‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديوان من يطفئ الشمس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديوان من يطفئ الشمس. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 2 يونيو 2021

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟ - أ.شمس الدين درمش

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟

للشاعر د.حيدر الغدير

أ. شمس الدين درمش
نشرت في موقع الألوكة
الرياض - الأربعاء - 29/ 4/ 1428هـ - 16/ 5/ 2007م


     الغدير ما يغادره السيل من الماء فتنمو حوله الحياة.. تجتمع إليه الطيور، وتنبت فيه وحوله الأشجار والزهور.

     وهذا الديوان كذلك الغدير من الماء في شفافيَّته وروحه الباعثة للحياة، وقد نبت فيه من كل لون، ولكن اللون الأخضر هو الغالب فيه؛ لأنه موجود مع كلِّ لون مما نبت فيه وحوله، واللون الأخضرُ في هذا الديوان هو الحكمة.

     فالحكمة الشعرية هي العنصرُ المبثوث في كلِّ الديوان كما ينبثُّ اللون الأخضر في البستان. ولا عجب! فالديوان جاء بعد أن تجاوز الشاعر المراحلَ المتقلبة في حياته، واليوم هو في طريقه إلى السبعين، عركته تجارب الحياة، فخَبَرَها وخَبَرَته، وكشف أسرارها وكشفته حتى ظهر لنا من أمرهما العجب!

     وإذا كانت قصائد الرثاء العديدةُ في الديوان بدوائرها المختلفة المكانَ الطبيعي لشعر الحكمة من حديث عن الموت والحياة، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود - فإن قصائد عديدة فيه كانت وقفات حقيقية للتأمُّل في الحياة وما فيها، عبَّر الشاعر من خلالها عن رؤيته الثاقبة لما وراء الظواهر الخادعة كالسراب الذي يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه، إن الله سريع الحساب.

     فما المحطَّاتُ التي وقف الشاعر فيها للتأمُّل في الحياة بحكمة حتى لينطبق على شعره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة"؟

الموت.. الصديق:

     جرت العادة أن يجزعَ الإنسان من الموت، ويهربَ منه، ويدعوَ لعدوِّه به، ولصديقه بضده، وليس الشاعر بِدْعاً في هذا، ولكن معايشة الشاعر لهذه القضية الكبرى في الحياة، وإمعانَ التأمل كشف له سراً جعله يسلك مذهباً جديداً فيه، فلنسمع القصة:

أخافَني الموتُ دَهراً ثمَّ صـــــافاني
               وقالَ لي: لستُ بالعادِي ولا الجاني

     ويعرض علينا الشاعر دفاعَ الموت عن نفسه فيما يظنه الناس، وبراءته من التهم الموجَّهة إليه، فيقول على لسانه:

لا أنقصُ المرءَ يوماً قطُّ من أجَلٍ
               ولا أَجـــــورُ على إنسٍ ولا جانِ
أنــــــــــا الوَفيُّ لأمرِ اللهِ أُنفِـــذُهُ
               كما يَشاءُ وإنَّ العَــــــدلَ مِيزاني
ولستُ أَظلمُ إنســــــانـاً لمَســكَنَةٍ
               ولا أُداري ذَوي مالٍ وسُـلطـــانِ
بل أَحرِسُ العُمرَ للإنسانِ يَقطَعُه
               والحَبــلُ أُرخِيهِ للقاصي وللدَّاني
حتَّى إذا جـــــاءَ أمرُ اللهِ قُمتُ بهِ
               أَذاكَ ظُلمي لَهُ أم ذاكَ إِحساني؟!

     وأمام بيان الدفاع في إثبات البراءة من الجناية يقدِّم لنا الشاعر الموتَ بريئاً مما وُجِّه إليه من التهم فهو عادل مطيع لأمر الله، حافظ للإنسان أن يَنتقص من أجَله، ولذلك ينتزع منا الإجابةَ على تساؤله لنعترفَ بأن ذلك منه إحسان للإنسان، وليس ظلماً!

     ويذهب الشاعر أبعدَ من ذلك، فيضع الموت في دعواه تحت المراقبة السلوكية حتى يتيقَّن صدقَ دعواه، واستقامة مسلكه، فيقول:

سمعتُ ما قالَ واستَرسَلتُ أَرقُبُــــه
               فكانَ حقّاً أخـــــــا صِدقٍ وإيمـــانِ
وكان أَرحَـــمَ مِن بــــــاغٍ وطاغِيةٍ
               يَستأصِلُ الناسَ وهو الباسمُ الهاني
فمــاتَ خَوفيَ منهُ وهو بــــــادَلَني
               حُبّـــاً بُحِبٍّ وناجاني وآخــــــــاني
رأيتُ منهُ وَفـــــاءً رغمَ سَطـــوَتِهِ
               لم أَلقَــهُ في كَثـــــيرٍ بينَ إخــواني
وَضَعــــتُ في كَفِّهِ كَفِّي فعــاهَدَني
               على الإخاءِ ولا تَعجَب وأَرضاني

     إذن، اجتاز الموتُ اختبار البراءة المسلكية، وبدأ عهدٌ جديدٌ في العلاقة بينه وبين الشاعر، حلَّت فيه الطمأنينة محلَّ الخوف، والثقة محلَّ الشك، مما أثار استغرابَ الآخَرين الذين يجهلون ما أدركه الشاعرُ الحكيم، فقال:

رأى صَداقَتَنا قــــــالٍ، فســــاءلَنا:
               هل أنتُما - هكذا يَبدو - صَديقانِ؟!
فقـلتُ: بل نحنُ في أَعلى مَكارِمِها
               ونحــــــــنُ في ذُروَةٍ منها نَديـمانِ

     وتبدأ صفحةٌ جديدةٌ مع الموت:

أتانيَ الموتُ في رِفـــقٍ وفي حَدَب
               يَقتادُني عن شَقــــاءِ العالَمِ الفـــاني
فَزالَ عنِّي غِطائي وانجَلى بَصَري
               يَرنـــو وبي لَهفَةٌ للعـــــالَمِ الثــاني
وطارَ بي أَمَلٌ جَــــذلانُ يَغــمُرُني
               أنَّ الـكَـــــريمَ تَوَلَّاني وأَدنــــــاني

     قد علمنا من قبلُ صداقةَ الشاعر الفرزدق للذئب، وها هنا نرى صداقة شاعر للموت!

الإنسان والمال:

     المال محبوبُ الإنسان، قال تعالى: {وتَأكُلونَ التُّراثَ أكلاً لَمًّا. وتُحبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً}، وفتنته قد تهلكه في الحياة! والشاعر يُدرك هذه الحقائق، ويُدرك الطريقة المثلى في التعامل مع هذا العدو المحبوب!! فالغنى في إنفاق المال، وليس في كَنزه، والعز في بذله، وليس في البخل به.

     ولا شك في أن معانيه مستقاةٌ من توجيهات القرآن الكريم، والحديث الشريف فيما ذهب إليه من أن الذين يكنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله لهم عذاب أليم، وأن مالَ الإنسان ما تصدَّق فأبقى، وأن ما يكنزه هو لوارثه يبدِّده من بعده ويحاسب هو عليه!

     ويقدِّم لنا الشاعر الغدير هذه المعاني بحكمته الشعرية، فيقول:

كلُّ مالٍ جَمعتَه في اصطِبارٍ ... مرَّةً وافِـــراً وأُخرى قَلِيــلا
سوفَ يَغــدو لِوارثِيكَ قريباً ... كي يُبيـــدوهُ بُكرةً وأَصِيـلا
فَهُــــمُ النـــاعِمونَ فيهِ ومنهُ ... وعَليكَ الحِســابُ مُرّاً ثَقِيلا

     ويُدرك الشاعر أن المالَ صعب المراس قويُّ الشكيمة، لا يَستسلم ولا يَلين لمالكه بسهولة، لذلك يتوجَّه إليه بالخِطاب، ويُعطيه درساً لا يَترك له فيه من مَطمع، فيقول:

أنتَ عَبدي إذا بَذَلتُكَ دَوماً ... فإذا ما بَخِـلتُ كنتُ الذَّليلا

     ويختم الشاعر قصيدته ببيت مفرد يتضمَّن خُلاصة حِكمته في المال فيقول:

يُدركُ المرءُ حينَ يَسخو المعالي
               ويَنــــالُ البَخيلُ مَرعًى وَبِيـــــلا

     ومع اليقين أن هذه الرؤيةَ الحكيمة في المال أصيلةٌ لدى الشاعر؛ لأن غديرَه من سيل نهر الشريعة الغرَّاء، نجده يلتقي بنصوص معلومةٍ لدى شُعراء الحكمة في تراثنا الشعريِّ قبل الإسلام وبعده مثل زهير بن أبي سلمى في قوله:

ومَن يَكُ ذا فَضلٍ فيبخَلْ بفَضلِهِ
               على قَومِه يُســـتَغنَ عنه ويُذمَمِ

     وحاتِم الطائي في قصائده العديدة التي يحاور فيها زوجتَه ماوية التي كانت تحاولُ ثَنيه عن البذل، فيقول لها:

أماوِيَّ إنَّ المـــــالَ غــــادٍ ورائِحُ
               ويَبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ

     والمتنبي في قوله - وهو ماثلٌ لدى الشاعر دائماً-:

لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ ... الجــودُ يُفقِرُ والإقـــدامُ قَتَّالُ

الإنسان والجبن:

     الجبن صفة ذميمة، بخلاف الخوف الذي وصف الله سبحانه به ملائكته المقرَّبين {يخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم}، ووصف به عبادَه المؤمنين {يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفاً وطَمَعاً}، لذلك يعالج الشاعر صفة الجبن لدى الإنسان معالجةً حكيمة، ويعبِّر عن مفهومه له، وفلسفته فيه.

     فالجبن في نظر الشاعر يفعلُ بالإنسان ما تفعله العواملُ الطبيعية في الصخر الصلد من الحتِّ حتى يتأَكَّل ويضعف ثم ينهار، فيقول:

رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا
               يَحُتُّ المرءَ -إذ يَرضاهُ- حَتّا
ويَتـــرُكُه رِماماً باليـــــــاتٍ
               تَعيثُ بها الرِّيـاحُ وهُنَّ شَتَّى
تُبعثِــــرُها ولا بــــاكٍ عليها
               ومَن يَبكي منَ الأَقــذاءِ بَحتا
تَجنَّبهُ الوَرى سُخطاً وهُزءاً
               وبَتَّ حِبالَهُ الأصحـــابُ بَتّا
ويُبصِــــرهُ فيَمقُته أَخـــــوهُ
               فـــــإن لامُوهُ فيهِ ازدادَ مَقتا

     صورة كئيبة كريهة للجبان يرسمها الشاعر منبوذا يجرُّ أسماله الممزَّقة وكأنه صار كالسامِريِّ الذي يقول: {لا مَساس}!!

     ولكن ما معنى قوله: (رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا)؟! وهل يُذم الجبن قبل الموت، ويُمدح بعده؟ أوهل بعد الموت جبنٌ حتى يكون له ظَرف قبله؟ أعتقد أن الشاعر لا يقصد القبليَّةَ مقابل البعدية، وإنما أراد بما قبل الموت الحياة، فهو يريد أن يقول: رأيت الجبن في الحياة موتاً، ولكنه استخدم بدل كلمة (الحياة) المتوهِّجة بالمعاني الإيجابية المشرقة كلمة (قبل الموت)، وهي تعبير مُنطفئ، فجعل التضادَّ بطباق السلب بدل الإيجاب.

     وأمر آخر يستوقفنا، إذ جعل (الجبن) في الحياة (موتا)، ولا شكَّ في أنه يذمُّ الجبن، ولازمه أنه يذمُّ الموت، بل الموت المشبَّه به أشد ذمّاً، مع أننا علمنا أن الشاعرَ في قصيدته (صداقة) أضفى على الموت كلَّ الصفات الحسنة واتخذه صديقاً نديماً، فهل يجد (القالي) مَطعناً ليقول للشاعر: أنت مخطئ في أحد الأمرين؛ اتخاذ الموت صديقاً، أو تشبيه الجبن بالموت!! وإذا صحَّ الأمران عند الشاعر يكون الجبن صديقاً له غيرَ مذموم!! ولعل الشاعر يُخرجنا من هذه الإشكالية الفلسفية.

     ونعود إلى القصيدة لنرى أن الشاعر يتحدَّث عن دواعي الجبن في حياة الإنسان، فيقول:

وفي الدنيـــا نقــائضُ واعِظاتٌ
               تَبيـــنُ وتَختَـــفي أنَّى نَظَرتــــا
أَلِفنــــاها لكَثــــرتِها فصــارَت
               نديـــمَ حيـــاتِنا جَهراً وصَمتــا
فنَســــكُنُها وتَســـــكُنُنا كأنَّـــــا
               بها الأضيافُ مُصطافاً ومَشتى
تَـــأَمَّلها ستَـــلقاها صَديقـــــــاً
               وجِيـــــراناً لنــا، وأنا، وأنتـــا

     فالأشياء التي يُشير إليها الشاعر مجملاً غير مفصِّل، هي الأمور التي تثير القلق عند الإنسان، فينفخ فيه الوهم، فيتولَّد الجبن في داخله، فإذا هو يذل ويخضع، ولو تأمَّل تلك الأمورَ لوجدها قريبة منه صديقة له، فهم الجيرانُ وأنا وأنت!!

     ونجد هنا إلحاحَ الصداقة على الشاعر مرة أخرى، وهي حالة قلقٍ لديه؛ إذ يجد في الأشياء المجهولة أصدقاء لم يجد مثلها فيمن ظنَّ صداقتهم من الناس!

     ويفتح لنا الشاعر الغدير صفحةً من نقائض الحياة الواعظات.. يفتحُ صفحة من المجهول فيقول:

فتَحتَ الأرضِ ميتٌ وهو حَيٌّ
               بما أَهدى وما أَســــدى وأَفتى
ومَرُّ الدهرِ لا يَمحــــــو جَداهُ
               سَيبقى صَرحُـــهُ نَضراً وثَبتا
وفوقَ الأرضِ أحيـــاءٌ ولكِن
               غَدَوا من إِلفِــهِم للجُبنِ مَوتى

     ويستقي حكمته هنا من الشمسِ الشاهدِ الذي لا يغيب عن الأحياء والأموات فيقول :

تقولُ الشمسُ إنْ طَلَعَت عَلَيهِم
               رأيتُ بَقـــــاءهُم زَيفـــــاً وأَلتا
وإن كـرامةَ الأمواتِ دَفــــــنٌ
               يَضمُّ رُفـــــاتَهُم، فعَسى ولَيتا!

     والشاعر يوظِّف الجملة المتداولة بين الناس (كرامة الميت دفنه) في الاستهزاء بأحياء (الجبن) الأموات، ومنهم الذين تخاذلوا في معركة نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام (الجبن) الدانمركي، فقال فيهم في قصيدته "أبا الزهراء":

وأَخزى اللهُ أَقواماً دَعـــــــاهُم
               إلى الغضَبِ الوَفاءُ فــما أبانُوا
لقد صَمَتوا وإن الصَّــمتَ لُؤمٌ
               لدى الجُلَّى، وأَلهَتـــــــهُم قِيانُ
عَليهِم مِن مَخــــازِيهم غَواشٍ
               ومِلْءُ قُــــلـــــوبِهِم ذامٌ ورانُ
فهُم مَوتى وإن ذَهَبوا وراحُوا
               وهُم جِيَـــــفٌ عَليها الطَّيلَسانُ

     ويُشير إليهم بصريح العبارة بعد أبيات فيقول:

ويَقتَحِمُ الشجاع ذُرا الرَّزايا
               ويَغرقُ في مَخاوِفِه الجبـانُ

الإنسان والزمن:

     زمن الإنسان هو عمره الذي يعيشه، فيملؤه بالخير أو بغيره. وقد استوقف الزمنُ الشاعر الحكيم - أو هو توقَّف عنده - كثيراً يحادثه فيسجِّل مواعظه وعبره.

     وكان ما يسمى رأس السنة محطَّة وقوفه أكثر من مرة، إذا كان يصح أن يُقال ليوم في السنة رأس السنة!! فلكل إنسان رأس سنته، وعدد أيام رأس السنة بعدد الناس على الأرض، ومع ذلك فإن ما اصطلح عليه الناس فرض نفسه، وفرضته حاجة الناس إلى الحساب بدءاً وانتهاء!

     وقد لحظ الشاعر ليلةَ رأس السنة اجتماعَ الناس في ساعة يرقصون ويلهون، والزمن يسرقهم ولا يدرون! فقال يخاطب العام الجديدفي قصيدته "أقبلت تسترق الخطا":

أَقبَلتَ تَستَــرِقُ الخُطا يا عامُ
               والناسُ حَولَكَ ساهٍرونَ قِيامُ
قد أَسكَرَتهُم خَمرَةٌ مِن غَفـلَةٍ
               أَمشــاجُها الأَوهامُ والأَحلامُ
يُســراهُمُ عامٌ تَفلَّتَ وانْطَوى
               ويَميــنُهم يَهفو إليها عـــــامُ

     ويمضي الشاعر واصفاً غفلةَ الناس عن حقيقة الزمن الذي يحتفلون برحيله واستقباله، فيقول:

والعُمرُ يَمضي والرَّدى دونَ المُنى
               وتقَـــــلُّبُ الأيـــــــــامِ والأسقـــــامُ
والأَرشَـــــدونَ ولَيتَني مِن بيـــنهِم
               يَقِفــــونَ حيثُ الحقُّ لا الأَوهــــامُ
نَظَروا إلى الدُّنيــــا فما زاغُوا بِها
               أو أَسكَرَتهُم صَبــــــوَةٌ ومُـــــــدامُ

     وتتكرر التجربة نفسُها مع الزمن في عام آخر، ولكنه هذه المرة ينتبه إلى الأوراق التي تعدُّ أيام العام، فإذا الورقة الأخيرة منها تُنذر برحيل عام وبداية آخر، فيقول الشاعر تحت عنوان (نحن لا نفنى):

مَرحبــاً ياعـــــامُ إنَّا ها هُنــــا
               تَســـــكُنُ الآلامُ فِينـــا والمُنى
كـلُّها تُومي لـنـــــــا إيمــــاءةً
               ربَّما كانت عَلَينـــــا أو لَنـــــا
يَومُنا كالأَمسِ حُــــزنٌ وأَسىً
               لَيتَ شِعري كيفَ نَلقى غَدَنا؟!

     والشاعر الغدير هنا مسكون بهم الأمة الإسلامية، وإن كان هذا الهمُّ لا يكاد يغادره، إذ يسيطر على هذه القصيدة ضمير الجماعة منذ العنوان، في إصرار دالٍّ على الثبات وعدم اليأس، برغم دواعيه الكثيرة التي جعلت الشاعر يتساءل بألم مَشوب بالحيرة والتوجُّس من الغد المجهول (ليت شعري كيف نلقى غدنا؟!)، والبيت يَستدعي إلى الذاكرة مثيلَه من الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى:

وأَعلَمُ عِــــلمَ اليومِ والأَمسِ قَبلَهُ
               ولكِنَّني عَن عِلم ما في غَدٍ عَمي

     كما أجد في وقفات الشاعر مع الزمن وتأمُّلاته فيه ومحاوراته معه نفَساً من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، إذ له العديد من المقالات في كتبه مع الزمن، والشاعر الغدير من عشاق السياحة والسباحة في أدب الطنطاوي، وقصيدته (شاهد القرن) في الديوان في رثاء الطنطاوي تقوِّي هذا الرأي عندي.

,يبدو الشاعر في حواره للعام الجديد مُستعطفاً غارقاً في حَيرته من الغد المجهول، نازفاً بالأسى والألم من حال الأمَّة، فيقول:

بَيدَ أنَّا أيُّها العـــامُ الذي ... جــاءنا يَعدو بِما حَيَّرَنا
لم يَزَل فِينا رجاءٌ واعِدٌ ... أنْ تُواتِينا وقَد أَفرَحتَنا!

     ويخيَّل إليَّ الشاعر مادّاً يديه إلى العام الجديد بلونه الرمادي البائس كسابقاته يخاطبه، والعام يرنو إليه صامتاً، فيمضي دون أن يجيب، ويفهم الشاعر دلالة السكوت، والصمت حكمة وقليل فاعله! فيقاوم اليأس الذي يحاول اختراقه، فيقول:

أيُّها العامُ الذي نَرنو لـــــه ... مِثـــــلَما جـــاءَ إلينا ورَنـا
قُـــل لِمَن ظَنَّ بأنَّــــــا أُمَّةٌ ... أَوشَكَت تَغرَقُ في لُجِّ الفَنا
نحنُ لا نَفــنى فإنَّــــــا أُمَّةٌ ... لم تـزَل جَذوَتُها مِلءَ الدُّنا

الإنسان والحياة:

     وقد يقف الشاعر مع الزمن في غير ما مناسبة، فيلحظ سرعة تصرُّمه وتقلُّبه بين الأفراح والآلام، فيقول في قصيدة (إذن تفوز):

أَبصَــرتُ في العُمر أَفراحِي كآلامِي
               مُهـراً سريعَ الخُطا يَعـــــــدو بأيَّامِي
هَذي تُخـــــادِعُني والحُسن فِتنـــــتُها
               وتِلكَ تشتَــــدُّ في جَرْحِي وإِسقــــامِي
وَجَـدتُّ نَفسي مَضى عُمري إزاءَهُما
               كأنــــه بعــــضُ يومٍ لاهثٍ ظـــــــامِ

     ونلحظ هنا الهم الذاتيَّ المسيطر على الشاعر، وتعابيره المبنية على ضمير المتكلم المفرد، فالشاعر في صراع مرير مع الزمن، فهو لايكاد يلتقط أنفاسه لاهثاً ظامياً، وإن نسب ذلك إلى العمر، لأن عمر الإنسان هو ذاته، إذ لا إنسان بلا عمر!!

     ويُتابع الشاعر عرض مأساته مع الزمن فيقول:

إذا صَحَـوتُ منَ الأَوهامِ تَأسِرُني
               عادَت لِتَجعَلَني في سِجنِها الدَّامِي
فَهِيَ الأَعادِي وإنْ أَبدَت بَشاشَتَها
               وسَهمُهــا سَهمُ بـادي الكُرهِ غَشَّامِ

     وفي البحث عن مخرج نجاةٍ من الهلاك المحدق من سهام الأوهام الأعداء يسأل الشاعر الشمسَ والبدر:

وكيفَ أَنجو؟! سألتُ الشمسَ طالعةً
               والبدرَ يَحبو الدُّنــا من نُورِهِ الهامِي

     والشمس والبدر شاهدا الليل والنهار، فبماذا نصَحا الشاعرَ، وما الحِكَم التي زوَّداه بها:

قالا: اتَّخِذ مِن يَقينٍ ســــابِغٍ وَزَراً
               واطْوِ المَخاوِفَ في صَبرٍ وإِقـدامِ
وفَوِّضِ الأَمرَ للرَّحمنِ في ثقــــةٍ
               ولُذْ بهِ، فهوَ نِعْمَ العَونُ والحـامِي
إذَن تَفــــوزَ وتَغــــدو كلُّ داهِيـةٍ
               أَشجَتكَ حِيناً سَراباً بيـنَ آكــــــامِ
ويُصبــــحُ العُمرُ أَمنــاً لا يُكَدِّرُهُ
               سَطوُ المَخاوِفِ مِن ناسٍ وأَوهامِ

     والفوز هو الغاية التي يسعى إليها الشاعر، وهي غايةٌ مشروعة {فمَن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد فاز}، لذلك نجده يكرِّر عبارة (إذن تفوز) في قصيدة أُخرى بعنوان (زُلفى)، مبشراً نفسه إذا التزمت الخطَّة الحكيمة في منهجها في الحياة، يقول الشاعر وقد اتخذ مشيبه صديقاً نصوحاً حين جاء إليه بالنذير:

وأَبصَرتُ المَشيبَ فقال هَمـساً
               وجَهـــــراً: إنَّ في بُرديَّ حَتـفا
أنــا بُشراكَ إن أَحسَنتَ صُنعـاً
               وإلا فالنذيــــرُ يَمورُ عَصــــفا
فقُلتُ: أُريدُ نُصحَكَ يا صَديقِي
               فمَحِّضْنِيهِ مثـــــلَ النُّورِ شَفّــا
فقــــال: تَوَخَّ نَهــجَ الحَقِّ أَنَّى
               مَضَيـــتَ وكُن بهِ شَهماً وعَفّا

     ويأخذ الشاعر الأمر بجدٍّ بالغ، ويحشد تفكيره كلَّه، فيقول:

حَشَــدتُّ خَواطِري وهَتَفتُ فِيهِ
               رَضِيتُ، فَطابَ بي قَلباً وطَرْفا
وقــالَ: إذن تفوزَ! فقُلتُ: بَهْراً
               سَتَـــــلقاني الفَتى إنْ قالَ أَوفى

     وهذا منه كقول طَرَفَة:

إذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني
               عُنيــــتُ فلم أَكسَل ولم أَتبَـــــــلَّدِ

     فالمقصود صفاتُ الفتوَّة عند العرب من الوفاء والمروءة والنجدة والترفُّع عن الدنايا، وليس المرحلةَ العمرية التي تجاوزها الشاعر إلى الشيخوخة إذ يقول:

وللسَّبعينَ أَدنو مِن ذُراها
               مَواجِعُها تَبـدَّى أو تَخَفَّى

     والسبعون يذكِّرنا بقصيدة (سبعون) للشاعر عبد العزيز الرفاعي رحمه الله تعالى، وهو صديقٌ حميم لشاعرنا الحكيم، ومن القلائل الذين صَفَت لهم صداقته من الناس، وقد أصفاه بقصيدة في العدد (54) الخاصِّ بالرفاعي من مجلة الأدب الإسلامي أشار فيها إلى هذه القصيدة فقال:

سبعونَ قد وَفَدَ الشِّتــاءُ يَزورُني
               والنارُ قد خَمَدَت وجَفَّ المورقُ
حَنَّت إلى عَبقِ التُّرابِ جَوانِحي
               لا غَرْوَ يَشتـــاقُ الرفيقُ الأَرفَقُ

     والسبعون الذي يتحدث عنه الشاعر الغدير يقف بنا في محطَّته الأخيرة من قصائد الحكمة، وهي (إذا متُّ) جعلها نصائحَ موجهة إلى ابنه إذ أحسَّ بدنو أجله -متَّعه الله بالصحة والعافية- على غِرار قصيدتي مالك بن الرَّيب وأبي فراس الحَمْداني في رثاء نفسَيهما، ولا شك أن التجربة الشعرية تبلغ قمَّتها صدقاً وحرارة في مثل هذا، لذلك جاء المقطع الأول من القصيدة في تصوير خطوات الدَّفن الرهيبة، ثم ينتقل الشاعر إلى توجيه نصائحه إلى ابنه الذي هو امتدادٌ له، فكأنه بذلك يريد منه أن ينالَ ما ناله، و يتدارك ما فاته من الخير، ونجد قضية الفوز والنجاة حاضرةً أيضاً، يقول الشاعر:

وعِشْ صادِقاً شَـهماً يُنقِّي فُـــــــــؤادَهُ
               ومَسعــاهُ أنَّى كانَ في الســـرِّ والعَـلَنْ
وداعِيـــــــةً للهِ يَرجـــــــــــــــو ثَوابَهُ
               ويَشكُرُ في النُّعمى ويَصبِرُ في المِحَنْ
إذن تبـــــلغَ الفَـــــوزَ العَظيمَ وتَرتَقي
               وأَفـــــرَحُ في قَبــــري لما نِلتَه إذَنْ!!

      والشطر الأخير يؤكد صدقَ الإحساس عندي بشعور الامتداد والتواصل لدى الشاعر.

     وبعد.. فهذه جولةٌ في الحياة مع الشاعر الحكيم د.حيدر الغدير في ديوانه (من يطفئ الشمس؟) الذي شبهته بالغدير في مائه وأشجاره وأزهاره، وإن شعر الحكمة فيه هو اللون الأخضر في البستان بانتشاره في كل جزء من الديوان، وإنه الوقار الذي يناسب الشاعر في هذه المرحلة العمرية وهو على أبواب السبعين!!


وقد قدَّم لنا الشاعر حِكَماً كثيرة في أسلوب حيٍّ من حركية الحياة، فجعلها حواراً، وسرداً أقرب ما يكون إلى القصة، مُحلِّقاً بصور شعرية من الخيال المجنَّح، والأداء المهموس المتَّسم برقَّة الكلمات وتناسق العبارات. ومع هذا لم يخل الديوان من بعض الحكم والنصائح التي جاءت مُباشرة على طريقة شعراء الحكمة قديماً، ولكنَّ ذلك لم يعب التجربة؛ لأن المقام تطلَّب ذلك كما في قصيدته التي يَرثي نفسه ويوصي ابنه بعنوان (إذا متُّ)، فلو لجأ الشاعر إلى الخيال والرمز في هذا الموقف لكان ذلك مأخَذاً على تجربته؛ لأن الموقف لا يتحمَّل مثل ذلك.
****

فيض الضمير - من يطفئ الشمس؟ - د.محمد أبو بكر حميد

فيض الضمير - من يطفئ الشمس؟

د. محمد أبو بكر حميد
نشرت بجريدة الجزيرة - الخميس
13/ 6/ 1428هـ - 28/ 6/ 2007م


     الشعر فيض من القلب، ودفقات شعور في لحظات صدق، ومعانٍ سامية تُقَدَّمُ على أطباق من موسيقى تطرب لها النفس وترتاح، وليس كلاماً مرصوصاً أو خطباً ومواعظ ليس فيها من الشعور والموسيقى شيء إلا أوزان الخليل.

     والشاعر الصديق د.حيدر الغدير من الشعراء الذين تطرب لشعرهم النفس وتتعلم في آنٍ واحد لأنه صاحب رسالة في الحياة يقدمها من خلال صور من الفن الرفيع، وهو بهذا الالتزام للفن والفكر يقدم نفسه نموذجاً للشاعر الإسلامي الحق الذي يوظف فنه أجمل توظيف لخدمة فكره، ولا ينسى وهو يؤدي رسالته الفكرية أنه فنان في المقام الأول، وهذا مطلب قديم في الأدب تحدث عنه أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حين اشترط اقتران الإمتاع بالتعليم في الرسالة الحقيقية للفن الهادف.

     وإعجابي بشعر حيدر الغدير قديم منذ بدأت أسمعه يلقي شعره في المجالس والندوات والصالونات، وكنت أتألم لأنه لم يهتم بجمع هذا الشعر في ديوان طوال كل تلك السنين، لهذا كانت فرحتي كبيرة عندما رأيته يصدر ديوانه الأول الذي تأخر كثيراً بعنوان (مَنْ يطفئ الشمس؟!)

     ويضم مجموعة مختارة من قصائد السنوات الأخيرة التي يحتفي فيها بالأشخاص والأفكار احتفاءً فنياً لا تجد فيه تكلف النظم أو تعسف الفكر، فنجده يغرد بحب ووفاء لشخصيات مميزة في حياتنا أمثال عبدالعزيز الرفاعي، ومحمود محمد شاكر، وعبدالعزيز بن باز، وعماد الدين خليل، وأبي الحسن الندوي، وعلي الطنطاوي. وتغلب على الديوان روح الإنسان المسلم الغيور على أمته في حثها على النهوض بالوقوف على عظمة تاريخها حين يقول:

تاريخنـــا شَاهِدٌ أَنَّا ذوو صيــدٍ
               وأننا حين يربو الخطب نستعر
وأننا الغضب القـدسي متقــــداً
               عند التحدي وإذ يستعلن الخطر

     وتوقفت طويلاً مستمتعاً ومتعلماً من الروح المتطهرة في بعض القصائد التي تجمع الخشوع والجلال في مثل قوله عن ليلة القدر:

ظفرت بها وغشـاني أمان ... وقر بها ضميري والجنان
وحيتــني عوارفها اللواتي ... بســمن كأنهن الأقحـــوان

     ونجد هذه الروح المتطهرة في قصائد مثل (وأسلمت للرحمن)، و(حَبْلُ الله) التي يقول فيها:

إذا أقصيــــتني فبمن أكـون
               ومن أرجو سواك وأستعين
حيـاتي قد مضت كراً وفراً
               وأخطاء تجــــل وقد تهـون

     وفي قصيدة (بقية مُنْيَة) التي نظمها في رحاب المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة يحتشد عاطفياً وروحياً ليعبر عنه حبه العظيم:

هو حب مطهـــــر لم يلوث
               بأذاة ولم يقارف حــــــراما
وهو حب أدمنته في مشيبي
               فاستباني وحين كنت غلاما

     ويدعوه هذا الحب إلى تمني الموت فيها والفوز بالدفن في البقيع:

بقية مُنْـــيَة تجول بصدري
               أن يكون البقيع فيها مقــاما
حيــنما أنطوي فيغدو ثراه
               شارة للرضا ويغدو وساما

     وفي قصيدة (يا خالقي ما أكرمك) يقف الشاعر خاشعاً متذللاً بين يدي الله يطلب عفوه ورضاه:

يـــا رب لي أمل مديد في عطائك أنشــــدك
               مـــا أعظـــمك! ما أستـــرك! ما أجـــودك!
ما ضاق عفوك بالقوي، ومَنْ تمادى أو فتك
               ممن أســـرَّ ذنــــوبه بين الأنـــــام أو هتــك

     ويختم الديوان بقصيدة هي من أروع ما قرأت في سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم.

     والديوان حديقة شعرية متعددة الشجر لا تنتقل فيه من قصيدة فُضلى إلا لأفضل؛ وشعر الشاعر د.حيدر الغدير يحتاج -روحياً وفنياً- إلى وقفة أطول تليق بما فيه من سامي الفكر والفن.

***

الاثنين، 31 مايو 2021

من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير - أ.يحيى بشير حاج يحيى


من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير

أ. يحيى بشير حاج يحيى
جمادى الأولى 1440هـ - كانون الثاني 2019م


     عندما تطلع الشمس، ويملأ نورها كل مكان! اثنان هما اللذان لا يبصرانها: الأعمى، والذي يغمض عينيه! وقد يصيبها الكسوف، وقد تحول دونها الغيوم، وقد يطول ليل، ولكن لا يُقبل حكم أحدهم إذا ادعى أنها لن تعود؟! تلك هي الشمس التي لا تنطفئ، كالآية التي لا تغيب أمجادها ولا تندثر! وتلك هي شمس الشاعر التي يتغنى بها ويفخر بها ويتشوق إليها.

     لقد جاءت قصيدة (من يطفئ الشمس)(1) في الديوان الذي يحمل الاسم نفسه؛ في ستة وخمسين بيتاً لا يشبه البيت الآخر، شأنها شأن الأمواج تتوالى وتندفع، ولكنها عند وصولها إلى الشاطئ يتوضح أن لكل واحد منها كياناً، شأن هذه القصيدة في أبياتها المتشابهة وزناً وإيقاعاً حينما يتلقاها القارئ، فمن أنت أيتها الشمس (الأمة)؟ أبياتها ومنذ البيت الأول تهز أعماقك، فتشعر كأنك على ظهر جواد تهز بالسيف وأنت تنشدها:

نحن الخلود، ونحن المجد والظفرُ
               والشـــاهد الدهرُ والأفلاكُ والسِّيَرُ
ونحـن في هامة الأيــــــام هامتُها
               ونحن شـامتها والطيــــبُ والغُرَرُ
لنــا يدٌ في الخطوب الدُّهم صائلة
               وأختها ديمةٌ بالجـــود تنهمرُ(2)

     قصيدة تمثل تاريخ الأمجاد والأخلاق في سبك قوي وصور تأتي عفو الخاطر!

     في المقطع الأول يوجز الشاعر ماهية الأمة؛ وكما يصيب الكسوفُ الشمس أو تحول دونها الغيوم، فرسالة هذه الأمة -على يد مبلغيها- قد يضعف الأخذ بها، ولكن تبقى مهيأة في كل وقت للإشراق والعودة! وهي أمة ذات رسالة، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44].

ومعقل نحن للإســـــلام نحرسه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه، نحن أدرعـه
               ونحن سيـف له عــــاداته الظفر
إذا غُلِبْنـا فلا يــــــأسٌ ولا خَوَرٌ
               وإن غَلَبْنا فلا ظلم ولا أشـر(3)

     وأما الظلم فلا نقبله، كما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: (إني ليعجبني الفتى إذا سيتم خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا).

ويوقظ الظلمُ منا كل مَنْ هـــــمدوا
               ويوقد البغيُ منا كلَّ مَنْ فتروا(4)

     وهي الأمة التي هزت صرخة (وامعتصماه!) معتصمها:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفتْ
               ونحن أثبـــــتُ منـــــها حين تنفجـــــرُ
وكـلـما كانت الأخطــــــار فـــــــادحة
               كنـــــا على ثـقـــــة أنا سننتـــــــصرُ!
والـنصـــــر أقربُه منـــــا وأســــرعُه
               إذا الطواغيت من إسلامنا سخروا(5)

     وللأمة مجالات فخرها لا بالبناء، ولا في التعالي بالبنيان، ولكن في الترفع على الصَّغار:

خيرٌ من الصرح قد راع الضحى نَضِـراً
               نفس لبـــــانيه، وهي المعـــــدن النضِــرُ
والصــــــرحُ زينتُه قبــــل التراب رؤىً
               فالســـابق الفكرُ، والتالي هو الحجرُ(6)

     وهذه المعاني تنبثق من مشكاة واحدة كما قال القطامي:

ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا(7)

وقال أبو كدراء العجلي:

بنى البنـــــــاة لنا مجداً ومكرمة ... لا كالبناء من الآجر والطين(8)

     والقصيدة الشمس لا تخلو من شواهد التاريخ بأشخاصها، وهي التي تركت بصمات في صحائفها، سبق السلف، والخلف على إثرهم ماضون:

لــــــذاك أمتنــــــا حبــــــلى بكــــل فتى
               هو المثـــــنى أو الصديــــق أو عـمـــــر
أو الرشيـــــد تحـــدى غيـــمة عبــــرت
               فاستســــــلمت وهمى من فوره المطـــر
فجـــــاءه فيـــــؤها عجــــــلان في وجل
               والقلب مضطرب، والطرف منكسر(9)

     وهي التي ولدت بعد ذلك صلاح الدين ونور الدين وبيبرس وغيرهم!!

     وهذا النفس الطويل في القصيدة يقربها من الشعر الملحمي، لكن بعيداً عن الأسطورة والخيال، لأنها تتحدث عن واقع تاريخي نستلهم بطولاته وأمجاده، وقد اعتمدت البحر البسيط الذي يصلح لكثرة تفعيلاته وتعددها، أن يحمل الزخم الشعري شأنها في ذلك شأن قصيدة أبي تمام.

الســــيف أصدق إنباء من الكتــــب
               في حده الحد بين الجد واللعب(10)

     ولكن قصيدة أبي تمام تحدثت عن واقعة بعينها، وهذه القصيدة استعرضت أمجاداً ومواقف تذكر بعظمة الأمة ورسالتها!

     ويبرز فيها المعجم اللغوي (المخزون التراثي) بألفاظ عربية فصيحة (ذو صيد – الوزر – الظبا – أضرى) ولا تبدو غريبة من خلال السياق الذي جاءت فيه.

     وإذا كانت الانفعالات - كما يقول النقاد - ترتبط بالشعر، والأفكار بالنثر؛ فإن القصيدة قد زاوجت بينهما، فليس ثمة تعارض، ولكن مجرد اختلاف.

     ولم يكن التقارب بينها وبين قصيدة أبي تمام في الموضوع فحسب، ولكن في بعض الصياغات:

تدبيــر معتصــــم بالله منتقــــم
               لله مرتقب في الله مرتغب(11)

     فأبو تمام حصرها في شخص المعتصم، وشاعرنا جعلها في الأمة:

في كل أرض لنــــا من مجدنـــــا أثـــر
               وفيــــه ما يتمنى الســــمع والبصــــــر
الحـــق جوهره، والحســـــن منظــــره
               والعدل مخبره، والنصح لا الغرر(12)

     ويبلغ الشاعر ذروة الفخر والاعتزاز بالأمة تاريخاً ورسالة:

من يطفئ الشمس؟ نحن الشمس خالدةً
               أما عدانـــــــا فـــــآل ثم ينحسـر(13)

     وكأننا نسمع صدى ما قاله الأقدمون، ولكن في قبائلهم، كقول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا بلغ الفطام لنـا صبيٌّ ... تخر له الجبابر ساجدينا

     أو قول جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا

     ولكن تنفرد قصيدة (من يطفئ الشمس) برؤيتها؛ كما تنفرد الشمس بنورها:

أمجــــــادنا مثــــــلنا خير ومرحــمة
               بها المفـــــــاخر قبل النـــــاس تفتخر
صرنـــــا لهم ولنـــا أنشودة صدحت
               يزينها الشيِّـقـــــــان الشعر والوتــــر
ونحن بـــــــاقون تعـــــــلينا هويتــنا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشر(14)

----------------
(1) ديوان من يطفئ الشمس، حيدر الغدير، دار المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1427هـ- 2006م، ص 9. وفي ديوان الأعمال الكاملة (2/143).
(2) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(3) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(4) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(5) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10).
(6) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12).
(7) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (1/129)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
(8) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (2/335)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
مع ثلاثة أبيات قبله:
يــا أم كدراء مهــــــلاً لا تلوميــني ... إني كريـــــم وإن اللوم يؤذيــــــني
فـــــإن بخلت فإن البخل مشتـــرك ... وإن أَجِدْ أُعْطِ عفواً غير ممنـــــون
ليست ببـــاكية إبلي إذا فقــــــــدت ... صوتي ولا وارثي في الحي يبكيني
بنى الـبنـاةُ لنا مجــــــــداً ومكرمة ... لا كالـبنــــاء من الآجــــرِّ والطيـــن
(9) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10-11).
(10) بيت مشهور لأبي تمام من قصيدته في فتح عمورية.
(11) بيت من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية.
(12) ديوان من يطفئ الشمس، (ص11).
(13) ديوان من يطفئ الشمس، (ص13).
(14) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12- 13).

من يطفئ الشمس؟ د. أحمد البراء الأميري

من يطفئ الشمس؟

د. أحمد البراء الأميري
الرياض – الجمعة
27/ 11/ 1428ﻫ - 7/ 12/ 2007م


     "من يطفئ الشمس"؟ لا أحد من البشر يمكنه أن يطفئها! وكذلك الأمة المسلمة التي أهدى إليها الشاعر الدكتور حيدر الغدير ديوانه الأول، لا يمكن لأحد أن يطمس نورها.

     في الصفحة الأولى من الديوان نجد الإهداء:
     إلى الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء!

     "من يطفئ الشمس" – إذن – هو عنوان ديوان، وعنوان القصيدة الأولى من خمسين قصيدة ضمها الديوان.

     صدر الديوان في أول عام 1427ﻫ، وفي أواخر العام نفسه صدر أخوه الذي يضم خمسين قصيدة أخرى، ويحمل عنوان القصيدة الأولى التي جاءت فيه: "غداً نأتيك يا أقصى".

     الديوان – على صغره – غني، فالشاعر مكثر من الشعر، طويل النفس فيه، متمكن من بحوره، لا تكاد تجد فيه قصيدة قصيرة، فهو إما قصائد طوال[1]، وإما قصائد متوسطة الطول، وقد قاربت أبياته الألفين. فالقارئ – إذن - أمام مائدة شعرية حافلة، متعددة النكهات؛ فيها الإخوانيات الخفيفة، وهي قليلة، وأكثرها: تأمل واعتبار، وحنين إلى الديار، ومناجاة للكريم الغفار، ورثاء لمن رحلوا من الأبرار.

     ومن أجمل ما يطبع الديوان - في نظري - روح التفاؤل التي يشع نورها فيه، وشرف مقاصده ومعانيه. ولأضرب للقارئ الكريم بعض الأمثلة على ما أقول:

     القصيدة التاسعة عشرة عنوانها: "في ليلة القدر" وقد قدمها الشاعر بسطر قال فيه: "ملأني يقين لا حد له أني أحد الذين أكرمهم الله بالظفر بليلة القدر"، وعن بشارات الليلة يقول:
وعاينت القبول وبشريــــــــات
               كأن السعــــــد فيها مهرجــــان
أشرن إلي أن العفو غَـــــــــدْق
               ودون مداه ينعـقـــــد اللســـــان
ولاح الفوز يدعوني إليــــــــــه
               وهـــــــش إليّ يدعوني الأمـان
وجئت الحشر قد غفرت ذنوبي
               طليـــــقاً لا أديــــــــن ولا أدان

     ومن أعجب القصائد قصيدة يعقد الشاعر فيها "صداقة" مع الموت! وفيها يقول:
أخافني الموت دهراً ثم صافـــــاني
               وقال لي: لست بالعادي ولا الجاني
فمـات خوفي منه، وهو بـــــــادلني
               حباً بحب، وناجاني وآخـــــــــــاني
أتــــانيَ الموت في رفق وفي حدب
               يقتادني عن شقاء العالم الفــــــــاني
فزال عني غطائي وانجلى بصـري
               يرنو، وبي لهفة للعالم الثــــــــــاني
وطار بي أمل جذلان يغمــــــــرني
               أن الكريم تولاني وأدنــــــــــــــاني

     هذا مثالان واضحان على روح التفاؤل العالية التي يشرق نورها في ثنايا الديوان. أما شرف المعاني فالدلائل عليه كثيرة، منها: قصيدة "حبل الله" التي يقول في مطلعها مناجياً ربه سبحانه:
إذا أقصيتني فبمن أكــــون؟ ... ومن أرجو سواك وأستعين؟

     ومنها: عدة قصائد في المدينة المنورة، طيبة الطيبة، التي يخاطبها في أبيات كثيرة تنضج بالحب والحنين، كقوله:
غنيت في حبها أحلى أناشيـدي ... وأزهرت كالربا فيها أغاريدي

     وقوله:
أتيت طيبة مثل الطائر الغـــــــــرد
               أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي
أومت إلي، فأغرتني، فطـــرت لها
               على جناحين: من شوق ومن رشد
حتى التراب غدا كحلاً لبـــاصرتي
               أما سناها فنسغ الروح والجســــــد

     ذكرت أن من موضوعات الديوان: التأمل والاعتبار، والرثاء لبعض من رحلوا من الأبرار. ولألقِ بعض الضوء على هاتين النقطتين.

الأولى: قل لي من ترثي.. أقل لك من أنت!

     من الطبيعي أن يرثي الشاعر أمه وأباه، وأخته وأخاه، وزوجه وولده، وهذا الرثاء تعبير عن العاطفة الإنسانية المشتركة بين الناس، ولكنه قد لا يكشف عن فكر صاحبه وروحه واتجاهه.

     أما رثاء الأعلام فمنه تعرف فكر الشاعر ونفسيته بل وهواه. وإذ نظرنا في المراثي التي ضمها الديوان، رأينا قصيدة في رثاء أمه، وأخرى في أخيه. أما القصائد الأخرى ففي الشيخ أبي الحسن الندوي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، وعلامة العربية الشيخ محمود شاكر، رحمهم الله جميعا.

     فقصيدة "لوحت للناس" يخاطب فيها الشيخ أبا الحسن الندوي بقوله:
بقية السلف الأبرار قد كرمـــــــــوا
               وأنت فيــــهم ومنهم نجـــــمة تقــــد
أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحـاً
               بالأتقيــــــاء وبـــان الصدق والفنـد

     وقصيدة "ترجلت في التسعين" يخاطب فيها الشيخ عبد العزيز بن باز بقوله:
مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر
               وضــــم غواليــــــه المطهرة القبــــــر
وسار به النعش المهيــــــــب وأكبُــــد
               حرار عليها من مهابته وقــــــــــــــــر
يضوع الهدى منه نقيــــــــــاً مُمَسّـــَكاً
               كما ضـــاع من أغلى قواريره العــطر

     وقصيدة "شاهد القرن" يخاطب فيها الشيخ علي الطنطاوي بقوله:
سبعين عاماً عشت فــارس حلبة
               لك في المحافل شدة وترفــــــــق
المسلمون عشيرة لك كلـــــــــهم
               إن يحزنوا، أو يفرحوا، أو يقلقوا
أما الدعــاة فأنت فيهم والـــــــــد
               يحنـــو، ويصـلح بينهم، ويوفــق

هذه هي النقطة الأولى.

أما الثانية فهي: التأمل، والاعتبار المبثوث في كثير من صفحات الديوان.

     ومن أمثلته:
    حواره مع قصر الحمراء بغرناطة في قصيدة "بعض الرؤى"، ومع الشيب في قصيدة "فرار"، وقصيدتا: "أقبلت تسترق الخطا" و"نحن لا نفنى" اللتان يخاطب في كل منهما عاماً جديداً، وفي الثانية يقول:
أيها العـــــام الذي نرنو له
               مثلما جاء إلينا ورنـــــــــا
قل لمن ظن بأنـــــا أمــــة
               أوشكت تغرق في لج الفنا
نحن لا نفنى فإنـــا أمــــة
               لم تزل جذوتها ملء الدنا

     ومن أمثلة التأمل والاعتبار قصيدة "وأسلمت للرحمن"، ومن أبياتها:
خـلوت إلى نفسي وأمعنت في صمتي
               وفي الصـمت أسرار تبوح بلا صوت
وحيـداً وحولي من رؤاي شـــــــوارد
               يقـاسمنني صمتي ويرتعن في بيــــتي
أحــــدق في الأيـــام وهي رواحــــــل
               فهذي بنا تمضي وهذي بنـا تــــــــأتي
ولما رأيت الدهر تمتــضي ركابــــــه
               سراعاً بنا، من خـائفين ومن ثــــــبت
وأن المنــايا - كالأمــاني - مـــواثـــل
               نواء، دوان، ليس منـهن من فــــــوت
عزمت على التفـــــويـض لله واثقــــاً
               فطهرت وجداني وأصلحت من سمتي

     وبعد؟ فالقول في ديوان "من يطفئ الشمس" متسع الأنحاء يضيق عنه المقام، ولكن ما لا يدرك كله يدرك بعضه، وفي هذا البعض غناء. والله الموفق.

-----------------------------
[1] مثلاً: قصيدة "يا شام" 65 بيتاً، و"شاهد القرن" 60 بيتاً، و"الصقر" 75 بيتاُ.

الأحد، 30 مايو 2021

قراءة في ديوان "من يطفئ الشمس؟" - أ. محمد صالح الشمّري

قراءة في ديوان: من يطفئ الشمس؟

للشاعر حيدر الغدير

أ. محمد صالح الشمّري
نشرت في مجلة المجتمع - الكويت - العدد (1775)
23/ 10/ 1428ﻫ - 3/ 11/ 2007م

     تتبدى لك الأناقة من الغلاف الأول؛ حيث اللوحة الجميلة، وخط الثلث (سيد الخطوط) الذي لا يعترف أهل هذا الفن بانتماء أي خطاط إلى صنعتهم ما لم يتقن هذا النوع مهما علا كعبه في بقية الخطوط ومهما أجاد فيها وقدم، حيث يرصع هذا الخط اسم الديوان بكل التحدي والسمو: من يطفئ الشمس؟!!

     ثم يلج بك هذا المدخل الجميل بسلاسة ومتعة إلى مئة وتسع وثلاثين جوهرة منظومة بشعاع من أشعة تلك الشمس العصية على الانطفاء.

     وعلى الرغم من أن الشاعر طوّف في ديوانه على مواضيع عديدة متباينة ومتباعدة – معظمها شخصي إذا جاز التعبير – إلا أن انتماءه وتكوينه الفكري والنفسي والثقافي ساقه إلى جعل قصيدة تتحدث عن (الأمة) عنواناً لهذا الديوان، ولم يترك له هذا التكوين أي خيار آخر، وهذا يميّز الشعراء الملتزمين مهما شرّقوا وغرّبوا في قصائدهم ومواضيعها.

     ولأن الشاعرية لدى شاعرنا (حيدر الغدير) أصيلة وفطرية ولها سطوة على كيانه.. دفعته إلى اختيار رسالتيه (الماجستير والدكتوراه) في قمم من ذرا وادي النيل الملهم، وسفوح لبنان الساحرة: البارودي وحافظ وشوقي وعمر أبو ريشة. وهنا يظهر لأي ناقد أمران واضحا الدلالة:

الأول: أن شاعرنا اختار شعراء، ولم يختر مفكرين أو علماء في الفقه أو النحو أو البلاغة أو.. أو.. إلخ.

والثاني: أنه اختار قمماً سامقة في سماء الشعر من مصر ومن بلاد الشام.. فهو (وحدوي) في أعماق أعماقه، كما هو ذوّاقة في تلك الأعماق أيضاً. فالبارودي وحافظ وشوقي هم ملوك الشعر، وإليهم تردّ الجزالة والبلاغة والشاعرية في أدبنا الحديث، وفي بلاد الشام من غير عمر أبو ريشة يماثل تلك المكانة السامية مَن؟

     يقدم الشاعر هويته للقارئ من أول قصيدة من عنوان ديوانه لا إرادياً، كما أسلفنا، على الرغم من أن الديوان مترع بالقصائد الوجدانية الصوفية التي تتدفق بالإيمان: (حان الوداع، أسلمتُ للرحمن، في ليلة القدر.. إلخ) إلا أنه اختار القصيدة التي تقول:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشاهد الدهر والأفـلاك والسِّيَر
ومعقل نحن للإسلام نحرســـــه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدى
               ونحن تكلؤنا قبل الظِّبا الســــور
في كل أرض لنا من مجدنا أثـر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــة
               بها المفاخر قبل الناس تفتخــــر

     حتى يقول:

ونحن باقــــــــــــون تعلينا هويتنـــــا
               وهي الرســــــــــالة لا ما زيّف البشر
من يطفئ الشـمس نحن الشمس خالدةً
               أمّا عدانــــــــــا فــــــآل ثم ينحســـــر

     أرأيت - عزيزي القارئ - إلى هذا الفخار والاعتزاز الذي يرى أيادي أمته ورسالتها في كل زمان ومكان وإنسان وحضارة!؟ وإلى هذه الشاعرية الفياضة التي تنهل من بحر لا حدود له!؟

     ثم يأخذ بعد هذا المدخل المهيب بيد القارئ، بل بقلبه ووجدانه في حديقة متنوعة الأزهار والعبير والشذا، بين وجدانيات ووفاء لمسقط رأسه وحبه الأول: دير الزور وفراتها الخالد الذي هام به الشعراء على مرِّ التاريخ، وكذلك صفو المحبة للوالدة والأخ والعلماء والأصحاب... إلخ، كل ذلك بين جدٍّ وهزلٍ يبعد عن النفس كل ملل، وبكل المتعة والفائدة، فلا يكاد قارئ الديوان يبدؤه حتى يوغل فيه مسلوب الإرادة يغترف من بحر الدرر واللآلئ.

     وقديماً قالت العرب: إن الحنين إلى الديار دليل أصالة. ولشاعرنا فيها رصيد لا ينضب، فهو لا يكتفي بالحنين والمديح لمدينته وفراتها وحسب، بل هو يهيم بدمشق وحمص، فعقله الباطن يشده مرغماً إلى مدح كل ماله صلة بتلك المدينة، وذلك النهر:

     ففي قصيدة (عودة) نجدهُ يقول:

عدت شيخاَ تقودني أشواقي
               والأمانيُّ جذوتي ورفـــاقي
وأنا عاشق مرابع أهــــــلي
               وهم الســاكنون في أعماقي
وهم الساكنون عقلي وقلبي
               وهم الكحـــل ساكناً أحداقي

     وفي قصيدة (أيها النهر) يقول:

أنت بين القلوب والأحـــــداق
               أيها النهر يا عصي التـــلاقي
ساكن في بنيـــك حيث تولـوا
               في القريب الداني وفي الآفاق
شرّقوا وغرّبوا وأنت نزيـــل
               ظاعن في قلوبهم والــــتراقي

     وفي قصيدة (يا شام) يقول:

يا شام أنت على الزمان وسام
               بــــاق بقاء الخلد ليس يضــام

     وفي قصيدة (يا حمص) يقول:

يا حمص إني عاشق مفتــون
               بخصالك الحسنى وهنَّ فنون

     أخيراً فإن الشاعر لا يهدي باكورة إنتاجه إلى والدة أو زوجة أو ولد، بل يهديها وبكل حلاوة القطفة الأولى.. إلى: (الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء..).

     يخيل إلي أن هذا الديوان كان في البدء حديقة غنّاء رآها الشاعر، وافتتن بها، فتماهى فيها أو تماهت هي في وجدانه، فكانت هذا الديوان المتميز بحق، والذي يشكل إضافة نوعية لديوان العرب الذي يضم كل ثمين.

***

الأكثر مشاهدة