الأحد، 30 مايو 2021

قراءة في ديوان "من يطفئ الشمس؟" - أ. محمد صالح الشمّري

قراءة في ديوان: من يطفئ الشمس؟

للشاعر حيدر الغدير

أ. محمد صالح الشمّري
نشرت في مجلة المجتمع - الكويت - العدد (1775)
23/ 10/ 1428ﻫ - 3/ 11/ 2007م

     تتبدى لك الأناقة من الغلاف الأول؛ حيث اللوحة الجميلة، وخط الثلث (سيد الخطوط) الذي لا يعترف أهل هذا الفن بانتماء أي خطاط إلى صنعتهم ما لم يتقن هذا النوع مهما علا كعبه في بقية الخطوط ومهما أجاد فيها وقدم، حيث يرصع هذا الخط اسم الديوان بكل التحدي والسمو: من يطفئ الشمس؟!!

     ثم يلج بك هذا المدخل الجميل بسلاسة ومتعة إلى مئة وتسع وثلاثين جوهرة منظومة بشعاع من أشعة تلك الشمس العصية على الانطفاء.

     وعلى الرغم من أن الشاعر طوّف في ديوانه على مواضيع عديدة متباينة ومتباعدة – معظمها شخصي إذا جاز التعبير – إلا أن انتماءه وتكوينه الفكري والنفسي والثقافي ساقه إلى جعل قصيدة تتحدث عن (الأمة) عنواناً لهذا الديوان، ولم يترك له هذا التكوين أي خيار آخر، وهذا يميّز الشعراء الملتزمين مهما شرّقوا وغرّبوا في قصائدهم ومواضيعها.

     ولأن الشاعرية لدى شاعرنا (حيدر الغدير) أصيلة وفطرية ولها سطوة على كيانه.. دفعته إلى اختيار رسالتيه (الماجستير والدكتوراه) في قمم من ذرا وادي النيل الملهم، وسفوح لبنان الساحرة: البارودي وحافظ وشوقي وعمر أبو ريشة. وهنا يظهر لأي ناقد أمران واضحا الدلالة:

الأول: أن شاعرنا اختار شعراء، ولم يختر مفكرين أو علماء في الفقه أو النحو أو البلاغة أو.. أو.. إلخ.

والثاني: أنه اختار قمماً سامقة في سماء الشعر من مصر ومن بلاد الشام.. فهو (وحدوي) في أعماق أعماقه، كما هو ذوّاقة في تلك الأعماق أيضاً. فالبارودي وحافظ وشوقي هم ملوك الشعر، وإليهم تردّ الجزالة والبلاغة والشاعرية في أدبنا الحديث، وفي بلاد الشام من غير عمر أبو ريشة يماثل تلك المكانة السامية مَن؟

     يقدم الشاعر هويته للقارئ من أول قصيدة من عنوان ديوانه لا إرادياً، كما أسلفنا، على الرغم من أن الديوان مترع بالقصائد الوجدانية الصوفية التي تتدفق بالإيمان: (حان الوداع، أسلمتُ للرحمن، في ليلة القدر.. إلخ) إلا أنه اختار القصيدة التي تقول:

نحن الخلود ونحن المجد والظفر
               والشاهد الدهر والأفـلاك والسِّيَر
ومعقل نحن للإسلام نحرســـــه
               ونفتدي صرحه الغالي ونصطبر
ونحن يحرسنا قبل الرماح هدى
               ونحن تكلؤنا قبل الظِّبا الســــور
في كل أرض لنا من مجدنا أثـر
               وفيه ما يتمنى السمع والبصـــر
أمجادنا مثلنا خير ومرحمــــــة
               بها المفاخر قبل الناس تفتخــــر

     حتى يقول:

ونحن باقــــــــــــون تعلينا هويتنـــــا
               وهي الرســــــــــالة لا ما زيّف البشر
من يطفئ الشـمس نحن الشمس خالدةً
               أمّا عدانــــــــــا فــــــآل ثم ينحســـــر

     أرأيت - عزيزي القارئ - إلى هذا الفخار والاعتزاز الذي يرى أيادي أمته ورسالتها في كل زمان ومكان وإنسان وحضارة!؟ وإلى هذه الشاعرية الفياضة التي تنهل من بحر لا حدود له!؟

     ثم يأخذ بعد هذا المدخل المهيب بيد القارئ، بل بقلبه ووجدانه في حديقة متنوعة الأزهار والعبير والشذا، بين وجدانيات ووفاء لمسقط رأسه وحبه الأول: دير الزور وفراتها الخالد الذي هام به الشعراء على مرِّ التاريخ، وكذلك صفو المحبة للوالدة والأخ والعلماء والأصحاب... إلخ، كل ذلك بين جدٍّ وهزلٍ يبعد عن النفس كل ملل، وبكل المتعة والفائدة، فلا يكاد قارئ الديوان يبدؤه حتى يوغل فيه مسلوب الإرادة يغترف من بحر الدرر واللآلئ.

     وقديماً قالت العرب: إن الحنين إلى الديار دليل أصالة. ولشاعرنا فيها رصيد لا ينضب، فهو لا يكتفي بالحنين والمديح لمدينته وفراتها وحسب، بل هو يهيم بدمشق وحمص، فعقله الباطن يشده مرغماً إلى مدح كل ماله صلة بتلك المدينة، وذلك النهر:

     ففي قصيدة (عودة) نجدهُ يقول:

عدت شيخاَ تقودني أشواقي
               والأمانيُّ جذوتي ورفـــاقي
وأنا عاشق مرابع أهــــــلي
               وهم الســاكنون في أعماقي
وهم الساكنون عقلي وقلبي
               وهم الكحـــل ساكناً أحداقي

     وفي قصيدة (أيها النهر) يقول:

أنت بين القلوب والأحـــــداق
               أيها النهر يا عصي التـــلاقي
ساكن في بنيـــك حيث تولـوا
               في القريب الداني وفي الآفاق
شرّقوا وغرّبوا وأنت نزيـــل
               ظاعن في قلوبهم والــــتراقي

     وفي قصيدة (يا شام) يقول:

يا شام أنت على الزمان وسام
               بــــاق بقاء الخلد ليس يضــام

     وفي قصيدة (يا حمص) يقول:

يا حمص إني عاشق مفتــون
               بخصالك الحسنى وهنَّ فنون

     أخيراً فإن الشاعر لا يهدي باكورة إنتاجه إلى والدة أو زوجة أو ولد، بل يهديها وبكل حلاوة القطفة الأولى.. إلى: (الأمة المسلمة التي لا تنطفئ شمسها مهما عتت الأرزاء وتكالبت الأعداء..).

     يخيل إلي أن هذا الديوان كان في البدء حديقة غنّاء رآها الشاعر، وافتتن بها، فتماهى فيها أو تماهت هي في وجدانه، فكانت هذا الديوان المتميز بحق، والذي يشكل إضافة نوعية لديوان العرب الذي يضم كل ثمين.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة