الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته
أول صلاة جمعة في جامع قرطبة بعد قرون
وماذا قال إقبال؟!
قد يبدو أمراً عادياً جداً، لا يستحق كثيراً من التوقف والاهتمام؛ أن يقيم المسلمون صلاة الجمعة في مسجد أو جامع من جوامعهم، فما أكثر المساجد والجوامع في العالم الإسلامي!.. وفي غير العالم الإسلامي، وما أكثر الخطب التي تُلقى فيها يوم الجمعة!. لكنَّ الصلاة في جامع قرطبة شيء آخر، شيء له من الأهمية لا ينبغي أن تتوقف عنده القرائح والأقلام.
فقصة جامع قرطبة قصة حزينة مأساوية، لا تزال جرحاً غائراً في وجدان كل مسلم، يسبب له الشجى والأحزان كلما تذكر الأندلس وسقوطها المحزن المأساوي.
لقد ظل هذا الجامع العظيم مدة تقرب من خمسة قرون منارة هادية كريمة، منارة للإيمان والقرآن، ومنارة للعلوم والمعارف بجميع أصنافها، كان جامعاً وجامعة، كان مَعْبراً من معابر الحضارة الإسلامية إلى أوربا التي كانت غارقة في الجهل والتخلف والانحطاط.
وظل هذا الجامع العظيم يؤدي دوره التاريخي الضخم، حتى دار الزمان، وقصّر المسلمون الأندلسيون في حق إسلامهم وحق أنفسهم، وبدأت موجتهم تنحسر، وموجة الإسبان تتقدم، فإذا بقرطبة تخرج من يد المسلمين، وتسقط في يد الإسبان، وإذا بجامع قرطبة العظيم يقع أسيراً في يد النصرانية التي حولته إلى كاتدرائية، ومنذ ذلك الحين، أقفر الجامع العظيم من الأذان والصلاة والجمعة، وظل على هذا الحال حتى يومنا الحاضر مدة تزيد على سبعة قرون من الزمان.
إذن؛ هو أمرٌ هام، وغير عادي أن تسمح الحكومة الإسبانية منذ شهور قلائل للمسلمين أن يؤدوا واحدة من الجمع فيه. ومع تباشير الصباح البهيج الذي كانت فيه تلك الجمعة، هبَّ العديد من الذين جاؤوا من جهات مختلفة تخفق قلوبهم المؤمنة لهذا اللقاء الإسلامي الكبير، نحو جامع قرطبة العظيم، ليؤدوا صلاة الجمعة فيه، واصلين الحاضر بالماضي، معلنين استمرار الإسلام وامتداده، متجمعين في صحن المسجد يتعانقون ويتصافحون، والبِشْرُ على وجوههم المتوضئة المؤمنة، والفرحة تتغلغل في أعماقهم، وحركاتُهم تطفح بالسعادة والإيمان والبهجة. وسكان قرطبة الإسبان، واقفون مشدوهين متعجبين أمام هذا المشهد الذي لم يروه في حياتهم قبل اليوم.
وحان وقت الصلاة، ورجَّعت جدران الجامع العظيم الأسير، صوت المقرئ يتلو آيات من كتاب الله عز وجل، لم يسمعها الجامع الحزين منذ قرون طويلة من الزمان حتى كاد ينساها، ولم تَعِ ذاكرته مثل هذا الموقف منذ يوم الأسر المرير، الانفعال بادٍ على الوجوه التي ظهر عليها التأثر. كل الوجوه تغيرت ملامحها، وبدا أن أصحابها يغالبون عواطف حارة غريبة في أعماقهم. وجوه المسلمين المصلين الذين كادوا يبكون، ووجوه النصارى الذين وقفوا في تأمل غريب ينظرون، والتكبير يرتفع هنا وهناك، والقرآن يُتلى، والأرض تعانق جباه الساجدين الذين غابوا عنها منذ دهر طويل، والعيون تذرف الدموع، والقلم يعجز عن وصف المشهد المؤثر.
وينهض الخطيب فضيلة الدكتور الشيخ عبد العزيز الخياط، ويعلو الأذان، ويتردد التكبير ليخترق القلوب والجدران: الله أكبر، الله أكبر!.. ويقف الشيخ لإلقاء خطبة الجمعة.
حمداً لك اللهم وشكراً، إننا نقف اليوم لنعبدك في هذا المكان العظيم بعد قرون ثمانية تقريباً، نقف في هذه الذكرى لنرجع بأرواحنا مئات السنين، إلى اليوم الذي كان الإيمان فيه يجلجل بصوته العالي، ويدوي بقوة وشموخ في قرطبة وفي الأندلس كلها لا يخشى سطوة باغٍ، ولا عدوان ظالم، ولا غرور طاغيةٍ غشوم، وتلقى الخطبة عن الحضارة الإسلامية، وتسامحها وإخائها، وتقام الصلاة، ويصطف المؤمنون في إنابة وخشوع، وتُصلى الجمعة بعد قرونٍ وقرون من تعطيلها في الجامع الحزين العظيم. ألا إنه يومٌ من أيام الله عز وجل!..
وبعد؛ هنيئاً لك أيها الجامع العظيم!.. وعسى أن يكون صحيحاً ما يتردد من أن حكومة إسبانيا عازمة على ردّك للمسلمين، ومع هذه التهنئة إليك ما قاله فيك شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال:
"يا مثابة هواة الفن، يا مقصد رواد الجمال، يا مجد الدين الإسلامي، لقد سمت بك أرض الأندلس، وتقدست في أعين المسلمين.
إنك فريد في الفن والجمال، ولا يوجد لك نظير تحت السماء إلا في قلب المؤمن.
أين لنا أولئك الرجال!؟ هؤلاء الفرسان العرب، أصحاب الخلق العظيم، وأصحاب الصدق واليقين الذين برهنتْ حكومتهم أنها حكومة أهل القلوب خدمة وزهادة، وليس حكماً ولا تسلطاً.
هؤلاء العرب المسلمون الذين كانوا مربّي الشرق والغرب، وكانوا أصحاب عقول حصيفة، وبصيرة نافذة، يوم كانت أوروبا تتسكع في الجهل المطبق، والظلام الحالك، والذين لا تزال في الشعب الإسباني، بفضل دمهم العربي، خفة روح، وحفاوة وبساطة، وجمال شرقي، فتكثر فيهم عيون المها، ولا تزال عيونهم ترشق بالنبال، ولا تزال الريح في الوادي تحمل نفحات اليمن ورنات الحجاز.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق