جاءك العفوُ فخذه باليـــدينْ     وفؤاد وامق والمقــــــــلتينْ
نلته ينهـــلّ نوراً كاللجيـــنْ     أيها الزائر أرض الحرمينْ
إنه الفـوز المرجّى قد همى

     وهي من روائع أناشيد شاعرنا، أهداها إلى إقبال.

     ويقول في قصيدة أخرى بعنوان: (أعتقيني)، وقدم لها أنها "زهرة من بستان إقبال"، يقول في مطلعها:

أعتقيـــني فقد مللت وثــاقي     وخذيـني لعـــزمة وانطلاقِ
وعديني بزورة للمعــــــالي     نتساقى العلا فيحلو التساقي

     وفي قصيدته بعنوان: (نداء) قدم لها أيضاً أنها "من بستان إقبال"، قال فيها:

بينــــا أنـــا وهمومي فيّ تشــتجرُ     والعيـــش لا فرح فيه ولا ظفــــرُ
والعــمر لا خضل والنفس لا أمل     والغصن لا نضر والورد لا عطر

     وهي ثلاث قصائد في ديوانه (غداً نأتيك يا أقصى)، تنبئ عن مدى تغلغل أدب إقبال في شرايين شاعرنا وأدبه، ومن هنا جاءت هذه المقالات التي تلقي الضوء على أدب محمد إقبال عامة، وأندلسياته خاصة.

     وفي الأندلس يلتقي الشاعران، فيبكيان الماضي، ويحلمان بالمستقبل الآتي، ولا أدري إن كان يصح أن أنسب أندلسيات د.حيدر الغدير إلى تأثره بأندلسيات إقبال بعد الاطلاع على ما كتبه عن إقبال والأندلس. وزاد على ذلك بتخصيص عنوان أحد كتبه من الأندلس: "صلاة في الحمراء"، ضمنه عدداً من المقالات من مشاهداته، ومعايشته في الأندلس إبان زياراته إلى قصر الحمراء، وجامع قرطبة، ورندة وغيرها من درر الأندلس.

     والفصل الثاني من هذا الكتاب نظرات في المسرح الغربي، ومعالجاته للقدر والفن والحرية في حياة الإنسان، وهي معالجات تنطلق من نظرة وثنية، وقد وضع د.حيدر النقاط على الحروف -كما يقال- بمقالاته عامة، وبخاصة مقاليه: "الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي"، و"حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية".

وهذه المقالات كلها مما قدمه في برنامجه الإذاعي (أفراح الروح)، في إذاعة الرياض، أسأل الله سبحانه أن ينفع بها كاتبها، وقارئها، وناشرها. والحمد لله رب العالمين.

شمس الدين درمش

------------------

المحتــويــــــات
(روابــط قـــابلة للضغــط)

- المقدمة .................................................................... 4
- الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته ..... 6
- الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي .............. 62

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

حكمة القدر بين الرؤية الإسلامية والرؤية الغربية

     ها هو ذا الشاعر العباسي علي بن الجَهْم يُلقى في السجن، فيتأمل الأقدار والحكمة وراء السجن، والسجن ثقيل على النفوس فيقول:

قالت: حُبِسْتَ، فقلتُ: ليسَ بضائري     حَـبْــسي، وأيُّ مهنَّــــدٍ لا يُغْـــــــمَدُ
أوَ ما رأيـــتِ اللـيــــثَ يألفُ غيـــلَهُ     كِبْــراً، وأوبـــــاش الـسبــــاعِ تَرَدَّدُ
والشـــمسُ لولا أنهــــا محجـــــوبةٌ     عــن نــــاظريكِ لما أضاءَ الفرقــــدُ
غِيَــــرُ اللـيــــالي بادئــــاتٌ عُــــوَّدٌ     والمـــالُ عـاريــــةٌ يُفــــــاد ويَنْفَـــدُ
ولكــــلِّ حــــــالٌ مُعْقِــبٌ، ولربَّمـــا     أجـــــلى لك المكروهُ عمّا يُحْــــــمَدُ

     إن الشاعر يتأمل في حكمة القدر التي سيق معها إلى السجن، فإذا به يهدأ، وإذا بنفسه تكف عن القلق، وإذا بالطمأنينة تسري في أعماقه، ذلك أنه لا ينظر إلى القدر الذي فعل به ذلك نظرة العدو للعدو، بل إن نظرته تحاول البحث عن حكمة ربما دقَّت فما رآها المرء ساعةَ المكروه، لكنها موجودة فيما وراء الشدة، وربما كان وراء الشر الظاهر خيرٌ عميق، وربما أجلى لك المكروه عما يُحْمَدُ كما يعبر الشاعر نفسُه الذي يزدحم صدره بالأمل، ويتدفق بالرجاء، ويوصي نفسه بالصبر الذي يُعْقِبُ راحةً يطمئن إليها، ثم إنه ما دام قد غشي الحبسَ لغيرِ دنيَّةٍ نكراء، فما من ضير:

لا يُؤْيسنَّــــكَ مِنْ تفــــرّجِ كربــةٍ     خطبٌ رماكَ به الزمـــــانُ الأنكدُ
واصبــرْ فإن الصبرَ يُعْقِبُ راحةً     في اليوم، تأتي أو يجيءُ بها الغدُ
كم من عليـــلٍ قد تخطّــاه الـردى     فنجـــا وماتَ طبــــيبُه والعُــــوَّدُ
والحبــــسُ ما لمْ تَغْشَـــهُ لدنيَّــــةٍ     شنعــــاءَ، نِعمَ المنـــزلُ المُتَوَرَّدُ
بيــــتٌ يُجــــدِّدُ للـكريـــمِ كرامـةً     ويُزارُ فيه، ولا يَزورُ، ويُحْقَــــدُ

     قارنْ هذا الشعور بالقدر عند ابن الجهم الذي يُلْقي الراحةَ في النفس، والسلام في الصدر، والطمأنينة في الفؤاد، والسكينة في الأعصاب بشعور الغربيين بالقدر، أولئك الذين لا يمكن أن يتصوروا أو يشعروا إلا ما تصور وشعر آباؤهم وأجدادهم من أن الفوضى تعم السماوات والأرض، والعداء لا تنطفئ شعلته بين عالمي الغيب والشهادة، والنار التي لا تهدأ سخائمها تؤجج الأحقاد بين بني الإنسان وبين القوى الأخرى التي تريد الإيقاعَ بهم، ومحقَ سعادتهم، والوقوفَ بقسوةٍ لا ترحم في دروب أهدافهم ومصائرهم.

     شتان شتان بين شعور هؤلاء، وشعور ابن الجهم!.. إنْ من حيثُ المبدأ وهو خطأ الفكرة أو صحتها، وإنْ من حيثُ العاقبة، وهو تمزقُ النفس أو توحُّدها، قلق الضمير أو سلامه، اضطرابُ الأعصاب وتوترها، أو هدوؤها وسكينتها. إن البونَ شاسع بين هذين الخطين المتباعدين المتناقضين، خطِّ الشعور الغربي الشاذ المنحرف المدمر بالقدر، وخط الشعور الإسلامي كما نجده لدى ابن الجهم مثلاً الذي يقول:

واللهُ بـــــــالغُ أمـرِهِ في خَلْقِهِ     وإليهِ مصدرنـا غداً والموردُ
ولئنْ مضيتُ لقلّما يبقى الذي     قد كادني وليجمعَنّا الموعـــدُ

     فإنه حتى لو انصرم العمر المحدود، وانقضت الحياة الفانية، ولم تشتفِ النفس الخيِّرة من ظالميها، فعدالة الله عز وجل لا بد أن تتحقق، وجزاؤه العادل لا بد أن ينال الجميع.

     أيُّ سلامٍ يتركه هذا الشعور في النفس؟! وأيُّ سكينة يبثها في الأعصاب؟! وأي طمأنينة ينشرها في الحنايا؟! إنه لشيء عظيم جداً ذلك الذي يتركه الحس الإسلامي بالقدر من هذا العطاء الخيِّر المبارك الذي يتنزل برداً وسلاماً على نفوس المصابين.

     انتقلْ من هذا الحس الرائع إلى نقيضه المدمر مما تجده في الغرب من رصيد مشترك للتراث القديم الجديد حمّل الإنسان نظرة مأساوية حزينة للعلاقات بين قوى الكون وخلائقه، بين الإنسان وخالقه، بين الغيب والحضور، فالغربيون على اختلاف اتجاهاتهم يُجمِعون على الموقف الموحد الذي يصدرون عنه، والذي كما يدلُّ عليه فَحْصُ الرؤى الغربية في هذا المضمار واحدةً واحدة، ينبثق عن الحقد والتقاتل والصراع، وحيث المنظار القاتم الأسود يصور فوضى أبدية لا تؤول إلى قاعدة، ولا تنتهي إلى مَعْلَم، ولا يقر لها قرار.

     إن التعامل مع القدر في التصور الإسلامي معاناة خصيبة غنية، لا صراعاً عابثاً، ولا تواكلاً مرذولاً، بعد بذل الجهد في الأسباب، واستفراغ الجهد والطاقة في الوسائل، لا يبقى إلا التوكلُ على الله، والتسليمُ له جل شأنه، والرضى بقضائه وقدره أيّاً كان. إن بوسعك أن تلمسَ مثل هذا الحس لدى السيّاب الذي قال بعدَ مرضٍ طال:

لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ
ومهما استبدَّ الألمْ
لك الحمدُ إنَّ الرزايــــا عطاءْ
وإنَّ المصيباتِ بعضُ الــكرمْ
ألمْ تُعْطِني أنتَ هذا الظلامْ
وأعطيتني أنتَ هذا السَّحَرْ
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ المطرْ؟
وتغضبُ إنْ لمْ يَجُــــدْها الغمامْ؟

     إنه التسليمُ المحمود، والرضا العميق، والتوكلُ الكريم، والقَبولُ بالقدر والقضاء، وتفويضُ الأمور كلِّها إلى الله عز وجل، والأَوْبَةُ إلى رحابهِ الكريمةِ العظيمة.

*****

القدر والحرية في حس الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في حس الغربيين

     هلُمَّ معاً نحاولْ إزاحةَ الركام الذي نلتقي به في حس الغربيين للقدر والحرية والعلاقة بينهما، لنصل إلى التصور الإسلامي، الراشد المضيء لهذه القضية البالغة الخطورة، فلنفعلْ ولنتساءلْ بعد ذلك: أثمة مبررٌ أو إيحاء بوجود صراع دائم بين الإنسان والقوى التي لا تدركها الأبصار؟ هل ثمة أساسٌ معقول للحقد والنقمة بين القدر وبين إرادة الإنسان؟ أثمة أي سبب مقبول لأن يكون القدر في موضع الحرب والقتال العنيف مع البشر؟

     من خلال التصور الإسلامي الراشد يكون الجواب على هذه الأسئلة جميعاً بالنفي، فالإنسان ما دام يهتدي في حياته بنور الله عز وجل الذي يشع على صفحات الكون، ويقدم الحلول لمشكلاتِ البشرية، ويلقي أضواءه على طبيعة العلاقة بين الخالق عز وجل وبين البشرية، ويضع المخلوق البشري في مكانة ممتازة جداً، إذ يعلن أنه أثمنُ عناصرِ الحياة وأنفسُها على الإطلاق، فسوف يرى هذا الإنسان أن إرادتَه ليست سوى امتدادٍ لقدرِ الله تعالى، الغالبِ النافذ، وأن قدرَ الله تعالى هو اليد التي تأتي للإنسان في ساعاتِ يأسهِ وتخبُّطِه، وحيرتِه وقلقه، وشقائه وأحزانه، لترفعَه إلى آفاقِ الأملِ والفرح، والسعادةِ والرجاء، لتطهره وتزكيه، وتهديه وتكرمه، وتقودَه صوب الطريق اللاحب العريض، طريق الهداية والسعادة في الدنيا والدين، وتنأى به عن الشرور والأذى، وتجنبه عثارَ الطريق وأشواكَه ورمضاءَه.

     إن الإنسان في التصور الإسلامي، النظيفِ الراشد، أكرمُ عند الله عز وجل من أن تقفَ حريتُه عاجزةً، إزاء ما يحيط بها من قيود البيئة والطبيعة، والعلاقات الاجتماعية، وأخطائه التي وقع فيها ذات يوم، ثم حاول بصدق أن ينجو منها، لأن حريتَه إنما تَسْتَمِدُّ من المعين الأكبر؛ معين قوة الله عز وجل وقدرته المطلقةِ الواسعة، وهو مَعينٌ غني كريم، ثرٌّ دفاق، يحرر الناس، ويمنحهم فرصة الاختيار والاختبار عن مسؤوليةٍ تُحْتَمَل، وأمانةٍ تُبَلَّغ، ورسالةٍ واضحة تحددُ كل شيء من قبل، فلا لَبْسَ ولا إبهام.

     والإنسان في هذا الكون ليس مجرد قطعٍ تتراصف إلى جانب بعضها، منبتَّةِ الجذور بالعالم، مقطوعةِ الأواصر بالحياة، مبتورة الوشائج بالكائنات. إن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فالإنسان في التصور الإسلامي يعمل في انسجامٍ وتكاملٍ كوني مع الكائنات الأخرى، مرئية وغير مرئية، ضمن النسيج المتشابك المحكم لهذا الكون الذي ترتبط به مصائرُ خلائقِه وتتوحد في المدى البعيد، إنْ في عالم الغيب، وإنْ في عالم الشهادة. إنْ فيما يمتد إليه نشاطهُ المستمر الدؤوب، وإنْ فيما تعجز عنه قوتهُ الفانيةُ المحدودة.

     فهذا التصور يقف تماماً على النقيض مما وجدناه في الحس الغربي في القديم والحديث، حول القدر وحرية الإنسان، من مواقفَ عديدة، ورؤىً شتى، وتصورات متباينة، تحمل جميعاً طابَعَ الانغلاقِ على العالم والكون، والكراهية العميقة للقوى التي لا تراها العيون، وتسعى جميعاً بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تكريس الأوهام التي عَلِقَت بتصور الغربيين، وقدّمت لهم الكون منذ قدامى اليونان في صورةِ مسرحٍ لآلهةٍ مزعومة، تحرقُهم شهوة الانتقام، وتدفعُهم الأثرةُ إلى أن يرفعوا سلاحَهم القاهر في وجه الإنسان الشقي المنكود.

     إنه ليس ثمة مجال في حس الغربيين أن يروا الإنسان، كما هو في التصور الإسلامي الراشد أكرمَ عند الله عز وجل من أنْ تقف حريته حائرةً ضالة إزاء ما يحيط به من قيود البيئة والطبيعة، وآثام الماضي وأخطائه، وأنَّ بإمكان حريته أن تكسر هذا الحصار، وتفكَّ هذا الطوق، وتشكِّلَ مستقبلها ومصيرها. إن الإسلام يوقد في الإنسان شعورَه بكرامته، وإحساسَه بِقَدْرِهِ الكبير، ويُشْعِره أن ثمة قوةً كبيرة علوية، أكبر من البيئة والطبيعة والأخطاء، تسندُه وتقويه، وتريدُ له الخير، وتحبُّ له الهداية، وتفرحُ له إنْ أدركَ طريق السعادة والهناء.

     أثمة مجال لدى الغربيين لأن يقف الإنسان موقفَ الهادئ المتبصّر ليعرف مَنْ هو؟ وما مكانُه في الحياة؟ وما دورُه؟ وما غايتُه؟ وأن يعملَ جاهداً على توجيه حريتهِ لتنسجمَ مع حريات الآخرين، وأن يجاهدَ ليكونَ مصيره متوحداً تماماً مع تجربة حياته على الأرض، بدلاً من أن يعلنَ تمردَه الأعمى ضد هذه القوى، ويصطرعَ معها؟ الجواب: لا، وهو جوابٌ تشهدُ عليه أدلةٌ لا تحصى من شواهدِ الحياة الغربية.

     أما التصور الإسلامي فهو يهتفُ أَنْ نعَمْ، فللإنسان أن يسعدَ ويهنأ، ويطيبَ ويصفو، لا من خلال الصراع والعداء، بل من خلال الانسجام والتعاون، والتوحد والترابط مع الآخرين، ومن خلال طاعته لله عز وجل وانسجامه مع هديه الكريم. 

*****

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

الإنسان بين التوحيد والتعدد في المسرح الغربي

     حين ينحرف الإنسان عن العبادة الحقة لله الحق، فإنه يسقط على الفور في شَرَكِ أحطِّ العبوديات، عبودية الهوى، وعبودية المال، وعبودية التراب وما إلى ذلك، فإذا به بدلاً من أن يعبد الله الواحد القهار فقط، دون أي شريك آخر، يعبد كثيراً من الأصنام، سواء كانت مادية أم معنوية. ولذلك إذا كانت السمة الأولى للإسلام هي التوحيد؛ فإن السمة الأولى للجاهلية هي التعدد، سواء كان هذا التعدد واضحاً مباشراً، أم خافياً ضمنياً.

     وجاهلية الحضارة اليونانية –التي لها أكبر الأثر في الحضارة الغربية المعاصرة– كانت تؤمن بكثير من الآلهة المزعومة، يدرك ذلك جيداً كلُّ مَنْ عرف شيئاً من أساطيرهم الوثنية المشهورة، التي عُنِيَتْ بها وبخرافاتها العجيبة، حضارةُ الغرب المعاصر، عنايةً بالغةً فائقة، واستلهمتها كثيراً في الآداب والفنون بأنواعها، لكنها في المسرح أظهر منها في أي باب آخر.

     وبصرف النظر عن فكرة التعدد في ذاتها، وما فيها من خطأ بالغ، وظلم للحقيقة، فقد أضافت الجاهلية اليونانية القديمة إليها فكرة العداوة الضارية بين البشر وبين أولئك الآلهة المزعومين، وخير مثال لذلك أسطورة "برومِيثيوس" سارق النار المقدسة. كان بروميثيوس هذا يستخدمه كبير الآلهة المزعومة "زيوس" في خَلْقِ الناس من الماء والطين، وقد أحس بالعطف على البشر، فسرق لهم النار المقدسة من السماء وأعطاها لهم، فعاقبه "زيوس" على ذلك بأن قيده بالسلاسل في جبال القوقاز، حيثُ وَكَّلَ به نَسْراً يرعى كبده طوال النهار، وتتجدد الكبد في الليل، ليتجدد عذابه في النهار، وهكذا دواليك. وليس من ذنب لـ"بروميثيوس" إلا أنه أراد أن يعاون الناس بالنار فسرقها لهم فاستحق هذه العقوبة، على أن "زيوس" لم يكتفِ بمعاقبة سارق النار بل أراد أن ينتقم من البشر أنفسِهم، فأرسل إليهم "باندورا" أول كائن أنثوي على وجه الأرض، ومعها صندوق مغلق فيه كافة الشرور ليدمر الجنس البشري بذلك، فلما تزوجها "إبيميثيوس" أخو "بروميثيوس" وتقبل منها هدية "زيوس" فتح الصندوق فانتثرت وانتشرت الشرور وملأت وجه الأرض.

     تلك هي طبيعة العلاقة بين الله عز وجل وبين البشر في حس اليوناني القديم. إنها علاقة عداوة وبغضاء، وتربص وشر، تدل هذه الأسطورة عليها بشكل شديد الوضوح، فالنار المقدسة نار المعرفة، قد استولى عليها البشر اغتصاباً وسرقة، على الرغم من إرادة "زيوس"، ليعرفوا أسرار الكون والحياة، و"زيوس" كان يريد لهم أن يظلوا في جهل مطبق فساءه هذا العمل، فوزع بينهم الشرور عن طريق حيلة الصندوق الذي حملته "باندورا"، وصبَّ نكال عذابه على "بروميثيوس" ذلك الذي عطف على البشر وسرق لهم النار ليستفيدوا منها.

     ولقد قالت أوروبا في جاهليتها الحديثة كلاماً كثيراً جداً عن الأساطير اليونانية المختلفة، وعن دلالاتها وإيحاءاتها، وعن هذه الأسطورة بالذات، لقد قالت عنها: إنها تمثل صراع الإنسان لإثباتِ ذاته، إثباتِ وجوده، إثباتِ فاعليته وإيجابيته، وأن عصيانَه وتمرده، إنما هو برهان الإيجابية والفاعلية، وإثبات الذات.

     إنه جهل مطبق فاحش الغلط يصفه الأستاذ محمد قطب بقوله: "إنه انحراف بشع تكاد تنفرد به –فيما أعلم– تلك الجاهلية اليونانية، فالجاهليات الأخرى –فيما أعلم كذلك– قد توهّمت وجود آلهة متعددة، وجعلت من بعض هؤلاء الآلهة؛ آلهةً شريرين، صناعتهم الشر والانتقام والإيقاع بالإنسان بلا غاية سوى التدمير والإهلاك، ولكن الجاهلية اليونانية وحدها هي التي اختصت بتصوير هذا الصراع المنفِّر بين البشر والآلهة المزعومة من أجل إثبات فاعلية الإنسان وإيجابيته، فكَتَبَتِ اللعنة على الإنسان أنه لا يُثْبِت ذاته إلا على حساب عقيدته، وأن ضميره لا يصطلح مع الله فلا يقوم الوئام في داخل نفسه بين رغبته الفطرية في إثبات ذاته، ورغبته الفطرية في الإيمان بالله".

     لقد تسربت هذه الأسطورة في أعماق اليوناني القديم، ووارثه الغربي الحديث وهي في الغرب اليوم، تستكن في لا شعور أبنائه ووعيهم الباطن، وتترك لديهم إحساساً واضحاً أو مبهماً بأن المرء لا يستطيع إثبات ذاته إلا من خلال الصراع بينه وبين إرادة الله التي تقسو عليه وتضطهده كما يتوهمون، وهذا يقود من دون ريب إلى نتاج مُرٍّ وخيم، وهو بالضبط عكس ما يتركه الإسلام في حس المسلم من أنه قادر على إثبات ذاته والتفوق والابتكار لا من خلال الصراع، بل من خلال طاعة الله عز وجل، والانسجام مع تعاليمه الكريمة التي تريد له الخير والسعادة في دينه ودنياه، وتحاول أن تجنبه الشرور والمهالك، وتمد له يد العون والغوث والهداية.

*****

القدر والحرية في المسرح الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر والحرية في المسرح الغربي

     يمكن لك أن ترى في النشاط المسرحي، للغربيين المعاصرين، فكرة القدر الغالب من جهة، والحرية التي تحاول الظفر من جهة أخرى، تظهر بصور شتى وأشكال مختلفة لترسمَ ظلالاً كئيبة في حس الغربي ووجدانه، وتجعل حياته نهباً لشتى الصراعات، وتنأى به عن سلام القلب، وراحة الوجدان، وطمأنينة السريرة، فإذا به يشعر أنه ضعيفٌ مغلوب يُراد به الشر، ويُكادُ له من قِبَلِ قوى أعظم منه وأكبر، لا مفر له من مجابهتها، ولا سبيلَ له إلى تأكيد ذاته، وإثبات وجوده وفاعليته إلا من خلال الصراع معها.

     إنه موقف يمكن لك أن تتبينَ من خلاله ماذا يدور في حس القوم وشعورهم الواعي منه والباطن؛ عن ماهية العلاقة بين الله عز وجل وبين الإنسان، عن طبيعة الصلة التي تقوم بين الفرد الأعزل وبين القوة التي تنأى عن الأبصار، وتمارس إرادتها ضدَّه بشكل أو بآخر.

     إنه المنطلَقُ اليونانيُّ القديم الذي انبثق عنه المسرح الغربي أولَ مرة، وأخرج للناس أولى التراجيديات الكبرى، واستمر يصدر عن مَعينه هذا عبر العصور المختلفة شعورٌ بالصراع لا بالوئام، وبالسوء لا بالنفع، وبالأذى والشر لا بالمعروف والخير.

     وفي عصرنا الحاضر لم يتبدل هذا الشعور قط، ولم يفقد دلالته وإيحاءه العميق، بل على العكس ازداد إيحاءً ودلالة، إن بوسعك أن تتأكد من ذلك من خلال نظر فاحص في المسرح الغربي المعاصر، فلا تخطئ أن ترى فيه العلاقة بين الله تعالى وبين الإنسان؛ تُصَوَّرُ على ذلك النحو الخاطئ الذي يبدو فيه الإنسان ريشة تافهة تذروها الرياح العاصفة الهوجاء، أو ذرة تائهة تتقاذف مصيرَها الإرادة الغالبة، لا حولَ لها ولا طَوْل.

     ولقد أثّرت طبيعة أوروبا، وتكوينها الجغرافي والبشري مضافاً إليه ضآلة استفادتها من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، على تصور العلاقة بين الإنسان والقوى الغيبية، فأقامتها على قواعدَ من الصراع والعداء والحقد الذي لا ينضب له معين، يظهر ذلك حتى لدى أشد المسرحيين الغربيين بعداً عن الإيمان بالله عز وجل، حيث لا يخلو مسرحه من هذا الإيحاء المسيطر على أعصاب الغربي، وذهنه، وشعوره ولا شعوره، وهو أنَّ هناك قوة لا تراها العيون هي التي تحدد مصائر الناس، وتعبث بوجودهم، وتهزأ منهم وتسخر، وتقسو عليهم وتضطهد، سواء كانت تلك القوة روحيةً غيبية، أم طبيعيةً اجتماعية، أم ماديةً جبرية، وسواءً جاءت من فوقٍ، أم انبثقت من تحتٍ.

     يقول الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل: هذا هو موقف الإنسان الغربي من القدر، ابتداء من "سلاكرو" حيث الجبريةُ المطلقة، وحتى "سارتر" حيث الحريةُ المطلقة، يصدُر الجميع على ما بينهم من تفاوت عميق عن موقف واحد، ويتحركون على أرضية واحدة، يمكن تلخيصها بأنها الصراع مع القوى المحيطة بالإنسان، والكفاح الدائم ضد العالم الذي يضطرب فيه.

     إن القدر الذي تصب فيه هذه القوى جميعاً هو عدو لدود للإنسان، يسعى إلى سحقه، ويهدف إلى دماره، لا لشيء إلا لأنه يمتلك من أسباب القوى ما يستطيع به أن يتحدى الإنسان الضعيف العاجز المجرد من السلاح، ومن ثم تختلف مواقف الغربيين من هذا العناء المسلَّط على رقاب الناس؛ فمنهم من أعلن استسلامه المطلق وحنى رأسه لمعاول القدر تنزل فتهشمها تهشيماً لا يرحم، ومنهم مَنْ حاول أن يبحث عن أسباب هذا العناء في داخل الإنسان، في عالمه الباطني، وفي الأرض التي يتحرك عليها، وآخرون دفعهم هذا الموقف المريع إلى أن يتمردوا على القدر، وأن يلغوه من حسابهم إلغاءً، وأن يعلنوا من جهتهم حرية الإنسان، وقدرته الذاتية على الوصول إلى مصيره دونما خوف أو إرهاب ينصب عليه، من فوقه أو من أعماق ذاته.

     إن هذه النظرة العدائية، ذاتَ الإيحاءِ المحزن المدمر، والأثرِ العنيف المرهق، وهذا الموقف الذي يقوم على الصراع والتقاتل، والتدافع والكيد، والإضرار والأذى، هما نتاج تصورٍ منقوشٍ في ذهن الغربي، مستكنٍّ في أعماقه، متغلغلٍ في خلاياه جميعاً، وحسٍّ مطبوعٍ في أعصابه ودمه، ووجدانه وعقله، ووعيه الظاهر والباطن، وشعوره ولا شعوره، منذُ عصورِ أجداده اليونان القدماء الذي أرسوا الدعائم الأولى لهذا الموقف المحزن بين الإنسان وقدره.

     وما مِن ريب أنه كان لهذا كلِّه أثرٌ كبير فيما يعانيه الغربي المعاصر من تمزق داخلي، وتآكل نفسي، وبُعدٍ عن الانسجام والتواؤم، والرضى والسكينة.

*****

قدر الله وإرادة الإنسان في التصور الغربي

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

قدر الله وإرادة الإنسان في التصور الغربي

     هل ثمة مجال في تصور الغربيين لأن يلتقيَ قَدَرُ الله تعالى بإرادة الإنسان في انسجام وتوافق، ومن أجل أن تكون خطوات الإنسان أكثر ثباتاً، ونظراته أعظم سداداً، وطريقه أبين وأصح!؟ هل ثمة مجال في حس الغربيين لأن يَمد اللهُ سبحانه وتعالى يد العون إلى الإنسان في ساعات يأسه وقلقه وحيرته وتخبطه، فيرفعه إلى آفاق الأمل والرجاء، ويتدفق عزمه بالهمة والمضاء، ويبصر الدرب اللاحب العريض الذي ينبغي أن يسلكه صوب مصيره؟! هل ثمة مجال في تصور الغربيين وحسّهم لأن يكون القدر صديقاً حميماً للإنسان لا عدواً لدوداً له؛ صديقاً يسير معه جنباً إلى جنب، يهديه إذا ضل، ويقوِّمه إذا سقط، ويُسرع به إذا أبطأت به أحداث الزمن وكبّلت خطاه عقبات الطريق؟!

     يبدو أن الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها ستكون بالنفي؛ ذلك أن نظرة القوم هناك للقدر نظرة العدو للعدو، نظرة مَنْ يرى الآخر يشحذ سلاحه، ويتحفز للانقضاض عليه والفتك به وتدميره، يستوي في ذلك من ينظرون إلى القدر على أنه قوة علوية تنزل من فوق فتغلب وتسيطر وتقهر، ومن ينظرون إليه على أنه ينبع من حيث هم، من بيئتهم وتراثهم، وماضيهم وتقاليدهم فيَغْلِبُ هو الآخر ويسيطر ويقهر.

     فالكاتب المسرحي الأمريكي "يوجين أونيل" واحد من الطائفة الثانية في نظرته للقدر، فهو يرى أن ما يقع لنا من أحداث مصدرُه أنفسُنا التي طُبِعْنا عليها، والتي لا نستطيع أن نتحول عنها لنكون خلافَ ما نحن عليه، فقوى البيئة والبيولوجيا التي هي كامنة فينا وظاهرة، والتي لا نستطيع الفكاك منها قط؛ هي التي تصوغ حياتنا، وتملي علينا اتخاذَ مواقفَ معينة، شئنا أم أبينا.

     ولقد أوضح "أونيل" مفهومه هذا بما فيه الكفاية، وبيّن كيف أن الإنسانَ أسيرُ قوى بيولوجية وبيئية تتحكم في تركيبه النفسي الذي لا يستطيع أن يحيد عنه، ولعله أخذ نظرته هذه عن فكرة للطبيعيين خلاصتها: أن الإنسان محكوم في تركيبه الذهني والنفسي بعوامل الوراثة وظروف البيئة، وهو في كل مشكلة يُلْقَى فيها يصارع الضرورات التي تضيّق عليه الخناق صراعاً تؤثر فيه اعتبارات الوراثة والبيئة التي لا منجى منها ولا فكاك.

     ولم ينس "أونيل" أن يقف مع أصحاب النظرة الفوقية للقدر، ليعلن معهم رثاءه لحال الإنسان، وحبه العميق للإنسانية التي تقف في خضم الكون محارَبَةً وعزلاء في الوقت ذاته. وهكذا يبدو القدر في حس الغربيين بيئياً كان أم فوقياً، يضع الإنسان في العالم؛ وحيداً أعزل مجرداً من السلاح، إزاء قوى تفوقه بكثير، عليه أن يغالبها حتى النهاية. وهكذا يؤكد أنهم يجمعون على حس مشترك بالعداء المرير، والخصومة الضارية، والصراع غير المتكافئ بين الإنسان وبين القوى الغيبية، وهو حس تشرّبته دماؤهم طيلة عصور التاريخ الغربي ابتداء من عهد اليونان وحتى العصر الحديث، حيث التأكيد التام المستمر على علاقة الضغينة والبغضاء بين إرادة الإنسان وبين القدر الغالب.

     كاتب مسرحي آخر هو "جان آنوي" نرى عنده ما رأيناه عند "أونيل"، فأبطالهُ جميعاً مأسورون، إنهم أسرى قدر غالب نافذ ينبثق من الباطن هو حصيلة مكونات البيئة والوراثة والتجارب الزمنية المتراكم بعضها على بعض في كيان الإنسان، في لحمه وعصبه وشرايينه، في مزاجه وذوقه، في ذهنه وقلبه، في عقله وروحه، في مطامحه وآماله، فيما يُسَرُّ به وفيما يُساء. وهو بالذات يختار ماضي الإنسان وتجاربه وعلاقاته، والإنسانُ لديه توّاقٌ للحرية، لكنه يعاني من ضغط سلسلة من الأحداث الماضية الثقيلة، بمعنى أن الماضي تؤكده تبعية الشخص لمحيطه الاجتماعي بدلاً من أن يكشف عن ذاته الأصيلة العميقة فيستحيل بسببٍ من ذلك حملاً ثقيلاً يجره البطل طيلة حياته، وتصبح حياته كابوساً من المتاعب والآلام.

     إن بعض أبطال هذا الكاتب يتطلع إلى الطهر والبراءة، لكن ماضيه الدنس يلح عليه ويمنعه من ذلك. إنه يريد الخلاص ولكنه لا يستطيع.

     الحق أن نظرة القوم للقدر نظرة شديدة الخطأ، وهي تهمنا من حيث انعكاسها على نفسية المرء، إذ يظل يشعر طيلةَ عمره بالصراع والتقاتل، وأنه وحيد معزول عن كل عون، ومطلوب منه أن يدخل معركة ضارية مع قوى أكبر منه وأعظم، ومثل هذا الشعور كفيل بأن يقضي على كل ما في نفسه من سلام وأمن، وهدوء وراحة، فيظل متوتر الأعصاب، سوداوي المزاج ممزق الوجدان. وإننا حين ندرك ذلك بعمق نضع يدنا على أحد الأسباب القوية التي تقف وراء شقاء الإنسان الغربي ودماره.

*****

الإنسان الغربي والفنون

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

الإنسان الغربي والفنون

     ما مِن شيء يعكسُ التشويهَ النفسي، والقلقَ الروحي، والخواء الداخلي للإنسان الغربي بالمعنى الحضاري الواسع كالفنون، من الرسم والنحت والأدب، ذلك أن الفن هو المتنفسُ العفوي الوحيد المتبقّي له للتعبير عن أزمة الفكر وأزمة الوجدان، وأزمة السلوك، تلك التي يعاني منها ويكابد، وهو مسوق للدمار باستمرار في حضارته التي مزقته شر ممزق.

     لقد فتنته صحةُ العلوم النسبية عن حقائق الإيمان المطلقة، وسحرته روعةُ المنجزاتِ الكبيرة عن الأهداف والغايات، وسدَّت عليه تروسُ الصناعة الضخمة آفاقَ الطبيعة وآفاق نفسه على السواء، وسلبته آلية التكنيك الاجتماعي لمجتمعه الصناعي حرية الفعل ذي المعنى الأخلاقي، وحرمته دقةُ الأرقام روعةَ الخيال، وانغمس يدورُ ويدور من أجل إشباع مطلب لا يشبع؛ اسمه زيادة الإنتاج.

     وربما كان المسرح الغربي المعاصر أكثرَ الأنواع الأدبية إبرازاً لهذه الحقائق، وذلك لأن الفن المسرحي يكون في العادة ألصق بالحياة الاجتماعية من سائر الفنون الأخرى، ولأن للمسرح في الحياة الاجتماعية والتراث الأدبي للحضارة الغربية مكانةً خاصة ليست لسائر الفنون الأخرى. وللمسرح منذ نشأته وحتى عصرنا الراهن، قصةٌ مع القدر والحرية، تأخذ صوراً مختلفة، وأشكالاً شتّى، لكنه لم يُلقَ عليها غبار النسيان، ذلك أنها المحور الذي دارت عليه كبرياتُ الأعمالِ المسرحية بشكلٍ أو بآخر.

     يقول الدكتور عماد الدين خليل: إن الذي أعطى قضية القدر هذا الالتحام الوثيق بالمسرح هو أن المسرحَ أساساً من معطيات القارة الأوروبية، تميَّزت به منذ أن طلعت أثينا على العالم بتراجيدياتها الكبرى، وإلى اليوم حيث يطلع من هذه القارة بالذات روادُ مدارس ومذاهب مسرحية لا يقر لها قرار حتى تطلع بعدها موجات جديدة تكتسحها وتطغى عليها.

     ومعروف أن علاقة هذه القارة الصغيرة باللهِ عز وجل منذ فجر التاريخ وحتى الآن لم تقمْ يوماً على أساس صحيح فيما يجبُ أن تكونَ عليه العلاقةُ بين الخالق والعباد. إن هذه القارةَ الصغيرةَ، ذاتَ الظروفِ القاسية، والمناخِ الصعب؛ ظلَّ أهلها يتقاتلون فيما بينهم بحثاً عن موطئ قدم يمكِّنهم من ضمان حياتهم، وتأمين موارد عيشهم. ظلوا يتقاتلون ويتصارعون حتى لم يبقَ في وجدانهم مساحة يحتلها شعور نبيل بالسلام الذي يعم الكون، وبالحب الذي يسيِّرُ الخلائق، بالعطف والمودة التي فُطِرَ العالم والأشياء عليها، كما أن هذا الصراع استغرق كل وقتِهم وكل جهدهم، ولم يترك لهم وقتاً يطمئنون فيه إلى ما يعتملُ في نفسِ الإنسان دائماً من نداءٍ روحي وشفافيةٍ سماوية تدعوه في لحظات تأمله وسكينته أن يرفع عينيه إلى السماء، ويستجيب للنداءات التي تدعوه من هناك أن يرتفع ولو قليلاً عن مستوى الطين الذي يحاصر وجوده من كل مكان، ويُثْقِلُ روحه وضميره، عقله وفكره، وجدانه وسلوكه.

     نعم لقد عرفت الحضارةُ الغربيةُ المسيحيةَ، لكنها لم تعرفْها كما بُعِثَ بها المسيحُ عليه الصلاة والسلام، يقول الكاتب الأمريكي "درابر": إن الجماعة النصرانية وإن كانتْ قد بلغت من القوة بحيث ولَّت قسطنطين المُلْك، ولكنها لم تقطع دابرَ الوثنية، ولم تقتلعْ جرثومتها، وكانت نتيجةُ كفاحها أن اختلطت مبادئها بمبادئ الوثنية، ونشأ عن ذلك دين جديد مختلط، وهناك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه أي الوثنية قضاءً تاماً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش. وإن الإمبراطور قسطنطين رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين الوثني والنصراني أن يوحدهما ويؤلف بينهما.

     وشهادة الأمريكي "درابر" واضحةٌ جليةٌ جداً، لكنني مع ذلك أسوق شهادة واحدٍ من علماء الإسلام الأوائل هو القاضي عبد الجبار، وهي شهادة وجيزةٌ وغنية يقول فيها: إن روما ما تنصَّرت، ولكن المسيحيةَ تروَّمتْ، وفي هاتين الشهادتين ما يكشف عن ضآلةِ استفادة أوروبا وهي زعيمةُ الغربِ فكراً وحضارةً من هدي السماء.

     نريد أن نخلصَ من ذلك كلِّه إلى أن معرفةَ أوروبا بالله عز وجل معرفةً حقيقية تيسِّرُ لها سبيلَ السعادة؛ ظلتْ محدودة جداً، فأدّى هذا إلى مآلٍ وخيم ظهرت آثاره أكثرَ ما ظهرت في تدمير بشرية الإنسان وآدميته، واستلالِ روحه وخصائصه، وتركِه نَهْباً لشتى الصراعات، ومنها الصراع القائم الدائم في حسّهم بين الحرية والقدر، مما يظهر نتاجه بوضوح في النشاط المسرحي؛ القديم منه والحديث.

*****

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

القدر في نظر المسرحيين الغربيين

     تستطيع أن ترى لدى طائفة كبيرة من المسرحيين الغربيين فكرة النظر إلى القدر على أنه سلطان قوي نافذ، يسوق الناس شاؤوا أم أبوا إلى مصائر قاسية لا يريدونها، إنهم ينظرون إليه وكأنه قوة من فوق تتسلط على رقاب الناس، قوة خفية، غامضة مجهولة لا تريد الخير بالناس، قوة مستورة محجوبة تغيّبها السُّتُرُ عن عيون البشر، قوة نائية، يسمونها القدر مرة، ويرون فيها الله عز وجل مرة أخرى، ويطلقون عليها عالم الخفاء والأرواح مرة ثالثة، والصدفة العمياء مرة رابعة، ومن أمثال هذه التسميات والأوصاف التي تكشف طبيعة نظرهم للقدر. إنه الحس اليوناني القديم يسري في أعصابهم، ويرسم لهم هذه الأفكار الخاطئة الضالة.

     إن هؤلاء يعيدون لنا بصورة أو بأخرى ما كانت تقوم عليه المأساة اليونانية القديمة من صراع مرير بين الإنسان وبين آلهة مزعومة تريد به السوء، وتضمر له الأذى، وتعبث به وبمصيره وهي قوية غالبة، وهو ضعيف مغلوب، فتكون النتيجة هزيمةً منكرة للإنسان إزاء كيدها الكبير الذي يسعى إلى سحقه وتدميره، والهزء به والسخرية منه، واتخاذه ألعوبةً يُقذَفُ بها ذات اليمين وذات الشمال، كأنها ريشة طائرة في مهب الريح، وبذلك يكون مصيره أن يظل سائراً في مسالك هذه الدنيا الحزينة المؤلمة التي تقسو عليه، وتحت سماء مغلقة لا ترحمه حتى تنتهي حياته بالموت الذي ما منه مهرب.

     إن هؤلاء المسرحيين يعترفون بالقدر ويشعرون به، ويجعلون منه قاعدة ضرورية لأي مسرحية تنأى عن الواقع اليومي، وتبتعد عن التفاصيل المباشرة الزائلة، وتبحث عن القيم الكبرى وعن الإنسان وصراعاته في عالمه الكبير، عن جدوى سعيه وكفاحه، وعن مصيره في خاتمة المطاف.

     نعم قد تختلف الاتجاهات بين كاتبٍ وآخر، بين طائفةٍ وأخرى، لكنه خلافٌ في الاتجاه فحسب، وليس خلافاً في أصل القاعدة. فابتداءً من المؤمنين بالجبرية المطلقة المسيطرة على رقاب الناس، وانتهاءً بالذين يرفضون أي وجود علوي فوق الإنسان وخارج إرادته الحرة، ويتبنون فكرة حريته المطلقة، مروراً بمن اتخذوا مواقف شتى بين هذين الخطين المتباعدين نجد الحس القدري يملأ نفوس أبطال هؤلاء الكُتّاب، ويحدد مواقفهم إزاء الأسئلة الكبرى التي يطرحها عليهم اضطرابهم في هذا العالم الشائك المعقد.

     يقول أحدهم: هناك أحداث تجري على مسمع منا ومرأى، وهناك أحداث أخطر وأبعد تتم في الخفاء، وليست الأحداث التي تقع فعلاً أمامنا إلا نتيجة حتمية وأثراً لتلك الأحداث الخفية.

     إننا نعرف على الدوام جزءاً من الحقيقة هي القشرة الخارجية، أما الحقيقة الأضخم، الحقيقة الفعالة التي تولِّدُ الحقيقة الظاهرية فنحن لا نراها بل هي موحاة لنا فحسب، علينا أن نُخمِّنها، وقد نتخبط وقد نصيب، ولكن الشيء المؤكد أن هناك حقائق غامضة مجهولة هي التي تسيطر على أقدارنا ومصائرنا، هناك قوى خفية مهولة تخط لنا حياتنا، أي الحقيقة الظاهرية، هناك أشياء كثيرة تحدث، وروابط كثيرة تتعقد في الخفاء في الظلام، ومع ذلك فهي تسطر على أقدارنا، وترسم تصرفاتِنا وسلوكَنا، وسعادتنا وشقاءنا، وتحركنا بخيوط غير منظورة.

     إنها صورة كئيبة هذه التي لمسناها في حس هذا الكاتب الذي سمعنا قولته هذه، حس كئيب يشهد بضخامة تصور القوم الخاطئ لفكرة القدر القاسي الذي يسيّر الإنسان وفق مصير سيئ لا اختيار فيه. على أنك تستطيع أن ترى بين المسرحيين الغربيين من يتبنى اتجاهاً مغايراً لكنه لا يخرج عن القاعدة الأصلية، فثمة طائفة ترى أن القدر ليس أبداً تلك القوة العلوية الفوقية التي تنصب على الإنسان من خارج ذاته، بل هو قدر نابع من داخله، من أعماقه ومن عاداته وتقاليده، ونسيج حياته اليومية، ومن ماضيه المنصرم. إن أبطال هذه الطائفة تأسرهم بيئتهم وإرثهم وتجاربهم.

     إن القدر ها هنا يكمن على الأرض، ويتفجر من الوجدان والضمير، ولكنه على أي حال قدر، قدر يرسم للناس مصائرهم المحتومة، ويجبرهم على سلوك طريق محدد ليس منه فِكاك، ويصل بهم آخر الأمر إلى غايات وأهداف لم يكونوا يريدون الوصول إليها، ولا سعوا لاختيارها.

     وبين هذه الطائفة، وبين الطائفة الأخرى خلاف لا شك، لكنه خلاف داخل الدائرة التي لمسناها منذ الحس اليوناني القديم، والتي لا ترى في صلة الإنسان بالقدر سوى صراع متصل سواءً نبع من تحتٍ أم جاء من فوقٍ، وإنه لحِسٌّ مُستكن في أعمق أعماق الوجدان الغربي ينأى به عن الطمأنينة والسكينة، والود والمحبة، والصفاء والرضى.

     لقد ظلت عيون القوم هناك في بلدان الغرب الحضاري مركَّزةً على الأرض، وظلت آمالهم وتصوراتهم، نشاطاتهم وأشواقهم، تطلعاتهم واهتماماتهم؛ حبيسةً بين جدران الحس الكثيف والمادة الطاغية، وظلت أقدامهم مغروزةً في الطين قلَّ أن تحاول النجاء منه والهروب، وظلت أمكنتهم وأزمنتهم نهباً للصراعات القاسية المريرة بين الكنيسة والدولة مرة، وبين البلد والآخر مرة أخرى، وبين أبناء البلد الواحد أنفسهم مرة ثالثة.

     وبسبب من ذلك، وبسبب من ضآلة استفادة القوم من هدي المسيح عليه الصلاة والسلام، جاءت نظرة الغربي للعلاقة بين القدر وبين الإنسان، أو بين الله تعالى وبين الإنسان؛ لأن القدرَ إنما هو إرادةُ الله عز وجل، وليدةُ تلك الظروف القاسية من ناحية، ووليدةُ ضآلة الاستفادة من رسالة المسيح عليه الصلاة والسلام من ناحية أخرى، جاءت مطبوعةً بطابع الصراع موسومةً بميسمه ولم تأتِ مطبوعةً بطابع الإنسان الذي يحب خالقه ويخشاه، ويفوِّض إليه أموره، ولا بطابع رحمةِ الله عز وجل التي تريد للبشر إسعادهم، وتحنو عليهم وترحمهم.

     خُذْ فترة الحياة الوثنية هناك؛ أترى فيها غير معنى هذا الصراع المدمر المرير؟! لقد ابتكر الخيال اليوناني القديم مئاتٍ من الآلهة المزعومة، كانت فيما يتوهمون تصارع الإنسان وتؤذيه، وتقسو عليه وتضطهده، وتنزل به عقابها الصارم، بل إنها لتتصارع فيما بينها ليعلو بعضها على بعض، ويستأثر دونه بالنساء والأموال والبنين.

     إن ثمة خطأين بالغين ها هنا: الأول خطأ الفكر الوثني الذي يؤمن بآلهة مزعومة من دون الله عز وجل، والثاني: خطأ طبيعة العلاقة مع الإنسان، حيث تحاول القوى التي هي أكبر منه إيذاءه باستمرار.

     ثم خذ فترة العصر المسيحي، وانظر إلى فكرة الخطيئة والخلاص؛ إننا نلمح هنا فكرة القدر القاسي الذي لا يرحم كما هو في حس القوم، حيث لا بد من التكفير عن خطايا بني آدم بتضحية وفداء عظيم، ومن ثم يكون الصلب كما يزعمون. إن الفكرة هي هي: مصيرٌ قاسٍ يحكمُ الإنسان، وإرادةٌ تعلو إرادتَه، تضطهده وتقسو عليه، ولا تريد به الخير قط، بل تؤذيه وتضع في طريق مطامعه الصعابَ والعقبات.

     ثم خذ العصر الأخير للقوم، عصر العلمانية المادية الحديثة، حيث طفق الغربي يتصرف بمعزل عن كل توجيه سماوي، سواء آمن بوجود خالق قدير مدبر، أم لم يؤمن به، الحالة سيّان من حيث التعامل المادي، والتحرك المعاشي، والسلوك العملي، والمطامح والرغائب، والأشواق والآمال، والتخطيط والتدبير؛ إن ذلك كله، وكل ما هو مثيلٌ له، إنما يصوغه الرجل الغربي منطلقاً من فكرة المنفعة فحسب، منعزلاً به عن أي هديٍ كريم أو توجيه سماوي نبيل. إنه يشعر بأن الحياة بين الأحياء غابة يجب أن يفوز بها بأي ثمن. هي صراع لا يهدأ سواء بين الناس بعضهم وبعض، وسواء بين الناس والقدر.

     والمسرح الحديث في الغرب اليوم، على الرغم من تقدم الإحساس بالمادة، وتراجع الشعور بالأخلاقيات الدينية، يعبّر بشكل أو بآخر عن قوة ما، قوة ينبغي أن يقف الإنسان منها موقف الخصام والصراع الذي يحمل طابع المأساة.

     وإن أكثر المسرحيين الغربيين بُعداً عن الفكر الديني لم يخلُ مسرحهم من هذا الإيحاء المسيطر على عصب الغربي، وذهنه ووجدانه، إنه يشعر أن ثمة قوةً لا قِبَلَ له بها تحكم المصائر، وتحدد النهايات، ويعبث بالوجود، قوة يسميها الغيبَ مرةً، ويسميها القدرَ أخرى، ولا يرى ثمة مجالاً لأن تحنو هذه القوة على الإنسان، وتحاول إسعاده، وتمد له يد العون.

     إن الحس القديم لدى اليوناني الوثني الذي أبدع المسرحيات المعروفة يمتلكه هذا المعنى حيث نشهد عند "سوفوكليس" وأضرابه من المسرحيين؛ ذلك الصراع المأساوي المحزن بين الإنسان وبين القوى الغيبية، غير المرئية التي تسوقه إلى مصير ظالم لا اختيار له فيه، وهذا الحس القديم نلتقي به جديداً لدى الغربي المعاصر، حيث يعبر عن هذا المعنى بأشكال شتى، وصور مختلفة، تظهر في المسرح أكثر مما تظهر في غيره من الفنون. قارن هذا الحال الكئيب، والحس الخاطئ المدمر، والمآل المأساوي المفجع بما يقابله في التصور الإسلامي لترى الفرق الشاسع والبون الكبير؛ إن نظرة المسلم للقدر ليست نظرة عداء قط، فالقدر إرادة الله عز وجل، الذي يريد له الهداية والخير، والذي هو أحنى عليه من أمه وأبيه، والذي لا يخطئ المسلم أن يلمس رحمته وثوابه قط حتى في حالة الضراء والمصائب، فضلاً عن حالة السراء والسعادة. إنه لفرق هائل ضخم، ولا غرابة في ذلك، فالفرق بين نظرة المسلم للقدر ونظرة الغربي له، هو الفرق بين هدي السماء وأوحال الجاهلية.

*****

مسرحية في نيويورك

 

الفصل الثاني: الإنسان والقدر في المسرح الغربي

مسرحية في نيويورك

     لأحد الكتاب الأمريكان هو (أونيل) مسرحية ذائعة هي (القرد الكثيف الشعر)، ينزل فيها بطلها إلى مدينة نيويورك، وإذا به يعاني من غربة وحشية قاتلة، فكل شيء من حوله مشغول عنه، ليس له وقت ليقول له فيه: مرحباً بك أيها الغريب! من أنت؟ وماذا تريد؟ كل شيء من حوله دوامة من حركة ونشاط وفاعلية لا تهدأ بحال، ولا تكف عن الدوران، وهي خلال ذلك كله تنظم وترتب، وتعد وتدبر، إنها منتجة مفيدة، لكنَّ شيئاً من عطائها الكثير، لا يبدو أنه يهتم بالإنسان، ويُعنى بهمومه، ويخفف من مشكلاته ومتاعبه، ويجعله يشعر أنه إنسان له قيمة وشأن وأهمية.

     هبط بطل المسرحية ميناء نيويورك فأحس أن كل شيء فيها لا يعبأ به، كل شيء لا يريده، كل شيء ليس في حاجة إليه، كل شيء يبصقه كأنه نواة، كأنه ذبابة، مع أنه شيء، مع أنه إنسان، هو الذي صنع نيويورك، فهو الذي يعمل في السفن، وهو الذي يضع الفحم في الفرن، والفرن يطلق البخار، والبخار يدفع السفن بكل ما حملت، وهو لزج كالزيت، وهو شحم كالآلات، وهو كذلك صانع هذه الآلات والتروس، ومع هذا كله يعيش منبوذاً، ويموت منبوذاً.

     كان البطل يدق الأرض بقدميه، يدق الجدران بيديه، يدقها بنظراته كذلك، يبحث عن نظرة مودة وحنان، يفتش عن بسمة ودٍّ صادقة، يأمل أن تمتد إليه يد مواسية حنون، تشجعه وتعطف عليه، وتعينه وتساعده، وتخفف شيئاً من همومه وأحزانه، وتأسو شيئاً من كلومه وجراحاته، لكنَّ رجاءه كله خاب، وأملَه كله صوَّح، وبقيت المدينة الضخمة العملاقة كما هي، لا تعرفه ولا تحبه، ولا تأبه بشأنه في قليل أو كثير، بقيت نوعاً من اللامبالاة الشاهقة، نوعاً من عدم اكتراث يناطح السحاب.

     وماذا عن الناس في المدينة الضخمة؟ أولئك الذين يركبون المترو السريع بضوضائه الشديدة، فينزلون في صمت، ويصعدون في صمت، وعلى وجوههم كآبة قاتمة. يقول عنهم أحد الكتاب الذين زاروا مدينتهم، هو (أنيس منصور): "إنهم لا يختلفون عن أهل أي بلد في الدنيا في ليلة رأس السنة، إلا أنهم يفتعلون الإنسانية، ويفتعلون الطفولة، في حين أنهم في أي بلد آخر، أناس عاديون بلا افتعال، وبلا محاولة كاذبة لأن يتذكروا أنهم كانوا بشراً في قرن من القرون.

     ونمضي مع الكاتب الناقد وهو يحدثنا عن حياة الناس هناك، عن نواديهم الليلية، وأوقات فراغهم وأمانيهم، عن تخمتهم المادية وخوائهم الروحي، عن يأسهم ومللهم، وبحثهم عن الجريمة والشذوذ، عن تسلط حفنة من المرابين اليهود على وجدانهم ونشاطهم وأزِمَّة أمورهم، عن الشبان البائسين الذين يهربون من مجتمعهم هروباً شعورياً أو لا شعورياً، عن أملهم في اكتشاف عالم جديد لا يدرون شيئاً عنه، ورغبتهم في صياغة غدٍ جديد دون أن يعرفوا شيئاً عن صياغته، وشروطها ولوازمها. هم يتوقون لصياغة دنيا جديدة بدلاً عن هذه التي سئموها وملوها ورفضوها، دون أن يفعلوا شيئاً من أجل إيجاد هذا البديل سوى الرفض السلبي العاجز، والأماني الفارغة، والأحلام الأفيونية، والأوهام والخيالات والسمادير.

     يقول الكاتب عن هؤلاء الشبان: "في النوادي يعيش طول الليل، الجيل الجديد، الذي يسمونه الجيل الصارخ أو الجيل الصاخب، بلا فلسفة ولا ثقافة ولا مشكلة ولا أزمة، فالجيل الجديد لا يقرأ، ومعظم هؤلاء الساخطين شبان دون العشرين، ويشربون الشاي أو السجاير ساعات متتالية، ويسمعون إلى موسيقى عاوية داوية، وبعد ذلك يخرجون".

     لم يقل لنا الكاتب الشاهد إلى أين يخرجون؟ لكن من الواضح أنهم يخرجون إلى مجتمعهم، دون أن يكون في أذهانهم أي حل يواجهون به مشكلاتهم إزاءه، كما أنهم يخرجون، وليس بينهم وبينه ولاء يشعرون معه بخيوط من المودة تشدهم إليه، وتجعلهم يتفاهمون معه.

     يخرج الواحد منهم ليكون مثله مثل بطل تلك المسرحية الأمريكية، عندما هبط ميناء نيويورك، فشعر بالغربة الطاحنة تسحقه وتهدد كيانه، وأحس أنه غريب منبوذ فطفق يدق الجدران بيديه، وبنظراته كذلك، دون أن يحظى بشيء يقدر فيه أنه إنسان، إنسان صنع هذه الأشياء الكثيرة المكدسة، والآلات الدائرة باستمرار، والجدران القوية الشامخة، والأبنية العالية التي تناطح السحاب، كل شيء من حوله إنما هو من صنعه المتقن المبدع، لكنه مع ذلك لا يتعرف عليه ولا يحبه، ولا يسنده ولا يعينه، ولا يأبه بشأنه، ويعامله بإهمال شديد، ونوع من اللامبالاة والتجاهل وعدم الاكتراث. مسكين إنسان هذه الحضارة!.. لقد غدا رقيقاً للآلة التي صنعها، وعبداً لمنجزات جهده وذكائه وعنائه.

*****

دولة المسلمين في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

دولة المسلمين في الأندلس

     قال المؤرخ الإنكليزي المشهور "فشر" يصف دولة المسلمين في الأندلس وحضارتهم فيها، وذلك في كتابه عن تاريخ أوروبا في العصور الوسطى:

     دولة قوية راضية، عليها أمراء وخلفاء أمويون يحكمونها حكماً مستنيراً من عاصمة لهم، هي قرطبة. وقد انعقدت مخايل التحضر والنعمة والاستقرار على رأس هذه الدولة، كما امتلأت عاصمتها بالسكان من جميع الأديان. والزائر القادم إلى قرطبة وضواحيها في القرن العاشر الميلادي لا يلبث أن يرى بلداً توافرت فيه دلائل الحكومة المستنيرة المعنيّة أكبر عناية بشؤون الزراعة والتجارة والصناعة، إذ يرى فيما يرى فلّاحين يزرعون الأرز وقصب السكر في أرض تسقيها ترع ونواظم مائية قام على تنسيقها مهندسون من العرب، كما يرى فيما يرى صُنّاعاً يصنعون الآنية من الزجاج والأدوات من العاج والجلد في دقة ورونق وجمال.

     والزائر لا يستطيع إلّا أن يرى كذلك فيما يرى الدواوين الحكومية، والصفوف من الموظّفين الكاتبين، الذين استبدلوا الورق بِرُقوق الغزلان للكتابة، حتى إذا دخل قرطبة نفسها لم يستطع إلّا أن يعجب من أهلها وغلوِّهم الشرقي الذي تطلّب تسع مئة حمّام لغسل أبدانهم، وأربع مئة مسجد لتهذيب أنفسهم، فضلاً عن طرق مرصوفة الحجارة، وساحات ظليلة واسعة ذات عمد، وعقود مسقوفة تتوسّطها نوافير مائية متألقة، وتزينها مئات المصابيح المصنوعة من الفضة، كما تزيّن المسجد القرطبي الكبير بأنوارها المنعكسة على عُمَدِه الرخامية.

     ولم تكن هذه المباهج الخلابة خاصة بالسادة العرب، بل نعمت بها رعية الخليفة الأموي من جاليات المسلمين الذين قدموا مع الفاتحين، وطوائف المسيحيين الذين رضوا بالفتح وبالعيش في ظلال الإسلام آمنين على أن يدفعوا للدولة جزيةً سنويةً معلومة، وأولئك هم المستعربون على قول المصطلح المعاصر، وهم جزء هام من المجتمع الإسباني، ويرجع إليهم الفضل في تسرّب الحضارة العربية، وما امتلأت به هذه الحضارة من علوم اليونانيين إلى أوروبا اللاتينية في العصور الوسطى.

     وقبل أن نحاول التوقف لدى شهادة "فشر" هذه دارسين محلّلين، يَحْسُنُ بنا أن نقدم ملاحظة مهمة، تتصل بشهادة "فشر" وغير "فشر" ممن هُدوا إلى شيء من الإنصاف خلال حديثهم عن الإسلام وأهله وحضارته. هذه الملاحظة هي أن هؤلاء الكُتّاب على الرغم من مواقفهم المشكورة التي نحمدها لهم، ونقر لهم فيها بالفضل والشجاعة معاً، لا يمكن لهم أن يتخلصوا من شوائب كثيرة عالقة في أعمق أعماقهم وأخلادهم، ولا يقدرون على النجاة منها لأنها صارت جزءاً من مكوّناتهم الثقافية ومكوّنات الحضارة الغربية التي ينتسبون إليها.

     وهم في ظلال هذه الشوائب يجانبهم الفهم السليم والتحليل الصادق، عن سوء نية حيناً، وعن حسن نية حيناً آخر، في كثير من الأمور التي تتصل بدراساتهم للإسلام والمسلمين، ولا غرابة أن ترى أحدهم يكون منصفاً، ويشهد شهادات طيّبة، لكنه مع ذلك في مواقف أخرى يهبط ويُسِف.

     لذلك فمن الضروري جداً أن نقرر أنّ نقلنا لشهادة أحدهم، واعترافنا له بالجميل، وشكرنا إياه على الإنصاف، وعلى الشجاعة الأدبية التي يمتلكها؛ لا يعني الموافقة على كل ما كتب، فنحن نتوقّف عند الذي نعتقد أنه وُفِّقَ إلى الحق فيه فحسب، ولا عجب في ذلك؛ فالحكمة ضالة المؤمن.

     وحين نعود إلى "فشر" وشهادته، يحقّ لنا أن نفخر بما فيها من ثناءٍ مُسْتَطاب على الدولة الإسلامية في الأندلس، تلك الدولة الراقية المتحضّرة التي تقوم عليها حكومات مستنيرة تُعْنى بشؤون الناس، وتسهر من أجل راحتهم، وتبذل جهدها من أجل أن تسودهم النعمة والأمن والراحة والاستقرار.

     أما العناية بالأبنية والمساجد والحمامات، والترع والنواظم المائية، ودواوين الحكومة، وما إلى ذلك فقد فصّل فيه "فشر" وأجاد، وهو أمر مشهور مقرر بالنسبة لحضارة الإسلام عموماً، وحضارة الأندلس منها خصوصاً، لكنَّ ثمة أمرين يحسن التوقف عندهما:

- الأول: ما قرره المؤرخ الإنكليزي من امتلاء قرطبة عاصمة الأندلس بالسكّان من جميع الأديان، مما يدل على طبيعة الحرية والعدالة العميقة في الحضارة الإسلامية، فهي لا تعرف الاضطهاد الديني، وإجبار الآخرين على اعتناق الإسلام، بل تضمن لهم أن يعيشوا تحت لوائها بأمن وسلام، وحفظ كامل لجميع حقوقهم، على الرغم من قناعتها وإعلانها أنهم كفّار وهالكون ومن أهل النار.

- الثاني: ما قرره "فشر" أيضاً من أن النعم التي كانت في الأندلس لم تكن حِكْراً لطائفة دون أخرى، بل شملت الأندلسيين جميعاً، الحاكم منهم والمحكوم، المسلم منهم وغير المسلم، مما جعل مجتمعاً عادلاً يقوم وينهض، ويمارس دوره في الحضارة الإنسانية، ويسهم بشكل خاص في نقل الحضارة والعلوم والمعارف إلى أوروبا اللاتينية، من خلال مساجد الأندلس ومعاهدها، التي كانت خلايا حيّة، تزخر بشتّى أنواع الثقافات والمعارف البشرية. إن للحضارة الأندلسية المسلمة، يداً كريمةً معطاء، على البشرية جميعها، وفي شتى الميادين: لقد كانت شعلة هداية تنقل كلمة الحق للحيارى، وتنير الدروب للضالين، وكانت منارةً من منارات الكرامة أرسَتْ للإنسان حقوقه وكرامته، وكانت خليةَ نحل، تعجّ بشتى ألوان النشاط البشري النافع البناء، وكانت مثابةً للحق والحرية والمساواة، وكانت موئلاً ومعملاً للرقي والتقدم والنهوض، وكل ما من شأنه إسعاد الإنسان.

*****

من علماء أوروبا الذين تعلموا في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

من علماء أوروبا الذين تعلموا في الأندلس

     يروي التاريخ أن ممن درس في قرطبة وتخرج على أيدي علمائها المسلمين "شانجة" ملك "ليون" و"أستوريا" في شمال إسبانيا.

     ومنهم "هرمان" الكسيح ابن أمير "والماسيا" الذي نقل مآثر الحضارة الإسلامية في ألمانيا ودول البلطيق عن الطلاب الأوروبيين العائدين من الأندلس، والذين كانوا يمرون بدير "ريخناو" الذي يمكث فيه "هرمان"، ويقضون فيه أياماً عديدة قبل تفرقهم إلى أهليهم. وعن هؤلاء نقل "هرمان" كل ما جلبوه من الآلات الفلكية العربية، وفي مقدمتها الإسطرلاب الذي صنع أول واحد منه في أوروبا على الأسس العربية.

     ومن المعاهد الطبية في مدن إشبيلية وغيرها من حواضر الأندلس تخرج ما لا يقل عن عشرين طبيباً أوروبياً كان من بينهم الراهب الإنكليزي "سبيرومان" الذي اتخذه البابا "يوس" الثالث طبيباً خاصاً له.

     ولقد ظلت الأندلس تؤدي دورها الفعال هذا في نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا حتى بعد أن قُضِي على الحكم العربي فيها، وأُجهِز على المسلمين تقتيلاً وتجهيلاً وتنصيراً في عصر محاكم التفتيش الفظيعة.

     فلقد تفرق فطاحل العلماء من المسلمين الأندلسيين في مختلف الولايات الإسبانية، وفي فرنسا وإيطاليا وغيرها يحملون معهم علومهم وفنونهم التي لم يضنُّوا بها حتى على الكفار الذين أنزلوا بهم وبأهليهم سوء العذاب مما كان له أثره في ازدهار حركة البعث الأوروبي، ونشوء الحضارة الأوروبية الراهنة.

*****

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

     يمكن القول: إن "طليطلة" كانت أكبر مركز لترجمة الثقافة والعلوم والمعارف الإسلامية إلى لغات الثقافة الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وخاصة في أواخر القرن الثالث عشر حين ولي العرش الإسباني "ألفونسو العاشر" الذي لُقب بالعالِم أو الحكيم (1284م)، وقد أراد هذا الملك المستنير للغة القشتالية أن تصبح لغة عالمية، فأحلها محل اللغة اللاتينية، ونظم أعمال الترجمة، وعني فيها بوضع المراجعين والمحققين على رأس كل جماعة تنهض بهذا العمل.

     بل إن الترجمة اجتذبت إليها بعض العلماء الأوروبيين الآخرين مثل جيرار الكريوني، وهو من إيطاليا، وقد قصد طليطلة وعُني خاصة بالمؤلفات العلمية فترجم في الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وكان إلى جانبه "جند سالينوس" الذي عُني بالناحية الفلسفية، وبتلخيص بعض الكتب العربية في هذا المجال.

     وينبغي ألا يغيب عن البال أن الترجمة التي تمّت في طليطلة في القرن الثاني عشر، كانت تتم على مقربة من ابن رشد، وفي الوقت الذي كان يضع فيه شروحه ومؤلفاته في إشبيلية وقرطبة. يضاف إلى ذلك أن المدرسة التي أسست في طليطلة لتعليم العربية والعبرية تخرج منها ريمون مارثان الدومنكاني (القرن الميلادي الثالث عشر) الذي كان على اتصال بتوماس الأكويني.

     ولا ريب أن بقاء طليطلة على هذا الوضع طيلة ثلاثة قرون، أي حتى سقوط غرناطة وخروج المسلمين منها -وهي آخر معاقلهم في إسبانيا- كان له الأثر الحاسم في نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الإسبان أولاً، وإلى الأوروبيين من بعدهم ثانياً. ذلك أن الطلاب كانوا يفدون إلى طليطلة من سائر الأصقاع الأوروبية، وقد امتد هذا الأثر ووصل إلى أمريكا التي اكتشفها الإسبان عام (1492م).

     وينبغي على الدارس ألا ينسى ها هنا أن ثمة صلة وثيقة بين تلك الحركة الهائلة في الترجمة وبين المخططات الصليبية التي غيرت في طريقتها بعد فشل الحروب الصليبية في بلاد الشام، ومما يذكر في هذا المجال أن ريمون رول استطاع بعد تلك الحركة الهائلة في ترجمة المعارف الإسلامية إلى القشتالية واللاتينية بقليل عام (1316م) أن يقرر مبدأ تخصيص كرسيٍّ للغات الأجنبية في الجامعات الأوروبية، وقد كان هذا الرجل أول أوروبي نادى بعد فشل الحروب الصليبية بإرسال البعثات التبشيرية.

     لقد باتت قضيةً لا تحتاج إلى جدال أن تقرر أن الأندلس الإسلامية لعبت دوراً كبيراً في نقل المعارف والعلوم والفنون الإسلامية إلى أوروبا، مما كان له أثره البارز في نهضة أوروبا، وانتقالها إلى مطالع العصور الحديثة.

     لكن الأمر الذي قد يكون بحاجة إلى شيء من التوضيح هو أن التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية لم ينتهِ بسقوط آخر المعاقل الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل استمر بعد ذلك فترة ليست قصيرة لعلها تتجاوز القرن من الزمان. والسبب في ذلك يعود إلى الجماعات الكبيرة من المسلمين التي بقيت في البلاد تحت السلطة الإسبانية المسيحية، والتي مارست دوراً مبدعاً إيجابياً على الرغم من كل قوانين الاضطهاد، والملاحقة والبطش والتحريق التي اتخذتها الدولة كنيسةً وسلطة بحقهم.

     ويرى بعض الباحثين أن الشعب المسلم هو الذي كان يضطلع بالقسط الأكبر من النشاط الحيوي في إسبانيا من زراعة وصناعة وتجارة، مما دعا كثيراً من النبلاء والإقطاعيين النصارى إلى الاجتهاد في الحفاظ على مَنْ تحت أيديهم من المسلمين، وإلغاء القوانين المتوالية التي كانت تصدر لطردهم من إسبانيا أو تأجيلها على الأقل.

     ولقد كان هؤلاء المسلمون الذين عُرفوا بـ"الموريسكيين" أو المدجّنين، وهم الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصّر، شعباً مبدعاً نشيطاً استطاع بالرغم من قسوة الظروف المحيطة به أن يتابع مسيرته الحضارية المعطاءة، ويوالي دوره الإيجابي البنّاء، ويكفي لمعرفة شراسة الظروف المحيطة به؛ أن تعلم أن بعضهم يرى أنه لا توجد أمة من أمم الأرض ولا شعب من شعوبها امتُحِنَ بمثل ما امتُحِنَ به أولئك البائسون.

*****

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

لغة "الألخماديو" الإسلامية في الأندلس

     وقد تمثل الموريسيكيون أو المسلمون المدجَّنون، وهم المسلمون الذين ظلوا في الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصُّر؛ اللغة والثقافة الإسبانيتين اللتين فرضهما عليهم الحكم الإسباني المسيحي المتنصر. وقد كان هؤلاء إلى جانب تمثلهم الثقافي المشار إليه على ولاء عميق في سرائرهم لدينهم وتقاليدهم الإسلامية العريقة، وقد ساهموا في نقل كثير من ثمرات فكرهم وتراثهم إلى الفكر الإسباني أولاً، ثم إلى الفكر الأوربي ثانياً.

     وفي محاولة شاقة منهم تمليها عليهم ظروفهم الشاقة، لجؤوا إلى تكوين لغة سرية خاصة بهم هي لغة "الألخماديو"، وهي لغة كلماتها إسبانية وحروفها عربية مما جعلها فيما بعد تستحيل إلى لغز من الألغاز. وقد كان الكشف عن أدب هؤلاء الذي كُتِبَ بتلك اللغة من أهم أحداث الأدب الإسباني في القرن التاسع عشر.

     وقد وُجِدَتْ في هذا الأدب كما يقول بعض الباحثين: حلقة جديدة من حلقات الاتصال الوثيقة بين الفكر العربي من ناحية، والإسباني والأوربي من ناحية أخرى، ويزيد من أهمية هذا الأدب وخطورته أنه يمثل آخر حلقات هذا الاتصال في فترة بدأت الحضارة الأوربية فيها تأخذ سبيلها نحو الاكتمال والنضوج.

     ويفترض على ضوء بعض الملاحظات والاحتمالات والمحاكمات المنطقية أن التأثير الثقافي لهؤلاء الموريسيكيين في الثقافة الإسبانية كان بالغاً، ويبدو أن ولاءهم لدينهم وتراثهم وأصالتهم كان كبيراً جداً بالرغم من ضراوة الإسبان المنتصرين حكومةً وكنيسة، وقسوتهم الهائلة في معاملة أولئك المغلوبين. ولعل مما يدل على تأثير هؤلاء المغلوبين عسكرياً، الغالبين حضارياً وثقافياً، في الثقافة الإسبانية أن الكنيسة لم تصدقهم في تنصرهم الظاهر الذي فُرِضَ عليهم بالإكراه، واقتنعت في نهاية المطاف وبعد سلسلة من الإجراءات والقوانين أن هذا الشعب لا يُرجى أن يمنح النصرانية ولاءه بصدق، فسعَتْ حتى أصدرت الدولة قرارات طردهم النهائي في المدة (1605-1614م)، فخرجت منهم أعداد كبيرة إلى شمال أفريقيا، ووصلت مجموعات منهم إلى المشرق، فاستقرت في مصر والشام.

*****

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا

     حين يتأمل الدارس في دور الأندلس كمعبر من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؛ يمكن له أن يلاحظ أن تأثير هذا المعبر لم يكن خاضعاً باضطراد للموقف العسكري والسياسي الذي يكون عليه المسلمون، يقوى بقوته، ويضعف بضعفه. ولقد بات أمراً مفروغاً منه ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن الأندلس الإسلامية كان لها حتى في عصور ضعفها واضمحلالها نفوذ هائل على إسبانيا المسيحية، ولم يمنع تغير ميزان القوى لصالح الممالك النصرانية من استمرار هذه الممالك في إسبانيا والبرتغال في الاستفادة من ثقافة المسلمين الأندلسيين، والاضطلاع بِدَوْرِ حَمْلِ عناصرها، ونقلها إلى مختلف بلدان أوروبا.

     بل إن تغير ذلك الميزان لصالح القوى النصرانية؛ كان يتيح أحياناً الفرصة لتأثر أعظم وإفادة أكبر، ولهذا كانت مدينة طليطلة دون نزاع أكبر مركز انتقلت منه الثقافة الإسلامية و"العلم العربي" على حد تعبير العالم الإيطالي "ألدو ميلي" إلى الغرب، لأنها كانت أول مدينة أندلسية سقطت في أيدي "ألفونسو السادس" ملك قشتالة، عام 477هـ/ 1085م.

     ولم تفقد هذه المدينة صبغتها العربية الإسلامية في هذا السقوط مباشرة، بل تأخر ذلك فترة طويلة. وقد بدأت حركة الإحياء العلمية في بلاط "ألفونسو السادس" نفسه، واستمرت في عهد "ألفونسو السابع"، وكان بلاط هؤلاء الملوك مركزاً ثقافياً يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود. وكانت جهود هؤلاء العلماء منصبة على الترجمة من اللغة العربية.. لغة الثقافة والعلم والحضارة؛ إلى اللغة القشتالية أولاً، ثم إلى اللغة اللاتينية، قبل أن تصبح القشتالية لغة علمية تصلح لما تتسع له اللغة اللاتينية، التي لم تختفِ في طليطلة حتى قبل سقوطها في أيدي النصارى، وعلى الرغم من استعمال اللغة العربية "في الأعمال الرسمية أو على ألسنة العلماء" كما يقول "ألدو ميلي".

     يمكن للمرء أن يقرر بأن التأثير الحضاري للإسلام والمسلمين في البلاد الأوروبية قد استمر قرابة تسعة قرون، هي مدة الحكم الإسلامي للأندلس، مضافة إليه الفترة التي أعقبت سقوط هذا الحكم، والتي عاش فيها من بقي من المسلمين في الأندلس تحت الحكم الإسباني، وتحت وطأة العسف والتنصير الإجباري، والتي استمرت حتى أوائل القرن السابع عشر الميلادي حين صدرت أوامر نفيهم النهائية.

     وهذا التأثير -وإن خضع لقانون المد والجزر، واختلفت درجته تبعاً للظروف العسكرية والسياسية- ظل حياً طيلة تلك القرون، وبعضها -فحسب- كافٍ في إثبات ما ذهب إليه أو أجمع عليه الباحثون ومؤرخو الاجتماع المسلمون والغربيون على حد سواء؛ من أهمية ذلك التأثير وعمقه وقوته. وإذا كانت الأندلس أهم أقنية هذا التأثير ومعابره، فإن الذي يليها في الأهمية صقلية وبالرمو، وأخيراً يأتي دور الحروب الصليبية التي تشكل القناة الثالثة من أقنية التأثير من حيث أهميتها.

     وقد كتب العالم الإيطالي "ألدو ميلي" عن حركة النقل العلمي في شبه جزيرة الأندلس يقول: أما في شبه جزيرة الأندلس فقد كانت حركة نقل العلم العربي إلى العالم المسيحي أعمق تغلغلاً وأشد قوة، ودامت مدة أطول عهداً من كل مكان آخر، كما تحقق هناك التطور الذي كان لا بد أن يعتمد عليه تجديد العلم الأوروبي.

     ويقول عن دور صقلية: إذا كان سلطان المسلمين في صقلية قد اتسم بالتسامح إلى حد بعيد كما هي العادة، فإن سلطان الملوك النورمانديين -وهم الذين حكموا صقلية بعد خروجها من أيدي المسلمين- لم يكن أقل من ذلك على عكس ما جرت به عادة المسيحيين. ولقد كان هؤلاء الملوك، الذين احتفظ قسم كبير من الأهلين في ظلهم بعقيدة الإسلام، حُماةً عظاماً للعلوم؛ ولا سيما روجر الثاني. ثم يقول: وقد استمرت هذه الحالة المواتية إلى أقصى حد لنمو حضارة لامعة تحت حكم الملك العظيم والإمبراطور فردريك الثاني.

     ويوازن كثير من الباحثين بين أهمية تلك الأقنية الثلاثة: الأندلس، وصقلية وبالرمو، والحروب الصليبية، ولعل الصواب أن يقال: إن الحروب الصليبية كانت مجرد حافز ومنبِّه، أما الأثر الأقوى فكان للأندلس أولاً، ولصقلية وبالرمو ثانياً.

***

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

المسلم والمسجد الجامع في قرطبة

     إذا كان بين المسلم وبين المساجد العظيمة نسب في الإيمان والحنان، وألفة روحية تجمعهما إلى بعضهما فإن المسجد الجامع بقرطبة من أهم المساجد في العالم بعد الحرمين الشريفين والأقصى المبارك التي لها في القلب مكانة خاصة وحب عميق.

     إن المسجد الجامع في قرطبة من أكرم المساجد على قلب المسلم، وأقربها إلى وجدانه، وأحبها إليه، وبينهما تاريخ مشترك، ومودة قوية ضاربة في الأعماق، وصفات لا يخطئ المرء أن يراها عند كل منهما على السواء.

     أنت أيها المسجد الخالد مثال حي لفاعلية المسلم وحيويته وإيمانه ونشاطه وتفوقه وسبقه وجده ودأبه، فقد قطع إلى قرطبة المفاوز والجبال، والسهول والبحار؛ فاتحاً غالباً منصوراً حتى شارك هناك منارة للإيمان، ومثابة للنور والعرفان، وتحفة للفن والذوق الرفيع.

     إن هذا المسلم الذي رفع منك العماد، وبناك بالعز والغلبة والظهور خالد بخلود رسالة الإسلام المحفوظة، وأمته التي قامت على أمر الله تعالى هادية مهدية، داعية للخير، محذرة من الشر، أمة تستعصي بإذن ربها على الفناء، فهي حارسة لشعلة الإيمان، ساهرة على حماية مواكب الحق، مبلغة في أذانها العظيم تلك الحقائق والأسس الإيمانية الكبرى التي جاء بها النبيون الكرام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام.

     وقد قضى الله تعالى بخلودها وبقائها فأنى لها الزوال!؟ وكيف تنقرض هذه الأمة التي حملت هذه الأمانة وتكلفت بتبليغ هذه الرسالة!؟ نعم؛ إن هذه الأمة قد تخرج عن جادة الصواب، وقد تفشو فيها دعوات جاهلية تحاول أن تمسخ شخصيتها وهويتها، وقد تهزم مرة ومرات لكنها لا بد أن تعود في نهاية المطاف إلى رشدها، وتتمسك بإيمانها، فتعود إلى دورها الريادي لتحمل الأمانة من جديد، وتبلغ الرسالة مرة أخرى.

     أیها المسجد العظيم!.. إن المسلم الذي بناك في تلك البقعة النائية عن ديار الإسلام الأولى ومهده ومطلعه قد انتدب نفسه لحمل رسالة الحق، والعمل بدأب وإصرار لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ليل الجاهلية إلى فجر الإسلام، وأنت إذ تقوم في قلب إسبانيا النائية عن جزيرة العرب إنما تمثل المسلم الذي لا تعرف أرضه الحدود، ولا يعترف بالفوارق الوطنية والحدود الجغرافية الضيقة، ولا يُقِر أفُقُه الواسع تقسيم الناس حسب الأصقاع والثغور واللغات والألوان.

     لقد وسعَتْ عاطفته المؤمنة، ورسالته المسلمة، ودولته الممتدة، وعزيمته الغالبة الشماء؛ الشرقَ والغرب، فليس الفرات ودجلة في الشام والعراق، والدانوب في أوروبا، والنيل في مصر، والتاج في طليطلة، والوادي الكبير في قرطبة؛ إلا موجة صغيرة في بحره الواسع ومحيطه الأعظم، وسعّتْ كذلك كل الأمم والأجناس والعادات والتقاليد والألوان واللغات والأزياء والموروثات الطيبة وصهرتها في بوتقة الإيمان العظيم، لتخرج من ذلك أنبل دولة شرفت بها الإنسانية وعظمت، وأكرم مجتمع عرفه تاريخ البشر، وأصدق حضارة طلعت عليها الشمس، وخير أمة أخرجت للناس.

     أیها المسجد العظيم!.. إن الغيب سر من أسرار الخالق جل شأنه، فلا يدري أحد متى تعود إلى أهلك وذويك!؟ لكننا الآن في عصر يقظة إسلامية هادية طيبة مباركة، وعسى أن يكون من بركات هذه اليقظة أن تعود مجدداً للإسلام، فيصدح فيك الأذان، ويرتل القرآن، وتقام الجُمع والجماعات الحسان.

*****

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

عبقرية البناء في مسجد قرطبة

     ومسجد قرطبة هو المسجد الوحيد في أرض الإسلام الذي اعتمد على فكرة العقود المزدوجة، التي لا تجد واحداً من بينها يزيد قطره على خمسة وعشرين سنتيمتراً، وتنهي الأعمدة بعقود، وعلى رأس العمود قاعدة جديدة أقام عليها المعماري الفنان عموداً آخر، وتتشابك الأعمدة بعقود هي غاية في الدقة والرشاقة والذوق.

     فإذا نظر المرء إلى ذلك رأى نفسه في حديقة من حدائق الإيمان، كأن الأعمدة أشجار، والعقود فروع أثقلتها الثمار، أو كأنها نافورات تجمد ماؤها. وتمتد هذه الحديقة وتتسع، ويخيَّل إليك أنها تخطت البحار والجبال والصحارى حتى اتصلت بمساجد الشرق، في مصر والشام والجزيرة العربية.

     والمحراب آية رائعة من آيات الفن، وهو عبارة عن حجرة صغيرة، أو مسجد صغير سقفه من قطعة واحدة من الحجر على هيئة صدفة، وفوق بلاطة المحراب والبلاطتين المحيطتين بهما عن يمين وشمال ثلاث قباب صغيرة هي الذروة روعة وجمالاً ودقة فن.

     واستخدام الضوء كان بنسب تتوازن مع ما يدخل من الأبواب.. وهناك تحت القباب كانت قراءة القرآن، نور القلب تحت نور السماء، ونور السماء يتدفق على الأيدي المتوضئة.. نور القلوب ونور الشمس، نور البصيرة ونور البصائر.. نور الإيمان الرباني، ونور المؤمنين الربانيين، نور على نور.

     وفي الجزء الشمالي من المسجد صحن مكشوف تغطيه أشجار البرتقال، فإذا أسعدتك المنى فزرت المسجد، وكنتَ ناظراً إلى الخارج رأيت التداخل بين الأعمدة الرشيقة وبين أشجار الحديقة. وثمة اتجاه لدى بعض الإسبان -مسؤولين وغير مسؤولين- يرمي إلى نقل الكاتدرائية التي أقحمت على المسجد إقحاماً يؤذي العين، وينبو على الذوق، ويفسد سيمفونية الجمال المتكاملة في المعمار العام للمسجد، إلى مكان آخر مجاور، وإعادة المسجد إلى صورته التي كان عليها من قبل، وقد لقي هذا الاتجاه قبولاً طيباً، فالمسجد في كماله واكتماله عمل عبقري ندر أن يجود بمثله الزمان، حتى إنه بوسعك أن تقول: إن الذين يفدون إلى قرطبة إنما يفدون أساساً لزيارة المسجد، بل إن بوسعك أن تقول: إن قرطبة نفسها هي ضاحية للمسجد.

*****

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

مسجد قرطبة العظيم درة العمارة الإسلامية

     مسجد قرطبة العظيم، درة في جبين العمارة الإسلامية، وضع عبد الرحمن الداخل "صقر قريش" القائد العبقري، أول حجر فيه عام 780م، أما آخِر حجر وضع فيه فكان على رأس الألف الأولى الميلادية. قرنان وربع القرن من عمر الزمان، والعمل جارٍ في استكمال عمل فني ممتاز، تشعر حين تراه كأن المعماريين الذي أسهموا فيه عبر هذا الزمن الطويل، كانوا فريقاً واحداً يقوده عقل واحد.

     والراجح أن المسجد بُني على أرض عذراء، بدأ قسمه الأول في عهد عبد الرحمن الداخل، وجاءت توسعته الثانية في عهد عبد الرحمن الأوسط، أما الثالثة فقد جاءت في عهد عبد الرحمن الثالث وولده الحَكم الثاني، وهذه التوسعة الثالثة هي قمة عالية من قمم الفن الإسلامي وصل بها المحراب إلى ضفة الوادي الكبير وهو نهر قرطبة، وكأن مُلك بني أمية والمسجد كانا على موعد، فبعد هذه التوسعة بدأ الضعف في الدولة، وفي توسعة المسجد معاً.

     وجاءت التوسعة الأخيرة على يد الحاجب المنصور بن أبي عامر، ولم يكن أمامه إلا التوسع شرقاً على طول المسجد... الذي ظل عامراً بالصلاة والقضاء، وتدارس العلم والأدب، ومنارة للمعرفة والهداية، ومثابة للإيمان والتقوى، حتى اليوم الحزين، يوم سقوط قرطبة عام (1236م) حين خرج الإسلام والمسلمون من قرطبة، وتركوا المسجد يلقى صروف الزمان، وحيداً بلا حرسٍ ولا أعوان، صامتاً بلا قرآنٍ يُتلى، ولا أذانٍ يُرفع، سجيناً لا يُسمح له حتى بأن يُزار.

     وتطورت الأمور إلى الأسوأ، فحُوِّلَ جزء من المسجد تبلغ مساحته نحو 15% من مساحة المسجد الإجمالية إلى كاتدرائية، وحُوِّلَتْ مئذنة المسجد إلى برج للناقوس، ومن أجل إتمام ذلك أزيل ثمانون عموداً وقوساً وما فوقها من سقف، وأغلِقت أبواب كانت مفتوحة تدخل قدراً من الضوء أراده المهندس الفنان الذي صمم المسجد.

     ولم يكن التداخل المعماري محل رضا حتى الذين أمروا به، وجاء غير متناسب مع الوحدة الهندسية للبناء والحلول المعمارية التي ابتكرها العقل الذي ظل مسيطراً على البناء أكثر من قرنين حتى أتمه بهذه الصورة العبقرية التي لم تتكرر، لذلك لا غرابة أن تسمع أصواتاً من بعض الإسبان أنفسهم، تظهر بين الحين والآخر داعيةً إلى إزالة الكاتدرائية وإعادة المسجد إلى حالته الأولى.

     كانت لفتة مشكورة من المسؤولين في قرطبة أن جعلوا من برنامج المؤتمر الإسلامي المسيحي العالمي الأول (10–15 أيلول 1974م) أداء صلاة الجمعة في جامع قرطبة الكبير. ووقف المسؤولون الإسبان ظهر يوم الجمعة (26 شعبان 1394هـ/ 13 أيلول 1974م)، ليستقبلوا الوفود المسلمة؛ وهي تدخل إلى المسجد لتؤدي فيه صلاة الجمعة.

     في ضحى اليوم المذكور هبطت في مطار قرطبة طائرة قادمة من مدريد تحمل سفراء البلدان الإسلامية في إسبانيا، وهبطت طائرات قادمة من أقطار المغرب العربي تحمل صفوة من علماء تلك البلدان، والتقى الجميع في المسجد في المناسبة التاريخية تنتظمهم صفوف الصلاة، وينظر إليهم الناس في دهشة، فقد جاؤوا ليشهدوا هذا المشهد الغريب، وتوافدوا ليُشبعوا فضولهم حوله، ذلك أن أمر الصلاة كان قد ذاع.

     وتمر العين بصفوف المصلين الذين لم يشهد مثلهم المسجد الحزين الأسير منذ قرون طوال عباءات من المشرق، وبرانس من المغرب، رؤوس حاسرة، وعمائم ولحى بيضاء فيها جلال المشيب؛ كهول مكتحلون، وشباب في زهرة العمر، وكان صوت أحد القراء يرتفع بالقرآن الكريم، والساجدون الراكعون عن اليمين وعن الشمال.

     كنت ترى الدموع، وتسمع النشيج، تطلقه روعة الذكرى، وجلال الموقف، ومرارة الخسارة التي حلت بالمسلمين بخسارتهم للأندلس، وانطوى كل ضيف من المصلّين في ذلك اليوم المشهود على نفسه غارقاً في الذكرى الحزينة، والواقع الحاضر، والمستقبل المرجو؛ ترى أيعود المسجد لأهله وذويه ذات يوم!؟

     وتمتد الأعين الدامعة إلى الآيات الصامتة المنقوشة على جدران المسجد والمحراب والتي ظلت عصيّةً على البلى والفناء لتقرأ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].

     لقد ظلَّت هذه الآيات صامتة على الجدران ثمانية قرون حتى صافحتها عيون المصلّين وأرواحهم في أول صلاة جمعة منذ أن خسر المسلمون المسجد وقرطبة والأندلس كلها. وارتفع صوت الأذان: "الله أكبر... الله أكبر"، وازداد معه الحزن والبكاء، وتذكر الحشد الأذان الأول، أذان بلال في المدينة المنورة، وكيف حملته القلوب والأيدي والألسنة المؤمنة عبر الصحاري والجبال والبحار، حتى شرَّقَ وغرَّب، ووصل من بين ما وصل إليه جامع قرطبة العظيم، وظل يتردد فيه قروناً حتى توقف يوم الأسر الحزين.

*****

الأكثر مشاهدة