السبت، 9 سبتمبر 2023

أصوات الملبّين

أصوات الملبّين

     ترى أي أثر عميق تركه في الإنسان أصوات الملبّين أيام الحج؟ أي إحساس جميل شفاف، بالوجد والشوق، والرهبة والخشوع، والخوف والرجاء، والحزن والإشفاق، والأمل العارم المتدفق، يمكن للمرء أن يستشعره، وأن يجوب أفياءه وأمداءه، وهو واحد من بين تلك الجموع المزدحمة، جاءت تطلب المغفرة والرضوان وهي تردد: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟

     لعل هذه التلبية هي أعظم أنشودة حية دفاقة تأسر قلوب المؤمنين، ولعلها أجمل أغرودة عذبة حبيبة تمتلك عليهم جميع نفوسهم وكل مشاعرهم:

لبيك نجوى البـــــائسينَ جوانحاً تتحرَّقُ
لبيك رَجْوى المذنبين ببابِ عفوك حلّقوا
لبيك أفئــدةٌ ترفُّ وفي رحابك تخفـــــقُ
لبيك أشـــــواقَ الظِّـماءِ مواكباً تتـــدفقُ
لبيك إيمـــاناً شـــذاهُ مثــــانياً تتـــــــألقُ
لبيك أنفاسُ الحجيج بسرِّ نَفْحِكَ تعبــــقُ
لبيك توحيداً لذاتِكَ بالهدى يتـرقــــــرقُ
لبيك عهدَ عقيدةٍ هي للنضـــــالِ الموثقُ

     وهي تلبية حارة حارة، ممزوجة بأرواح أصحابها الذين تحملوا الصعاب، وقطعوا المفاوز، وغادروا الديار، وتركوا الأهل والولد والمال، يحدوهم رجاءٌ سخيّ، وأملٌ واثق، ويقينٌ مكين أنهم سوف يعودون من رحلتهم وقد ظفروا بالفوز والمثوبة، والعفو والرضوان:

لبيك يا مَنْ لا شريــــكَ له يُـرامُ ويُقْصَـــدُ
لبيك أَشْرِقْ بالرضاءِ عسى يطيبُ الموردُ
لبيك هذا يومُ نَفْحِــــكَ أَنْعُـــــماً تتجــــــددُ
لبيك ضاقَتْ بالعبادِ السُبْـــلُ حينَ تبـــددوا
لبيك مزَّقَهمْ هـــوانٌ عاصفٌ متمــــــــرِّدُ
وَفَدوا بِذُلِّ الحائرين جراحُهُمْ لا تُضْــــمَدُ
هَبْهُمْ لعفوِكَ ليس غيرُك واهباً يُسْـــــتَرْفَدُ

     إنهم عطاش ولكنْ لسقيا الرحمة، إنهم ظماء ولكنْ لغيث المغفرة، لقد قدموا من كل مكان ليكونوا ضيوفاً على الرحمن في هذه الأيام المباركات:

يا ربِّ شُعْثاً أتهموا، يا ربِّ غُبْراً أنجــــدوا
وبطاحُ مكةَ في الصباحِ وفي المساءِ تغـرِّدُ
زانَ المشـــارفَ في حماكَ تبتّلٌ وتعــــــبُّدُ
وتماوجت عرفاتُ شعشعها الجلالُ المُفْرَدُ
وسمَتْ إليك بها المشــــاعرُ عَزْفُهن توجُّدُ
هنّ الضراعةُ والضــــــراعةُ أعينٌ تتسهّدُ
هنّ الحنينُ لظىً يجيـــشُ وباللظى يتصعّدُ

     وأيّاً كانت الذكريات، فذكريات الإنسان عن الحج أجملها وأروعها وأبقاها، كيف لا والتلبية تتكرر كل عام فتتغلغل ريّاها العذبة، وأقباسها الطاهرة، وأغاريدها الحبيبة، وأنسامها العاطرة، في عقله وقلبه وأعصابه، فإذا به أكثر صدقاً وخشوعاً، وإذا بإيمانه يزداد ويرسخ.

     فإنْ كان بين الحجيج فما أسعده!. وما أكرم ما فاز به!.. وإن كان بعيداً عنهم حمله الشوق على جناح الذكرى والخيال، فإذا بروحه هناك في تلك المواطن الغاليات، تلبي وتلبي، وتطلب الهداية والمغفرة، ونصراً عزيزاً تعلو به راية الإسلام ويندحر البغاة والطغاة:

لبيك أعظمُ مشهدٍ في الكونِ هذا المشهدُ
الذكرياتُ الغالياتُ ومجــــدُها المتفــرِّدُ
أَعْلى منائرَ هَدْيِها فجــــرُ النبوّة أحمــدُ
يا ربّ عَوْداً للهدايـــــــةِ زادُها لا يَنْفَـدُ
يا ربّ روحاً عالياً في الحقِّ لا يتــرددُ
يا ربّ نصراً أنتَ فيه على البغاةِ مؤيِّدُ
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة