الاثنين، 31 مايو 2021

من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير - أ.يحيى بشير حاج يحيى


من يطفئ الشمس؟! للشاعر حيدر الغدير

أ. يحيى بشير حاج يحيى
جمادى الأولى 1440هـ - كانون الثاني 2019م


     عندما تطلع الشمس، ويملأ نورها كل مكان! اثنان هما اللذان لا يبصرانها: الأعمى، والذي يغمض عينيه! وقد يصيبها الكسوف، وقد تحول دونها الغيوم، وقد يطول ليل، ولكن لا يُقبل حكم أحدهم إذا ادعى أنها لن تعود؟! تلك هي الشمس التي لا تنطفئ، كالآية التي لا تغيب أمجادها ولا تندثر! وتلك هي شمس الشاعر التي يتغنى بها ويفخر بها ويتشوق إليها.

     لقد جاءت قصيدة (من يطفئ الشمس)(1) في الديوان الذي يحمل الاسم نفسه؛ في ستة وخمسين بيتاً لا يشبه البيت الآخر، شأنها شأن الأمواج تتوالى وتندفع، ولكنها عند وصولها إلى الشاطئ يتوضح أن لكل واحد منها كياناً، شأن هذه القصيدة في أبياتها المتشابهة وزناً وإيقاعاً حينما يتلقاها القارئ، فمن أنت أيتها الشمس (الأمة)؟ أبياتها ومنذ البيت الأول تهز أعماقك، فتشعر كأنك على ظهر جواد تهز بالسيف وأنت تنشدها:

نحن الخلود، ونحن المجد والظفرُ
               والشـــاهد الدهرُ والأفلاكُ والسِّيَرُ
ونحـن في هامة الأيــــــام هامتُها
               ونحن شـامتها والطيــــبُ والغُرَرُ
لنــا يدٌ في الخطوب الدُّهم صائلة
               وأختها ديمةٌ بالجـــود تنهمرُ(2)

     قصيدة تمثل تاريخ الأمجاد والأخلاق في سبك قوي وصور تأتي عفو الخاطر!

     في المقطع الأول يوجز الشاعر ماهية الأمة؛ وكما يصيب الكسوفُ الشمس أو تحول دونها الغيوم، فرسالة هذه الأمة -على يد مبلغيها- قد يضعف الأخذ بها، ولكن تبقى مهيأة في كل وقت للإشراق والعودة! وهي أمة ذات رسالة، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44].

ومعقل نحن للإســـــلام نحرسه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه، نحن أدرعـه
               ونحن سيـف له عــــاداته الظفر
إذا غُلِبْنـا فلا يــــــأسٌ ولا خَوَرٌ
               وإن غَلَبْنا فلا ظلم ولا أشـر(3)

     وأما الظلم فلا نقبله، كما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب: (إني ليعجبني الفتى إذا سيتم خطة خسفٍ أن يقول بملء فيه: لا).

ويوقظ الظلمُ منا كل مَنْ هـــــمدوا
               ويوقد البغيُ منا كلَّ مَنْ فتروا(4)

     وهي الأمة التي هزت صرخة (وامعتصماه!) معتصمها:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفتْ
               ونحن أثبـــــتُ منـــــها حين تنفجـــــرُ
وكـلـما كانت الأخطــــــار فـــــــادحة
               كنـــــا على ثـقـــــة أنا سننتـــــــصرُ!
والـنصـــــر أقربُه منـــــا وأســــرعُه
               إذا الطواغيت من إسلامنا سخروا(5)

     وللأمة مجالات فخرها لا بالبناء، ولا في التعالي بالبنيان، ولكن في الترفع على الصَّغار:

خيرٌ من الصرح قد راع الضحى نَضِـراً
               نفس لبـــــانيه، وهي المعـــــدن النضِــرُ
والصــــــرحُ زينتُه قبــــل التراب رؤىً
               فالســـابق الفكرُ، والتالي هو الحجرُ(6)

     وهذه المعاني تنبثق من مشكاة واحدة كما قال القطامي:

ومن تكن الحضارة أعجبته ... فأي رجال بادية ترانا(7)

وقال أبو كدراء العجلي:

بنى البنـــــــاة لنا مجداً ومكرمة ... لا كالبناء من الآجر والطين(8)

     والقصيدة الشمس لا تخلو من شواهد التاريخ بأشخاصها، وهي التي تركت بصمات في صحائفها، سبق السلف، والخلف على إثرهم ماضون:

لــــــذاك أمتنــــــا حبــــــلى بكــــل فتى
               هو المثـــــنى أو الصديــــق أو عـمـــــر
أو الرشيـــــد تحـــدى غيـــمة عبــــرت
               فاستســــــلمت وهمى من فوره المطـــر
فجـــــاءه فيـــــؤها عجــــــلان في وجل
               والقلب مضطرب، والطرف منكسر(9)

     وهي التي ولدت بعد ذلك صلاح الدين ونور الدين وبيبرس وغيرهم!!

     وهذا النفس الطويل في القصيدة يقربها من الشعر الملحمي، لكن بعيداً عن الأسطورة والخيال، لأنها تتحدث عن واقع تاريخي نستلهم بطولاته وأمجاده، وقد اعتمدت البحر البسيط الذي يصلح لكثرة تفعيلاته وتعددها، أن يحمل الزخم الشعري شأنها في ذلك شأن قصيدة أبي تمام.

الســــيف أصدق إنباء من الكتــــب
               في حده الحد بين الجد واللعب(10)

     ولكن قصيدة أبي تمام تحدثت عن واقعة بعينها، وهذه القصيدة استعرضت أمجاداً ومواقف تذكر بعظمة الأمة ورسالتها!

     ويبرز فيها المعجم اللغوي (المخزون التراثي) بألفاظ عربية فصيحة (ذو صيد – الوزر – الظبا – أضرى) ولا تبدو غريبة من خلال السياق الذي جاءت فيه.

     وإذا كانت الانفعالات - كما يقول النقاد - ترتبط بالشعر، والأفكار بالنثر؛ فإن القصيدة قد زاوجت بينهما، فليس ثمة تعارض، ولكن مجرد اختلاف.

     ولم يكن التقارب بينها وبين قصيدة أبي تمام في الموضوع فحسب، ولكن في بعض الصياغات:

تدبيــر معتصــــم بالله منتقــــم
               لله مرتقب في الله مرتغب(11)

     فأبو تمام حصرها في شخص المعتصم، وشاعرنا جعلها في الأمة:

في كل أرض لنــــا من مجدنـــــا أثـــر
               وفيــــه ما يتمنى الســــمع والبصــــــر
الحـــق جوهره، والحســـــن منظــــره
               والعدل مخبره، والنصح لا الغرر(12)

     ويبلغ الشاعر ذروة الفخر والاعتزاز بالأمة تاريخاً ورسالة:

من يطفئ الشمس؟ نحن الشمس خالدةً
               أما عدانـــــــا فـــــآل ثم ينحسـر(13)

     وكأننا نسمع صدى ما قاله الأقدمون، ولكن في قبائلهم، كقول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا بلغ الفطام لنـا صبيٌّ ... تخر له الجبابر ساجدينا

     أو قول جرير:

إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا

     ولكن تنفرد قصيدة (من يطفئ الشمس) برؤيتها؛ كما تنفرد الشمس بنورها:

أمجــــــادنا مثــــــلنا خير ومرحــمة
               بها المفـــــــاخر قبل النـــــاس تفتخر
صرنـــــا لهم ولنـــا أنشودة صدحت
               يزينها الشيِّـقـــــــان الشعر والوتــــر
ونحن بـــــــاقون تعـــــــلينا هويتــنا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشر(14)

----------------
(1) ديوان من يطفئ الشمس، حيدر الغدير، دار المؤيد، الرياض، الطبعة الأولى، 1427هـ- 2006م، ص 9. وفي ديوان الأعمال الكاملة (2/143).
(2) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(3) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(4) ديوان من يطفئ الشمس، (ص9).
(5) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10).
(6) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12).
(7) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (1/129)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
(8) انظر: شرح التبريزي لديوان الحماسة لأبي تمام، (2/335)، الموقع الرسمي للمكتبة الشاملة الإلكترونية. http://shamela.ws/browse.php/book-6907/page-128
مع ثلاثة أبيات قبله:
يــا أم كدراء مهــــــلاً لا تلوميــني ... إني كريـــــم وإن اللوم يؤذيــــــني
فـــــإن بخلت فإن البخل مشتـــرك ... وإن أَجِدْ أُعْطِ عفواً غير ممنـــــون
ليست ببـــاكية إبلي إذا فقــــــــدت ... صوتي ولا وارثي في الحي يبكيني
بنى الـبنـاةُ لنا مجــــــــداً ومكرمة ... لا كالـبنــــاء من الآجــــرِّ والطيـــن
(9) ديوان من يطفئ الشمس، (ص10-11).
(10) بيت مشهور لأبي تمام من قصيدته في فتح عمورية.
(11) بيت من قصيدة أبي تمام في فتح عمورية.
(12) ديوان من يطفئ الشمس، (ص11).
(13) ديوان من يطفئ الشمس، (ص13).
(14) ديوان من يطفئ الشمس، (ص12- 13).

من يطفئ الشمس؟ د. أحمد البراء الأميري

من يطفئ الشمس؟

د. أحمد البراء الأميري
الرياض – الجمعة
27/ 11/ 1428ﻫ - 7/ 12/ 2007م


     "من يطفئ الشمس"؟ لا أحد من البشر يمكنه أن يطفئها! وكذلك الأمة المسلمة التي أهدى إليها الشاعر الدكتور حيدر الغدير ديوانه الأول، لا يمكن لأحد أن يطمس نورها.

     في الصفحة الأولى من الديوان نجد الإهداء:
     إلى الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء!

     "من يطفئ الشمس" – إذن – هو عنوان ديوان، وعنوان القصيدة الأولى من خمسين قصيدة ضمها الديوان.

     صدر الديوان في أول عام 1427ﻫ، وفي أواخر العام نفسه صدر أخوه الذي يضم خمسين قصيدة أخرى، ويحمل عنوان القصيدة الأولى التي جاءت فيه: "غداً نأتيك يا أقصى".

     الديوان – على صغره – غني، فالشاعر مكثر من الشعر، طويل النفس فيه، متمكن من بحوره، لا تكاد تجد فيه قصيدة قصيرة، فهو إما قصائد طوال[1]، وإما قصائد متوسطة الطول، وقد قاربت أبياته الألفين. فالقارئ – إذن - أمام مائدة شعرية حافلة، متعددة النكهات؛ فيها الإخوانيات الخفيفة، وهي قليلة، وأكثرها: تأمل واعتبار، وحنين إلى الديار، ومناجاة للكريم الغفار، ورثاء لمن رحلوا من الأبرار.

     ومن أجمل ما يطبع الديوان - في نظري - روح التفاؤل التي يشع نورها فيه، وشرف مقاصده ومعانيه. ولأضرب للقارئ الكريم بعض الأمثلة على ما أقول:

     القصيدة التاسعة عشرة عنوانها: "في ليلة القدر" وقد قدمها الشاعر بسطر قال فيه: "ملأني يقين لا حد له أني أحد الذين أكرمهم الله بالظفر بليلة القدر"، وعن بشارات الليلة يقول:
وعاينت القبول وبشريــــــــات
               كأن السعــــــد فيها مهرجــــان
أشرن إلي أن العفو غَـــــــــدْق
               ودون مداه ينعـقـــــد اللســـــان
ولاح الفوز يدعوني إليــــــــــه
               وهـــــــش إليّ يدعوني الأمـان
وجئت الحشر قد غفرت ذنوبي
               طليـــــقاً لا أديــــــــن ولا أدان

     ومن أعجب القصائد قصيدة يعقد الشاعر فيها "صداقة" مع الموت! وفيها يقول:
أخافني الموت دهراً ثم صافـــــاني
               وقال لي: لست بالعادي ولا الجاني
فمـات خوفي منه، وهو بـــــــادلني
               حباً بحب، وناجاني وآخـــــــــــاني
أتــــانيَ الموت في رفق وفي حدب
               يقتادني عن شقاء العالم الفــــــــاني
فزال عني غطائي وانجلى بصـري
               يرنو، وبي لهفة للعالم الثــــــــــاني
وطار بي أمل جذلان يغمــــــــرني
               أن الكريم تولاني وأدنــــــــــــــاني

     هذا مثالان واضحان على روح التفاؤل العالية التي يشرق نورها في ثنايا الديوان. أما شرف المعاني فالدلائل عليه كثيرة، منها: قصيدة "حبل الله" التي يقول في مطلعها مناجياً ربه سبحانه:
إذا أقصيتني فبمن أكــــون؟ ... ومن أرجو سواك وأستعين؟

     ومنها: عدة قصائد في المدينة المنورة، طيبة الطيبة، التي يخاطبها في أبيات كثيرة تنضج بالحب والحنين، كقوله:
غنيت في حبها أحلى أناشيـدي ... وأزهرت كالربا فيها أغاريدي

     وقوله:
أتيت طيبة مثل الطائر الغـــــــــرد
               أرجو البراءة من إثمي ومن كمدي
أومت إلي، فأغرتني، فطـــرت لها
               على جناحين: من شوق ومن رشد
حتى التراب غدا كحلاً لبـــاصرتي
               أما سناها فنسغ الروح والجســــــد

     ذكرت أن من موضوعات الديوان: التأمل والاعتبار، والرثاء لبعض من رحلوا من الأبرار. ولألقِ بعض الضوء على هاتين النقطتين.

الأولى: قل لي من ترثي.. أقل لك من أنت!

     من الطبيعي أن يرثي الشاعر أمه وأباه، وأخته وأخاه، وزوجه وولده، وهذا الرثاء تعبير عن العاطفة الإنسانية المشتركة بين الناس، ولكنه قد لا يكشف عن فكر صاحبه وروحه واتجاهه.

     أما رثاء الأعلام فمنه تعرف فكر الشاعر ونفسيته بل وهواه. وإذ نظرنا في المراثي التي ضمها الديوان، رأينا قصيدة في رثاء أمه، وأخرى في أخيه. أما القصائد الأخرى ففي الشيخ أبي الحسن الندوي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، وعلامة العربية الشيخ محمود شاكر، رحمهم الله جميعا.

     فقصيدة "لوحت للناس" يخاطب فيها الشيخ أبا الحسن الندوي بقوله:
بقية السلف الأبرار قد كرمـــــــــوا
               وأنت فيــــهم ومنهم نجـــــمة تقــــد
أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحـاً
               بالأتقيــــــاء وبـــان الصدق والفنـد

     وقصيدة "ترجلت في التسعين" يخاطب فيها الشيخ عبد العزيز بن باز بقوله:
مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر
               وضــــم غواليــــــه المطهرة القبــــــر
وسار به النعش المهيــــــــب وأكبُــــد
               حرار عليها من مهابته وقــــــــــــــــر
يضوع الهدى منه نقيــــــــــاً مُمَسّـــَكاً
               كما ضـــاع من أغلى قواريره العــطر

     وقصيدة "شاهد القرن" يخاطب فيها الشيخ علي الطنطاوي بقوله:
سبعين عاماً عشت فــارس حلبة
               لك في المحافل شدة وترفــــــــق
المسلمون عشيرة لك كلـــــــــهم
               إن يحزنوا، أو يفرحوا، أو يقلقوا
أما الدعــاة فأنت فيهم والـــــــــد
               يحنـــو، ويصـلح بينهم، ويوفــق

هذه هي النقطة الأولى.

أما الثانية فهي: التأمل، والاعتبار المبثوث في كثير من صفحات الديوان.

     ومن أمثلته:
    حواره مع قصر الحمراء بغرناطة في قصيدة "بعض الرؤى"، ومع الشيب في قصيدة "فرار"، وقصيدتا: "أقبلت تسترق الخطا" و"نحن لا نفنى" اللتان يخاطب في كل منهما عاماً جديداً، وفي الثانية يقول:
أيها العـــــام الذي نرنو له
               مثلما جاء إلينا ورنـــــــــا
قل لمن ظن بأنـــــا أمــــة
               أوشكت تغرق في لج الفنا
نحن لا نفنى فإنـــا أمــــة
               لم تزل جذوتها ملء الدنا

     ومن أمثلة التأمل والاعتبار قصيدة "وأسلمت للرحمن"، ومن أبياتها:
خـلوت إلى نفسي وأمعنت في صمتي
               وفي الصـمت أسرار تبوح بلا صوت
وحيـداً وحولي من رؤاي شـــــــوارد
               يقـاسمنني صمتي ويرتعن في بيــــتي
أحــــدق في الأيـــام وهي رواحــــــل
               فهذي بنا تمضي وهذي بنـا تــــــــأتي
ولما رأيت الدهر تمتــضي ركابــــــه
               سراعاً بنا، من خـائفين ومن ثــــــبت
وأن المنــايا - كالأمــاني - مـــواثـــل
               نواء، دوان، ليس منـهن من فــــــوت
عزمت على التفـــــويـض لله واثقــــاً
               فطهرت وجداني وأصلحت من سمتي

     وبعد؟ فالقول في ديوان "من يطفئ الشمس" متسع الأنحاء يضيق عنه المقام، ولكن ما لا يدرك كله يدرك بعضه، وفي هذا البعض غناء. والله الموفق.

-----------------------------
[1] مثلاً: قصيدة "يا شام" 65 بيتاً، و"شاهد القرن" 60 بيتاً، و"الصقر" 75 بيتاُ.

الأحد، 30 مايو 2021

قراءة في ديوان "من يطفئ الشمس؟" - أ. محمد صالح الشمّري

قراءة في ديوان: من يطفئ الشمس؟

للشاعر حيدر الغدير

أ. محمد صالح الشمّري
نشرت في مجلة المجتمع - الكويت - العدد (1775)
23/ 10/ 1428ﻫ - 3/ 11/ 2007م

     تتبدى لك الأناقة من الغلاف الأول؛ حيث اللوحة الجميلة، وخط الثلث (سيد الخطوط) الذي لا يعترف أهل هذا الفن بانتماء أي خطاط إلى صنعتهم ما لم يتقن هذا النوع مهما علا كعبه في بقية الخطوط ومهما أجاد فيها وقدم، حيث يرصع هذا الخط اسم الديوان بكل التحدي والسمو: من يطفئ الشمس؟!!

     ثم يلج بك هذا المدخل الجميل بسلاسة ومتعة إلى مئة وتسع وثلاثين جوهرة منظومة بشعاع من أشعة تلك الشمس العصية على الانطفاء.

     وعلى الرغم من أن الشاعر طوّف في ديوانه على مواضيع عديدة متباينة ومتباعدة – معظمها شخصي إذا جاز التعبير – إلا أن انتماءه وتكوينه الفكري والنفسي والثقافي ساقه إلى جعل قصيدة تتحدث عن (الأمة) عنواناً لهذا الديوان، ولم يترك له هذا التكوين أي خيار آخر، وهذا يميّز الشعراء الملتزمين مهما شرّقوا وغرّبوا في قصائدهم ومواضيعها.

     ولأن الشاعرية لدى شاعرنا (حيدر الغدير) أصيلة وفطرية ولها سطوة على كيانه.. دفعته إلى اختيار رسالتيه (الماجستير والدكتوراه) في قمم من ذرا وادي النيل الملهم، وسفوح لبنان الساحرة: البارودي وحافظ وشوقي وعمر أبو ريشة. وهنا يظهر لأي ناقد أمران واضحا الدلالة:

الأول: أن شاعرنا اختار شعراء، ولم يختر مفكرين أو علماء في الفقه أو النحو أو البلاغة أو.. أو.. إلخ.

والثاني: أنه اختار قمماً سامقة في سماء الشعر من مصر ومن بلاد الشام.. فهو (وحدوي) في أعماق أعماقه، كما هو ذوّاقة في تلك الأعماق أيضاً. فالبارودي وحافظ وشوقي هم ملوك الشعر، وإليهم تردّ الجزالة والبلاغة والشاعرية في أدبنا الحديث، وفي بلاد الشام من غير عمر أبو ريشة يماثل تلك المكانة السامية مَن؟

     يقدم الشاعر هويته للقارئ من أول قصيدة من عنوان ديوانه لا إرادياً، كما أسلفنا، على الرغم من أن الديوان مترع بالقصائد الوجدانية الصوفية التي تتدفق بالإيمان: (حان الوداع، أسلمتُ للرحمن، في ليلة القدر.. إلخ) إلا أنه اختار القصيدة التي تقول:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشاهد الدهر والأفـلاك والسِّيَر
ومعقل نحن للإسلام نحرســـــه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدى
               ونحن تكلؤنا قبل الظِّبا الســــور
في كل أرض لنا من مجدنا أثـر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــة
               بها المفاخر قبل الناس تفتخــــر

     حتى يقول:

ونحن باقــــــــــــون تعلينا هويتنـــــا
               وهي الرســــــــــالة لا ما زيّف البشر
من يطفئ الشـمس نحن الشمس خالدةً
               أمّا عدانــــــــــا فــــــآل ثم ينحســـــر

     أرأيت - عزيزي القارئ - إلى هذا الفخار والاعتزاز الذي يرى أيادي أمته ورسالتها في كل زمان ومكان وإنسان وحضارة!؟ وإلى هذه الشاعرية الفياضة التي تنهل من بحر لا حدود له!؟

     ثم يأخذ بعد هذا المدخل المهيب بيد القارئ، بل بقلبه ووجدانه في حديقة متنوعة الأزهار والعبير والشذا، بين وجدانيات ووفاء لمسقط رأسه وحبه الأول: دير الزور وفراتها الخالد الذي هام به الشعراء على مرِّ التاريخ، وكذلك صفو المحبة للوالدة والأخ والعلماء والأصحاب... إلخ، كل ذلك بين جدٍّ وهزلٍ يبعد عن النفس كل ملل، وبكل المتعة والفائدة، فلا يكاد قارئ الديوان يبدؤه حتى يوغل فيه مسلوب الإرادة يغترف من بحر الدرر واللآلئ.

     وقديماً قالت العرب: إن الحنين إلى الديار دليل أصالة. ولشاعرنا فيها رصيد لا ينضب، فهو لا يكتفي بالحنين والمديح لمدينته وفراتها وحسب، بل هو يهيم بدمشق وحمص، فعقله الباطن يشده مرغماً إلى مدح كل ماله صلة بتلك المدينة، وذلك النهر:

     ففي قصيدة (عودة) نجدهُ يقول:

عدت شيخاَ تقودني أشواقي
               والأمانيُّ جذوتي ورفـــاقي
وأنا عاشق مرابع أهــــــلي
               وهم الســاكنون في أعماقي
وهم الساكنون عقلي وقلبي
               وهم الكحـــل ساكناً أحداقي

     وفي قصيدة (أيها النهر) يقول:

أنت بين القلوب والأحـــــداق
               أيها النهر يا عصي التـــلاقي
ساكن في بنيـــك حيث تولـوا
               في القريب الداني وفي الآفاق
شرّقوا وغرّبوا وأنت نزيـــل
               ظاعن في قلوبهم والــــتراقي

     وفي قصيدة (يا شام) يقول:

يا شام أنت على الزمان وسام
               بــــاق بقاء الخلد ليس يضــام

     وفي قصيدة (يا حمص) يقول:

يا حمص إني عاشق مفتــون
               بخصالك الحسنى وهنَّ فنون

     أخيراً فإن الشاعر لا يهدي باكورة إنتاجه إلى والدة أو زوجة أو ولد، بل يهديها وبكل حلاوة القطفة الأولى.. إلى: (الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء..).

     يخيل إلي أن هذا الديوان كان في البدء حديقة غنّاء رآها الشاعر، وافتتن بها، فتماهى فيها أو تماهت هي في وجدانه، فكانت هذا الديوان المتميز بحق، والذي يشكل إضافة نوعية لديوان العرب الذي يضم كل ثمين.

***

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!" - أ.صدقي البيك

جولة في ديوان "من يطفئ الشمس؟!"

أ. صدقي البيك
نشر في مجلة المستقبل الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي
العدد (188) - ذو الحجة 1427هـ، الرياض


     إذا كان هناك تعبيرٌ شائع عن "إمبراطوريَّة لا تَغيب عنها الشَّمس"، فإنَّ هنا ما هو أبلغ من ذلك في التعبير عن الإسلام، وامتِداده المكاني والزَّماني، فهو شمس، وأنَّى لأحدٍ أن يُطْفئها؟!

     هكذا أراد الشَّاعر الدكتور حيدر الغدير أن يُبْدِي اعتِزازَه بالإسلام، وإعْجابه بِما قدَّمه المسلِمون قديمًا، وما يُمكِن أن يقدِّموه على مدى الأزْمان المقْبِلة.

مَنْ يُطْفِئُ الشَّمْسَ نَحْنُ الشَّمْسُ خَالِدَةً
               أَمَّــــــا عَدَانَـــــا فَــــــآلٌ ثُمَّ يَنْحَـــسِرُ

     ومِن هنا حمَّل ديوانه الأوَّل هذا العنوان المتميِّز، وصدَّره بقصيدةٍ تَحمل العنوان نفسه، ويضم الديوان 50 قصيدةً يمتدُّ تاريخ نظمِها من أواخر عام 1413 هـ الموافق لأواسط عام 1993 م، إلى ربيع هذا العام 1427 هـ الموافق 2006 م، وقد رتَّب الشاعر قصائدَه ترتيبًا زمنيًّا، بالسَّنة والشَّهر واليوم بالتَّاريخيْن الهجري والميلادي، وصدرتْ طبعته الأولى في هذا العام.

     وتتنوَّع القصائد فيه، وأكثرها إخوانيَّات بين ثناء ورثاء ومداعبة (22 قصيدة)، ثم رُوحانيات (13 قصيدة)، وتسْع قصائد فكريَّة عامَّة، وست قصائد وطنيَّة، وكلُّ هذه القصائد عموديَّة إلا قصيدتيْن كانتا من الشِّعْر الحر - شعْر التفعيلة - أولاهما (ستار) في ذكرى موت نِزار قباني رثاءً له، وقد اتَّخذ الشَّاعر من موتِه عظةً وعِبرة ممَّا يصير إليه الإنسان، مهما علا شأنه في دنيا الشعر، ومهْما مشتْ في موكب جنازتِه القصائد والقُلوب والمُعْجبون، ولكن:

"ماذا وجدت وقدْ صحوْتَ وأنت وحْدَك يا نزارْ
فانطِق فقد سُدِل الستارْ
وانطِق فقد كُشِف الستارْ"

     والثَّانية "يا خالقي ما أكرمك!" وهي من روحانيَّاته، يجول في مقاطعِها مسبِّحًا لله معلقًا عليه رجاءَه، مستجْديًا كرمَه، خاتمًا كلَّ مقطع منها بـ "يا خالقي ما أكرمك!".

دفاعًا عن رسول الله:

وإذا كان قد قدَّم آخِر قصيدة له زمنيًّا، لتكون فاتحةَ الديوان ومانحة له عنوانه، فإنه جعل خاتمة الديوان مكانًا وزمانًا دفاعًا عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – في قصيدته "أبا الزَّهراء"، وهي أطول قصائد الديوان، 100 بيت - بعد أن تعرَّض جنابه الكريم لهَجْمة ممَّن أعماهم حقْدُهم على الإسلام، عن أن يقدِّروا أهْل القدر ويعطوهم حقَّهم من الإجلال والتعظيم، الذي أعْطاه إيَّاه واحدٌ من المنصفين منهم، هو مايكل هارت مؤلِّف "المئة الأوائل" الأكثر تأثيراً في العالم، حين جعَله على رأْس هؤلاء المئة في تأْثِيرهِم الحضاري على الإنسانيَّة، ويفتتح الدكتور حيدر دِفاعه عن رسول الله بافْتِدائه فيقول:

فِـدَاؤُكَ قَبْـــلَ قَافِيَتِي الجَنَـــانُ
               وَقَبــْلَ السَّيْفِ رُوحِي وَالبَيَانُ

     مندِّدًا بهؤلاء الحمقى الذين سينضمُّون إلى قافلة المتحطِّمين على صخْرة الإسلام:

وَأَمَّـــــا شَانِئُـــــوكَ فَهُمْ بُغَاثٌ
               وَفِرْيَةُ أَحْمَقٍ هَانَتْ وَهَانُـــــوا
سَتَطْـــوِيهِمْ ضَلالَتُـــهُمْ لِيَغْدُوا
               نِفَايَــــــاتٍ يُطَارِدُهَا اللِّعَــــانُ
عِدَاكَ وَأَيْنَ هُمْ؟ هَلَكُوا وَبَادُوا
               وَبَادَ ضَجِيجُهُمْ وَالْهَيْلَمَــــــانُ

     ويخاطب عيسى - عليه السلام - شاكيًا له مَن يدَّعون اتِّباعه، وهم أبْعد النَّاس عن طُهْرِه ونقائه:

وَيَا عِيسَى، فَدَيْتُكَ جِئْتُ أَشْكُو
               وَأَنْتَ الطُّهْرُ نَضْرًا وَالحَنَـانُ
أَذَاةَ ذَوِيكَ، قَدْ جَهِلُوا وَضَـلُّوا
               وَعَــــاثُوا بِالنُّبـُوَّةِ وَاسْتَهَـانُوا

     ويختم قصيدته هذه بأن ينْقل إلى الرسول - عليْه الصلاة والسلام - تحيَّات مئات ملايين المُسْلمين، وآمالَهم وتضحيَّاتهم وافتِداءاتِهم له:

وَيَا مَوْلايَ حَمَّلَنِي سَــــلامًا
               لَكَ المِلْيَارُ أَخْلَصَهُ الجَنَــانُ
وَعَهْدًا أَنْ يُفَدُّوكَ احْتِسَـــابًا
               وَهُمْ صُدُقٌ وَأَفْئِدَةٌ هِجَــــانُ
وَأَسْيَـــافٌ مُظَفَّرَةٌ وَخَيْــــلٌ
               لَهَا فِي الخَطْبِ إِقْدَامٌ وَشَانُ

     ولا يفوته أن يغْني قصيدتَه بأشطُر من بائيَّة شوقي التي سارتْ بها الركبان، وترنَّمت بسماع أدائها الآذان: "أَبَا الزَّهْرَاءِ قَدْ جَاوَزْتُ قَدْرِي"، "وَمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بِالتَّمَنِّي"، "وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنَالُ".

وهكذا يا رسول الله:

سَتَبْقَى النُّـــورَ مَا بَقِيَ الزَّمانُ
               وَمَا زَانَ الرِّيـــاضَ الأُقْحُوَانُ
وَمَا طَلَعَتْ عَلَى الآفَاقِ شَمْسٌ
               وَمَا صَـــــدَحَ الْمُؤَذِّنُ وَالْأَذَانُ

       ***

إخوانياته:

     وفي إخوانياته أَثنى على عدد من زملائه ومعارفه، وهجا بعض مَن أساء إليه بغدره وقِلَّة وفائه، وداعَب آخرين بروح مَرِحة، ورثى مَن أدركهم الموتُ من الشخصيات الإسلامية المتميِّزة في الفكر الإسلامي والأدب والصحوة، ممن يُكِنُّ لهم المحبَّة والتقدير؛ منهم: محمود محمد شاكر، وعبد العزيز بن باز، وعلي الطنطاوي، وكذلك رثى أخاه ووالدته.

***

رثاؤه لأمه:

وفي رثائه لوالدته تتفجَّر مكامن العاطفة في صدره، ويحزُّ في قلبه أنه لم يتمكَّن من رؤيتها قبل أن يبعدها عنه الرَّدى، فيقول:

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَضُمَّ ثَرَاكِ
               وَتَرَيْنَنِي قَبْــلَ الرَّدَى وَأَرَاكِ
وَأُقَبِّـلَ الْكَفَّ الطَّهُورَ مُتَمْتِمًا
               بِالْآيِ آمُلُ أَنْ أَحُوزَ رِضَاكِ

     ولكن يشاء الله - الذي لا رادَّ لقضائه - أن تقضي أمُّه وهو بعيد عنها؛ فيعيش في حسرتين: حسرة بُعده عنها، وحسرة وفاتها من غير أن يراها وينام بين يديها هانئًا سعيدًا كأنه طفل رضيع، وإن كان قد بدأ الشيب يغزو رأسه، وكان هذا المقطع الأول من القصيدة مفعَمًا بالحب والتَّوق إلى أمه:

وَأَنَامُ بَيْنَ يَدَيْكِ نَوْمَــــــةَ هَــــانِئٍ
               وَكَأَنَّنِي وَبِيَ الْمَشِيـــــبُ فَتَـــــاكِ
وَكَأَنَّنِي الطِّفْلُ الَّذِي رَضَعَ الْهُدَى
               وَالدَّرَّ مِنْــــــــكِ وَدِفْأَهُ وَحَجَـــاكِ

     ويرنو إلى وجهها موزِّعًا نظراته فيه فلا تشبع عينه من هذا التمتُّع، ويتبادل مع أمه نظرات السعادة والغِبطة:

وَتَجُولُ فِي الْوَجْهِ الْمُكَرَّمِ مُقْلَتِي
               وَتَجُولُ فِيَّ سَعِيدَةً عَيْنَــــــــــاكِ

     وكل هذه الأماني طواها الرَّدى، وسبقته أمه في رحلتها الأبدية التي لا مفرَّ لأحد منها:

لَكِنْ سَبَقْتِ، وَكُلُّنَا فِي رِحْـــــلَةٍ
               يَجْتَازُهَا الرَّاضِي بِهَا وَالشَّاكِي

     ولذلك يعود إلى ذكرياته معها لعلَّه يجد فيها ما يُسَلِّي به نفسه عن هذه الخسارة الفادحة، وأجلُّ هذه الذكريات مقابلته لها في حجها إلى الديار المقدَّسة، وهو فيها مقيم، فتُورِق فرحته ويتحقَّق حلمها برؤية ولدها وهي تمتطي إليه شوقها القديم، فيغمرها الرضوان وتبكي فرحًا لهذا اللقاء ولتأديتها الحج وهو أكبر أمنيَّاتها، ويشير إلى صبرها على ما لاقته من عَنَت الظالمين، حتى أراحها من أهوالهم الموت:

وَصَبَرْتِ وَالْأَهْوَالُ حَوْلَكِ جَمَّةٌ
               صَبْرَ الْحَرَائِرِ فْي الْأَذَى الْفَتَّاكِ
حَتَّى لَقِيـــتِ الْمَوْتَ مُنْيَةَ وَامِقٍ
               فَأَتَيْتِهِ مُشْتَاقَــــــــةً وَأَتَــــــــاكِ

     ولا يفوت شاعرَنا في هذه القصيدة أيضًا أن يستحضر ما يتردد على أذهان السامعين وآذانهم، وألسنتهم من شعر ردَّدته الحناجر الندية فيُضمِّن منها "وَالذُّكْرَيَاتُ صَدَى السِّنِينِ الْحَاكِي" لأمير الشعراء شوقي.

     فليتغمد الله برحمته هذه الأمَّ الحنون الصابرة على بُعد ولدها، وليلطف الله بهذا الولد البارِّ الذي عزَّ عليه اللقاء بأمه وصعب عليه فراقها الطويل فيصيح:

أُمَّاهُ، إِنْ عَزَّ اللِّقَــــاءُ وَفَاتَنِي
               فَغَدًا يَطِيبُ عَلَى الْجَنَانِ لِقَاكِ

       ***

دعاباته:

     وإذا كنا قد شاركنا شاعرنا أحزانه ولَوْعاته بفَقْده والدته الغالية، فلنشاركْه في دعاباته الأخوية لأهل حمص في قصيدته "يا حمص"، وهي مدينة يُوصَف أهلها بالفطرة وطيبة القلب والبساطة أو سَمَّها ما شئت، ويقدِّم قصيدته برغبته الحارة "أن أكون حمصيًّا لأن لدي عددًا من المؤهلات التي تجعلني جديرًا بهذه النسبة"، ويلقيها في حفل زفاف، فيكون لهذه الدعابة من الأثر ما يمتع المحتفلين، مفتونًا بأبنائها الغُرِّ الكرام وصباياها الحسان معدِنًا ومنظرًا:

يَا حِمْصُ إِنِّي عَاشِقٌ مَفْتُـــــــــونُ
               بِخِصَـــالِكِ الْحُسْنَى وَهُنَّ فُنُــــونُ
أَبْنَاؤُنَا الْغُرُّ الكِرَامُ جَـــــــــــدَاوِلٌ
               وَبَنَـــاتُكِ الرَّيْحَــــــــانُ وَالنَّسْرِينُ
يَا حِمْصُ عِنْدِي فِي هَوَاكِ شَوَاهِدٌ
               وَقَصَـــــــــــــائِدٌ وَحَقَائِقٌ وَظُنُونُ

     وما ندري ما هذه الظنون بعد الحقائق؟

يَا حِمْصُ جُودِي لِي بِمَا أَهْفُو لَهُ
               لِأَظَــــــــلَّ أَعْلُو سَيِّدًا وَأَكُـــونُ
كَبَنِيكِ حَيْثُ "جُنُونُهُمْ وَفُنُونُـهُمْ"
               وَأَظَلُّ أَحْفَظُ عَهْدَهُمْ وَأَصُـــونُ
يَا حِمْصُ أَعْطِينِي مُنَايَ فَإِنَّنِي
               أَرْجُو الْوِصَالَ وَإِنَّنِي مِسْكِيــنُ
جِنْسِيَّةً أَزْهُو بِهَــا في صُحْبَتِي
               وَكَأَنَّنِي فِي عَرْشِهِ هَــــــارُونُ

     وإذا كان يجوز للحمصي بالولاء أن يستجيب لرغبته وأن يحقق له مناه، فإنني أرحِّب به أخًا حمصيًّا كريمًا، وكان باستطاعته أن ينال هذا الشرف من غير إلحاحٍ في الطلب، لو أنه عرَّج على حمص في سعيه إلى دمشق لاختيار شريكة حياته، ولو فعل ذلك لتغنى بحمص جادًّا تغنِّيه بدمشق ومَن فيها:

يَا شَـامُ أَنْتِ عَلَى الزَّمَانِ وِسَامُ
               بَـــاقٍ بَقَاءَ الْخُلْدِ لَيْسَ يُضَــــامُ
يَا شَــــامُ تَعْرُونِي لِذِكْرِكِ هِزَّةٌ
               أُمَوِيَّةٌ هِيَ فِي الْعِظَـــــامِ غَرَامُ
وَأَنَا الَّذِي شَـاقَتْهُ مِنْكِ عَوَارِفٌ
               جَلَّــــتْ، وَيَشْتَاقُ الْكِرَامَ كِرَامُ

فهنيئًا لشاعرنا هذا التغنِّي وتلك الدعابات، ونحن نترقَّب صدور إخوة ديوانه هذا بفارغ الصبر، بعد أن تفرَّغ شاعرنا لجمع ما تناثر من قصائده وإبداعاته؛ لتأخذ أمكنتها في أرفف مكتباتنا، وتستمتع بها أذواقنا، وتغني بها عقولنا وقلوبنا.

***

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها - د. محمد علي الهاشمي

أمة الإسلام لا تنطفئ شمسها

الدكتور محمد علي الهاشمي - رحمه الله
الرياض - شوال 1428ﻫ - أكتوبر 2007م


     أصدر الشاعر الدكتور حيدر الغدير ديوانه الأول: وجعل عنوانه: "من يطفئ الشمس؟"[1]، وهو عنوان قصيدته الأولى في هذا الديوان.

     في هذه القصيدة حشد الشاعر الأحداث والتصورات والقيم والأمجاد التي عرفت بها الأمة المسلمة منذ أخرجها الله للناس خير أمة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، كما في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[2]، وخلص إلى النتيجة التي يحملها عنوان هذه القصيدة الكبير، وهو أن الأمة المسلمة لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت عليها الأعداء.

     فأمة الإسلام التي وعت هدي دينها، والتزمت أوامر ربها ونواهيه، هي أمة الخلود والأمجاد والظفر المبين، يشهد لها بذلك: الدهر والكون وما فيه:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشـاهد الدهر والأفلاك والسير

     إنها لتقف شامخة فوق هامة الأيام، تعتز بما أثلت للإنسانية من مكارم وأمجاد:

ونحن في هامة الأيام هامتــــــها
               ونحن شامتها والطيب والغـــــرر

     عرفتها الخطوب الداميات، كما عرفها الجود المنهمر، والخلائق الحسان:

لنــــا يد في الخطوب الـــدُّهْم صـــــائلة
               وأختــــها ديــــمة بالجــــود تنهمــــــــر
ودارة نحن للأخلاق وارفــــــــــــــــــة
               تحبو العوارف من غابوا ومن حضروا

     وإنها لحارسة معقل الإسلام العظيم، وحامية صرحه المجيد، وهي درعه الحصين، وسيفه البتار المكلل بالظفر والنصر، تحفظ الحق, ويحفظها الحق، وتلوذ دوماً بملجأ الله الآمن:

ومعقـــل نحــــن للإســلام نحرسـه
               ونفتدي صرحه الغــــالي ونصطبر
ونحن أمة طــــه نحـــن أدرعـــــه
               ونحن سيــــف له عاداته الظفــــــر
ونحن عصبتــــه للحــــــق حافظةٌ
               بالحق محفوظة والخالق الوزر[3]

     إذا حاقت بها الهزيمة فلا يأس ولا خور يتسرب إلى نفوس أبنائها، وإذا تكللت هاماتهم بالنصر أقاموا صرح العدل، فلا ظلم ولا بطر ولا فجور، ذلك أنهم في كلأ الرحمة والهداية الربانية ورشدها قبل أن يمتشقوا السلاح البتار:

إذا غُلِبْنا فلا يأس ولا خـــــــــور
               وإن غَلَبْنــا فلا ظلــــــم ولا أشر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدىً
               ونحن تكلؤنــــا قبل الظُّبا السور

     وأمة الإسلام تنهدُّ للأمر العظيم، وتبعثها الشدائد والنوازل، ويوقظ الظلم إذا وقع عليها كل قاعد متهاون، ويوقد البغي والعدوان عزيمة كل فاتر متكاسل، فإذا المحن والشدائد الجسام التي بعثت كل غافل فيها، أعطية ثمينة، ومنحة جميلة، لا يضاهي حسنها القمر الفتان، وإذا الثأر من المعتدي الغاشم على كرامتها يصبح ناراً تتأجج في الأحشاء، وإذا الموت يغدو من أسمى الأماني التي يسعى لنيلها المجاهد في سبيل الله:

ونحن تصقلنا الجُلَّى وإن عظمت
               ونحن تبعثنا الأرزاء والنــــــــذر
ويوقظ الظلم منا كل من همـــدوا
               ويوقد البغي منا كل من فتــــروا
فتصبح المحنة الحمراء أعطيــة
               ومنحة دونها في حســـــنه القمر
ويصبح الثأر في أحشائنا حُرَقـاً
               والموت أمنيــــــة تُرْجى وتُبْتدر

     إن تاريخنا ليشهد برفعتنا، وسمو نجدتنا في الخطوب الكوالح، وأننا حين يشتد الخطب نزداد استعاراً وحدة وشوقاً لدفع العدوان، وأن غضبنا قدسي متقد حين يشتد الخطر وتكبر التحديات:

تاريخنا شاهد أنـــــا ذوو صيد
               وأننا حين يربو الخطب نستعر
وأننا الغضـــــب القدسي متقداً
               عند التحدي وإذ يستعلن الخطر

     ولقد حبانا الله جرأة عجيبة، فإذا نحن نعبر جسر المخاطر غير هيابين ولا وجلين، بل نعبره ونحن نبتسم، وتجتازه جموعنا المجاهدة في كل زمان، جيلاً بعد جيل:

إن المخــــــاطر جسرٌ نحن نعبره
               ونحن نبســـم لا خوف ولا حَـــذَرُ
نمشي عليه جموعاً لا انقضاء لها
               فما مضت زمـــــرة إلا أتت زمرُ

     وبعزيمتنا الشماء نحن أقوى من المصائب التي تحل بنا، وأشد ثباتاً منها حين تنفجر:

ونحن أضرى من الضراء إن عصفت
               ونحن أثبـــــت منها حيــــن تنفجــــــر

     وكلما اشتدت الأخطار والنكبات، وَادْلهمَّت الخطوب، كنا أكثر ثقة أننا سننتصر. وأقرب ما يكون النصر منا حين يسخر العدو من إسلامنا، ويجوس خلال ديارنا، ويعيث فيها فساداً:

وكلما كانت الأخطـــــار فادحــــــــة
               كنا على ثقـــــــــــة أننا سننتصــــــر
والنصر أقربه منـــــا وأسرعــــــــه
               إذا الطواغيت من إسلامنـــا سخروا
واستمرؤوا الظلم حتى صار ديدنهم
               فينا، وجــاسوا خلال الدار وائتمروا

     فالرزايا والنكبات تنجب فينا الأبطال الميامين الذين يتصدون لها، ويستولدون منها الغلبة والنصر، ومن هنا كانت أمتنا غنية بالعظماء والفاتحين، من أمثال أبي بكر وعمر والمثنى والرشيد:

وذاك أن الرزايا كُن منجبـــــــــــة
               وما يزلن، ومنها يولـد الظفـــــــــر
لذاك أمتـنا حبلى بكـــــــــــــل فتى
               هو المثــنى أو الصدِّيق أو عمـــــر
أو الرشيــد تحدى غيمـــــة عبرت
               فاستســلمت وهمى من فوره المطر
فجاءه فيئها عجــلان في وجـــــــل
               والقلب مضطرب والطرف منكسر

     في كل بقعة من بقاع الأرض لنا مآثر وأمجاد يتمنى رؤيتها ومعرفتها السمع والبصر، وإنها لمآثر وأمجاد حق كلها في جوهرها ومرآها، وإنها لعدل ونصح، لا ظلم فيه ولا غش ولا خديعة، أدهش الناس الذين سمعوا به، فعكفوا على استجلاء محاسنه، مسحورين بصنيع قومي الذين كانوا بمثابة نجوم الهدى، وعبروا هذه الأرض وخلدوا فيها هذه الأمجاد:

في كل أرض لنا من مجدنــــا أثـــر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــــــــر
الحق جوهره والحــــسن منظــــره
               والعدل مخبره والنصح لا الغــــرر
يقول للنــــاس زاروه فأدهشــــــهم
               قومي نجوم الهدى من ههنا عبروا
والناس مطروفة فيه محـــــاجرهم
               ترنو إليه وتستجلي وتعتصـــــــــر
يطول منهم عكوف في محــــاسنه
               كأنما شدهوا بالحسن أو سحــــروا

     وهذا المجد المؤثل لا تزيده الأيام إلا نضارة وعطراً، بما غرس فيه أهلوه من مكارم وأمجاد، ومن علوم ومن فنون، أودعوا فيها عقائدهم وقيمهم، فطاب غرسهم وطاب ثمرهم، وكان صنيعهم كمعادنهم هو الفضائل بعينها، وهو العدل الذي رفعوا لواءه، وهو النور الذي نشروا هديه، وهو الروح التي تألقت فيه، فازدان بالفضائل والمكرمات:

يمضي الزمان ويبقى في نضــارته
               أزكى من العطر تاريخ له عــــــطر
كأنـــما فيه من أهليــه ما ابتدعــــوا
               من الفنون وما صاغوا وما ابتكروا
كأنما أودعوا فيــــــــــــــه عقائدهم
               فطيبته وطــــــــــاب الغرس والثمر
كأنما صنعوه من معادنـــــــــــــهم
               فهو الفضائل والغـار الذي ضفروا
كأنما صرحه العدل الذي رفعــــوا
               كأنما نوره الهدي الذي نشــــــروا
كأنما روحهـــــم فيه قد ائتلقــــــت
               فهو المروءات والإحســـان والأثر

     لكأن صنيع أمة الإسلام الحضاري شاهد خالد للدنيا، يقدم للناس النصيحة والعبرة، وهو ثابت راسخ في عالم الناس وآفاقهم وعصورهم، يبسط ظلاله، ويمد أجنحته، في رواق التاريخ والكتب التي يقرؤها الناس. إذا أصاب أقواماً ضجر وتعب ونصب، فطووا أعلام المد الحضاري، فإن حاملي لواء الحضارة الإسلامية لا ينالهم شيء من ذلك، بل إنهم يرون الهناءة والنعيم في قطع الآفاق، والسفر المستمر الدائم في مواصلة المد الحضاري:

كأنما هو مذ شــــادوه راويــــــــة
               وناصح أَمَّه الزوار فاعتبـــــــروا
ثاوٍ ولكن له مذ كــــان أجنحـــــة
               آمادها النـــاس والآفاق والعُصُــر
وما روت كتب واستوعبت مهـج
               وأمعنت أعين ترنو وتدخــــــــــر
إذا طوى الناس من أَيْنٍ رواحلهم
               لم يطوها منه لا أَيْنٌ ولا ضجــر
كأنه الخِضْر في الآفاق يقطعــها
               فعشقه سفـــــــر من بعده سفــــر

     إن البانين للأمجاد في أمتنا خير من الصرح الحضاري الرائع الذي قدموه للإنسانية، إذ المعول في بناء الحضارات على النفوس الزكية الطيبة التي شادت البناء، وعلى الفكر النبيل العالي الذي أحكم البنيان:

خير من الصرح قد راع الضحى نضراً
               نفس لبــــانيه، وهي المعــــدن النضــــر
والصرح زينته قبل الســــــــراب رؤىً
               فالســــابق الفكر والتـــــالي هو الحجــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــــــــــــــة
               بها المفــــــاخر قبل الناس تفتــــــــــخر
صرنا لهم ولها أنشودة صدحـــــــــــت
               يزينها الشـــائقان: الشعر والوتــــــــــر

     وكما كنا أنشودة ترنم بها الناس، كنا قصة جميلة ممتعة لسامعيها يروونها لمن وراءهم ببهر وشوق وإعجاب، حتى صرنا حديث الناس في أسمارهم، يتلقفونها ويتلهفون لسماعها صباح ومساء:

وقصةً حسنت تُجْلى لسامعــــــــها
               مثل العــروس عليها الدل والخفـر
يروونها أبداً في توقِ والهـــــــــةٍ
               دنت مناها فزاد الشوق والبــــــهر
فنحن في الصبح في أخلادهم سير
               ونحـن في الليل في أسمارهم سمر

     حتى إذا رأونا رأي العين قالوا: بملء أفواههم: والله ما سمعنا عنهم من أخبار ساحرة باهرة ليس بأعظم مما نراه فيهم من سيرة حسنة وخلق كريم، وأعلنوها صريحة لزائريهم: لقد جل المظهر والمخبر، ووافق الخُبْرُ الخَبَر:

حتى رأونا فلا والله ما سمعت
               أذن بأطيب مما عاين البصـــر
وحينما رجعوا قالوا لزائرهـم
               إنا رأينا فجل الخُبْرُ والخَبَـــــر

     ولا بدع أن يفنى المظهر المزيف المزور من كل خَلْق وخُلُق، ولا يبقى خالداً إلا الحقُّ الأبلج الصراح، ونحن باقون بحقنا، تسمو بنا هويتنا، وهي رسالة الإسلام العظيم الخالد لا ما زيف البشر وادعوا من مُثُل ومبادئ، إننا بتمسكنا بديننا كالشمس، فمن يستطيع إطفاء الشمس؟ أما عدانا المتربصون بنا فسراب خُلب، سرعان ما ينحسر ويزول:

يفنى المزور من خَــــلق ومن خُــــلق
               والخــالد الحق لا الأشبــــاح والصور
ونحن باقون تعلينـــــــــــــا هويتنــــا
               وهي الرسالة لا ما زيف البشــــــــــر
من يطفئ الشمس نحن الشمس خالدة
               أما عِــــــــــدانا فآل ثم ينحســــــــــر

     لقد استعرض الشاعر الدكتور حيدر الغدير سيرة أمة الإسلام حين تكون مسلمة بحق، وصور ما أحدثته هذه الأمة في حياة البشرية حين تناقلت الدنيا سيرتها ومثلها العليا، وعدد أبرز أوصافها في الثبات على خط الجهاد، وما أحدثت هذه الأوصاف في نفوس الأقوام التي شاهدت قوافل الفاتحين، واحتكت بهم، ورأت أخلاقهم وحسن معاملتهم، وتمسكهم بالحق والأمانة والعدل، وخلص إلى أن أمة هذا شأنها، أخرجها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس، هي كالشمس لا تنطفئ.

     وقد عرض الشاعر خواطره وأفكاره بأسلوب جزل متين، قوامه اللفظ الكريم الجزل، والتركيب الرصين المحكم، يعمره الإيقاع الفخم الهادئ، المنبعث من الألفاظ المتخيرة، والروي الرائي المضموم، والصورة المجنحة الطليقة، وهي خصائص أسلوبية جميلة تشمل قصائد الديوان كله. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

----------------------------------
[1] هذا هو الإصدار الأول للشاعر، وهو الآن مع غيره في ديوانه الجامع "ديوان حيدر الغدير".
[2] سورة آل عمران آية 110.
[3] الوزر: الملجأ.

النبل الآسر - أ.عبد الله عيسى السلامة

النبـل الآسـر

أ.عبد الله عيسى السلامة
عمّان 5/ صفر/1431ﻫ - 21/ 1/ 2010م

أخي العزيز، النبيل حقاً، الدكتور حيدر .. أيدك الله ورعاك ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياك الله بما يحيي به عباده الصالحين.


     أعترف بأني تأخرت كثيراً، في الرد على قصيدتكم الغراء، التي ألبستني ثياباً فضفاضة، هي أكبر من حجمي، بكثير! بل كل منها، يتسع لعشرة من أمثالي! وأعلم أن ما دفعك إلى هذا، إنما هو كرم النفس، وسُموُّ الخلق، وحسن الظن بأخيك، وحب الخير له؛ إذ ترغب أن يكون أكبر مما هو عليه، بكثير! فشكر الله لك، وسامحك، وعفا عنك!

     وأعترف أن الانشغال الشديد، لم يكن، وحده، سبب التأخر، أو التأخير.. بل، ثمة سبب آخر، ربما كان أهم من الأول؛ وهو إحساسي بالعجز، عن كتابة قصيدة، مكافئة لفضلك ونبلك!

     فأرجو أن يشفع لي، عن تأخيري، ما اعترفت به! وأما ما لم أعترف به، من بوادر الشيخوخة، ومقتضياتها، وتوابعها، ولواحقها.. فهذا مما أحسبك تقدره، أو تتوقعه.. دون اعتراف!

     راجياً أن تجد، لديكم، الأبيات المتواضعة، نوعاً من القبول، ولو على مضض.. فهي جهد المقل. والكريم من عذر. وقد سلكت بي، في الوزن والقافية كما تلاحظ طريقاً آخر، غير طريق صاحبتها الهمزية.. وهذا من طبيعة الشعر، وتقلبات مزاجه! وأنت أعرف مني، به وبمزاجه!

     وأرجو أن تراها، فجر السبت، منشورة، في موقع: رابطة أدباء الشام. فقد اضطررت إلى إرسالها، إلى أخينا العزيز، أبي أسامة الطنطاوي، قبل إرسالها إليك، ليجد وقتاً كافياً لإعدادها للنشر.

     تحياتي لك، ولسائر الإخوة الأحبة، قبلك.. وفي المقدمة، الأخ العزيز، الأستاذ عبد الرزاق، أبو علاء.. حفظه الله ورعاه! والذي أرجو أن يعذرني، على مراسلتك، عبر إيميله المخزن، لدي .. بعد أن بحثت عن إيميل لك، فلم أجد!

     مع أطيب تحياتي، وأخلص تمنياتي، لكم، بالسداد والتوفيق، والصحة والهناء!

أخوك: عبدالله عيسى السلامة

***

       الـنبــْــل الآســـر!

هو السـكْر، إلا أنني أمقُت الخمــــــــــــرا
               فقد أسكرتني، اليوم، مُسْكــرةٌ أخـــــــرى
بــلى.. إنها أبيـــاتُ شـــــــعرٍ بديعــــــــةٌ
               ولم أرَ، يوماً، كَرمة تعصر الشعــــــــــرا

       ***

أحيـــدرُ، إن الفضل يستــوجب الشكـــــرا
               ويا رُبَّ فضلٍ سابغٍ خلـــــــــد الذكـــــــرا
وقد كنتَ سبـــاقاً إلى الفضــــل، موجبــــاً
               لشكرٍ، إذا لم أزجــه، لم أجـــد عــــــــذرا
فرُبَّ نبيـــلٍ يأســــر النـــــــفس نُبلــــــــه
               ورُبَّ لطيـــفٍ لطفه يكســـــــــــر الظهرا
فــلو كان كل الشعر بيتـاً لكنتَــــــــــــــــه
               فكـان الهـــدى شطراً، وكان النهى شطرا
فـــأنت الأخ البَــرُّ الـــــــذي لم أزل أرى
               خلائقَـه تســـمو، وأفضــــــالَه تتـــــــرى
وفي جدِّنـــا الشيخِ، الفـــراتِ، لنا، معــــاً
               وشــــائجُ قربى، لم تـــزل أمهـــا بِكــــرا

       ***

أخا الود والإسلام، والنبـــل والحــــــجى
               جمعت، إلى الشعـــر، الحصــافة والفكرا
فلو لم تكـــن أنت الذي كنت كالـــــــــذي
               سما في رحاب الشمس حتى استوى بدرا

       ***

أحيدرُ، رفقـــــــاً، يا غديرُ، بمهـــــــــجةٍ
               شواها الجوى شيّاً، وألقمها جــــــــــــمرا
فإن تك قد أعليت قدري بمدحـــــــــــــــة
               فقدرك أعلى، لي، برفعته، القـــــــــــدرا
ففي قَدَر الإنســـــــــــــــــان، يولـد قَدْره
               وليس منيل القدر قصراً، ولا قبــــــــــرا
وما المرء، إلا طينـــــــــة، أو عجينــــة
               تُشكِّلها الأقدار.. تجري بها أمــــــــــــرا
وللمرء، بين المهد واللحد، ساعـــــــــــة
               متى بدأت، لف الأصيــــل، بها، الفجـرا
وميلاده والمـــــــــــوت، ليسا بإذنـــــــه
               وبينهما يجري، كما شاء، أو يُجـــــــرى
وحَدُّ اختيار المرءِ، رهنُ اقتـــــــــــداره
               فإن يكُ ذا رِطلا، يكن ذا، به، فِتـــــــــرا
فيـا رُبَّ دهرٍ، دون غرس، مضى سُدىً
               ويا رُبَّ شهرٍ غرسه طاول الدهـــــــــرا
وما العيش إلا رحلة في متاهــــــــــــــة
               إلى حيث يُدرى ما المصير.. ولا يُدرى
فمن لم يعظه الدهر، بالقهر، لم تــــــزل
               تصب دلاء الدهر، في قلبه، القهـــــــرا
ومن كان في دنيا الورى، محض ناطق
               فمثواه دنيا الصِفر، إن لم يكن صِــــفرا
ومن لم ينم في روض رحمـــــــــة ربه
               قضى يومه، في تيه غربته الكبـــــــرى

       ***

أحيدرُ، هذا الشعر من ذوب مهجـــــــة
               تحب.. فخُذْ، أو فَانْسَ، أو وَسِّعِ الصدرا

       ***

الأكثر مشاهدة