الأربعاء، 2 يونيو 2021

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟ - أ.شمس الدين درمش

الحكمة الشعرية في ديوان من يطفئ الشمس؟

للشاعر د.حيدر الغدير

أ. شمس الدين درمش
نشرت في موقع الألوكة
الرياض - الأربعاء - 29/ 4/ 1428هـ - 16/ 5/ 2007م


     الغدير ما يغادره السيل من الماء فتنمو حوله الحياة.. تجتمع إليه الطيور، وتنبت فيه وحوله الأشجار والزهور.

     وهذا الديوان كذلك الغدير من الماء في شفافيَّته وروحه الباعثة للحياة، وقد نبت فيه من كل لون، ولكن اللون الأخضر هو الغالب فيه؛ لأنه موجود مع كلِّ لون مما نبت فيه وحوله، واللون الأخضرُ في هذا الديوان هو الحكمة.

     فالحكمة الشعرية هي العنصرُ المبثوث في كلِّ الديوان كما ينبثُّ اللون الأخضر في البستان. ولا عجب! فالديوان جاء بعد أن تجاوز الشاعر المراحلَ المتقلبة في حياته، واليوم هو في طريقه إلى السبعين، عركته تجارب الحياة، فخَبَرَها وخَبَرَته، وكشف أسرارها وكشفته حتى ظهر لنا من أمرهما العجب!

     وإذا كانت قصائد الرثاء العديدةُ في الديوان بدوائرها المختلفة المكانَ الطبيعي لشعر الحكمة من حديث عن الموت والحياة، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود - فإن قصائد عديدة فيه كانت وقفات حقيقية للتأمُّل في الحياة وما فيها، عبَّر الشاعر من خلالها عن رؤيته الثاقبة لما وراء الظواهر الخادعة كالسراب الذي يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه، إن الله سريع الحساب.

     فما المحطَّاتُ التي وقف الشاعر فيها للتأمُّل في الحياة بحكمة حتى لينطبق على شعره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة"؟

الموت.. الصديق:

     جرت العادة أن يجزعَ الإنسان من الموت، ويهربَ منه، ويدعوَ لعدوِّه به، ولصديقه بضده، وليس الشاعر بِدْعاً في هذا، ولكن معايشة الشاعر لهذه القضية الكبرى في الحياة، وإمعانَ التأمل كشف له سراً جعله يسلك مذهباً جديداً فيه، فلنسمع القصة:

أخافَني الموتُ دَهراً ثمَّ صـــــافاني
               وقالَ لي: لستُ بالعادِي ولا الجاني

     ويعرض علينا الشاعر دفاعَ الموت عن نفسه فيما يظنه الناس، وبراءته من التهم الموجَّهة إليه، فيقول على لسانه:

لا أنقصُ المرءَ يوماً قطُّ من أجَلٍ
               ولا أَجـــــورُ على إنسٍ ولا جانِ
أنــــــــــا الوَفيُّ لأمرِ اللهِ أُنفِـــذُهُ
               كما يَشاءُ وإنَّ العَــــــدلَ مِيزاني
ولستُ أَظلمُ إنســــــانـاً لمَســكَنَةٍ
               ولا أُداري ذَوي مالٍ وسُـلطـــانِ
بل أَحرِسُ العُمرَ للإنسانِ يَقطَعُه
               والحَبــلُ أُرخِيهِ للقاصي وللدَّاني
حتَّى إذا جـــــاءَ أمرُ اللهِ قُمتُ بهِ
               أَذاكَ ظُلمي لَهُ أم ذاكَ إِحساني؟!

     وأمام بيان الدفاع في إثبات البراءة من الجناية يقدِّم لنا الشاعر الموتَ بريئاً مما وُجِّه إليه من التهم فهو عادل مطيع لأمر الله، حافظ للإنسان أن يَنتقص من أجَله، ولذلك ينتزع منا الإجابةَ على تساؤله لنعترفَ بأن ذلك منه إحسان للإنسان، وليس ظلماً!

     ويذهب الشاعر أبعدَ من ذلك، فيضع الموت في دعواه تحت المراقبة السلوكية حتى يتيقَّن صدقَ دعواه، واستقامة مسلكه، فيقول:

سمعتُ ما قالَ واستَرسَلتُ أَرقُبُــــه
               فكانَ حقّاً أخـــــــا صِدقٍ وإيمـــانِ
وكان أَرحَـــمَ مِن بــــــاغٍ وطاغِيةٍ
               يَستأصِلُ الناسَ وهو الباسمُ الهاني
فمــاتَ خَوفيَ منهُ وهو بــــــادَلَني
               حُبّـــاً بُحِبٍّ وناجاني وآخــــــــاني
رأيتُ منهُ وَفـــــاءً رغمَ سَطـــوَتِهِ
               لم أَلقَــهُ في كَثـــــيرٍ بينَ إخــواني
وَضَعــــتُ في كَفِّهِ كَفِّي فعــاهَدَني
               على الإخاءِ ولا تَعجَب وأَرضاني

     إذن، اجتاز الموتُ اختبار البراءة المسلكية، وبدأ عهدٌ جديدٌ في العلاقة بينه وبين الشاعر، حلَّت فيه الطمأنينة محلَّ الخوف، والثقة محلَّ الشك، مما أثار استغرابَ الآخَرين الذين يجهلون ما أدركه الشاعرُ الحكيم، فقال:

رأى صَداقَتَنا قــــــالٍ، فســــاءلَنا:
               هل أنتُما - هكذا يَبدو - صَديقانِ؟!
فقـلتُ: بل نحنُ في أَعلى مَكارِمِها
               ونحــــــــنُ في ذُروَةٍ منها نَديـمانِ

     وتبدأ صفحةٌ جديدةٌ مع الموت:

أتانيَ الموتُ في رِفـــقٍ وفي حَدَب
               يَقتادُني عن شَقــــاءِ العالَمِ الفـــاني
فَزالَ عنِّي غِطائي وانجَلى بَصَري
               يَرنـــو وبي لَهفَةٌ للعـــــالَمِ الثــاني
وطارَ بي أَمَلٌ جَــــذلانُ يَغــمُرُني
               أنَّ الـكَـــــريمَ تَوَلَّاني وأَدنــــــاني

     قد علمنا من قبلُ صداقةَ الشاعر الفرزدق للذئب، وها هنا نرى صداقة شاعر للموت!

الإنسان والمال:

     المال محبوبُ الإنسان، قال تعالى: {وتَأكُلونَ التُّراثَ أكلاً لَمًّا. وتُحبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً}، وفتنته قد تهلكه في الحياة! والشاعر يُدرك هذه الحقائق، ويُدرك الطريقة المثلى في التعامل مع هذا العدو المحبوب!! فالغنى في إنفاق المال، وليس في كَنزه، والعز في بذله، وليس في البخل به.

     ولا شك في أن معانيه مستقاةٌ من توجيهات القرآن الكريم، والحديث الشريف فيما ذهب إليه من أن الذين يكنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله لهم عذاب أليم، وأن مالَ الإنسان ما تصدَّق فأبقى، وأن ما يكنزه هو لوارثه يبدِّده من بعده ويحاسب هو عليه!

     ويقدِّم لنا الشاعر الغدير هذه المعاني بحكمته الشعرية، فيقول:

كلُّ مالٍ جَمعتَه في اصطِبارٍ ... مرَّةً وافِـــراً وأُخرى قَلِيــلا
سوفَ يَغــدو لِوارثِيكَ قريباً ... كي يُبيـــدوهُ بُكرةً وأَصِيـلا
فَهُــــمُ النـــاعِمونَ فيهِ ومنهُ ... وعَليكَ الحِســابُ مُرّاً ثَقِيلا

     ويُدرك الشاعر أن المالَ صعب المراس قويُّ الشكيمة، لا يَستسلم ولا يَلين لمالكه بسهولة، لذلك يتوجَّه إليه بالخِطاب، ويُعطيه درساً لا يَترك له فيه من مَطمع، فيقول:

أنتَ عَبدي إذا بَذَلتُكَ دَوماً ... فإذا ما بَخِـلتُ كنتُ الذَّليلا

     ويختم الشاعر قصيدته ببيت مفرد يتضمَّن خُلاصة حِكمته في المال فيقول:

يُدركُ المرءُ حينَ يَسخو المعالي
               ويَنــــالُ البَخيلُ مَرعًى وَبِيـــــلا

     ومع اليقين أن هذه الرؤيةَ الحكيمة في المال أصيلةٌ لدى الشاعر؛ لأن غديرَه من سيل نهر الشريعة الغرَّاء، نجده يلتقي بنصوص معلومةٍ لدى شُعراء الحكمة في تراثنا الشعريِّ قبل الإسلام وبعده مثل زهير بن أبي سلمى في قوله:

ومَن يَكُ ذا فَضلٍ فيبخَلْ بفَضلِهِ
               على قَومِه يُســـتَغنَ عنه ويُذمَمِ

     وحاتِم الطائي في قصائده العديدة التي يحاور فيها زوجتَه ماوية التي كانت تحاولُ ثَنيه عن البذل، فيقول لها:

أماوِيَّ إنَّ المـــــالَ غــــادٍ ورائِحُ
               ويَبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ

     والمتنبي في قوله - وهو ماثلٌ لدى الشاعر دائماً-:

لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ ... الجــودُ يُفقِرُ والإقـــدامُ قَتَّالُ

الإنسان والجبن:

     الجبن صفة ذميمة، بخلاف الخوف الذي وصف الله سبحانه به ملائكته المقرَّبين {يخافونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم}، ووصف به عبادَه المؤمنين {يَدعُونَ رَبَّهُم خَوفاً وطَمَعاً}، لذلك يعالج الشاعر صفة الجبن لدى الإنسان معالجةً حكيمة، ويعبِّر عن مفهومه له، وفلسفته فيه.

     فالجبن في نظر الشاعر يفعلُ بالإنسان ما تفعله العواملُ الطبيعية في الصخر الصلد من الحتِّ حتى يتأَكَّل ويضعف ثم ينهار، فيقول:

رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا
               يَحُتُّ المرءَ -إذ يَرضاهُ- حَتّا
ويَتـــرُكُه رِماماً باليـــــــاتٍ
               تَعيثُ بها الرِّيـاحُ وهُنَّ شَتَّى
تُبعثِــــرُها ولا بــــاكٍ عليها
               ومَن يَبكي منَ الأَقــذاءِ بَحتا
تَجنَّبهُ الوَرى سُخطاً وهُزءاً
               وبَتَّ حِبالَهُ الأصحـــابُ بَتّا
ويُبصِــــرهُ فيَمقُته أَخـــــوهُ
               فـــــإن لامُوهُ فيهِ ازدادَ مَقتا

     صورة كئيبة كريهة للجبان يرسمها الشاعر منبوذا يجرُّ أسماله الممزَّقة وكأنه صار كالسامِريِّ الذي يقول: {لا مَساس}!!

     ولكن ما معنى قوله: (رأيتُ الجبنَ قبلَ الموتِ مَوتا)؟! وهل يُذم الجبن قبل الموت، ويُمدح بعده؟ أوهل بعد الموت جبنٌ حتى يكون له ظَرف قبله؟ أعتقد أن الشاعر لا يقصد القبليَّةَ مقابل البعدية، وإنما أراد بما قبل الموت الحياة، فهو يريد أن يقول: رأيت الجبن في الحياة موتاً، ولكنه استخدم بدل كلمة (الحياة) المتوهِّجة بالمعاني الإيجابية المشرقة كلمة (قبل الموت)، وهي تعبير مُنطفئ، فجعل التضادَّ بطباق السلب بدل الإيجاب.

     وأمر آخر يستوقفنا، إذ جعل (الجبن) في الحياة (موتا)، ولا شكَّ في أنه يذمُّ الجبن، ولازمه أنه يذمُّ الموت، بل الموت المشبَّه به أشد ذمّاً، مع أننا علمنا أن الشاعرَ في قصيدته (صداقة) أضفى على الموت كلَّ الصفات الحسنة واتخذه صديقاً نديماً، فهل يجد (القالي) مَطعناً ليقول للشاعر: أنت مخطئ في أحد الأمرين؛ اتخاذ الموت صديقاً، أو تشبيه الجبن بالموت!! وإذا صحَّ الأمران عند الشاعر يكون الجبن صديقاً له غيرَ مذموم!! ولعل الشاعر يُخرجنا من هذه الإشكالية الفلسفية.

     ونعود إلى القصيدة لنرى أن الشاعر يتحدَّث عن دواعي الجبن في حياة الإنسان، فيقول:

وفي الدنيـــا نقــائضُ واعِظاتٌ
               تَبيـــنُ وتَختَـــفي أنَّى نَظَرتــــا
أَلِفنــــاها لكَثــــرتِها فصــارَت
               نديـــمَ حيـــاتِنا جَهراً وصَمتــا
فنَســــكُنُها وتَســـــكُنُنا كأنَّـــــا
               بها الأضيافُ مُصطافاً ومَشتى
تَـــأَمَّلها ستَـــلقاها صَديقـــــــاً
               وجِيـــــراناً لنــا، وأنا، وأنتـــا

     فالأشياء التي يُشير إليها الشاعر مجملاً غير مفصِّل، هي الأمور التي تثير القلق عند الإنسان، فينفخ فيه الوهم، فيتولَّد الجبن في داخله، فإذا هو يذل ويخضع، ولو تأمَّل تلك الأمورَ لوجدها قريبة منه صديقة له، فهم الجيرانُ وأنا وأنت!!

     ونجد هنا إلحاحَ الصداقة على الشاعر مرة أخرى، وهي حالة قلقٍ لديه؛ إذ يجد في الأشياء المجهولة أصدقاء لم يجد مثلها فيمن ظنَّ صداقتهم من الناس!

     ويفتح لنا الشاعر الغدير صفحةً من نقائض الحياة الواعظات.. يفتحُ صفحة من المجهول فيقول:

فتَحتَ الأرضِ ميتٌ وهو حَيٌّ
               بما أَهدى وما أَســــدى وأَفتى
ومَرُّ الدهرِ لا يَمحــــــو جَداهُ
               سَيبقى صَرحُـــهُ نَضراً وثَبتا
وفوقَ الأرضِ أحيـــاءٌ ولكِن
               غَدَوا من إِلفِــهِم للجُبنِ مَوتى

     ويستقي حكمته هنا من الشمسِ الشاهدِ الذي لا يغيب عن الأحياء والأموات فيقول :

تقولُ الشمسُ إنْ طَلَعَت عَلَيهِم
               رأيتُ بَقـــــاءهُم زَيفـــــاً وأَلتا
وإن كـرامةَ الأمواتِ دَفــــــنٌ
               يَضمُّ رُفـــــاتَهُم، فعَسى ولَيتا!

     والشاعر يوظِّف الجملة المتداولة بين الناس (كرامة الميت دفنه) في الاستهزاء بأحياء (الجبن) الأموات، ومنهم الذين تخاذلوا في معركة نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم أمام (الجبن) الدانمركي، فقال فيهم في قصيدته "أبا الزهراء":

وأَخزى اللهُ أَقواماً دَعـــــــاهُم
               إلى الغضَبِ الوَفاءُ فــما أبانُوا
لقد صَمَتوا وإن الصَّــمتَ لُؤمٌ
               لدى الجُلَّى، وأَلهَتـــــــهُم قِيانُ
عَليهِم مِن مَخــــازِيهم غَواشٍ
               ومِلْءُ قُــــلـــــوبِهِم ذامٌ ورانُ
فهُم مَوتى وإن ذَهَبوا وراحُوا
               وهُم جِيَـــــفٌ عَليها الطَّيلَسانُ

     ويُشير إليهم بصريح العبارة بعد أبيات فيقول:

ويَقتَحِمُ الشجاع ذُرا الرَّزايا
               ويَغرقُ في مَخاوِفِه الجبـانُ

الإنسان والزمن:

     زمن الإنسان هو عمره الذي يعيشه، فيملؤه بالخير أو بغيره. وقد استوقف الزمنُ الشاعر الحكيم - أو هو توقَّف عنده - كثيراً يحادثه فيسجِّل مواعظه وعبره.

     وكان ما يسمى رأس السنة محطَّة وقوفه أكثر من مرة، إذا كان يصح أن يُقال ليوم في السنة رأس السنة!! فلكل إنسان رأس سنته، وعدد أيام رأس السنة بعدد الناس على الأرض، ومع ذلك فإن ما اصطلح عليه الناس فرض نفسه، وفرضته حاجة الناس إلى الحساب بدءاً وانتهاء!

     وقد لحظ الشاعر ليلةَ رأس السنة اجتماعَ الناس في ساعة يرقصون ويلهون، والزمن يسرقهم ولا يدرون! فقال يخاطب العام الجديدفي قصيدته "أقبلت تسترق الخطا":

أَقبَلتَ تَستَــرِقُ الخُطا يا عامُ
               والناسُ حَولَكَ ساهٍرونَ قِيامُ
قد أَسكَرَتهُم خَمرَةٌ مِن غَفـلَةٍ
               أَمشــاجُها الأَوهامُ والأَحلامُ
يُســراهُمُ عامٌ تَفلَّتَ وانْطَوى
               ويَميــنُهم يَهفو إليها عـــــامُ

     ويمضي الشاعر واصفاً غفلةَ الناس عن حقيقة الزمن الذي يحتفلون برحيله واستقباله، فيقول:

والعُمرُ يَمضي والرَّدى دونَ المُنى
               وتقَـــــلُّبُ الأيـــــــــامِ والأسقـــــامُ
والأَرشَـــــدونَ ولَيتَني مِن بيـــنهِم
               يَقِفــــونَ حيثُ الحقُّ لا الأَوهــــامُ
نَظَروا إلى الدُّنيــــا فما زاغُوا بِها
               أو أَسكَرَتهُم صَبــــــوَةٌ ومُـــــــدامُ

     وتتكرر التجربة نفسُها مع الزمن في عام آخر، ولكنه هذه المرة ينتبه إلى الأوراق التي تعدُّ أيام العام، فإذا الورقة الأخيرة منها تُنذر برحيل عام وبداية آخر، فيقول الشاعر تحت عنوان (نحن لا نفنى):

مَرحبــاً ياعـــــامُ إنَّا ها هُنــــا
               تَســـــكُنُ الآلامُ فِينـــا والمُنى
كـلُّها تُومي لـنـــــــا إيمــــاءةً
               ربَّما كانت عَلَينـــــا أو لَنـــــا
يَومُنا كالأَمسِ حُــــزنٌ وأَسىً
               لَيتَ شِعري كيفَ نَلقى غَدَنا؟!

     والشاعر الغدير هنا مسكون بهم الأمة الإسلامية، وإن كان هذا الهمُّ لا يكاد يغادره، إذ يسيطر على هذه القصيدة ضمير الجماعة منذ العنوان، في إصرار دالٍّ على الثبات وعدم اليأس، برغم دواعيه الكثيرة التي جعلت الشاعر يتساءل بألم مَشوب بالحيرة والتوجُّس من الغد المجهول (ليت شعري كيف نلقى غدنا؟!)، والبيت يَستدعي إلى الذاكرة مثيلَه من الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى:

وأَعلَمُ عِــــلمَ اليومِ والأَمسِ قَبلَهُ
               ولكِنَّني عَن عِلم ما في غَدٍ عَمي

     كما أجد في وقفات الشاعر مع الزمن وتأمُّلاته فيه ومحاوراته معه نفَساً من الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، إذ له العديد من المقالات في كتبه مع الزمن، والشاعر الغدير من عشاق السياحة والسباحة في أدب الطنطاوي، وقصيدته (شاهد القرن) في الديوان في رثاء الطنطاوي تقوِّي هذا الرأي عندي.

,يبدو الشاعر في حواره للعام الجديد مُستعطفاً غارقاً في حَيرته من الغد المجهول، نازفاً بالأسى والألم من حال الأمَّة، فيقول:

بَيدَ أنَّا أيُّها العـــامُ الذي ... جــاءنا يَعدو بِما حَيَّرَنا
لم يَزَل فِينا رجاءٌ واعِدٌ ... أنْ تُواتِينا وقَد أَفرَحتَنا!

     ويخيَّل إليَّ الشاعر مادّاً يديه إلى العام الجديد بلونه الرمادي البائس كسابقاته يخاطبه، والعام يرنو إليه صامتاً، فيمضي دون أن يجيب، ويفهم الشاعر دلالة السكوت، والصمت حكمة وقليل فاعله! فيقاوم اليأس الذي يحاول اختراقه، فيقول:

أيُّها العامُ الذي نَرنو لـــــه ... مِثـــــلَما جـــاءَ إلينا ورَنـا
قُـــل لِمَن ظَنَّ بأنَّــــــا أُمَّةٌ ... أَوشَكَت تَغرَقُ في لُجِّ الفَنا
نحنُ لا نَفــنى فإنَّــــــا أُمَّةٌ ... لم تـزَل جَذوَتُها مِلءَ الدُّنا

الإنسان والحياة:

     وقد يقف الشاعر مع الزمن في غير ما مناسبة، فيلحظ سرعة تصرُّمه وتقلُّبه بين الأفراح والآلام، فيقول في قصيدة (إذن تفوز):

أَبصَــرتُ في العُمر أَفراحِي كآلامِي
               مُهـراً سريعَ الخُطا يَعـــــــدو بأيَّامِي
هَذي تُخـــــادِعُني والحُسن فِتنـــــتُها
               وتِلكَ تشتَــــدُّ في جَرْحِي وإِسقــــامِي
وَجَـدتُّ نَفسي مَضى عُمري إزاءَهُما
               كأنــــه بعــــضُ يومٍ لاهثٍ ظـــــــامِ

     ونلحظ هنا الهم الذاتيَّ المسيطر على الشاعر، وتعابيره المبنية على ضمير المتكلم المفرد، فالشاعر في صراع مرير مع الزمن، فهو لايكاد يلتقط أنفاسه لاهثاً ظامياً، وإن نسب ذلك إلى العمر، لأن عمر الإنسان هو ذاته، إذ لا إنسان بلا عمر!!

     ويُتابع الشاعر عرض مأساته مع الزمن فيقول:

إذا صَحَـوتُ منَ الأَوهامِ تَأسِرُني
               عادَت لِتَجعَلَني في سِجنِها الدَّامِي
فَهِيَ الأَعادِي وإنْ أَبدَت بَشاشَتَها
               وسَهمُهــا سَهمُ بـادي الكُرهِ غَشَّامِ

     وفي البحث عن مخرج نجاةٍ من الهلاك المحدق من سهام الأوهام الأعداء يسأل الشاعر الشمسَ والبدر:

وكيفَ أَنجو؟! سألتُ الشمسَ طالعةً
               والبدرَ يَحبو الدُّنــا من نُورِهِ الهامِي

     والشمس والبدر شاهدا الليل والنهار، فبماذا نصَحا الشاعرَ، وما الحِكَم التي زوَّداه بها:

قالا: اتَّخِذ مِن يَقينٍ ســــابِغٍ وَزَراً
               واطْوِ المَخاوِفَ في صَبرٍ وإِقـدامِ
وفَوِّضِ الأَمرَ للرَّحمنِ في ثقــــةٍ
               ولُذْ بهِ، فهوَ نِعْمَ العَونُ والحـامِي
إذَن تَفــــوزَ وتَغــــدو كلُّ داهِيـةٍ
               أَشجَتكَ حِيناً سَراباً بيـنَ آكــــــامِ
ويُصبــــحُ العُمرُ أَمنــاً لا يُكَدِّرُهُ
               سَطوُ المَخاوِفِ مِن ناسٍ وأَوهامِ

     والفوز هو الغاية التي يسعى إليها الشاعر، وهي غايةٌ مشروعة {فمَن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنَّةَ فقد فاز}، لذلك نجده يكرِّر عبارة (إذن تفوز) في قصيدة أُخرى بعنوان (زُلفى)، مبشراً نفسه إذا التزمت الخطَّة الحكيمة في منهجها في الحياة، يقول الشاعر وقد اتخذ مشيبه صديقاً نصوحاً حين جاء إليه بالنذير:

وأَبصَرتُ المَشيبَ فقال هَمـساً
               وجَهـــــراً: إنَّ في بُرديَّ حَتـفا
أنــا بُشراكَ إن أَحسَنتَ صُنعـاً
               وإلا فالنذيــــرُ يَمورُ عَصــــفا
فقُلتُ: أُريدُ نُصحَكَ يا صَديقِي
               فمَحِّضْنِيهِ مثـــــلَ النُّورِ شَفّــا
فقــــال: تَوَخَّ نَهــجَ الحَقِّ أَنَّى
               مَضَيـــتَ وكُن بهِ شَهماً وعَفّا

     ويأخذ الشاعر الأمر بجدٍّ بالغ، ويحشد تفكيره كلَّه، فيقول:

حَشَــدتُّ خَواطِري وهَتَفتُ فِيهِ
               رَضِيتُ، فَطابَ بي قَلباً وطَرْفا
وقــالَ: إذن تفوزَ! فقُلتُ: بَهْراً
               سَتَـــــلقاني الفَتى إنْ قالَ أَوفى

     وهذا منه كقول طَرَفَة:

إذا القَومُ قالوا مَن فَتىً خِلتُ أَنَّني
               عُنيــــتُ فلم أَكسَل ولم أَتبَـــــــلَّدِ

     فالمقصود صفاتُ الفتوَّة عند العرب من الوفاء والمروءة والنجدة والترفُّع عن الدنايا، وليس المرحلةَ العمرية التي تجاوزها الشاعر إلى الشيخوخة إذ يقول:

وللسَّبعينَ أَدنو مِن ذُراها
               مَواجِعُها تَبـدَّى أو تَخَفَّى

     والسبعون يذكِّرنا بقصيدة (سبعون) للشاعر عبد العزيز الرفاعي رحمه الله تعالى، وهو صديقٌ حميم لشاعرنا الحكيم، ومن القلائل الذين صَفَت لهم صداقته من الناس، وقد أصفاه بقصيدة في العدد (54) الخاصِّ بالرفاعي من مجلة الأدب الإسلامي أشار فيها إلى هذه القصيدة فقال:

سبعونَ قد وَفَدَ الشِّتــاءُ يَزورُني
               والنارُ قد خَمَدَت وجَفَّ المورقُ
حَنَّت إلى عَبقِ التُّرابِ جَوانِحي
               لا غَرْوَ يَشتـــاقُ الرفيقُ الأَرفَقُ

     والسبعون الذي يتحدث عنه الشاعر الغدير يقف بنا في محطَّته الأخيرة من قصائد الحكمة، وهي (إذا متُّ) جعلها نصائحَ موجهة إلى ابنه إذ أحسَّ بدنو أجله -متَّعه الله بالصحة والعافية- على غِرار قصيدتي مالك بن الرَّيب وأبي فراس الحَمْداني في رثاء نفسَيهما، ولا شك أن التجربة الشعرية تبلغ قمَّتها صدقاً وحرارة في مثل هذا، لذلك جاء المقطع الأول من القصيدة في تصوير خطوات الدَّفن الرهيبة، ثم ينتقل الشاعر إلى توجيه نصائحه إلى ابنه الذي هو امتدادٌ له، فكأنه بذلك يريد منه أن ينالَ ما ناله، و يتدارك ما فاته من الخير، ونجد قضية الفوز والنجاة حاضرةً أيضاً، يقول الشاعر:

وعِشْ صادِقاً شَـهماً يُنقِّي فُـــــــــؤادَهُ
               ومَسعــاهُ أنَّى كانَ في الســـرِّ والعَـلَنْ
وداعِيـــــــةً للهِ يَرجـــــــــــــــو ثَوابَهُ
               ويَشكُرُ في النُّعمى ويَصبِرُ في المِحَنْ
إذن تبـــــلغَ الفَـــــوزَ العَظيمَ وتَرتَقي
               وأَفـــــرَحُ في قَبــــري لما نِلتَه إذَنْ!!

      والشطر الأخير يؤكد صدقَ الإحساس عندي بشعور الامتداد والتواصل لدى الشاعر.

     وبعد.. فهذه جولةٌ في الحياة مع الشاعر الحكيم د.حيدر الغدير في ديوانه (من يطفئ الشمس؟) الذي شبهته بالغدير في مائه وأشجاره وأزهاره، وإن شعر الحكمة فيه هو اللون الأخضر في البستان بانتشاره في كل جزء من الديوان، وإنه الوقار الذي يناسب الشاعر في هذه المرحلة العمرية وهو على أبواب السبعين!!


وقد قدَّم لنا الشاعر حِكَماً كثيرة في أسلوب حيٍّ من حركية الحياة، فجعلها حواراً، وسرداً أقرب ما يكون إلى القصة، مُحلِّقاً بصور شعرية من الخيال المجنَّح، والأداء المهموس المتَّسم برقَّة الكلمات وتناسق العبارات. ومع هذا لم يخل الديوان من بعض الحكم والنصائح التي جاءت مُباشرة على طريقة شعراء الحكمة قديماً، ولكنَّ ذلك لم يعب التجربة؛ لأن المقام تطلَّب ذلك كما في قصيدته التي يَرثي نفسه ويوصي ابنه بعنوان (إذا متُّ)، فلو لجأ الشاعر إلى الخيال والرمز في هذا الموقف لكان ذلك مأخَذاً على تجربته؛ لأن الموقف لا يتحمَّل مثل ذلك.
****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة