‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر. إظهار كافة الرسائل

السبت، 9 سبتمبر 2023

كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر - المقدمة والمحتويات

كتاب نفحات ومشاعر من المناسك والمشاعر

مقـــــدمة:
     ما زالت قلوب المؤمنين تهفو إلى بيت الله الحرام، وكعبة الله المطهرة، منذ أن دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدعائه الذي تذوب له الأكباد، حين تنحى جانباً بثنية الجبل، وقد ترك ولده البكر إسماعيل وأمه هاجر عليهما السلام في واد غير ذي زرع تحقيقاً لأمر الله عز وجل، فقال في دعائه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

     منذ ذلك التاريخ وقلوب المؤمنين تهفو إلى ذلك المكان، وتحجه رجالاً وركباناً؛ وعلى كل ضامر من كل فج عميق.

     والدكتور حيدر الغدير من هؤلاء المؤمنين -ولا نزكي على الله أحداً، نحسبه كذلك والله حسيبه - يهفو قلبه فيحج ويعتمر، ويهفو قلبه فيقول شعراً، ويدبج القصائد، ويهفو قلبه مع الحجاج كل عام فيعيش معهم تلك الأيام والساعات ونفحاتها، فيسير معهم في المشاعر والمناسك، ويخاطبهم، ويحملهم نصائحه الأخوية الخالصة.

     كلمات يقولها بصدق أنفاسه، وحرارة إيمانه، وذوب ضميره ووجدانه. وليس راءٍ كمن سمعا، ولا قارئٍ كمن نظرا. هذه المقالات كتبها تحت عنوان: "أفراح الروح"، وإنها حقاً أفراح الروح.

شمس الدين درمش
الرياض – السبت
11 رجب 1443هـ
-----------------------

المحتويـــات
(روابط تنقلك إلى المقالات)

أحزان إبليس (3)

أحزان إبليس (3)

     ظل إبليس يجوبُ الأرض التي حلَّت بها القافلة المباركة التي تتجه إلى مكة المكرمة لأداء الحج، بصبرٍ عجيب، وعنادٍ ومثابرة، وبحثٍ لا يكل عن أسرع الطرق لإيقاع الشر بين أصحاب القافلة، أولئك الذين كانوا ينتسبون إلى بلدان شتى، لا يكادون يجتمعون في شيء سوى الإيمان الراسخ بالله تعالى رباً، وبمحمد ﷺ نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً.

     ظل يجوب الأرض التي حلَّت بها تلك القافلة الكريمة لتستريح بعض الشيء من وعثاء السفر، ويتنقل بين المضارب، ويمضي من خلفٍ إلى أمام، ومن أمامٍ إلى خلف، من يسارٍ إلى يمين، ومن يمينٍ إلى يسار، يتفحص القوم، ويطيل النظر، ويفكر ويدبّر، لكنه لم يسمع قط بين الناس مَنْ يعتز بحسبٍ أو نسب، أو مدينةٍ أو بلد، أو وطنٍ أو أرض، أو لونٍ أو لغة، تجوَّل بين خيام القافلة ومضاربها؛ فما وجدَ أحداً يُعَيِّرُ أحداً بأمهِ أو أبيه، أو لونه أو بلده، أو عملهِ أو حِرفته، أو طولِه أو قِصَرِه، أو غِناه أو فقره، ولم يجد مَنْ يظلم أو يبغي أو يشتم أو يفجر.

     طفق يجوب مضاربَ القافلة، ومكانَ اجتماع القوم فيها، فما سمع مفاضلة بين عدنان وقحطان، أو ربيعةَ ومُضر، أو قيسٍ وتميم، أو أبناء سام وأبناء حام، أو سكان الشام وسكان العراق، أو مسلمي التُّركِ ومسلمي الأفغان.

     لم يسمع مساجلةً بين اثنين، أو مفاخرةً بين طائفتين، أو منافرةً بين جماعتين، بل وجد القوم جميعاً على العكس من ذلك، فهذا مشغولٌ بقرآنه، وهذا مشغولٌ بوضوئه، وذاكَ يُعِدُّ طعامَ القافلة، وآخرون ينظِّفون ساحةً صغيرة اتخذوها مسجداً للصلاة، وطائفةٌ طفقت تُعْنَى بالمراكب، وتتأكد من صلاح حالها للاستمرار في السفر.

     وحانت من إبليس التفاتةٌ مفاجئة فرأى رجلاً أسودَ طويلاً، تبدو عليه الهيبةُ والوقار، والثقةُ والرزانة، يجتمع إليه الناس بشتّى ألوانهم وبلدانهم، هم يسألونه وهو يجيب، ذلك أنه كان أعلمَ مَنْ في القافلة بأمور الدين عامة، وأمور الحج خاصة، فهو يجيبهم عمّا يسألون من شؤون الحج المختلفة.

     لم يستطع إبليس احتمال هذا، فقد كان فوقَ طاقته على الصبر، فتدفق الحزن في قلبه، ونمت شجرته في فؤاده بسرعة بالغة، سقاها دمعُ عينيه، ودمُ فؤاده، وبكاءُ وجدانِه، ويأسُه المدمر، وحزنه العميق. نمت وارتفعت، حتى أعجزته عن الحركة والنشاط فاستسلم لحزنٍ طويل، وانزوى إلى جانبِ كلبٍ عقور قتيل، حيث المزبلة التي تُلقى فيها الأوساخُ والنفايات، وأخذَته إغفاءةٌ من النوم، فما أفاق إلا مرعوباً محزوناً مع صوتِ المؤذن، يدعو الناسَ إلى صلاةِ الفجر، فهرب بعيداً بعيداً، وله بكاءٌ وصياح، ودموعٌ ووجيب.

     وبعدَ ساعة من النهار عاد إلى حيث القافلة المؤمنة، فوجدها تستعد للرحيل بعد أن تجهز القوم أو كادوا يتجهزون، كان هذا يحمل الحقائب، وذلك يجمع المتاع. كان واحدٌ يفحص أحد المراكب، وآخر يجمع عدداً من الخيام، وثالثٌ يعالج مريضاً مُتْعَباً، ورابعٌ يملأ أوعية القوم بالماء الفرات.

     كان كل واحدٍ في القافلة مشغولاً بأمر من أمورها نافعٍ حميد، يسارع إلى التعب، ويُؤثِر الآخرين بالراحة، وهو سعيدٌ هانئ مغتبط دون أن يكلفه أحدٌ بذلك، وأيُّ حاجةٍ للتكليف والأوامر، وكلٌّ منهم يكلفه إيمانهُ العميق، ويأمُره يقينه الصادق!.

     تساءل إبليس: ترى هل هُزِمَتْ قوتي إزاءَ هذه القافلة هزيمة منكرة؟ هل بطلَ كيدي وزالَ سحري وغارَ ذكائي؟ أين مكري ودهائي؟ أين تدبيري وتخطيطي؟ أين قدرتي على تزيين الباطل للناس لينغمسوا في حمأة الجاهلية؟ أين مهارتي في الإغواء والإفساد، والشر والأذى، وإيقاعِ الفتن والآثام؟

     إن القوم في هذه القافلة عصائبُ شتّى، أقوامٌ متباينون من ديارٍ نائية، وألوانٌ مختلفة، وعاداتٌ لا تتقارب، وملابسُ لا تتماثل، أفلا أتمكنُ من إثارة الخلاف بينهم بأن أثيرَ بينهم نوازعَ العصبيات التي طالما كانت سلاحاً فتّاكاً في يدي؟

     لقد فتكتُ بالناس طويلاً طويلاً بسبب العصبيات التي أَثَرْتُها بينهم حتى كثرت بينهم الحروب، وسالت الدماء، وفشت الكلوم والجراحات، وعظمت الكوارث والنكبات، وأنا سعيدٌ هانئ، مسرورٌ ضاحك، حين أجدُ قوماً يقتتلون لغيرِ دينٍ يحرصون عليه، أو يذبون عن حياضِه، أو يسعون إلى نشرِه، بل من أجل تخومٍ وحدود، ولغة وأرض، ولونٍ وجنسية، وعشيرةٍ ودار، وفخَارٍ كاذب، واعتزاز زائف، ودعاوى باطلة فارغة.

     تُرى لِمَ لا أستطيع الآن أن أفعل في هذه القافلة ولو شيئاً يسيراً مما كنتُ أفعله، ومما نجحتُ فيه نجاحاً كبيراً في كثير من الأحيان؟ أأدركني العجز والكسل؟ أشاخَ عقلي وعقم؟ أشحَّت عزيمتي وخارت؟ كان هذا وأمثاله يتردد في خَلَدِ إبليس لكنه ما لبث أن عجز حتى عن تَرْدادِ هذه الخواطر في صدره، وامتقعَ لونُه، وشحب وجهه، واصفرَّ مُحيّاه، واشتد بكاؤه، وهرب بعيداً بعيداً، وذلك لأنه سمعَ حاديَ القافلةِ يردد، والآخرون وراءه يُنشِدون:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سـواهُ     إذا افتخــــروا بقيسٍ أو تميم
*****

أحزان إبليس (2)

أحزان إبليس (2)

     كان إبليس يتجول هنا وهناك، يبحث عن صيدٍ جديد، ورزقٍ حرام، وأذى ينشره بين الناس، وفتنة يوقدها، حين انتهى إلى منطقة نائية، ذلك أنه آثر الابتعاد عن الأمكنة التي يُدوّي فيها الأذان، مؤمِّلاً أن يجد بعيداً عن مداه فرصةً مواتية للشر والإفساد. وبينما كان غارقاً في همومه يتراوح بين اليأسِ والأمل، يرسم الخطط ويُحْكِمُ التدبير، ويَقْدَحُ زناد فكره، انتهى إلى مجموعة من الناس في مُنْقَطَعٍ من العمران شكَّلت قافلة تقصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.

     تشاءم إبليس، وغضب، وطار الشررُ من عينيه، وهَمَّ بالهروب من هذا المكان، لكنه شجَّعَ نفسَه، وقوَّى من عزيمته، واقترب من القوم يتفحَّصهم، ويتعرف إلى حالهم على أمل أن يجدَ أسرعَ الطرق، وأفتكَ المنافذ لإيقاع الشر والفتن فيما بينهم. وإذ دنا منهم؛ وجدَ القافلة مكونة من أجناسٍ شتّى، وأقوامٍ متباينين، يجمعهم أنهم مسلمون.

     كان في القافلةِ بعض الحجاج الأتراك، الطوالِ الأجسام، بنيتُهم قوية شديدةُ الأسر، وعيونهم ملوَّنةٌ هادئة النظرة، ووجوههم يظهر عليها الحزمُ والقوة إلى جانب الطيب والبساطة.

     وكان هناك بعض الحجاج الأكراد، بلباسهم التقليدي المعروف، ووجوههم القوية التي تدل على التحدي والإباء، وعمائمهم الكبيرة التي لاثوها على رؤوسهم.

     وكان هناك بعض الحجاج الهنود، أجسامهم صغيرة دقيقة، يبدو عليهم أنهم لطفاء وادعون، يرتدون لباسهم الهندي المميَّز، ويجلسون بعضهم بجانب بعض في سكون وهدوء.

     والتفت إبليس إلى يمين القافلة فشاهدَ مجموعة من حجاج إندونيسيا، مجموعة كبيرةً يسودها سكونٌ غريب، وجوهُهم تنطق بالودِّ والبِشر، والفرحة الغامرة العميقة، وسعادةِ مَنْ وُفِّقَ لإدراك الآمال.

     رجالهم أشبهُ بالعصافير الأنيسة، ونساؤهم كالحمام الهادئ الوادع.. كانوا جميعاً يجلسون على شكل نصف دائرة في مواجهة رجل منهم يشرح لهم أركانَ الحج وآدابه، ويجيبُ على أسئلتهم.

     والتفت إبليس هنا وهناك، يمنةً ويسرة، في مقدمة القافلة وفي آخرها، فوجد آخرين من الأفغان والشام، ومن إيران وباكستان، وقوماً من أوربا وأمريكا، وآخرين من أعماق أفريقيا الخضراء. ولَحَظَ أنهم ليسوا مختلفين جنساً فحسب، بل الألوانُ تختلف، وكذلك اللغاتُ والملابس، والعادات والأشكال، والبلدانُ والأصقاع، لكنهم كلَّهم يجمعهم انتسابهُم إلى الإسلامِ العظيم، دين الله الخالد الراشد.

     لم يجد إبليس في هذه القافلة مَنْ يفتخر بأمٍّ أو أب، بجنسٍ أو عشيرة، بلغةٍ أو ملبس، بلونٍ أو أرض، لقد ذهبت نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، وزالت الفوارقُ الزائفة المصطنعة، وسقطت الحواجز التي تمزق الناسَ شيعاً تتناحر، وطوائفَ تقتتل، وبرزت معاني الأخوةِ الصادقة، والمساواةِ الرشيدة، والحب المتبادل، والود العميق، والإخاء الصادق، لقد تطهرَ الجميعُ بالإسلام، وتطهَّروا بنورِ القرآن، ربطوا حياتهم جميعاً برضوان الله جل جلاله.

     هؤلاء المسلمون المختلفون داراً، المتباعدون موطناً، المتباينون في كل شيء، إلا في العقيدةِ الصحيحة الواحدة، في هذه القافلة العجيبة الغريبة، وحَّدَ بينهم شعارُ: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، وشدَّ أواصرهم إيمانُهم بالقرآن الكريم، كتاباً وحيداً يؤمنون به، وجمعَ بينهم اتجاهُهم إلى قِبْلةٍ واحدة هي "الكعبة المشرفة"، وانتماؤهم إلى الأمة الإسلامية العظيمة، واقتفاؤهم سنة محمد ﷺ.

     لقد اعتقدوا جميعاً أنهم لآدم، وآدمُ من تراب، وآمنوا حتى أعمق أعماقهم، أنه لا فضلَ لعربي على أعجمي، ولا لأبيضَ على أسود، ولا لغنيٍّ على فقير إلا بالتقوى، ذلك أن القرآن الكريم علَّمهم ذلك في قول الله عز وجل، الكريم الصادق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، فسقطت بذلك الحواجز الآثمة الكاذبة، والفوارق الباغية الخاطئة التي سببت للناس في كل زمان ومكان كثيراً من المآسي والأحزان.

     أرهف إبليس مسمعَه الشرير، وأصاخَ أذنيه الطويلتين الغائرتين لحديثِ الناس في هذه القافلة المباركة، فما سمعَ هُجْراً ولا سوءاً ولا كذباً ولا بهتاناً، ولا قولةَ شرٍّ يستطيع توسيعها وتأجيجَ نارها، فأحسَّ بالعجزِ التام حينَ يستيقظُ الإيمان في النفوس، والشللِ القاتلِ إذ يتدفقُ الخيرُ في الحنايا، فأدركه اليأسُ والقنوط، والعجزُ والكلال، والقَهْرُ والصَّغار، والقَماءةُ والهزيمة، وطفق يبكي ويبكي حزناً على دولة الشر ألا تجدَ مَوْضِعَ قدمٍ واحدٍة في هذه القافلةِ الربانيةِ المباركة.
*****

أحزان إبليس (1)

أحزان إبليس (1)

     كان إبليس قد هرب بعيداً بعيداً حتى لا يسمع صوت المؤذن يدعو الناس إلى الخير والفلاح، ودربِ السعادة والنور، فلما أن أتم المؤذن أذانه، استجمع إبليس شجاعته، وعاد من حيث اختفى في خربة قديمة مهجورة، وحاول أن يغتصب من بين شفتيه ابتسامةَ أمل وقوة، ومضى بين الدروب يبحث عن موضع شر يرتاح فيه، أو فتنة يؤججُ نيرانها، وطفق يلتفت هنا وهناك، ويسارع ويبادر، لا يكاد يرى حجراً إلا قلَّبه، ولا مكاناً إلا ذَكَره، ولا موضعاً يعهدُ فيه فتنةً نشبت ذات يومٍ إلا مضى إليه، ولا رجل سوءٍ وأذى إلا أَرْقَلَ نحوه.

     وهنا أحسَّ بضعفه، فقد كان له في مكةَ المكرمة أعوانٌ وأنصار، أقوياءُ أشداء يساعدونه في نشر الشرور والخطايا، ومحاربة الصلاح والهداية، وتذكَّر مِن هؤلاء أبا جهلٍ وأبا لهب، وغيرهما من أعوانه وأنصاره فبرقت عيناه بشيءٍ من الأمل والعناد، لكنَّ الحسرة ما لبثت أن غلبته حين تذكرَ نهايتَهما الحافلة بالعبر والعظات، وانحسار دول الشر، وانتشار نور الإسلام.

     وبينما هو كذلك، لفتَ نظرَه مشهدٌ عجب، لقد أبصرَ رجلين يمشيان معاً، أحدهما أبيضُ جميلُ الشكل، أشقرُ الشعر، أخضرُ العينين، والآخر أسودُ البشرة، فاحِمُ السواد، مفتّل الشعر، راعَ إبليسَ وأشجاه وأثار في نفسه الأحزان والأسقام وفتكَ بأعصابِه وآماله، ودمَّر عزمه وهِمَّته؛ أنْ لَمْ يَرَ بين الرجلين إلا المودة والمحبة، والتعاون والإيثار، والصدق والحنان. كانا يبتسمان في هدوء، ويتحدثان في مودة، ويتحاوران في أدبٍ وسكينة، كان كلٌّ منهما يستمع إلى الآخر بلطف وذوق وإقبال، وكانت علاماتُ الأمنِ الداخلي، والانسجام مع النفس ومع الآخرين، والهدوءِ الباطني العميق، والسكينةِ المتأصِّلة في أعمق الأعماق باديةً على الوجهين المسلمين، اللذينِ أشرقا بنورٍ هادئٍ وضيء، وابتسما عن سعادةٍ وهناءةٍ وقناعة، وكانت ملامح السيادة على الذات والإحساس بالتفاهم مع الكون، والانسجام مع الفطرة بارزةً على الوجهين الصادقين المسلمين، اللذينِ طهَّرهما الوضوء المتكرر، والسجودُ المتعاقب، وعبادة الله عز وجل آناء الليل والنهار.

     كان الرجلان، قلباً وقالباً، مظهراً وباطناً، عقلاً وعاطفة، سلوكاً ومعايشةً نموذجاً كريماً لمقدرة الإسلام على التهذيبِ والإصلاح، كانا مسلمينِ حقاً، وذلك ما راع إبليس وأشجاه، خاصةً أنهما في الشكل واللون مختلفان متباينان، لكن ذلك لم يسبب لهما أيَّ عداوة، ولم يوقد بينهما أيَّ بغضاء، ذلك أنهما ارتفعا بالإسلام فوقَ ما يختلف الناس عليه من جاهليات شتى، ومنها جاهليةُ السحنة واللون.

     أدرك إبليس ذلك جيداً، وأدرك أنهما أخوان صادقان، دفعهما الإسلامُ فوقَ الفوارق الزائفة، ووحَّدَ بينهما، وجمع مسعاهما صور المصير العظيم المشترك الذي يُهِيبُ بالمسلمين جميعاً أن يتجهوا إليه طلباً لرضوان الله عز وجل، تمكيناً ونصراً في الحياة الدنيا، وجنةً ومغفرةً في الآخرة، وهو: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة خالق العباد، ومن جَوْرِ الأديان، إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعةِ الآخرة، وتحريرُ الناس من كل الجاهليات والضلالات وهدايتهم وقيادتهم صوبَ الدين الحق، والنور المضيء، دين الإسلام الخالد العظيم، ونور القرآن الساطع الوهاج.

     إن إبليس لَيَعِي جيداً أن جاهليةَ التفريقِ بين الناس بسبب السحنة واللون، إحدى دعائمهِ القوية، وأساليبه الماكرة الناجحة، لنشرِ الشرِّ بين الناس، وإيقاع الأذى والسوء بين العباد، فما أكثرَ ما استطاعَ بسببها أن يوقدَ الأحقاد، ويوقع الجرائم التي جعلت دولة الشر تنمو وتزدهر في كثير من الأمكنة والأزمنة!.

     أدرك إبليس ذلك كلَّه، وأدرك عُمْقَ التحول الذي أحدثه الإسلام في الناس، وسعَةِ النُّقْلَةِ التي أحدثها في حياتهم، وشاهد أسلحتَه وقد فُلَّت، ومكرَهُ وقد بَطُل، وسحره وقد زال، وتمثل هزيمته من خلال نظرته للرجلين المسلمين الأسودِ والأبيض، فأدام النظرَ إلى وجهيهما الكريمين، فحزن حزناً متضاعفاً، وعصفت به الأشجان، وانتابته نوبةٌ من البكاء الشديد، وهرب بعيداً بعيداً لا يلوي على شيء.
*****

في ظلال البيت العتيق (4)

في ظلال البيت العتيق (4)

     حول البيت العتيق تدور حياة المسلم في هذه الدنيا، فهو في صلاته يتجه إليه لأنه القبلة التي اختارها الله لعباده المؤمنين، وقبلة الله هي القبلة التي ليس فوقها شيء، وهي المركز المحوري الذي ترتبط به عقيدة المسلم، وعقيدة المسلم هي محور حياته الذي ينطلق كل شيء منه ويعود إليه. لذلك لا غرابة أن يمتلئ قلب المؤمن إحساساً بمهابة البيت وقداسة مكانته.

     وهو يُجِل هذا البيت ويرى في هذا الإجلال سعادة لا حد لها لارتباطه بحقيقة التوحيد أكبر حقائق الإسلام وأولها. وهنا يرجع المؤمن بذاكرته إلى التاريخ البعيد، تاريخ التوحيد في هذه الديار، وتاريخ أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، باني هذا البيت العتيق الحبيب، يرجع بذاكرته ليشهد البيت يوم أسس في مكان قفر، ووادٍ غير ذي زرع، فيرى في ذلك صورة حبيبه كلها جد وجهاد، وحب وحنان، وتضحية وفداء، وانقياد لأمر الله عز وجل.

     يرى صورة المؤمن الصادق في دعواه الباحث عن ضالته، الجاد في الوصول إلى الهداية.. يسعى وراءها في وحشة الصحراء، وظلمة الليل، غير مبالٍ بما قد يصيبه من أذى، أو يصيب أهله وولده الصغير من عناء، ذلك أنه منتدب لما هو أهم من الألم والأذى، مكلف بهداية الناس وقيادتهم نحو ما يسعدهم في دينهم ودنياهم.

     لذلك فالحج عرض رائع لقصة الإيمان والحنان، تتمثل فيه العبودية بأتم معانيها، ويتبين فيه الإخلاص والتفاني في سبيل الغاية المثلى بأكمل لوازمها، وتنجو فيها الحياة من الأشكال المتكلّفة، والمظاهر الجوفاء، والتقسيمات الصناعية، وتذوب فيه جميع الفروق الزائفة بين الناس، والتوزيع القائم على أساس اللون والجنس واللغة والبلد مما لا يقره منطق الشريعة والإيمان، والفطرة السليمة، والنفس السوية، والعقل الذكي الحصيف.

     وإذا كان ذلك كلُّه خيراً عميماً، وكسباً كبيراً للمؤمن، فإن في الحصيلة النهائية التي ينبغي أن يعود بها من رحلته إلى الحج، ما يؤكّد ذلك الكسب ويعمّقه، ويمنحه الصياغة العملية في واجبه الدنيوي ومسؤوليته الخاصة إزاء دينه، وهو أن يستقيم عليه، ويمنحه وحده كل ولائه، ويجاهد في سبيله فيما بقي من أيامه في رحلة الحياة.
*****

في ظلال البيت العتيق (3)

في ظلال البيت العتيق (3)

     هناك وفي ظلالِ البيت الطاهر العتيق، وفي هذه الأيام المباركة من هذا العام ومن كل عام، ترى صورةً عجيبةً للأمةِ المسلمة، ترى الأمة الهادية الوسط، الشهيدة على الناس، التي انْتُدِبَتْ بحكم إيمانها فقط لا لأيِّ اعتبارٍ آخر، لتكونَ الوصيةَ على البشرية القاصرة، الموجِّهةَ لها، الساعية لهدايتها وإخراجها من الظلمات إلى النور.

     الأمةُ المسلمة الوسط، الهادية المهدية تظهرُ على حقيقتِها، وعلى الشكلِ الذي يريده لها خالقُها في ظلالِ البيت العتيق وحولَه وفي رحابِه، فهنا تتبدى مَنْ هي، وهنا تَعْرِفُ مَنْ تكون.

     هنا أمةُ الإسلام، حاملةُ رايةِ القرآن، والحاميةُ الساهرة، المبلِّغةُ الحفيظة، على إرث الإيمان من لدن آدم عليه الصلاة والسلام حتى خاتم الأنبياء محمد ﷺ.

     هنا أمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وصاحبة الرسالة الإلهية الأخيرة للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، هنا أمة الجهاد لساناً وقولاً وأداءً وإبلاغاً، وهنا أمة الجهاد يداً وسيفاً، وطائرةً وقنبلة.

     هنا الأمة الطاهرة التي هي خلاصة الأمم ولُبابُها الأفضل التي بيَّضت ذاتَ يومٍ صفحة التاريخ والحضارة، وشادت منهما أكرمَ بناء، وصاغت للإنسانية المثلَ العليا، النموذجيةَ العملية، الحقيقية الكريمة، الجديرةَ بالتأسي والاقتداء، وفي الحج تجديدٌ لهذه الأمة، وصقلٌ لجوهرها، وتذكيرٌ بالعهد، ومطالبةٌ بالوفاء بمستلزماتِ الأمانة، وواجباتِ الرسالة، ومسؤولياتِ القوامة على الناس.

     فالحج يجدد لهذه الأمة معناها الحقيقي، ودورها الريادي، ومهمتها الطليعية، إذا تاهت عنها، ونسيتها، وتجاهلتها، وخانتها، وضلَّت وحادت، وضاعت وانحرفت. والحج يطالبها -ويجدد مطالبتَها كلَّ عام- بأن تكونَ على المستوى المطلوب، وإلّا حلّت بها عقوبة الاستبدال، وهو يوحّد خطاها على طريق مهمتها، وينأى بها عن الفرقةِ والشتات، ويحمي مسيرتها أن تكون نَهْباً لكل عابثٍ أو فاجرٍ أو مضلل يريدُ قيادتها نحو الدمار.

     وهو تذكيرٌ لها بهذا التوحيد المرجوّ، نحو الغاية المرجوّة، وهو كذلك تعليم عملي لها أنَّ وَحْدَتَها؛ إنما الطريقُ إليها هو طريقُ الإيمان، وسَلْ شواهدَ التاريخ عن ذلك، وسَلْ عبرة الحج عن ذلك، حيثُ قَدِمَ أبناءُ هذه الأمة من كل مكان في وحدةٍ عميقة، من حيث العقيدة والهدف، ومن حيث الخطى والمسعى، ومن حيث المظهر والزي، وهم يرددون من الأعماق: الله أكبر!.. وهم يرفعون من الأعماق: لبيك اللهم لبيك!.. وقد وَحَّدَ بينهم الدينُ العظيم الذي يكرم الإنسانَ لأنه إنسان، والذي يعلو على كل الفوارق الزائفة التي تقسِّمُ الناسَ مِزَقاً شتى بسبب الأعراق والألوان، واللغات والأشكال، والحدود والتضاريس وما إلى ذلك من عصبياتٍ ضالةٍ جاهلةٍ متخلِّفة.

     وإذن.. فيمكن أن يُقال: إن الحج رحلةٌ فاصلة، وبدايةٌ جديدة، وميلادٌ جديد، لحقيقة الإنسان المسلم ودوره ومسؤوليته، ولحقيقةِ الأمة المسلمة ودورها ومسؤوليتها كذلك.

     ولعل وقفةً قصيرة عند المؤهلات المطلوبة من الحاج تكشفُ ذلك بجلاء، فلا بد أولاً من أن يكون مسلماً؛ لأن التائهَ عن حقيقة الحقائق وهي الإسلام، لا مجالَ له في هذا الأمر العظيم.

     ولا بد من البلوغ؛ لأن الصغارَ أقلُّ استعداداً للولوج فيه، حيث لا يستطيعون وعيَ حقائقه، واحتمالَ مسؤولياته.

     ولا بد من العقل؛ فللمجانين أمكنةٌ أخرى، لأن لهذا المكان مستوىً من حسن الفهم لا يستطيعه إلا عاقلٌ راشد.

     ولا بد أيضاً من الحرية، وهي شرطٌ للقدرةِ على الأداء-؛ لأن ناقصَ الحرية ليسَ في الموقع الذي يتيحُ له احتمال المسؤولية، والنهوضَ بها.

     ولا بد من الاستطاعة في المال والنفس والطريق وما إلى ذلك؛ لأن مَنْ تتجاوزُه حدود الاستطاعة يَعْسُرُ عليه الوفاءُ بالمسؤوليات الجسام، ويشقُّ عليها أن ينهضَ بواجباتِها الكبار.

     وتأمَّلْ في هذه المؤهلات الكريمة: الإسلام والعقل والبلوع والحرية والاستطاعة؛ تَرَ أن تحققها في المسلم القادم إلى الحج، واجتماعَها معاً فيه، يجعلُه أهلاً بحق لحمل الرسالة والوفاء بمسؤولية الأمانة، قادراً على احتمالِ تكاليفها، وفهمِ أبعادها، وإدراكِ مراميها. أما حين يغيبُ شيءٌ من هذه المؤهلات المطلوبة؛ فإن المرءَ تصبح فيه ثغرةٌ معيبةٌ مُخِلَّة، تجعله عاجزاً عن القيام بواجباته ومسؤولياته، وحين يبدو هذا الأمر واضحاً بشكل جيّد، ويستقرُّ ويتحقق؛ يمكن لك بالضرورة أن تَمُدَّ نطاقَه، وتتوسعَ فيه لتجعله ينطبق على الأمة المسلمة كلها.

     فالأمة المسلمة كي تعيَ دورَها بحق، وتفهمَ حقيقتَه وأبعاده وأمداءه، وكي تملك المقدرة العقلية والنفسية، والروحية والجسدية، للقيام بأعباء هذا الدور والوفاء به، لا بد لها من امتلاكِ مؤهلاتٍ تستطيعُ معها تحقيقَ ذلك، وهذه المؤهلاتُ المطلوبة منها، هي المؤهلاتُ المطلوبة من الفرد، وكلّما تكاملت كانت أقدرَ على الأداء المطلوب، وكلّما وُجِدَتْ فيها ثغرةٌ من الثغرات، ظهر القصورُ واضحاً في الأداء حتى إذا تجاوزتْ هذه الثغرة، تجاوزتْ ما ترتَّبَ عليها من قصور.
*****

في ظلال البيت العتيق (2)

في ظلال البيت العتيق (2)

     هناك في مهد الإسلام الأول، وفي ظلال البيت العتيق، وحيث حشود الحجيج يحدوها النداء الرباني الخالد: "لبيك اللهم لبيك"؛ مشهد حافل عجيب، لا مثيل له قط في الدنيا كلها، مشهد رباني سامٍ كريم ننفرد به وحدنا نحن -المسلمين- عن أديان الناس جميعاً وعقائدهم، واحتفالاتهم وتجمعاتهم. وعن هذا المشهد العجب يحلو الحديث ويزكو، ويكرم ويطيب، ويخصب ويتنوع.

     هناك حيث القلوب الخاشعة، والدموع المرسلة، والتوبة النصوح، والأكفّ الضارعة، هناك حيث الأوزار تلقى، والآثام تتلاشى وتبيد، والخطايا تعفّي عليها التوبة الصادقة، والأوبة الواثقة؛.. يستيقظ الشعور المؤمن في الحاج الوافد، فيهيب به أن يحذر الغفلة والكسل، والعودة إلى الإثم من جديد، ويطلب إليه أن يستأنف الطريق السويّ المستقيم بعد عودته من رحلة الحج، الطريق الراشد المبارك، الذي يبدأ بطاعة الله تعالى وامتثال أمره، وينتهي بجنة عرضها السماوات والأرض أعِدَّت للمتقين.

     هناك وفي ظلال أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة مباركاً وهدى للعالمين، وفي مهد الإسلام الأول، تشرق على قلب المؤمن نفحات عاطرة طاهرة، هي العذب الزلال وأطيب، والمسك الذكي وأضوع، وتغاديه ذكريات كريمة هي الضياء، في الظلام المحلولك، وتباكره آمال عِذاب تنفي عنه اليأس، وتبث فيه القوة والعزيمة والرجاء.

     هؤلاء هم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى البيت بيته العتيق من كل حدب وصوب، يحدوهم يقين راسخ، وإيمان عميق، ورجاء لا يبلى. ها هم أولاء يغدون ويروحون، إنهم في الجو يطيرون، وفي البحر يسرعون، وعلى أثباج البحار يركبون، وفي البر يرقلون على كل ضامر، رجالاً وركباناً، من كل فجٍّ عميق يقدمون.

     هجروا الأهل والولد، والوطن والعشيرة، وتركوا رفاهية الحياة ومتاعها، وفارقوا منازلهم ومتاجرهم، وأموالهم ومرابعهم. تخففوا من الهموم والأعباء، والمشكلات والمتاعب، ومن التنافس المتصل في طلب الرزق، وتجرّدوا من المطامع والأهواء، ونجوا من النفاق والرياء، واطّرحوا الترف والرخاء، وأخلصوا النية لله جل جلاله، كيف لا وهم ضيوف الرحمن وفدوا إلى بيته العتيق، متطوّعين مختارين، ملبّين ذاكرين، خاشعين تائبين!؟

     لقد لبسوا الخفيف من الثياب الذي لا بد منه، فكأنهم خلعوا الدنيا مرتين، خلعوها عن نفوسهم واهتماماتهم حين تركوا كل شيء وأقبلوا على ربهم تائبين مستغفرين، وخلعوها عن أجسادهم حين لم يُبْقوا من دنياهم عليها سوى ملابس الإحرام التي لا يحتاج المرء إلا لمثلها حين يودع الحياة، ويوارى في التراب.

     تواضع ضيوف الرحمن فما ثمة علو ولا كبرياء، ولا ادّعاء ولا خيلاء. وتصافحوا فما ثمة عداوة ولا شحناء. وتساووا فما ثمة أغنياء ولا فقراء. وابتسموا سعداء هانئين، فما ثمة هموم تسحقهم، ولا أحزان تطحنهم. واتقوا فما ثمة رفث ولا عصيان، ولا لغو ولا بهتان، ولا زور ولا عدوان. وتعارفوا فما ثمة تقاطع ولا هجران، ولا حسد ولا بغضاء، ولا تنافس ولا تسابق. أمّلوا أن يفوزوا بالمثوبة والمغفرة والقبول والإجابة، فما ثمة يأس ولا قنوط، كيف لا، وهم ضيوف الرحمن وفدوا إلى بيته العتيق خاشعين تائبين، ملبّين ذاكرين!؟

     "لبيك اللهم لبيك".. هي النداء الرباني الذي اجتمع عليه هؤلاء الضيوف وهم مختلفون في اللغة واللون، والسحنة والزي، والعِرْق والعادة، والأرض والمزاج، مختلفون في كل شيء إلّا في الإيمان الذي جمعهم اليوم على هذه التلبية الربانية، فإذا بهم تنقلهم نقلة ضخمة، شاسعةً واسعةً بعيدة، وبهذه النقلة المؤمنة تعارفوا وتآلفوا، وتحابوا وتوادوا، وتعاونوا وتراحموا.

     سقطت بينهم جميع العصبيات المقيتة، والعنصريات الكريهة، والقوميات الضيّقة، والوطنيات المحدودة، وجَمَعَهم أنَّهم كلهم يشهدون بصحة الإسلام وعظمته، وصدق القرآن وخلوده، وأنَّهم يشهدون بمحمد ﷺ نبياً ورسولاً، وأنَّهم جميعاً يرددون تلبيةً واحدة بلغة واحدة هي الهتاف الذي يعلو ليصل أهل الأرض بهدي السماء.

     ألا ما أعظم ما صنع الإيمان بضيوف الرحمن!.. وما أكرم عطايا التلبية الربانية المباركة "لبيك اللهم لبيك"!

     لقد غدت قلوب الحجيج بها نقية كقلوب الأطفال، صافية كقلوب الطير، حانية كقلوب الأمهات، وغدت أعمالهم أبر وأصدق، وأقوالهم أعف وأنظف، وسرائرهم أصفى وأزكى، وعلانيتهم أرضى وأسمى. أما أرواحهم فسمَتْ وزكَتْ، وأما أخلاقهم فكرُمَتْ وطابت، واستبشرت نفوسهم، وأشرقت وجوههم، كيف لا؛ وهم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى بيته العتيق ملبّين ذاكرين، متطوّعين مختارين، خاشعين تائبين!؟
*****

في ظلال أول بيت وُضِع للناس (1)

في ظلال أول بيت وُضِع للناس (1)

     هناك وفي ظلال أول بيت وُضِع للناس بمكة المكرمة مباركاً وهدى للعالمين، وفي مهد الإسلام الأول، تشرق على قلب المؤمن نفحات عاطرة طاهرة، هي العذب الزلال وأطيب، والمسك الذكي وأضوع، وتغاديه ذكريات كريمة هي الضياء في الظلام المحلولك، وتباكره آمال عِذاب تنفي عنه اليأس، وتبث فيه القوة والعزيمة والرجاء. وإن المؤمن ليستشعر ذلك أعمق ما يكون خاصةً في هذه الأيام الطاهرات التي تتوالى فيها حشود الحجيج قادمة من كل فج عميق، وهي تردد: "لبيك اللهم لبيك".

     يستشعر المؤمن ذلك، ويعظُم إحساسه به، كلما وقف على مشهد هؤلاء الحجاج دارساً فاحصاً، غائصاً على المعاني والعبر والأسرار، مدركاً لسعة النقلة المؤمنة التي تحدثها فيهم رحلة الحج، وتوقد فيهم نيرانها المشبوبة، وأشواقها المتدفقة، أصداءُ الصيحة الربانية التي تملأ السهل والجبل، والبحر والجو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     وإن نظرةً واحدة إلى ضيوف الرحمن كافيةٌ أن تُشْعِرَ المرء بالتغيّر الذي أحدثته فيهم استجابتهم لنداء الحج، وبإمكانية استمرار هذا التغيّر، بعد إذ يؤوبون إلى بلادهم في نهاية الرحلة المؤمنة الكريمة. وانظر إليهم، وقِفْ على أحوالهم تجدْ ذلك أجلى ما يكون وأروع ما يكون.

     عيونهم باكية، وألسنتهم ذاكرة، ووجوههم خاشعة، وجوارحهم مُخْبِتة، وقلوبهم منيبة، وسرائرهم صافية، وأجسادهم متطهّرة، جباههم ساجدة، ونفوسهم كريمة، وملامحهم تنطق بالخير والبر والبشر، والمرحمة والتعاون، والإيثار والجود، وهجر السوء والآثام، والمبادرة إلى ما يطيب ويزكو، ويكرم ويسمو، كيف لا.. وهم ضيوف الرحمن وفدوا إلى بيته العتيق طائعين تائبين، أحراراً مختارين، ملبّين ذاكرين!؟

     إنهم تائبون متطهّرون، متوادُّون متراحمون، مثلهم كمثل الجسد الواحد، تكاملاً وتواصلاً بالخير والصلاح. إنّهم راجون مؤمِّلون لأنفسهم وذويهم، وأمتهم وبلادهم وللمسلمين جميعاً، أن تتداركهم رحمة الله عز وجل، فتعفو عن التقصير، وتغفر الزلة، وتمحو الإثم، وتجعلهم من أهل الفوز والنعيم العظيم المقيم.

     لقد انحصرت آمالهم وتركّزت؛ فإذا هي تتجه جميعاً صَوْبَ المغفرة، والنجاةِ من النار، وإدراكِ الجنة، وما أعظمها من آمال!.. وما أجملها من أمنيات!..

     إنهم يطوفون حول البيت العتيق لا يذكرون إلا الله عز وجل، ولا يفخرون بعرض من الدنيا فانٍ زائل.

     ويقفون على صعيد عرفة فلا يسألون إلا الله عز وجل، ولا يعتمدون على أحد سواه. ويذهبون إلى منى يرجمون الشيطان،

     ويفرحون بالأضاحي يذبحونها خالصةً لوجه الله الكريم، كيف لا وهم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى بيته العتيق متطوّعين مختارين، خاشعين تائبين، ذاكرين ملبّين!؟

     لقد سافروا في رضا الله، ونفروا في سبيل الله، واجتمعوا على محبة الله، وتعاهدوا على طاعة الله، والتقوا على ذكر الله.

     شكوا ذنوبهم لله وإليه أنابوا، وألقوا أحزانهم وأشجانهم، وهمومهم وآمالهم بين يديه، فوّضوا أمورهم جميعاً إليه، ونادوا بما يخافون وبما يؤملون، ووكلوا كل ذلك إليه. تجمّعوا وبلدانهم بعيدة، وديارهم نائية، ولهجاتهم مختلفة، وأنسابهم متباينة، وأشكالهم متباعدة، وألوانهم متنوعة، وأعمارهم متفاوتة، وآمالهم متعددة وأمزجتهم وعاداتهم شتّى.

     فيهم الغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والعالم والجاهل، والذكي وغير الذكي، والشرقي والغربي، والعربي والأعجمي، والطويل والقصير. فيهم الخامل والمشهور، والمعروف والمجهول، والكبير والصغير، والمرأة والرجل، والراشد والقاصر، والطفل والبالغ، والسقيم والمعافى، والعابد والزاهد، والغافل والناسي. كلهم تجمّعوا، وكلهم تعارفوا، وكلهم وصلوا قلوبهم بالله عز وجل، كيف لا.. وهم ضيوف الرحمن، وفدوا إلى بيته العتيق متطوعين مختارين، خاشعين تائبين، ذاكرين ملبّين!؟

     ها هم أولاء جميعاً في زي واحد، إن هذا يعني فيما يعنيه أنهم جميعاً أمام الله سواء، جاؤوا إليه متساوين، تماماً كما وُلِدوا متساوين، وكما سيخرجون من الدنيا متساوين. جاؤوا هذه الدنيا عرايا فلفّتهم أمهاتهم في ثياب بيض، وسيخرجون منها ملفوفةً أجسادهم في ثياب بيض، ولعلهم الآن في ثياب الإحرام يستعيدون هذين المشهدين، مشهد الدخول ومشهد الخروج، وملابس الإحرام أقرب ما تكون إلى ملابس هذين المشهدين.

     فها هم أولاء قد نفضوا أيديهم من الدنيا، وهُرِعوا لله متجرّدين من كل زينتها وبهجتها، متوجهين إليه بقلوبهم وأرواحهم وأجسادهم شُعثاً غبراً، قد خلعوا ثيابهم إلّا ما لا بد منه، معلنين أنهم جاؤوا إلى بيت الله الحرام، وأرض الرسول الحبيب ﷺ، خالعين الدنيا بما فيها وما عليها، فلا سبيل لها على قلوبهم وأرواحهم، وكأنهم بملابس إحرامهم يستعيدون صورة الخروج الأخير من الدنيا، فهذه الملابس هي الأكفان أو كأنها الأكفان، فتهون الدنيا عليهم بذلك، ويعرفون قلتها وقصرها وانقطاعها، ويعودون من الحج وقد عزموا على أن يقطعوا ما بقي لهم من الحياة فيها، مستقيمين على أمر الله عز وجل، عاملين لمرضاته، ساعين لإعلاء مجد الإسلام.
*****

عجائب الحج

عجائب الحج

     عجيب هذا الحج العظيم الذي منَّ الله تعالى به على أمة الإسلام، عجيبٌ وطيّب، ورائعٌ ومبارك، ولا غرابة!.. فإنه العبادة الكبيرة التي لا تخطئ أن ترى فيها العبادات الأخرى بشكل أو بآخر، وهو فرصة التوبة والرحمة، والأوبة الكريمة النصوح إلى الله عز وجل في دين الإسلام الخالد المحفوظ الذي أتم الله تعالى به النعمة، وأكمل الدين وارتضاه لخلقه جيلاً بعد جيل، ما كان كونٌ، وما كانت حياة حتى يرثَ اللهُ الأرض ومَنْ عليها. ولا تخطئ أن تلمسَ شتى العبر والعظات، وأكرمَ المعاني والأفكار، وأنبلَ العواطف والمشاعر في رحلة الحج العظيمة، وفي مناسكها المختلفة، إنْ أعملْتَ عقلك وفؤادك في الذي تقوم به، ويقوم به إخوانك الحجيج في شتى البقاع الطاهرة إبّانَ الرحلةِ القدسية المباركة.

     تأمّل في يوم عرفة، واستشعر روعتَه وعظمته وجلاله، وليكن حاضراً في وجدانك أن الله تبارك وتعالى يبارك في الحجيج، ويباهي بهم ملائكته الأبرار: يا ملائكتي إن هؤلاء هم عبادي، انظروا إليهم قد جاؤوني شُعْثاً غُبْراً، ألا.. فاشهدوا أني قد غفرت لهم. وتَعْظُمُ الرحمة وتتسع، وتُمْحى الذنوب فتَبِيد، وتهبُّ أنسامُ القبول وبشائرُ العفو، فتكونُ فرحةٌ عظيمة للإيمان وأهله، لا تعدلُها فرحةٌ أخرى، وتكون هزيمة للشيطان وحزبه لا تعدلها هزيمة أخرى، لذلك ما رُئِيَ الشيطانُ يوماً هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة.

     وعرفة؛ وما أدراك ما عرفة!؟ رمالُها نُضار وأغلى من النضار، وحصباؤها آثَرُ من الدررِ الغاليات. ففي هذا السهل الفسيح قام في حجةِ الوداع إمامُ الرسلِ والأنبياء محمد ﷺ يعلن في خطبتهِ العظيمة الجامعة الأسسَ الكبرى لرسالة الحق والنور، رسالةِ الإسلام، رسالةِ الإخاء كما يعلنُ عن الفجرِ الضياء.

     وعرفة هي الصعيد المبارك الطهور الذي يمثل حقيقةَ الأمةِ المسلمة كما ينبغي أن تكون، ولاءً لله تعالى وحده، وحكماً بقرآنه، وانقياداً لإسلامه، وترفُّعاً عن العصبيات والجاهليات والقوميات، وتعاوناً أخوياً كريماً في غايةِ الصدقِ والوفاء، والمحبة والمودة، والتناصر والتعاون، والتآخي والتضامن، وما إلى ذلك مما يجبُ على الأمةِ المسلمة أن تكونَ عليه.

     وانظرْ إلى الحجيج إذ يعودون من رمي الجمار، يا للروعة والجمال والجلال!.. في نفوسهم فرحة عميقة، وعلى وجوههم علائمُ بِشْرٍ عميق، في القلب هناءة بالغة، وفي الوجدان صفاء وسلام، وعلى المُحيّا طلاقةٌ وضيئةٌ بهيجة، تشعر معها أن الواحدَ منهم مستبشرٌ فرِح، إذ رجمَ الشيطانَ وأعلن الحربَ عليه، وانتصر على نوازعه في نفسه.

     ألا إن الإنسان المخلوقَ من طينٍ وحمأٍ مسنون؛ تعلو قيمته بالخيرِ وتسمو، وتنحطُّ منزلتُه بالشر وتهون، يفعلُ الخيرَ فتكرمه دنياه وأخراه، ويفعل الشر فيغضب عليه مولاه، ويرجم التاريخُ ذكراه.

     ومن فضل الله تعالى أنه ادّخر البيتَ الحرام لأمة الإسلام، واختار حرمَه وربوعه المحيطة به لتكونَ مهدَ خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فهنا وُلِدَ ونشأ، وهنا شبَّ واكتمل، وهنا بلغ الكهولة، وهنا رعى الغنم وتاجر، وتزوج وأنجب، ونزل عليه الوحي في غار حراء، وهنا دارُ الأرقم حيث كان المسلمون يجتمعون فيها سراً حذراً من بطشِ قريش وعيونِ قريش.

     وهنا ألقى الخطبة على جبلِ الصفا منذراً قومَه، وهنا حوصر في شِعب أبي طالب ومَنْ معه من المؤمنين. ومن هنا ذهب إلى الطائف يبلغ دعوة النور ويطلب النصرة، وهاهنا في قرن الثعالب أفاق من هول ما استقبله به أهل الطائف، وجاءه جبريل وملك الجبال.. وهنا جلس في ظل شجرة فجاءه عداس النصراني بقطف من عنب، ثم أكب على رجليه يقبلهما وكأنه يعتذر مما صنعه قومه المشركون!.. وهنا غار حراء في قمة جبل النور، وهناك غار ثور حيث قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.

     وهناك في المدينة المنورة كانت الهجرة المباركة التي كانت أعظمُ نتائجِها أنْ قامت دولة الإسلام، فلقد أسس رسول الله ﷺ في المدينة المنورة دولة، وأقام ديناً، وثبّت دستوراً وقانوناً، وبنى جيشاً يدافع عن شعلة النور، وينهضُ لنشرِها في كل مكان، جيشاً حمى الدعوة والدولة، ورَدَّ المكيدة، وانتصر للمؤمنين الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.

     وإن المرء إذ يتصور ذلك كلَّه بأناة ورويّة، وهو يحجُّ إلى بيت الله عز وجل، وهو يزور مسجد الرسول الكريم ﷺ، لَيَجِدُ نفسَه أمامَ تاريخِ أمته الإسلامية العظيمة ومجدِها الشامخ المشرِّف، ويرى الآثارَ شاخصة، والشواهدَ ناطقة، والبقاعَ باقيةً شاهدة، وشهداء الإسلام في بدر وأحد، والرجيع والأحزاب، وقد رفعوا بدمائهم الزكيّة قواعدَ البناءِ المتين، من مجدِ الإسلام التليد.

     ومن ذلك التاريخ يأخذ العبرة، ويستنبط الدلالة، ويجدد العزم والعهد أن يكون للإسلام وبالإسلام، عليه يحيا وعليه يموت، وأن يظلَّ طيلةَ حياتهِ على نفسِ المنهج الذي اختاره الله تبارك وتعالى لنبيِّه الكريم وصحبه الأوفياء: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

     ومن عبرةِ التاريخ، والعهدِ المتجدد بوعي دروسه يستنبطُ المسلم الدربَ الذي يجب أن يصوغ عليه الحاضرَ والمستقبل، وهو استئنافُ حياةٍ إسلاميةٍ صحيحة، راشدةٍ متكاملةٍ مؤمنة، قوامها الإيمان، وشعارها الأذان، ودستورُها القرآن.
*****

الحج تجرّد لله

الحج تجرّد لله

     الحج تجرّدٌ لله تعالى، وتلبيةٌ لندائه، وطاعةٌ لأمره، وتصفيةٌ للنفس، وتزكية للروح، وتطهير للوجدان، وعزم صادق على الخضوع لله تعالى، والحرص على مرضاته، وتجنّبِ كلِّ ما يسخطه في بقيةِ أيام العمر، وهو أيضاً تجاوبٌ مع طبيعةِ الأمة المسلمة من حيث هي كيانٌ واحد، يَدِينُ بعقيدةٍ واحدة، إنه التحامُ المؤمنِ جزءاً لا يتجزأ في صفوفِ أمةِ التوحيد، خيرِ أمة أخرجت للناس.

     وفي الحج يتحدُ النشيد الإيماني، والهتاف الرباني، ينساب من أفواهِ المؤمنين، ويتدفق في ضمائرهم وسرائرهم، صادقاً صافياً في عذوبةٍ وحنان، وشوقٍ وإخبات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".

     وفي الحج صورٌ متحركة حية، ترسمُ ملامحَ الأمةِ المسلمة، وتعطيها أصولَ الحركة مع الوحدة، فالكلُّ هناك يطوف حول البيت من جميع جهاته، لكنهم مع تفرقهم حول البيت العتيق مُتَّصِلون متلاحمون، وكذلك يجب أن يكونوا مهما طافوا في جميع أنحاء الدنيا، تعاوناً ومحبة، وتناصراً ومودة، وتضامناً وأخوّة، تماماً كما وصفهم الرسول الكريم ﷺ حين شبّههم بالجسد الواحد.

     والكلُّ يسعى ولكنْ في حدودٍ لو تجاوزها لأخطأ، وكذلك السعيُ في الحياة، حيث على المسلم أن يسعى في دروبها مكافحاً صابراً لكنْ ضمنَ الحدودِ التي رسمتها له الشريعة الغراء.

     والكل يقف في عرفات في جمعٍ لا مثيل له في أمةٍ من الأمم قط، قلوبُهم مشدودة إلى خالقهم، وألسنتُهم تردد ذكره وتلهج بشكره، ورجاؤهم في الله وحده، ودموعهم الغزيرة تتساقط خوفاً وطمعاً، فيشعر الواحد منهم بالرحمةِ الإلهية تفيض عليه، ويشعرون جميعاً أن سعادَتهم الحقيقية هي في أن يعيشوا مع الله عز وجل، ويحكموا بقرآنه، ويسلموا قيادَهم إليه في كلِّ شؤونهم ليعطيَهم ما يَصْبون إليه، ويحققُ لهم ما يؤملون، وكذلك الأمر بعدَ الحج، يجبُ أن تكونَ الأمةُ المسلمة على ما عاشت عليه وعاهدت ربَّها عليه يومَ عرفات.

     ومئات الألوف يرمون الجمار، يقذفون بها الشيطان، ويقذفون بها ما في أنفسِهم من إغراءاتِه ونَزَغاته وهَمَزاته، ليفرغوا بعدَ ذلك للراحةِ والطمأنينة وشكر الله تعالى، ولو أن المسلمين تزاحموا على حربِ أعدائهم كما يتزاحمون على رَمْيِ الجمار، لصفُّوا حسابهم مع هؤلاء الأعداء، وهزموهم بإذن الله، وعاشوا أعزاءَ كراماً في حللِ النصرِ البهيجةِ المشرقة، والحريةِ الغالية، والكرامةِ الأبيةِ الشمّاء.

     وهناك، في رحاب مكة المكرمة، والمدينة المنورة وأرض الحجاز، تاريخُ الأمةِ الإسلامية في أولى أيامها المباركة، تحكيه الأبنيةُ والمشاهد، وترويه البقاع والمدافن، وتنطق به الأرض الكريمة الطيبة، فما أجملَ أن يملأَ المسلمُ عينَه من أول بيتٍ وُضِع للناس لعبادة الله تعالى وحده!.. وما أجملَ أن يتذكر الخليلَ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وهم يرفعان القواعدَ من بيتِ الله جل شأنه، ويسألانه أن يمتدَّ أثرُهما حتى يتسلمَ أمرَ الرسالةِ نبيٌّ أميٌّ كريم يتلو على الناسِ آياته، ويزكّيهم، ويعلمهم الكتابَ والحكمة وينقذهم من الضلال ويخرجهم من الظلمات إلى النور!..

     وإنها لمعانٍ نبيلةٌ نبيلة، ومشاعرُ ساميةٌ متألقة تلك التي تفيض على الإنسان وهو يتذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقودُ ابنَه ليذبحَه طاعةً لأمر الله تبارك وتعالى بعد أن جرى بينهما حوارٌ عظيم مؤمن يشهدُ بعظمةِ الإيمان، وصدقِ التفويض، والشجاعة البالغةِ عندَ الأبِ والولد على السواء: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

     وحين يهمُّ الأبُ بذبح الولد يكون النداء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104]. فلقد صَدَقَ إبراهيمُ مع خالقه عز وجل، ولم تأخذْهُ الشفقةُ على ابنِه في تنفيذِ أمرِ رَبِّه الكريم. لقد ظهر الصدق، وانكشفت الطاعة وإن لم يتمَّ الذبح.

     ولعل هاتيك المشاعر السامية، والمعاني النبيلة، تتدفق في نفسِ الحاج وهو يذبح لله تعالى في حَجِّه، مؤدياً بنجاح اختبارَ صدق الإيمان والتقوى فيما يفعل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْۚ} [الحج: 37]، المعنى العميقُ واحد، المشاعرُ السامية هيَ هي، وإنِ اختلفَ الذبيحُ هنا وهناك، وإن تَمَّ ذبحٌ ها هنا، ولم يتمَّ ذبحٌ هناك.

     والعبر في الحج كثيرةٌ كثيرة، والعظات بالغة، والدروس ساطعة كالشمس، والأملُ النهائيُّ من الرحلةِ المباركِ غُدُوُّها ورَواحُها، ووعيُ دروسِها وعبرِها أن يعود الحجيج، ورحمةُ اللهِ تعالى تحفُّهم، والبركةُ تتنزلُ عليهم، يعودون بحياةٍ جديدة، وعزمٍ جديد، وإيمانٍ جديد، وتوبةٍ نصوح، كأنهم وُلِدوا من يومهم، يعودون لمواصلةِ مسيرةِ الحياة على الطريقِ السويّ، طريقِ الهداية والاستقامة.

     أَسْعِدْ بها من رحلة!.. وأَسْعِدْ بهم من مرتحلين!.. وهنيئاً لهم في الذهاب، وبُشرى لهم في الإياب!.
*****

الحج رحلة فاصلة

الحج رحلة فاصلة

     حمداً لله تعالى على عظيم نعمائه، وسابغ كرمه وجوده، حمداً له على عطائه الكبير العظيم الذي لا تخطئ أن تلمس آثاره المباركة هنا وهناك في كل ما تقابل، ولا تخطئ أن تلمسها بادئ ذي بدء في نعمة الإسلام التي أكرمنا بها جل شأنه، هذه النعمة التي لا مثيل لها قط، هي أعظم ما يفوز به المرء، وأثمن ما يستمسك به ويحرص عليه.

     ومن أعظم صور هذه النعمة، فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، ليجدد الحاج العزم على طاعة خالقه، والانقياد لمنهجه، والدعوة لرسالته، وليؤوب منها وهو يشعر بصدق وعمق أنه نقي الصفحة، مغفور الذنب، مقبول التوبة، بعد أن أدّى حق الله عز وجل، وبعد أن أناب وأطاع، وبعد أن قام بكل لوازم رحلة الحج الهادية المباركة.

     الحج هو الرحلة الفاصلة بين عهدين، عهد مضى وانقضى يرجو المسلم أن يكون الله تعالى قد غفر له فيه ما فرّط وقصّر، وعهد جديد يستقبله المسلم، وهو على أمل عظيم ورجاء كبير أن يكون فيه بعيداً عن كل شر، مسارعاً إلى كل خير، متمسكاً بالإسلام، داعياً إليه، حاملاً شعلة هدايته المباركة النيّرة للعالمين.

     والحج رحلة فاصلة حقاً، فإن المسلم عليه أن يدع الضلال العقلي، والجدل العقيم، والتذبذب بين الإيمان والشك، وما يشبه ذلك أو يقرب منه أو يمتُّ إليه بسبب، عليه أن يدع هذا كله، ويتخلى عنه عند الميقات حيث مكان الإحرام للدخول في شعائر الرحلة المباركة الفاصلة، ومع خلعه للثوب المشدود بالخيوط، عليه أن يخلع أثواب الأخطاء والآثام، والقصور والإساءات، ويخلع ثياب الرذائل الفكرية والنفسية والروحية والجسدية والأخلاقية المشدودة بخيوط الأرض إلى عالم ينأى عن منهج الله تعالى وهديه، ودربه اللاحب المستقيم.

     عليه إذ يخلع ثيابه التي اعتادها عند الميقات؛ أن يخلع أوزار الشك، ودعوة الباطل، والمذاهب الوضعيّة، الجاهلة القاصرة التي يضعها بشر جاهلون قاصرون، يريدون منها أن تكون بديلاً عن منهج الله تعالى الكامل الصحيح الذي لا يأتيه الباطل بحال من الأحوال.

     عند الميقات يجب أن تكون بداية الفصل بين عهدين، عهدٍ يُوَدَّعُ، وعهدٍ يُسْتَقْبَل، وعند الميقات يجب أن يتحدد الاتجاه الجديد لمسيرة المسلم، لقد كانت الحياة موزعة بين الأرض والسماء، بين الارتفاع والهبوط، بين دواعي السمو وجواذب الطين، بين إيثار الآخرة والانكباب على الدنيا، بين طاعة الرحمن واتباع الشيطان، ولكنِ الآن، ومن عند الميقات يجب أن يتقد العزم في فؤاد المسلم أن يجعل حياته كلها للخير والطاعة والإيمان، فلا مجال إلا للارتفاع، ولا طريق إلا لليقين، ولا تفضيل إلا للآخرة، ولا طاعة إلا لله عز وجل.

     لا رفث ولا فسوق ولا جدال بدءاً من الميقات حيث أول مشاعر الرحلة الفاصلة المباركة، فكل ما كان يشوب إيمان المسلم وسلوكه يجب أن ينتهي، يجب أن يخلعه المسلم كما يخلع ثيابه عند الميقات، وإلّا فإن رحلة التيه والجدل، والذبذبة والضياع، والمفاسد والآثام ستظل مسيطرة عليه.

     إن الميقات هو المكان الفاصل بين رحلتين: رحلة يلبس فيها ما يشاء ويفعل ما يريد ما لم يكن حراماً، ورحلة يتقيد فيها بلوازم الإحرام وضوابطه، وهو أيضاً الزمان الفاصل بين رحلتين: رحلة الغربة والتيه والتقصير، ورحلة الهداية والحقيقة واليقين، رحلة المعصية ورحلة الطاعة، رحلة الإفلات ورحلة الإخبات.

     الطاعة والعزة، والانقياد والخضوع، والعبادة والتوجه، والحاكمية والألوهية، منذ الآن حيث يلبس المسلم لباس الإحرام، ومن هذا المكان في الميقات المعلوم، هي لله عز وجل، ولله وحده. كل المناهج إلا منهج الله باطلة، وكل الدروب -إلا دربه- تيه وضلال، وكل الدعوات -إلا دعوته- فساد وضياع، وكل الأحزاب -إلا حزبه- تجمع فاسد يقوده الشيطان، وكل الكتب -إلا قرآنه- وهمٌ وهباء.

     من عند الميقات زماناً ومكاناً يجب أن يستقر في خلد المسلم أن انقياده التام بعد اليوم لله، ولله تعالى وحده، في الضمير والقلب والجسد، في الفكر والعاطفة والعقل، في القوانين والأنظمة والشرائع، في السياسة والحكم والاقتصاد، في كل شأن من شؤون الحياة فردياً كان أو جماعياً.

     فدين الله تعالى شامل متكامل، وهو يرسم منهج الحياة في كل شيء، فهو مصحف وسيف كما أنه دستور وقانون، وهو دين ودولة كما أنه سياسة واقتصاد، وهو عبادة في المسجد كما أنه تشريع للحكم، وعلى الحاج أن يتمحض ويتجرد لله عز وجل، الذي أكرمنا بهذا الدين الشامل الكامل، ويجعل ولاءه له وحده، دون الأهل ودون المال، ودون الجاه والمنصب، ودون الغرائز جميعاً، والأرضيات جميعاً، ويمكّن هذا الولاء ويقويه، برحلة الحج الهادية المباركة السعيدة.
*****

أسرار الحج

أسرار الحج

     تعالَ معي نجُبْ ما في الحج من حكم وأسرار، ونتأملْ ما فيه من مشاهد ومواقف، نحاولْ استخلاص العبرة والدلالة، والدرس والموعظة، والإشارة الخفية والجلية!..

     تعال نفعل ذلك!.. ففي ذلك متعة وجمال، وشوق وحنان، وخير مبارك واسع. ولننظر إلى هؤلاء الطائفين الساعين، الذاكرين المسبّحين، الراكعين الساجدين، الذين وفدوا إلى بيت الله الحرام، يرجون الرحمة، ويبتغون المغفرة، وينشدون الفوز والقبول، ولنسمع إلى أصواتهم الهادرة بالتلبية، ولنرقُبْ ملابسهم الموحّدة الجميلة، ولنتأمّل معاً فيما يقولون ويفعلون، إننا سنجد العجب العجاب مما تدبّره عنايةُ الله عز وجل.

     هؤلاء الضيوف.. ضيوف الرحمن إلى بيته العتيق الآمن، تجددت حياتهم، ونشطت أجسادهم، وحسنت طباعهم، وتهذبت نفوسهم، ورقّت سرائرهم، وكرمت نواياهم، وطابت أعمالهم. تطهّرت منهم المطامح، وسمَت منهم الآمال، وعذُبت منهم الأشواق، أشرقت قلوبهم بالخير، وتطهّرت بالهداية. توضأت بالإيمان، وتعطّرت بالقرآن، وزكت بالأذان، فإذا بهم بعد هذه النُقْلة الإيمانية المباركة، خلقٌ آخر، تتزايد فيهم طاقات الخير وتتضاعف، وتنحسر فيهم نوازع السوء وتتضاءل.

     هم ضيوف الرحمن جل جلاله، ووفده الكريم إلى بيته العتيق الآمن، وهم كذلك جنده الأطهار الأبرار، الشرفاء الأتقياء، قدموا إلى مهد الإسلام الأول ومَأرِزِهِ الأمين، حيث نبتت الدعوةُ المباركة بذرةً صغيرة ما لبثت أن أخذت تنمو وتشتد وتقاوم التحديات، وتصارع الطغاة والبغاة والآثمين.

     قدِم هؤلاء الضيوف ليتذكّروا المعركة الأولى بين المسلمين يقودهم رسول الله ﷺ، وبين الكافرين تقودهم عصبة السوء، كأبي جهل وأبي لهب، وليستشرفوا الهداية في أرض النور، والنور في أرض الهداية، وليقرروا بوعي وفهم، وعزم وصلابة، أنهم سيعملون على استئناف حياة إسلامية، مباركة راشدة بعد عودتهم إلى بلدانهم.

     لقد قدم ضيوف الرحمن من كل فج عميق، ووادٍ سحيق، وأرضٍ نائية، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معدودات، ويشكروه على جزيل نعمائه، وعظيم جوده وآلائه، ويتوبوا إليه مما أذنبوا، ويستغفروه مما قصّروا، ويتداركوا ما فرّطوا، ويجددوا العزم والنشاط، ويغذّوا المسيرة المؤمنة، صوب الأمل المنشود، والغاية المؤملة، ويجددوا العهد على محاربة الفساد والانهيار في حياة أمتهم، وتقوية موكب الخير والرشاد فيها، ليتداركوا ضعفها ويتجاوزوه، ويحققوا أملها وينالوه، وليهتفوا بكلمة الحق، ويتبنَّوا دعوة الهداية، ويحملوا راية الإسعاد والإنقاذ هنا وهناك، راية الإسعاد الإسلامي، ولواء الإنقاذ القرآني، فيأوي إليهم الضالون والحائرون، والحزانى والمُتْعَبون، ويفيء إليهم كل الباحثين عن حلولٍ مؤمنة لمشكلاتهم الكثيرة، التي أوقعتهم فيها الجاهلية المعاصرة، حلولٍ مؤمنة تنسجم مع فطرتهم التي برأهم الله تعالى عليها، تحقق لهم سعادة الدين والدنيا معاً.

     وسيعود ضيوف الرحمن هؤلاء، وقد ازدادوا خيراً وبركة، ورشداً وهداية، وقد انتصرت فيهم الإنسانية على الحيوانية، والفضائل على الرذائل، والإيثار على الأثرة، والخير على الشر.

     سيعودون لينصروا دين الله عز وجل، بعد أن اجترأ عليه العادون، واقتحم حماه الفاسدون، وعاث فيه الكافرون والفاجرون.

     سيعودون وهم أثبت نفساً، وأقوى أملاً، وأمضى عزماً، وأرسخ يقيناً وهمة.

     سيعودون وقد عقدوا العزم على مقاومة الفساد الكافر، والكفر الفاسد، ومحاربة عدوان الظالمين وتسلط الغادرين، ومؤامرات اللصوص والذئاب، وخطط الخصوم والأعداء، حتى تكونَ كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

     وإن ذلك لكائن بإذن الله، في يوم لا ندري متى يكون، لكننا واثقون من قدومه، فذلكم أمر الله وقدره، وهو على كل شيء قدير.

     إنه النداء الرباني العظيم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"؛ هو الذي جاء بهذه الأعداد الهائلة من البشر إلى موطن الإسلام الأول، لتجدد إيمانها بهذا الدين الخالد، ولتبايع الله عز وجل على الولاء التام له وحده، ونبذ كافة المبادئ والدعوات الجاهلية التي ذاعت في عدد غير قليل من ديار الإسلام، وكشفها والتصدّي لها ومحاربتها.

     وفي مهد الإسلام الأول، وفي ظلال البيت المبارك العتيق، ستعرف حشودُ الحجيج حقيقةَ دينها العظيم بما تقوم به من شعائر عميقة المعاني، ومناسك بعيدة الدلالات، ويرسخ في أذهانها أن الإسلام وحده هو الحق المطلق الذي لا تشوبه شائبة، وأنه سبيلُ سعادتها ديناً ودنيا، فتحرص عليه، وتفرح به، وتستمسك بعروته، وتعض عليه بالنواجذ، ثم تنطلق به إلى الناس جميعاً، تعمل على نشره، وتذيع خيره وبركته، وتقدم فضائله للناس، لتهدي به كل من ضل واحتار، وشقي وتاه، ومضى يخبط في ليل الجاهلية البهيم.
*****

المسلمون والحج في الأزمات

المسلمون والحج في الأزمات

     ما معنى أن يتكاثر الحجاج في هذه الأيام العصيبة التي يتعرض فيها المسلمون لأشد النكبات!؟

     معناه أن المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون، يُهْرَعُون إلى مكمنِ قوتهم، ويتذكرون.. يتذكرون أن مكة المكرمة هي قلب العالم الإسلامي، ورمز وحدته وقوته وتجمعه. ويتذكرون أن اجتماعهم فيها ينبغي أن يقوي فيهم روابط الأخوّة، وأواصر المحبة والتعاون والتناصر، ليتجاوزوا كل العقبات أمامهم، ويبدؤوا عهداً جديداً من النصر والغلبة والظفر، وقيادة العالم وهدايته. ويتذكرون كذلك أنه من المدينة المنورة، مدينة رسول الله ﷺ، مَأرِزِ الإيمان، وملاذه وحماه، انطلقت دولةُ العقيدة والفكرة، دولة العدل والنور، دولة الهداية والفضيلة، دولة الشهادة على الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

     انطلقت هذه الدولة من بين جاهلية عاتية، مظلمة متخلفة، وتحديات كبيرة ضخمة، وأعداء في غاية القسوة والمكر والحقد، يحيطون بها من كل جانب، كما يحيط بنا الأعداء اليوم من كل جانب، انطلقت شابةً جَلْدَةً فتيّة، شجاعةً طموحةً أبيّة، يتقد فيه العزم، ويتدفق فيها الرجاء، وتعظم فيها الهمة، وتستوطن فيها البطولة، ويقوى فيها الأمل أن تقضي على ليل الجاهلية، وتدك عروش الطواغيت المُعادين لدين الله ومنهجه، الصّادِّين عن دربه، المحاربين مَنْ آمن به. انطلقت كالنسر ينقض، كالليث يتنزّى، كالسهم يُصْمي، كالعُقاب تدوِّم، فإذا بها في أقلَّ من نصف قرن من الزمان تصل كتائبها المظفرة المنصورة، إلى الصين شرقاً، والأندلس غرباً، وإلى جنوب فرنسا شمالاً، ووسط أفريقيا جنوباً.

     المسلمون اليوم يحدوهم الأمل العريض أن ينطلقوا من غبار التخلف وحواجز الفرقة، وليل الجاهلية، وقسوة التحديات، وينجوا من ذلك كله وما يشابهه، كما انطلق المسلمون الأوائل ونجوا مما كانوا يواجهون، ويأملون أن ينتصروا كما انتصر أسلافهم من قبل، ويبنوا المجتمع المسلم كما بناه أجدادهم، ويقيموا دولة الإسلام كما أقامها الجيل الأول، وهم في أملهم العريض هذا يعرفون أن سر نجاحهم هو في الإيمان، لذلك يحملهم هذا الإيمان على تصرفات شتى؛ من بينها أن يأتوا إلى الحج، وها هم يأتون، وها هم يتزايدون. ولعل في زيادتهم هذه مؤشراً لا يخطئ إلى الدرب الذي بدؤوا يسلكون، والنهج الذي أخذوا إليه يفيئون.
*****

الحج ورابطة الدين

الحج ورابطة الدين

     يصل الحجاج إلى الديار المقدسة عرايا من كل الروابط إلا رابطة الدين التي هي الأعلى. ذلك أن رابطة الدين، رابطة قناعة عقلية قلبية، يختار المرء فيها موقفه، أما بقية الروابط فهي تقوم على اهتمامات أدنى لا اختيار فيها للمرء ولا اقتناع، عرايا من كل لباس إلا من ثوب بسيط غير مخيط لا يميز فرداً عن فرد، ولا جنساً عن جنس، ذلك أن الفوارق جميعاً سقطت في الحج، وذلك أن القادمين يجمعهم أمر واحد، هو هذا الدين الذي آمنوا به ومنحوه محبتهم وولاءهم.

     وإذن ففي هذا المؤتمر الجامع لك أن تقول: إن عقيدة الإسلام هي وحدها العقيدة، ونَسَبه هو وحده النسب، وصبغته هي وحدها الصبغة.

     ومن المقرر أن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يمجّد طبقة، ولا يقدّس لوناً أو لغة أو منفعة، مما تقدسه الجاهليات، وتمجده وتجمع الناس عليه، الناس عنده أمة واحدة سواسية كأسنان المشط؛ لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، والخلق عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. وهكذا يتضح في الحج معنى المساواة الذي جاء به الإسلام وأيده وأكده أشد الوضوح، ومعنى الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها عصبية، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً.

     ويمضي موكب الحجيج الطهور في الأرض الطهور، يتنقل في أرجائها ليعمّق الولاء للدين والاعتزاز بالإسلام، والفخار بالانتماء إلى أمة محمد ﷺ.. يمضي هنا وهناك، فتراه في الأراضي المباركة فتفرح به وتسعد.

     تراه في عرفة متذكراً خطبة الرسول الكريم ﷺ على صعيدها الطيب، فيستشعر بذلك أملاً كريماً، ويجدد عهداً عظيماً، وهو أن يجدد شباب الأمة الإسلامية، وجهادها المبارك على الطريق الذي حدده لها انتماؤها للإسلام، رجاءَ أن تنهض هذه الأمة لهداية البشرية من جديد، وتنقذ الإنسانية من ليل شقائها الطويل وجاهليتها العاتية، وقيادتها الغربية الضالة التي قادتها صوب الشقاء.

     إن من أعظم ما يعود به الحجيج إلى بلدانهم هو تقوية إيمانهم، وجعل ولائهم كله للإسلام وحده، وعزمهم على الجهاد من أجله حتى تعلو رايته وتسود، فيسعدون بذلك أنفسهم وذويهم وأمتهم والإنسانية جمعاء.
*****

سقى الله أيام الحج

سقى الله أيام الحج

     سقى الله أيام الحج، وحباها من الوابل الصيّب والغيث الهتون، والرحمات المزجاة بما يجدر من كرمه جل شأنه.

     سقى الله أيام الحج فهي بالنسبة للمؤمن ربيع العمر، وروضة الحياة، وهي أثمن الأيام في رحلة الحياة. هي للمؤمن كالورد في أوج تفتحه، وكالماء في عنفوان جريانه، وكالروضة المعطاء في أوج عطرها واخضرارها وتألقها.

     إنها ذكريات الإيمان والحنان، عاشها المؤمن فوق أطهر أرض في الدنيا، وفي أقدس أيام العالم، وفي مكة المكرمة يلتقي فضل الزمان بفضل المكان، ليزيد شرفاً على كل زمان، وعلى كل مكان. فإذا أضفت إلى هذين نبل مقاصد القادمين، وسامي اهتمامهم وعظيم أملهم، وصحة معتقدهم، وصفاء سريرتهم، وتجنبهم كل ما يؤذي، وحرصهم على كل خير، استطعت أن تسبر بعض الشيء عظمة الحج الذي أكرم الله عز وجل به أمة الإسلام والمسلمين.

     لا غرابة إذن أن يظل المؤمن في حنين جياش لأيامه في الحج، ولا غرابة أن يظل يرنو إلى العودة إليه المرة بعد المرة، والكرّة بعد الكرّة، وإذا كانت الطيور تسمو بفطرتها دائماً إلى الطيران، فإن قلوب المؤمنين تهفو دائماً إلى الحج وتتطلع وتشتاق:

أشواقُنـــا نحوَ الحجـــــاز تطلّعتْ     كحنيــــنِ مغتـــربٍ إلى الأوطان
إن الطيورَ وإنْ قصصتَ جنـاحَها     تهفـــو بفطــرتها إلى الطيــــران

     فليس غريباً أن تتقد عواطف المؤمنين كلما حلَّ موسم الحج، وطفق الناس يتلون قول الله عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27)، ولا غرابة أن تشهد قوافل المؤمنين تزحف نحو بيت الله عز وجل تغسل الذنوب، وتمحو الآثام، وتعزم على طاعة الله جل شأنه. وإنه لطيب مبارك بهيج أن تشهد هذه القوافل المباركة تزداد عاماً بعد عام، لتثبت للناس جميعاً أن لهذا الدين من يحبه ويمنحه ولاءه، ولتزرع في القلوب أن لهذا الدين بإذن الله يوماً يعلو فيه ويغلب ويسود.

     والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه متجردين من كل الروابط سوى رابطة الإسلام، متجردين من كل ولاء إلا الولاء لهذا الدين، متحررين من الأواصر الهزيلة التي تجمع أقواماً على عصبية لنسب أو لون أو لغة أو إقليم.
*****

ما أروع الحج!

ما أروع الحج!

     ما أروع الحج وأعظمه!.. وما أبلغَ وأسبغَ نعمةَ اللهِ تعالى على المسلمين فيه!..

     إنه الرحلةُ إلى الله جل شأنه، وإنه إعلانُ الرفضِ للشيطان، ولمنهج الشيطان، ولدرب الشيطان، وهو التعبيرُ العملي عن الرغبةِ في الطريق إلى الله عز وجل، والإقرارُ بخضوعِ العقلِ للوحي لأن العقل قاصر، والوحي معصوم، والاعترافُ التام المطلق بالخضوع لله عز وجل ودينِه وكتابِه ونبيه ﷺ.

     ولو أن المسلمين استوعبوا هذه المعاني الجليلة وما يماثلها، مما تحفل به عِبَرُ الحجِّ ودروسه ودلالاته، ولو تعاملوا مع هذا الاستيعاب بثقة المسلمين الأوائل، بعيداً عن مناهج الشك، والمبادئ المستوردة، والدعوات الجاهلية، والعصبيات والعنصريات، لقادتهم فريضةُ الحجِّ إلى فريضة الجهاد، وإلى التعاونِ والاتحاد، وإلى الواجبات الكبرى التي يوجبها عليهم انتماؤهم للإسلام، ففازوا بذلك وانتصروا، وغلبوا وتفوقوا، وتجاوزوا التحدياتِ المسعورة التي تحيط بهم من كل جانب، وانتزعوا قيادةَ الحضارة اليوم، من قيادتها الحالية التي آلت إلى أناسٍ فجرةٍ كذبة، غادرين منافقين، لا يعرفون الحق، ولا يرجون لله وقاراً، فقادوها إلى الشقاء والدمار.

     ولو أن المسلمين عادوا من رحلة الحج بمثل هذه المعاني والمشاعر والعزائم؛ لما استطاع اليهودُ الجبناء الأذلاء، المشردون المبعثرون، أن ينتزعوا منهم فلسطينَهم، ويأسروا أقصاهم، ويدنسوا قدسهم؛ فهم أعجزُ من ذلك وأجبن. وأنّى لهم أن يقفوا في وجهِ أمّةٍ متحدةِ العقلِ والقلب، والسرائر والضمائر، والعزيمة والأمل!؟ وأنّى لهم أن يفكروا بحربها مجرد تفكير فضلاً عن أن يحاربوها بالفعل، وينتزعوا قطعةً غالية من ديارها بالقوة، ليقيموا عليها كيانَهم الظالم الباغي الغشوم!؟

     ولكن لأن الأمة المسلمة ليست على الحال التي يريد منها إسلامُها أن تكونَ عليها فعل اليهود ما فعلوا، وحين تكون حقاً وصدقاً -وإنها لكائنةٌ بإذن الله- على المستوى الإيماني الذي يريده منها دينُها العظيم، سيكون اليهود كاللقمة في فمِ الأسد، وسيُهْزَمون شَرَّ هزيمة، وسيكونون خبراً من الأخبار، وستُطْوَى دولتُهم الكاذبة بقيامِ دولة الإسلام، وتسقطُ رايتُهم الفاجرة بعلوِّ راية الإيمان، ويولي ليلهم الفاجر بطلوعِ فجرِ الحق والهداية، وتغيبُ التوراةُ المزيّفة المحرّفة، والتلمودُ الكذوبُ الجهول، وبروتوكولات حكماء صهيون الآثمةُ الباغية، بانتصارِ القرآن الخالد المحفوظ، وهديهِ المباركِ الخيّر، ومبادئهِ السامية الطاهرة.

     وحقاً .. إن المرء حين يرى المسلمين في الحج؛ يعرف ضخامة هذه الأمة الإسلامية العجيبة، الهادية المباركة، المنجبة الولود، يعرف ضخامتَها عقيدةً صحيحة، مستعلية مكافحة، ويعلم ضخامتها أعداداً هائلة، ويعلم ضخامتها موقعاً فريداً، ويعلم ضخامتها مواردَ وإمكاناتٍ مذخورة، وطاقاتٍ في غاية الغنى والتوسع والكثرة، ويعلم أن هذه الأمة تنتظر مَنْ يلهب قواها هذه، ويوقد فيها شرارةَ الجهاد، ويستخرجُ منها أقصى إمكاناتها، في مسيرةٍ جادةٍ صادقة، مؤمنةٍ متحمسة، لتكونَ أعجوبةَ العصرِ من جديد، ووثبةَ الظفرِ من جديد، والموجةَ التي تكتسحُ الدنيا من جديد، فتطهّرها من رجس الزيف والكذب، والضلال والباطل، والفساد والنفاق، والشرور والآثام، وتبني عليها دولةَ الصدقِ والصحة، والهداية والحق، والخير والأمانة وما شِئْتَ من فضائل ومكرمات.

     أما العقيدة الإسلامية فهي مكمن القوة الحقيقي في هذه الأمة، وهي بحمد الله تعالى عقيدةٌ صحيحةٌ لا خطأَ فيها، نقيةٌ لا شائِبةَ فيها، واضحةٌ لا غموض فيها، وهي عقيدةٌ شاملةٌ كاملةٌ متوازنة، وهي عقيدة جادة منشئة مبدعة، وهي عقيدة إيجابية عملية مكافحة، وهي كذلك عقيدة إباء واستعلاء، وشموخ ويقين، وثقة بالغة لا حد لها.

     وهذه العقيدة العظيمة التي هي أعظم ما يملكه المسلمون، وأقوى وأغلى ما يملكه المسلمون، هي مكمن القوة الأول عندهم، وهي الشرارة التي تفجّر كلَّ شيء فيهم نحو الخير، وهي سندهم الأكبر في الحياة، وأملُهم في صياغةِ مستقبلٍ عظيمٍ من بعد، صياغتها لمجدٍ باذخٍ من قبل.

     وبعدَ العقيدةِ الصحيحة، وبتوجيهِ العقيدةِ الصحيحة؛ ترى الإمكانياتِ الكبرى للأمة المسلمة وضخامتها، فالموقع عظيم فريد، يمتد ما بين جاكرتا وطنجة، أو بين إندونيسيا والمغرب، وفيه مناطق في غاية الأهمية كجبل طارق، وباب المندب، وقناة السويس، والعدد هائل كبير يتجاوز مليار مسلم في بقاع هذا العالم. أما الإمكانات من الموارد والثروات، المخبوءة منها والمستخرجة، المجهولة منها والمعلومة، فهي من الكثرةِ والسعة والتنوع والغنى بدرجةٍ عجيبة باهرة.

     إنَّ مشاهدةَ المرءِ للمسلمين في الحج، ومعرفتَه بضخامةِ أمتهم العجيبة، عقيدةً وأرضاً، وبشراً وموارد، تجعله يعلم أن فرصَ التفوقِ والظهور أمامَها كبيرةٌ جداً، واحتمالاتِ النصر والظفر أمامَها في غايةِ الكثرة، وأنها بحاجةٍ إلى مَنْ يوقد الشرارةَ فيها، ويلهبُ قواها المذخورة لتتدفقَ كالسيلِ العرم، وتتبوّأَ مكانَ الصدارةِ من جديد، وتتولى قيادةَ الحضارةِ البشرية مرةً أخرى كما فعلت من قبل.
*****

المواقيت في الحج

المواقيت في الحج

     من عند الميقات حيث يحرم المسلم بنسك الحج، من ذلك المكان، ومنذ ذلك الزمان الذي أحرم فيه في ذلك الميقات؛ على المسلم أن يستقر في أعماقه أنه يبدأ عهداً جديداً، وأنه يمضي في الخطوات الأولى للرحلة الهادية المباركة، رحلة الحج التي أكرم الله تعالى بها المسلمين، ومنحهم من خلالها فرصة يجددون فيها إيمانهم، ويتوبون من ذنوبهم، ويفيؤون إلى خالقهم، ويفتتحون صفحة جديدة نقية، محيت منها الذنوب، وغفرت فيها السيئات ليبدؤوا عهداً جديداً يسيرون فيه على هدي الله ومنهجه، طاعةً له، وانقياداً لحكمه، وتحكيماً لشرعه، ونأياً عن الشيطان وما يزيّن من المعاصي والآثام، وبُعداً عن شرائع البشر وقوانينهم وأنظمتهم الجائرة الضالة القاصرة، التي يريد أهل الردة الجديدة أن يجعلوها بديلاً عن حكم الله تعالى وشرعه وكتابه.

     من عند الميقات مكاناً، ومن الإحرام فيه زماناً، على المسلم أن يمنح ولاءه لله عز وجل، ولله وحده، فالطريق الذي تسلكه -أيها الحاج الكريم- منذ الآن وحتى الموت هو طريق الله وحده، كل مسعاك إليه يكون، وكل اتجاهك إليه يكون، صلاةً ونسكاً، صوماً وحجاً، تجارةً وزراعة، صناعةً وعملاً، حكماً وقانوناً، في المسجد والشارع، والمعمل والمصنع، والمتجر والمدرسة، والبيت والوظيفة، والحقل والثكنة، وفي كل مكان آخر.

     طريقك -أيها الحاج- منذ الآن، منذ الميقات زماناً ومكاناً، هو طريق الله تعالى وحده، وسحقاً لحياة الرفث والفسوق والجدال، وسحقاً لحياة الشر والجاهلية والآثام، وسحقاً لحياة الهبوط والسقوط والعصيان، وسحقاً لحياة الضلال والفجور والضياع، وسحقاً لحياة الصراع الفكري، والتيه العقائدي، والمبادئ المستوردة، والمذاهب الوضعيّة، والجدل الفارغ العقيم ومهاترات العقول الضالة العمياء.

     طريقك منذ الآن، من عند الميقات زماناً ومكاناً هو طريق الله تعالى فقط، والخروج من كل أدران الحياة، والحرص على الحج المبرور للنجاة من كل الذنوب، وصدق رسول الله ﷺ: ((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)). يا لها من رحلة فاصلة!.. ويا لها من بداية جديدة!.. ويا له من ميلاد جديد للإنسان، ولحقيقة الإنسان، ولفطرة الإنسان!.. ميلاد يتوضأ بالتوبة، ويتطهر بالتلبية، ويتعطر بالذكر والشكر والاستغفار، ويرتوي بآي القرآن الكريم.

     إن المسلم حين يهتف بالشهادة العظيمة الصادقة: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله"؛ يكون قد اكتشف الحقيقة، ويكون قد اعتنق الحقيقة، الحقيقة الكبرى في الحياة، بل كبرى حقائقها على الإطلاق، وهي أن الله تعالى هو وحده المتصرف في الكون، المالك لأمره، ليس له شريك ولا شبيه، وأنه قد بعث محمداً ﷺ رسولاً إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلى الناس جميعاً أن يتبعوه ويطيعوه.

     فالتوحيد إذن لله جل شأنه، والتلقي عنه يكون بواسطة رسوله الذي اختاره واصطفاه. وهكذا تحدد الشهادة الطريق الصادق إلى الحقيقة الكبرى التي يساوي الإيمان بها الهداية كلها، والخير كله، والسعادة جميعاً، والتي يعني الكفرُ بها الضلالَ كله، والشرَّ كله، والشقاَء جميعاً.

     تلكم هي الدلالة الحقيقية لمعنى الشهادة ومضمونها، إنها طريق الحقيقة أو هي الحقيقة إن شئت. أما الأركان الأربعة الأخرى وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج فإنها معالم الطريق، أو أكبر معالمه. والحج من بين هذه الأركان هو المَعْلَمُ الذي يتوِّجُ كل المعالم الأخرى، لأنه الركن الذي تشترك فيه كل أمة التوحيد لرفع راية التوحيد، ولأنه الركن الذي يطبق المسلم إبّانه الأركان الأخرى، ففيه أداء الشهادة، وفيه الصلاة، أما الزكاة فيمثلها الإنفاق في سبيل الله إذ يُخرج الحاج نفقة الحج من ماله ابتغاء رضوان الله، وأما الصوم فيحل محله إبان الحج امتناع الحاج حتى عن أصغر اللمم، وكظمه الغيظ، وحمله النفس على المكاره، والرضى بالمشقة. فالحج تشترك فيه بصورة وبأخرى كل أركان الإسلام، كما تشترك فيه أمة التوحيد جميعها، لإعلاء كلمة التوحيد وإعزازها ورفع راياتها.

     وفي الحج اجتماع دائم، قديمٌ حديث، جديدٌ متجدد، باقٍ إلى ما شاء الله عز وجل، اجتماع تلتقي فيه الأمة المسلمة من أقصى الأرض إلى أقصاها، لتمثل حقيقة الحياة كما يريدها هذا الدين، وكما تفتح بابها شهادة التوحيد، وكما تعبّر عنها الأركان الخمسة.

     إنه اجتماع الحقيقة الدينية كلها في ركن الحج، وإنه اجتماع المسلمين، أهلِ هذه الحقيقة وحماتِها، وحملة مشعل نورها الوهاج لهداية الناس جميعاً وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

     هو اجتماع الأمة الوسط، الهادية المهدية، المباركة الراشدة، الوصية على الناس، الشهيدة على البشرية، لتتعاون فيما تفعل، وتتشاور فيما تواجه، وتفكر فيما تستقبل، وتستنبط العبرة مما سلف، من أجل إسعاد الإنسان وهدايته، وإعزازه وإكرامه.

     إنه اجتماع الخير والصدق والفضيلة الذي لا يشبه لا من قريبٍ ولا من بعيد اجتماعات الناس في مؤتمراتهم الكاذبة، حيث يلتقي الزيف والكذب والتزوير، وأكل لحوم الضعفاء كما في المجالس الدولية الكاذبة.

     هذه اجتماعات صنعها البشر، وفيها عيوب كل البشر، والحج اجتماع صنعه الله، فجاء في أحسن صنع وأتم تكوين.
*****

أيها الحجاج (8)

أيها الحجاج (8)

     يا أيها الحجيج الذين أكرمَهم الله تعالى بالحج هذا العام، وطفقوا إلى بلادهم يعودون!.. تقبل الله تعالى منكم، واستجاب لكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم سالمين غانمين.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام الأحبة حيث أنتم في الوطن الإسلامي الكبير!.. سدد الله خطاكم، وبارك مسعاكم، وجعلكم جنود صدق لدعوة الحق والهداية والإنقاذ، حذار أن تسمعوا دعاة السوء الذين يريدون أن يفرقوكم إلى أقسام شتى، ومزق متعادية، من خلال اعتمادهم على أوثان عفنة سبق للإسلام أن دمرها، وقضى عليها من عصبيات جاهلية متخلفة، كالجنس والقوم، والأرض والوطن، والعشيرة والقبيلة، واللغة واللون، وما إلى ذلك، فالأمة المسلمة أمة واحدة، جنسيّتها عقيدتها فقط، وهويتها إيمانها فقط.

     وأعداؤها اليوم يحاولون تقسيمها إلى أقسام وفصائل، وشعوب وأعراق، وأجناس وألوان، وطبقات متعادية متناحرة يضطرم فيها الصراع المدمر، والحقد المجنون، فيعدو بعضها على بعض، وتقتتل بشراسة ووحشية، فتتآكل من الداخل بسبب ذلك، وينخر فيها السوس، ويفتك بها الخراب الذاتي، فإذا بها آخر المطاف صدئة مهترئة كورقة صفراء في مهب الريح، ذلكم بعض ما يهدف إليه أعداء الإسلام من محاولة تقسيم الأمة المسلمة، فاحذروا -يا إخوةَ الإسلام- سماعَ أقوالهم، فإنها السم الزعاف، وإن الانقياد لها إضاعة للدين والدنيا على السواء، وعودة إلى الجاهلية من جديد.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام!..

     إن دينكم عدو للعصبيّات والقوميات، وأمتكم لا تتحدد بالأرض والجنس، واللون واللغة، والصقع والإقليم، والسحنة والشكل، والزي والعادات، إنما يحددها فقط أنها مؤمنة مسلمة، رضيَتْ بالله تعالى رباً، وبمحمد ﷺ نبياً ورسولاً، وبالإسلام ديناً، فالشهادة وهي الركن الأول من هذا الدين، وهي مدخله وخلاصته تقرر هذه الحقيقة، والصلاة تقررها كذلك، وقُلْ مثلَ ذلك عن الزكاة والصيام، أما الركن الخامس وهو الحج فلعله أكثرها وضوحاً في تقرير هذه الحقيقة الكبرى، ونظرة واحدة فقط إلى الحجاج يطوفون حول البيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون على صعيد عرفات، ويرجمون الشيطان في منى، كافية لظهور هذه الحقيقة بشكل جلي سافر ليس فيه أي غبش أو قتام. إنها صورة الأمة الواحدة التي ليس لها حدود لأنها أكبر من كل حدود، والتي لا تنتمي لقوم لأنها فوق الأقوام، والتي لا يحتويها زمان لأنها باقية خالدة. إنها الأمة الواحدة التي التزمت رسالة آخر الأنبياء محمد ﷺ، وانخلعت عن كل ما يناقض هذا الالتزام، إنها الأمة القيّمة الراشدة، المباركة الطهور، أمة القرآن الخالد المحفوظ.

     يا أيها الحجيج!.. يا إخوة الإسلام!.. يا من أعلنتم بإباءٍ واعتزازٍ وشموخٍ إيمانكم، واستمسكتم بدينكم، واستضأتم بقرآنكم، وقررتم أن تنهضوا بعبء الدعوة إلى الله عز وجل، في هذا العصر الذي فشت فيه الجاهليات بأشكال جديدة، وصور شتى، ومضيتم في دربكم المبارك الهادي بثقة وثبات، وفضلتم الصعب على السهل، واخترتم التعب والنصب، والسهر والبذل والعطاء، مؤثرين بذلك كله الباقية على الفانية طالبين رضوان الله تعالى ومثوبته وجنّته!.. إن عصراً من عصور التاريخ لم يكن بحاجة إلى دعاة الحق كحاجة عصرنا اليوم، فهيّا -يا إخوةَ الإسلام- إلى إسعاده بالإسلام، وهدايته بالقرآن، وإنقاذه بالإيمان.

     ها هو العصر الحديث يقدم صناعات رائعة، ومبتكرات عجيبة، ومنجزات تبعث على الدهشة والإعجاب حقاً.

     ها هو يرتاد النجوم والقمر، ويجوب الأرض، ويصعد الجبال، ويغوص في البحار والمحيطات، ويحوّل الصحراء إلى أرض خضراء.

     ها هو يبني ناطحات السحاب، ويستخرج كنوز الأرض، ويصنع الآلات العجيبة الدقيقة، لكنه -وقد خلا وجدانه من الهدى، وصوّح بستانه من الإيمان، وأجدبت نفسه من الفضائل، وأقفرت روحه من النور الذي يسعدها- طفق يستعمل ما أنجز في الأذى والفساد والدمار، ومضى يوظِّف ما ابتكر للشر لا للخير، والتقاتل لا للتعاون، والكذب لا للصدق، فإذا بالذي أبدعه عقله وكدحه وكده ينقلب عبئاً عليه، ويصبح وبالاً على منكبيه يزيد من متاعبه وهمومه.

     إنكم بوسعكم وحدكم -يا إخوةَ الإسلام- أن تصححوا مسيرته، وتقوّموا طريقته، وتجنّبوه العثار، وتقدموا المعادلة التي يستطيع أن يحيا بها في سعادة، ويوظف بها المنجزات للخير والفضيلة، جامعاً بين العلم والإيمان في مسيرة هادية مباركة، والنفع الديني والدنيوي فهل أنتم فاعلون!؟
*****

الأكثر مشاهدة