الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته
مشاعر جامع قرطبة نحو المسلمين
وماذا قال إقبال؟
كانت لفتةً مشكورة أنْ سمح المسؤولون الإسبان في قرطبة لأعضاء الوفد الإسلامي لأحد المؤتمرات هناك بأداء صلاة الجمعة في مسجد قرطبة الجامع، ذي الشهرة الواسعة في الإيمان والعلوم، وفي البناء الرائع الشامخ، فقامت الجمعة في ذلك الجامع العظيم للمرة الأولى بعد انقطاع متصل استمر حوالي قرون ثمانية.
وشهدت جدرانه ومنائره، وأرضه وجنباته، وأَفْنِيته وأبهاؤه، القرآن الكريم يُتلى، والأذان يعلو، والخطبة تجهر، والمصلون يركعون ويسجدون، وهو مشهدٌ لم يُعرف قط منذ أن سقطت قرطبة في يد الإسبان، وحُوِّلَ مسجدها الجامع إلى كاتدرائية.
ترى كيف استقبلتَ ذلك كله أيها الجامع العظيم؟ لكأن جنباتك جميعاً في غاية الفرح والسرور، لكأن منائرك العالية الضاربة في الفضاء قد امتلكها فخارٌ جديد، واعتزازٌ باذخ، لكأن أرضك الحزينة التي طال عهدها بالساجدين الراكعين كادت تبكي من الفرحة التي ملكت عليها كل شيء، لكأن المنبر الحزين الأسير، فرح مستبشر بهذه المناسبة الفذة النادرة، يضوع عطراً وهناءً وسعادة، ويحنو على الخطيب، يُسِرُّ في أذنيه: أنْ مرحباً بك أيها الغالي الذي طال غيابه!.. وعسى ألا تكون خطبتك هذه آخر العهد، وعسى أن تسعى وإخوتُك المسلمون جميعاً لإنقاذي من الغربة الموحشة، وفكاكي من الأسر الذي طال، لأعود إليكم، وتعودوا إليَّ، فيتصل ما انقطع من حبال المودة، ويخضرّ ما صوّح من قديم الوصل، وتتوالى الجُمَعُ والجماعات الحسان، وتزدحم الصفوف المؤمنة، وتعلو الأصوات بالقرآن، ويرتفع عالياً مستمراً صوت بلال بالأذان.
يا أندلس الإيمان والإسلام!.. يا أرض العطر والألق والجمال!.. يا موئل الأبطال الكرام والرجال الشجعان!.. أما اشتاقت أجواؤك إلى الأذان من جديد!؟ أما حننت إلى المسلمين النجب الذين عبروا إليك مضيق طارق، وجعلوا بلادك الخضراء الجميلة أرضاً للإسلام، تعلو فيها كلمته، وترفرف رايته!؟ وشادوا فيك حضارة زاهرة رائعة شهد بها كثير من المنصفين من غير المسلمين، شهدوا بعظمتها وأصالتها، وسموّها وإنسانيتها، والدور الخالد الذي أدّته في تاريخ البشرية حين أسهمتْ في نقل أوربا من أوحال الجهل والتخلّف والانحطاط إلى مطالع منظمة متعلمة متمدنة، إذا كان أبناؤها يفدون لتلقي العلوم والمعارف في المعاهد والجامعات الأندلسية المسلمة وفي طليعتها جامع قرطبة العظيم؟
يا جامع قرطبة العظيم!.. إن يكنْ فيك شوق وقلق، وحرقة وأمل، ورغبة في غدٍ مشرق، فاعلمْ أن في الأمة المسلمة اليوم مثلَ الذي فيك. إن روح الأمة المسلمة مضطربة قلقة، جياشة موّارة، تطلب انتفاضة جديدة، يتخلص فيه المسلمون من سلبياتهم، ويعودوا حقاً إلى إسلامهم، ويكونوا القوة الجديدة التي تحمي الحضارة البشرية من الدمار، إذ يتولون قيادتها صَوْبَ كلِّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وفضيلةٌ ونفع، ورشدٌ وهدى، بدلاً من قيادتها الحالية التي تسوقها نحو الشقاء، ولكنْ متى هذه الانتفاضة؟ إنها سر من أسرار الله تعالى لا ندري متى يكون، وإنْ كنا بحدوثها موقنين أشد اليقين، وها هي ذي بشائرها تطالعنا بين الحين والحين، والزمن دوّار، والعالم يتمخض بحوادث جسام:
والليالي من الزمانِ حُبالى مثقـــلاتٌ يَلِدْنَ كلَّ عجيبِ
وأنت يا شاطئ الوادي الكبير!.. يا نهر قرطبة الجميل!.. لعلك مشوق إلى من يتوضّأ من مائك ليصلي في الجامع الكبير، كما صلى أهالي قرطبة فيه حوالي خمسة قرون بعد أن عادوا من مياهك متوضئين.
مَنْ يدري!؟ لعل أملك يتحقق من جديد، وإليك هذه البشرى التي يزفها إليك الشاعر العبقري محمد إقبال إذ يقول:
"أيها النهر العزيز، إنَّ على شاطئك رجلاً يرى حلماً لذيذاً، يرى في مرآة المستقبل عصراً لا يزال في طيات الغيب، يرى عصراً قد بدت تباشيره، وظهرت طلائعه لعينه، ولكنها لا تزال محجوبة عن أعين الناس، ولو كشفتُ الغطاء عن وجه هذا العالم الجديد، وبحتُ بما في صدري من أفكار وأسرار لشقَّ ذلك على أوربا وفقدت رشدها وجنّ جنونها".
أتدري ما الحلم الذي يتحدث عنه إقبال!؟ إنه الغد المأمول أن تنتزع فيه الأمة المسلمة قيادة الحضارة من أوروبا المفلسة الضالة.
وبعد، فإن تكن الأندلس، وجامع قرطبة العظيم من أهم معالمها، قد أسدت إلى أوربا أيادي بيضاء في العلوم والمدنية كانت في أشد الحاجة إليها، فلعل في صلاة المسلمين اليوم في جامع قرطبة بشائر عصر جديد، يسدي فيه المسلمون إلى أوربا وإلى البشرية كلها أيادي بيضاء من جديد، هي في أشد الحاجة إليها، وذلك إذ يحملون لها الهداية والنور والحق، وكلمة الإيمان، ورسالة القرآن، وينقذونها بذلك مما تعاني من صنوف الشقاء والأحزان والفراغ والتفاهة، والتيه والضياع، والضلال والجهالات، والظمأ الروحي الفاتك.
أيها المسجد العظيم!.. إن للمسلم الذي شادك واحة للإيمان، ومنارة للمعارف، ومثابة للعلوم، وجامعة كريمة تجمع خيري الدنيا والآخرة على السواء، عصوراً عظيمة في التاريخ لا ينقضي منها العجب، وحكاياتٍ في البطولة والشجاعة، ومواقفَ في النبل والإيثار والعطاء، لا تزال حتى الساعة، موضع الدهشة والاستغراب، فهو الذي قضى على العصر العتيق البالي، عصر الجاهلية، وأنهى ليله المتطاول، وهو الذي افتتح العصر الجديد.. عصر الإسلام الذي جاء لإسعاد الناس في دينهم ودنياهم، هذا المسلم إمامُ أهل الصدق والوفاء، والعاطفة الحية النبيلة، وهو فارس ميدان الإيمان والحنان، لسانه لبنٌ وعسل، وسيفه علقمٌ وحنظل، يعيش في ميدان الحرب، وتحت ظلال السيوف، متذرعاً بالتوحيد، فكلما اشتد عليه خطب، وكلما عضته حرب، وكلما حَزَبَه أمر التجأ إلى الله تعالى يعتصمُ به ويعتمدُ عليه.
أيها المسجد العظيم!.. إنك حين مثلت المؤمن خير تمثيل، كشفت سره للناس، صورت تلك الحركة التي يقضي فيها نهاره، والرقة التي يُمضي فيها ليله، صورت للعالم مقامه الرفيع، وتفكيره السامي، ومسراته وأشواقه، وتواضعه وإباءه، وشدته.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق