‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب بقايا ذاكرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب بقايا ذاكرة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 29 يناير 2022

أمانة المجاهدين في الحروب

أمانة المجاهدين في الحروب

(1)
أسامة – زيد – صوت منادي

أسامة: اللَّهمَّ لك الحمد على ما أعطيتَ وأوْلَيت.. إنه لَنصرٌ عظيمٌ هذا الذي أحرزناه على الفُرس يا زيد.

زيد: أي والله يا أسامة، نصرٌ عظيمٌ، جِدُّ عظيمٍ.. يا سبحان الله! من كان يحسب أن بوسعنا هزيمة الفرس لولا هذا الإسلام الذي أكرمنا الله به؟

أسامة: لا أحد قط.. لقد كان لهؤلاء الفرس في نفوسنا هيبةٌ عظيمة يا زيد أيام جاهليتنا.

زيد: هيبةٌ وأيُّ هيبة!..

أسامة: والله إنَّ هيبتَهم لنا اليوم أضعاف هيبتنا لهم بالأمس.

زيد: وهو فضل الله علينا ورحمته.

أسامة: يا سبحان الله!.. ما كان الواحد منا يحلم أن يدخل المدائن زائراً من قبل.

زيد: وها نحن اليوم ندخلها بفضل الله فاتحين. ها هي ذي المدائن بين يدَيِ المسلمين، ليس فيها كسرى، ولا حاشية كسرى.

أسامة: إن الأرض لله يورِثها من يشاء من عباده.

زيد: والعاقبة للمتقين.

أسامة: اللَّهمَّ اجعلنا من المتقين.

زيد: اللَّهمَّ آمين. "صمت قصير"

صوت "ينادي": يا معشر المسلمين!.. إن أميركم سعد بن أبي وقاص يدعوكم أن تذهبوا إلى صاحب الأقباض لتدفعوا إليه ما وقع بين أيديكم من المغانم.

زيد: "متسائلاً" سمعتَ يا أسامة؟

أسامة: أجل يا زيد.

زيد: فإني ذاهبٌ إلى صاحب الأقباض أدفع إليه دروعاً وأسيافاً غنمتها.. إني ذاهبٌ الآن إلى خيمتي من أجل ذلك.

أسامة: وإنَّ في خيمتي كذلك ما عليَّ أن أدفعه إلى صاحب الأقباض..

زيد: وما هو؟

أسامة: شيء من الذهب أصبته أول دخولنا المدائن.

زيد: على بركة الله.

أسامة: فلنسرع الآن، استجابةً لطلب الأمير سعد بن أبي وقاص. هيا بنا.

زيد: هيا بنا. "حركة وجَلَبة"

(2)
مجموعة من المسلمين
منهم صاحب الأقباض – أسامة – زيد – عامر بن عبد القيس

صاحب الأقباض: يا معشر المسلمين!.. ادفعوا إليَّ ما غنمتم، فقد سمعتم نداء أميرنا سعد بن أبي وقاص.

الأول: خذ، هذه سجادة وقعت بيدي. "صوت شيء يوضع"

صاحب الأقباض: بارك الله فيك وجزاك خيراً.

الثاني: يا صاحب الأقباض، إليك هذا الدرع الثمين. "صوت شيء يوضع"

صاحب الأقباض: بارك الله فيك يا أخا الإسلام وأجزلَ لك الثواب.

الثالث: وإليك هذه المجموعة من الثياب الثمينة. "شيء يوضع"

صاحب الأقباض: إنها لثيابٌ ثمينة.. جزاك الله خيراً أن أدَّيتَها يا أخا الإسلام.

الثالث: وجزاك أيضاً.. كأنك عجبتَ أن أدَّيتُ هذه الثياب الغالية.. والله الذي لا إله إلا هو لو كانت أضعاف ذلك لأديتُها بعد أن سمعتُ منادي الأمير.

صاحب الأقباض: بارك الله فيك.. "صمت قصير" يا معشر المسلمين!.. هلموا إليَّ بما غنمتم، وأسرعوا.. إن سعد بن أبي وقاص سيضع هذه المغانم حيث أمره الله.. وإن كثيراً منها مردود إليكم.. فباللّه إلّا ما أسرعتم.

الثالث: يا صاحب الأقباض، إنا مؤدُّون إليك كل ما وقع بين أيدينا من مغانم بالغةً ما بَلَغَتْ، حتى ولو كنا مستيقنين أن الأمير سعد بن أبي وقاص لن يعطينا منها شيئاً.

صاحب الأقباض: بارك الله فيك يا أخا الإسلام. "خطى قادمة" وسّعوا أيها القوم فثَمَّة من يريد أن يدفع إليَّ شيئاً.

أسامة وزيد "خطاهما تتضح": السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المجموعة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

أسامة: تقدم يا زيد فادفع لصاحب الأقباض ما عندك.

زيد: هذه دروع وأسياف وقعت بيدي.. خذها إليك. "أشياء توضع"

أسامة: وهذا شيء من الذهب وقع بيدي أول دخولنا المدائن. "يوضَع"

صاحب الأقباض: إنكما رجُلان أمينان.

أسامة: نسأل الله تعالى القبول.

زيد: اللَّهمَّ آمين.

"خطى قادمة"

عامر: أوسعوا لي يا معشر المسلمين!.. يرحمكم الله.

أصوات "مختلفة متداخلة": مرحباً بك يا أخا الإسلام –إنه صاحب غنيمة يريد دفعها إلى صاحب أقباضنا، وسِّعوا له يا قوم– أمَا والله إن المسلمين لَأُمناء.. لك الحمد يا رب على ما أوليت.

عامر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أصوات "متداخلة": وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

عامر: يا صاحب الأقباض..

صاحب الأقباض: نعم يا أخي..

عامر: إليك هذا الحق، واحرص عليه فإنه نفيس.

"صوت شيء بينهما"

صاحب الأقباض: دعني أفتحه وأنظُر.. "حركة" يا للعجب إنه جواهر نفيسة. "صمت" هل أخذتَ منه شيئاً؟

عامر "في صوتٍ عاتب": أخذتُ شيئاً!؟ يغفر الله لك قولتك هذه. أمَا والله الذي لا إله إلا هو.. لولا الله ما جئتكم به.

زيد: والله إن لهذا الرجلِ لَشأناً يا أسامة.

أسامة: صدقت يا زيد.. "في صوت عالٍ" بورك فيك أيها الرجل. إنَّ امرأً أدى مثل هذا الحق لَأمين. ترى من أنت؟

عامر: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا أخبر غيركم ليثنوا عليَّ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. أستودعكم الله.

السلام عليكم. "صوت خطاه وهو ينصرف"

زيد: ترى أيعرفه أحدٌ منكم يا قوم؟

أصوات متداخلة: لا، لا نعرفه، لا يعرفه منا أحد.

الرجل الأول: فأنا أعرفه يا قوم.

زيد "في عجلة ولهفة": ترى من هو يا أخا الإسلام؟

الرجل الأول: إنه عامر بن عبد قيس.

زيد "في صوتٍ ذي رنين": عامر بن عبد قيس!.. عامر بن عبد قيس!.. سنفضي جميعاً إلى الموت. وسيفنى الحق وما فيه، لكن ثوابك يا عامر عند الله عز وجل عظيم جزيل.. لقد أدَّيتَ الأمانة، وحرصت ما استطعت أن تستخفي بما فعلت طلباً لمرضاة الله جل جلاله، لقد آثرت ما يبقى على ما يفنى، وإنك أنت الرابح يا عامر.
*****

الأحد، 23 يناير 2022

عبد الله بن جحش يوم أحد

عبد الله بن جحش يوم أحد

     خرجت قريش في السنة الثالثة للهجرة الشريفة، زاحفةً نحو المدينة المنورة في جيش لجب لهَّام، يسوقها حقدٌ ضارٍ عنيف، ويحث خطاها شوق عارمٌ جيَّاشٌ للثأر من المسلمين، وَالانتقامِ لما حلّ بها يومَ بدر، قبل عام منصرم حين كانت أول معركةٍ بين الإسلام والجاهلية، وكانَ أولَ نصرٍ عزيز مؤزر سقط فيه من المشركين سبعون قتيلاً، وأسِر سبعون آخرون.

     كانت قريش تريد الثأر إذن، وكانت صورُ قادتها وهم يَسقطون صرعى على أرض بدر كعتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام؛ ماثلة أمامها لا تزول ولا تريم، بل تؤجج نيران الحقد الأهوج المجنون.

     وعسكرت عند جبل أحد، ذلك الجبل الحبيب الذي شهد أروع صور التضحية والصدق والفداء، وقد أجمع قادةُ رحلتها المشؤومة أن يستأصلوا الإسلام نهائياً، قتلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبادة للمسلمين كاملة، حتى ينتهيَ أمرُ هذا الدين الجديد الذي أرَّق ليلهم، وأتعبَ خُطاهم، وأضنى أجسادهم، وألقى الهواجس في مضاجعهم، وجعل أمورهم تنتهي إلى ما يكرهون.
***

     وخرج الجيش المسلم يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب معسكر المسلمين في أحد، يسوقه الحنين إلى الجهاد، ويحث خطاه الشوق العارم للموت في سبيل الله طلباً لجنة الخلد الدائم، والنعيم الذي لا يزول. ووقف في صفه عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وفي صدره رغبة في الجهاد جياشة، وعزم على الاستبسال والقتال، حار صادق نبيل.

     كان عبد الله من أعظم أبطال غزوة أحد، ثباتاً وصدقاً، ومضاءً وتضحية، ولم يكن يدور في خلده سوى رجاءٍ كبير، رجاءٌ عملاق، أن يرويَ بدمه الطهور ثرى الجبل الكريم، ويثويَ عند سفحه المبارك شهيد صدق وتضحية ومضاء.

     ولم يتوقف رجاؤه عند هذا الحد فحسب، بل كان يعظمُ ويمتد، إنه يرغبُ أن يُمَثَّلَ به بعد استشهاده، يجدع أنفه، وتقطع أذنه، ويعبث بوجهه النبيل أيدي الحاقدين الكافرين، ليزداد أجره وثوابه، وتعلو درجته ومكانته عند الله عز وجل.

     دعا عبد الله بن جحش قبل المعركة فقال: "اللَّهمَّ ارزقني غداً رجلاً شديداً في بأسه، فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله!.. فيم جُدِعَ أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت".

     وحين التقى الجيشان عند سفح أحد قاتل عبد الله قتال المستأسد الضاري، وصال وجال، ورمى بنفسه أنف الجلّى غير وجِلٍ ولا هيّاب. وتحقق رجاء البطل المقدام، فقد استشهد على يد أبي الحكم بن الأخنس، ومثَّل به المشركون، فكان شهيداً وفياً لإيمانه العظيم، وكان صورةً من أنبل صور الصدق والوفاء.
***

     هنيئاً لك أيها البطل الكميُّ السريُّ، هنيئاً لك ما نلت، فقد فزت بما رجوت، وكسبْتَ ما أمَّلْت، لك تهنئة مضيئة ناضرة، ولك بشرى وضيئةٌ طاهرة.

فأبشر أيها البطل الكريم أبشر!..

أبشـــرْ فذلك ما ســـألتَ قضــاهُ     ربٌّ هداكَ فكنــــتَ عندَ هُـــداهُ
آثرتَـــهُ ورضيتَ بين عبـــــادِه     من صالحِ الأعمالِ ما يرضـــاهُ
قتــــلوكَ فيه، تردُّهم عن دينِــه     صرعى، وتمنعُ أن يُبــاحَ حِماهُ
وبَغَوا عليك فعذبوا الجسد الذي     ما للـكـــــرامةِ والنعيــــمِ سواهُ
هي دعوةٌ لك ما بسطتَ بهـا يداً     حتى تقبَّــــلَ واستجـابَ اللهُ[1]

     لقد شهدتَ الجهادَ أروعَ ما يشهدُه الأبطال، وأبليتَ في الشدة أكرمَ ما يُبلي الرجال، وإنك لشهيد كريم، وإن الجنة منزل الشهداء، وأكرِمْ بالجنة! وأكرِمْ بالشهداء! فنعم الدار هي! ونعم السكان هم!..

ولقد رأيتَ حِمى الجهادِ فصِفْ لنا     ماذا جــــزاكَ اللهُ من رضـــــوانِه
ماذا أعـــدَّ لكــــلِّ بَــــرٍّ مُتَّــــــــقٍ     ذاكَ الحمى القدسيَّ كيـــــف تراهُ؟
وحبــــاكَ في الفردوسِ من نُعماهُ؟     غَوَتِ النفوسُ فما أطاعَ هواهُ؟[2]
***

     هي مَنزلة جُلّى تلك التي أصبتَ يا عبد الله، وهو شرفٌ عزيزٌ باذخ، شرف الشهادة في سبيل الله تعالى، ولقد دفعتَ المهر غالياً.. وهو دمك الطهور، لكنك أنت الفائز، وهل بعد رضوانه تعالى وجنته فوز؟

أرأيتَ عبد اللهِ كيـــــف بلغتَــهُ     دمُكَ المُطهَّرُ لو أتِيـــــحَ لهالكٍ
شرفاً مدى الجوزاءِ دونَ مداهُ؟     أعيــــا الأُساةَ شِفــــاؤهُ لَشفــاهُ

     أيها البطل المقدام الشهيد! أيها المؤمنُ الصادقُ العظيم! أيها الثاوي في ثرى الجبلِ الأشم الذي يُحبُّنا ونُحِبُّه!.. لقد كانت أمنيتك أروع الأماني، وكان أمَلُكَ أطهرَ الآمال، وكانت رغبتك أنبل الرغائب.

     لقد سموتَ على الدنيا ومتاعها، وطفقتَ مِرقالاً وثّاباً إذ المعركة عنيفة ضارية، ومضيتَ جوّالاً صوّالاً، إذ الرؤوس تقع، والسيوف تحصُد، والدماء تنثال، مسرعاً صوب غايتك الجليلة الكبيرة حتى جاءتك السعادة في أبهى صورها، فإذا بك تفوز، وإذا بِرجائك واقعٌ يتحقق، وإذا بأملك يعانقُ مصيرك العظيم على ثرى أحُد، لتكون من بعدُ أغرودة تضحيةٍ في فم الزمان، وأنشودة صدقٍ في ضمير الحياة.

--------------
[1] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.
[2] شعر أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام.

الأحد، 2 يناير 2022

كتاب بقايا ذاكرة - المقدمات والمحتويات

مقدمة الطبعة الثانية

     لقي هذا الكتاب من القبول أكثر مما توقعت، والحمد للَّه على أفضاله، وهذا ما حفزني إلى إصدار الطبعة الثانية مزيدةً ومنقحةً عسى أن تكون أفضل من أختها.

· وأبدأ بشكر أخي الفاضل شمس الدين درمش الذي قال لي: أنت في نثرك شاعر!.. وتستمد شهادته قيمتها من معرفته الطويلة بي شعراً ونثراً، وأنه تابع الكتاب خلال تأليفه فصلاً فصلاً، وكان يقوم ويعدل ويقترح، وكنت في كثير من الأحيان آخذ بنصائحه، وفي أحيان قليلة أسمح لنفسي بعصيانه.

· وأشكر الأخ الكريم الدكتور أحمد البراء الأميري الذي قال لي أكثر من مرة: إن في هذا الكتاب ما هو جدير بأن يكتب بماء الذهب!.. ولشهادته قيمة خاصة لأن بيننا صحبة متميزة تقارب نصف قرن.

· أما الدكتور عبد الباسط بدر ذو الحاسة النقدية المتفوقة؛ فقد اتصل بي هاتفياً ليخبرني أنه استلقى على فراشه للنوم، وأخذ يقرأ في الكتاب، فأطار الكتاب عن عينيه النوم، واستمر في قراءته حتى فرغ منه، ووصف الكتاب بأنه شائق، وأنه لون من ألوان السيرة الذاتية، له خصوصية وتميز.

· وأما الدكتور أحمد الخراط؛ فقد أثنى على الكتاب ثناءً رائعاً مبنىً ومعنىً، وإني أثبتُّه كما جاءني منه تماماً، يقول: «ويأتي كتاب أبي معاذ (بقايا ذاكرة) راصداً للقيم التي حملها هذا اليراع في تطوافه الدؤوب، وتأملاته البصيرة فيما عاشه مع رجالات وأحداث ومواقف، بدءاً من رحلته الأولى إلى جامعة القاهرة، وتبين لي في قراءة وثيقته أنه ذو نظرٍ نفَّاذٍ عميق فيما نظر إليه آخرون نظرة عبور، وإني على يقين أن ما يحمله حيدر في أغوار فكره من صفحات لم ينشرها بعد؛ لقادر على أن يقدم المزيد من البقايا التي تخفق بين جنبيه، وأسأل اللَّه له القبول في آخرته، كما كان مقبولاً في دنياه».

     وإني إذ أشكره على هذا الثناء العاطر الذي أرجو أن أستحقه؛ أهنئه جداً على ما بلغه من البيان العالي، الموجز، المؤدي، الغني، وهو ما يؤكد لي صدق ما قلته عنه عدة مرات: إنه خليفة الأستاذ الجليل محمود محمد شاكر ؒ، الذي كان أعلم جيله بالعربية، وفارسها الأول.

     وأخيراً لا بد لي من شكر الدكتور معاذ الغدير، الذي عكف معي على قراءة الكتاب بدقة وصبر، وهو ما جعلنا نقف على أخطاء وملاحظات هنا وهناك، وقع استدراكها.

حيدر الغدير
1441هـ - 2020م

-----------------

مقدمة الطبعة الأولى

     ظل أخي وصديقي وابني الدكتور معاذ الغدير يلح عليَّ كثيراً بكتابة سيرة ذاتية لي، وكنت بين الإحجام والإقدام، بل كنت للإحجام أقرب، لأن الذين يكتبون سيرهم الذاتية هم صناع الأحداث والبارزون في مجتمعاتهم ولست منهم، وكنت أقول هذا للدكتور معاذ فيوافق، ولكنه ظل يؤكد باستمرار أني لست من صناع الأحداث، ولكني من المتابعين لها بدقة، وبذلك ينبغي لي أن أكتب، ففعلت.

     وقد اخترت لهذه السيرة عنواناً مميزاً وهو «بقايا ذاكرة»، فالإنسان حين يودع السبعين ويبدأ الثمانين، تبدأ ذاكرته بالضعف، ولذلك فهي «بقايا ذاكرة» لا ذاكرة كما كانت عليه أيام الشباب.

     وقد حاولت أن أعرض في هذه السيرة الوقائع المهمة في حياتي وهي قليلة، وحاولت - وهو الأهم - أن أعرض لتطوري الفكري والنفسي، وللمراجعات التي قمت بها، حياة، وسلوكاً، وفكراً، ونفساً، على ضوء الخطأ والصواب، ومتغيرات الظروف، وأنا إنسان مولع بالمراجعة الدائمة لنفسي، وتقويمها، والنظر في الظروف العامة التي تضع بصماتها علينا دائماً، بدرجة أو أخرى، والمراجعة والتقويم واختيار الأبدال من أمارات التوفيق والتجدد.

     وقد حرصت أن أكون صادقاً أميناً فيما كتبت، وكنت أحياناً أقسو في هذا الذي كتبت على نفسي وعلى سواي، على أمل أن تقتل هذه القسوة فينا التجمد والعجز وإلف العادة، وتدفعنا إلى التجدد والفاعلية واستشراف آفاق جديدة.

     وقد كنت منذ شبابي مولعاً بالتعرف إلى شخصيات لها أهميتها لأقترب منها – في حدود الممكن – فأتعلم منها، وقد وفقني اللَّه تعالى فاقتربت من أعلام، مروا بي في حياتي، أو بالأحرى مررت بهم في حياتهم مروراً طويلاً أو قصيراً، هم مستويات مختلفة: ثقافة، ومكانة وتأثيراً، واهتماماً، وسيرة، وكان لهذا المرور بصمات عليّ تختلف أهميتها، ونوعها، وقد استفدت من هؤلاء الأعلام، فكتبت عن ذلك.

     ومما يجدر ذكره هنا أن في كتابي «صلاة في الحمراء» مجموعة من الأحاديث والقصص تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية، فيها طرافة وتشويق، فمن أرادها فهي هناك.

     ولكنني سمحت لنفسي أن أنقل منه إلى كتابي هذا المواد الآتية: «طه حسين وشجاعة الاعتذار»، و«محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفصحى»، و«رسالة إلى نجيب محفوظ»، و«شوقي ضيف أستاذي وأستاذ الأجيال»، ذلك أني رأيت فيها دروساً ثمينة جداً، ولعل القراء يجدون فيها ذلك.

     وإذا وجد القراء الكرام أن هذه السيرة تختلف في كثير أو قليل مع ما ألفوه من السيرة الذاتية فلهم ذلك، ولي عذري في هذه المخالفة، فلا حرج في تنوع الأساليب أولاً، ثم إن سيرتي هذه هي سيرة عقل ونفس أكثر منها سيرة وقائع وأحداث.

     وهكذا أردتها أن تكون.

     يبقى علي أن أشكر كل من حثني على كتابة هذه السيرة، وأتوجه بمزيد من الشكر للدكتور معاذ الغدير الذي ظل يحثني على إنجازها، ويقرأ ما أكتبه منها، ويذكرني بما نسيته منها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

     وعسى أن نلتقي في طبعة ثانية، تكون أحسن من أختها هذه، فإن تم ذلك فهو خير، وإلا ففيما أنجزته غناء، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد، والحمد للَّه الذي بفضله تتم الصالحات.

حيدر الغدير
1439هـ - 2018م

---------------------------------

المحتويات

(روابط قابلة للضغط)

مقدمة الطبعة الثانية ..................................................... 7
مقدمة الطبعة الأولى .................................................... 9

صلح مع الهوى

صلح مع الهوى

     كان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، من ألمع الدعاة في هذا العصر، وكان كاتباً وخطيباً، وكانت له مواقف جريئة جعلته يومها حديث الناس في شرق البلاد وغربها، وقد قرأت له الكثير وتأثرت به، وشاء اللَّه تعالى لي أن أستمع إلى خطبته في الجامع الأزهر يوم كنت طالباً في القاهرة، وشاء لي أيضاً أن ألقاه في الرياض العامرة، يوم كان يأتي إليها للمشاركة في مؤتمر أو حفل.

     وقد أعجبني - من بين ما أعجبني فيه - أنه صاحب لغة متميزة جداً، ولو أنه أعطى الأدب عناية كبيرة لكان من أعظم أدباء العربية، لكن عنايته بالعمل الدعوي، ممارسة، وخطابة، وتأليفاً، صرفته عن ذلك، وهو من أفضال اللَّه تعالى عليه.

     ومما أسرني في لغته قدرته على الإيجاز البليغ المؤدي، بحيث يستطيع أن يقول في القليل ما يقوله الآخرون في الكثير، وبعض عباراته الموجزة المحكمة التي قد تجيء في سطر أو سطرين، تشعر أنها أشبه بالبرقية التي صيغت بأقصى درجات الإيجاز والإحكام، ولكنها أوصلت المعنى المطلوب تماماً، وهو ما يذكر الإنسان بروائع المتنبي الخالدة، التي كانت تأتي في لغة محكمة، موجزة، مشحونة، متوترة، فيسمعها الإنسان وهو مأخوذ مبهور، ويشعر أنها تعبر بغاية الدقة عن الموقف الذي هو فيه تماماً، وأكثر ما يظهر ذلك في حكمه الباهرة، التي هي أعظم أسباب خلوده وشهرته.

     وقد قرأت له جملة من هذا النوع الباهر، يقرر فيها أن بعض الناس يعقد صلحاً مع هواه ثم يبحث له عن غطاء ديني لتبريره. ولقد حاولت أن أضع الجملة كما قالها تماماً لأني استدعيتها من الذاكرة، ولعلها أدق وأبلغ. ولقد ظلت هذه الجملة العبقرية تسكن أعماقي، أنساها مرة وأذكرها مرة، وكلما تأملت فيها ازددت بها إعجاباً. إنها تصور حقيقة من حقائق التدين المعلول، أو المغشوش، أو المدخول، أو الزائف، الذي يشيع بين أنماط من المسلمين، بدرجات متفاوتة، وهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون يوهمون أنفسهم أنهم على خير، ويلتمسون المعاذير لعيوبهم السلوكية، أو النفسية، أو العقلية.

     وسوف أضع بين ناظري القارئ الكريم مجموعة من الوقائع عرفتها بنفسي، عن عدد من الأشخاص، لهم صفة دينية تتفاوت بين شخص وآخر، وحالة وأخرى، لكنها تتحد في أنها نماذج واضحة جداً للهوى الذي يلبس لبوساً شرعياً زائفاً.

     كان (...) رجلاً معروفاً بالتدين في مدينته، وكان يتحدث هنا، ويخطب هناك، ويشارك في أنشطة تضفي عليه صفة الداعية العملي. وكان يكثر من الصلاة في مساجد مدينته، ويطيل المكث فيها، ويصلي السنن المؤكدة وغير المؤكدة، وله عناية ملحوظة بتلاوة القرآن الكريم، والأدعية المأثورة. وكان ميسور الحال لكنه لا ينفق في الخير بعض ما يقدر عليه، وإذا ذكره أحد بهذا الواجب، أجاب بأنه لا يثق بمواقع الخير المطروحة ولا أصحابها في قليل أو كثير، والحقيقة أنه كاذب، وله القدرة على تمييز الصادق من الكاذب من المواقع والأشخاص، ولكن بخله شلّ يده عن العطاء، وأطلق لسانه بما لا يؤمن به في أعماقه، وأطال في جوانب السلوك الديني التي لا تكلفه شيئاً، علماً أن الأولوية الواجبة على ذوي اليسار هي بذل المال بسخاء ورضاء.

     أما صديقي (....) فقد اشترى أرضاً من تاجر غني يعمل في بيع الأراضي والعقارات، ولم يسدد المبلغ المطلوب منه، ومضت عشرون سنة على ذلك، والتاجر غني وكريم، ولا يستوعب التفاصيل الكثيرة لسعة أعماله فنسي الأمر. ثم جاء أحد الموظفين عنده فذكر صديقي بأنه لم يسدد، فأبدى امتعاضه من هذا التذكير، وظل يردد عدة مرات أن التاجر رجل ميسور، وأن مثل هذا المبلغ المطلوب منه لا يقدم عنده ولا يؤخر، وكأنه بذلك يبحث عن حيلة شرعية تبرر له عدم السداد، وحين كثر عليه التذكير أحس أن أصحابه - وأنا منهم - يتهمونه بأكل الحرام، فذهب إلى التاجر، وكتب له شيكاً بنصف المبلغ، وقال له: سبق أن كان لكم بذمتي مال بسبب أرض اشتريتها، وهذا المبلغ بين يديك فلعله يرضيكم، فأخذ التاجر الشيك الذي هو نصف المبلغ المطلوب والذي جاءه بعد زمن طويل، جار التضخم خلاله على قيمته، فكأن صديقي - سابقاً - سدد أقل من نصف الثمن. وانصرف وهو يحاول أن يقنع نفسه وصحبه وصاحب المال بأن ذمته قد برئت وما هي ببريئة. إنه كاذب كاذب من البدء إلى النهاية، وإنه لص حقيقي، وإنه مدان مدان.

     لقد مارس هذا الشخص مجموعة من السيئات بعضها أسوأ من بعض، مارس السكوت طويلاً عن السداد، ثم سدد بعد أن حوصر وانفضح، وسدد المبلغ منقوصاً من حيث القدر ومن حيث القيمة الشرائية، وسدده من خلال استحلال مبهم، والاستحلال المبهم لا تبرأ به الذمة كما يقرر الفقهاء، فإذا أضفت إلى ذلك حديثه المتكرر عن غنى التاجر، وأن المبلغ المطالب به لا يقدم عنده ولا يؤخر، تبين لك أنه لم يكن يريد أن يسدد شيئاً، لأن في نفسه معاذير زائفة توهمه أن عمله الدنيء ليس بسرقة وهيهات! إن عمله الدنيء سرقة مكتملة الأركان، ومع سبق الترصد والإصرار كما يقول أهل القانون.

     إن الإنسان الذي يسرق ولا يخترع لسرقته معاذير يرتكب جريمة دنيئة، لكن الإنسان الذي يسرق ويخترع لسرقته معاذير زائفة يرتكب جريمة أشد دناءة، وتزداد الجريمة دناءة وقذارة إذا كانت لصاحبها صفة دينية، وهكذا كان صديقي.

     يا صديقي: عد إلى الصواب، ودع عنك خداعك المفضوح لنفسك ولمن حولك، فإن فعلت فمرحباً بك وشكراً لك. وإن أصررت على ما أنت عليه فاخلع عنك لبوسك الدعوي الذي لا تستحقه، واخلع لحيتك التي اشتعلت شيباً، لكنك لم تجد فيه واعظاً يزجرك عما تفعل.

     أما القصة الثالثة فصاحبها الدكتور (...) وهو شخص ذكي جداً، وداهية محنك، ومعرفته بعلوم الشريعة ممتازة، ولغته كذلك، وهو يحسن التأتي لما يريد، ولو أنه وظف مواهبه في الخير لأحسن للعمل الدعوي كثيراً، ولنفسه، ولكنه وظفها لأهوائه وأثرته فأساء كثيراً.

     أرسل له أحد أصدقائه إلى حيث يقيم في أمريكا مقالة طويلة لينظر فيها، فراقت له، ونشرها باسمه في رسالة صغيرة كما هي لم يزد فيها ولم ينقص، ووضع على غلاف الرسالة اسمه وصورته، وكتب لها مقدمة تزعم أنها محاضرة له ألقاها على جمع من الناس فسروا بها، فطبعها لتعم بها الفائدة، ثم أخذ نسخة من الرسالة المطبوعة، وكتب عليها إهداء لصاحبها الحقيقي، وأرسلها إليه. كان الصديق المسروق يحسن الظن بالصديق السارق، لما سمعه عنه من الثناء المستطاب، ولما رأى من قدراته البارزة، وكان ينظر إليه على أنه من أساتذته، فلما رأى هذا الفعل الوضيع منه انهارت مكانته في نفسه، وانقلبت إلى احتقار شديد، وثار في نفسه سؤال منطقي أخذ يلح عليه كثيراً، وهو: إذا بلغت المطامع الدنيئة بهذا الشيخ الدكتور إلى الحد الذي جعله يسرق فيه مقالة صديق له، ويكتب لها مقدمة كاذبة، ثم يكتب عليها إهداء بخطه وتوقيعه إلى صديقه، فكيف يكون موقفه إذا تعرض لإغراءات كبيرة من مال ومناصب وشهرة!؟ لا شك أنه سيفعل ما يخطر على البال وما لا يخطر مهما بلغ من دناءة وصفاقة. إن الذي يسقط صريعاً أمام المطامع الصغيرة؛ سيكون سقوطه أمام المطامع الكبيرة أكبر وأسرع وأفتك.

     وشاء اللَّه تعالى أن يلتقي السارق والمسروق، وكان المسروق في غاية الغضب من السارق لأنه وجد فيه إنساناً يناقض الإنسان الذي تشكلت صورته في مخيلته عنه، ولأنه كان ولا يزال يحتقر المتاجرين بالدين الذين يوظفونه لأهوائهم الدنيئة أشد الاحتقار. وقد شهدت هذا اللقاء بنفسي، وفيما يأتي أرويه بغاية الدقة والأمانة.

     التقى الصديقان اللدودان، ومنذ البداية أحس السارق أن صديقه يتقد غضباً، فعزم على إطفاء غضبه مهما قسا عليه، وعزم على ألا يدافع عن سرقته، وألا يلتمس شيئاً من المعاذير لها. وبدأ المسروق بهدوء يحاسب السارق، فذكر له أن هذا لا يليق بالمسلم العادي فضلاً عن شيخ له سمعته، وذكر له أنه كان يثني عليه، ويدفع عنه التهم المخزية التي كان يسمعها عنه ممن يعرفون تاريخه بالتفصيل، ثم عقب على ذلك بأنه الآن مضطر لتصديق كل المخازي التي سمعها عنه من قبل، وذكر له واحدة منها ترقى إلى درجة الخيانة، حين وشى بعدد من رفاقه لجهة سيئة، فتسربت أسماؤهم إلى الطاغية الذي كان يتربص بهم فأعدمهم، وقال له بتحدٍ وازدراء بالغين: كم هو المبلغ الذي قبضته لقاء ما فعلت بهم!؟ وظل يقسو عليه حتى كاد يبصق عليه. هذا أهم ما قاله المسروق لصاحبه السارق، وثم تفاصيل كثيرة لا داعي لذكرها.

     والآن لننظر إلى موقف السارق؛ ظل يسمع دون أن يرمش له جفن، ولم يتغير له لون، ولم تبد عليه أي أمارة من أمارات الغضب، لأنه يعلم أنه مدان، ولأنه يخشى من الفضيحة، ولأنه - كما أقدر - معتاد على مثل هذه الشتائم ممن أساء إليهم من قبل، وأنه وطن نفسه على الصبر، والصمت، وابتلاع الإهانة مهما قست. ولما انتهى المسروق من كلامه، لم يرد السارق عليه بحرف واحد في موضوع السرقة، بل عرض عليه رشوة مالية صريحة فأباها. ويبدو أن الشيخ اللص خلا ببعض خلصائه للبحث عن حل لمّا وجدوا أن الرشوة لم تقبل، فاخترعوا أكذوبة جديدة، وبئس الخطأ الذي يعالج بخطأ جديد، خلاصتها أن اللص الدنيء ألقى محاضرة عنوانها مشابه لعنوان المحاضرة المسروقة، فوقع لها الاستحسان فأراد أن يطبعها لتعم بها الفائدة، فكلف موظفي السكرتارية في مكتبه بذلك، فأخطؤوا وطبعوا المحاضرة الأولى بدل الثانية. ثم أعادوا طباعة الرسالة، باسم الصديق المسروق، وقدموا لها بهذه الأكذوبة الغبية.

     أما القصة الرابعة فهي أوجز، ولكنها غنية جداً بالدلالة على الهوى الرديء الذي يلبسه صاحبه لبوساً دنيئاً زائفاً. كان الأستاذ (...) رجلاً معروفاً بين ذويه بأنه من أهل الدعوة، وكانت له مؤلفات نافعة، وكان يأخذ بالعزيمة في حياته، وهذه كلها مزايا له تذكر فتشكر. لكني لاحظت أن له مزاجاً سوداوياً، وأنه يميل إلى التشاؤم، وسوء الظن بالناس بدليل أو دون دليل، وأنه يتهم بعض الناجحين بأنهم بعيدون عن الدين أو معادون له، ولعله في أعماقه يحسدهم على نجاحهم من حيث يدري أو لا يدري، لكنني لم أجزم بذلك تماماً خوفاً من أن أظلمه.

     وذات يوم جاءني يحدثني عن أحد الناجحين، يتهمه فيه بأنه رجل بعيد عن الدين، بل هو معاد له. وكان أحد أصدقائي الأبرار الأذكياء يعمل في مكتب هذا المتهم الناجح، فسألته عن ذلك، فنفى هذه التهمة عنه جملةً وتفصيلاً، وشهد له بالطيبة، وحب الخير، وسلامة الطوية، والمسارعة إلى قضاء الحوائج، ففرحت بذلك كثيراً، ونقلت هذه البشارة الخيرة إلى من اتهمه بالسوء. هنا ذهلت ووجمت، ذلك أني توقعت أن يفرح لبراءة أخيه المسلم مما اتهمه به كما فرحت، لكنني وجدته يطرق محزوناً، فأكدت له صدق البشارة الخيرة، وذكرت له اسم صاحبها الفاضل، وهو صديق له كما هو صديق لي، ويعرفه جيداً، فازداد إطراقه وحزنه وقال عن الصديق المشترك صاحب البشارة والتزكية: أخشى أن يكون أسوأ من فلان المتهم، وذكر اسمه.

     هنا تيقنت أن صديقي هذا حاقد على الرجل الناجح الذي اتهمه، يحسده لتفوقه، وعلو مركزه، ورفعة شأنه، ويلبس حسده له لبوساً دينياً ليظهر بمظهر الغيور على الدين. إنه عقد صلحاً مع هواه كما قال الشيخ الغزالي، والتمس له المعاذير، ذلك أنه كان من الفاشلين الذين يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله، والنجاح فضل كبير.

***

     وبعد: فقد تخيرت القصص التي ذكرتها في هذا المقال، لأني أعرف وقائعها وتفاصيلها وأصحابها معرفة وثيقة جداً، وبذلك هي في غاية الدقة والمصداقية، ولأنها نماذج صريحة جداً للإنسان الذي يأسره هواه فيصبح عبداً له، ويمضي يلتمس له غطاء شرعياً زائفاً، ثم إن حدة هذه القصص، تمنع فرصة الدفاع عن أصحابها لثبوت الإدانة بأجلى صورها، وقد أغفلت ذكر الأسماء عامداً لا ناسياً لأني أردت التحذير لا التشهير.

     إن الهوى شر كله، وأكثره شراً ما ألبسه صاحبه لبوساً دينياً، لأنه جمع بين جريمتين: جريمة الخطأ، وجريمة الزيف، وهو بذلك أساء للدين بالصد عنه فيما فعل، أكثر مما أساء لنفسه.

     وإذا وجد القارئ الكريم في كلامي مرارة حادة، فليلتمس لي العذر، لأن مردها هو الغيرة على الدين ممن يسيئون إليه، من أذكياء يتاجرون به، أو حمقى مخلصين ينشطون لخدمته، وهم يفسدون أكثر مما يصلحون.

     إن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ أديب بليغ، وله جمل وجيزة غنية مسددة تذكر بجمل ابن عطاء اللَّه السَّكَنْدري الخالدة التي مضت عليها قرون، ولا تزال لها روعتها في الضمائر والألسنة. وإني إذ أدعو للشيخ الغزالي بالرحمة، أعترف له بالجميل في إنشاء هذا المقال، لأن جملته التي بدأت بها كلامي هذا بهرتني جداً، وسكنت في أعماقي، وحركت ذكرياتي ومشاعري، ودفعتني دفعاً إلى الكتابة، فكأنها كانت تملي علي وأنا أكتب.

***

أستاذي وأستاذ الأجيال شوقي ضيف

أستاذي وأستاذ الأجيال

شوقي ضيف

     رحل من العالم الفاني إلى العالم الباقي أستاذ الأجيال، وعلم العربية، وحارس ‏التراث، وسادن الفصحى، العلامة ‏الموسوعي، والعصامي الدؤوب، الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رحمه الله رحمة واسعة، وأغدق عليه شآبيب فضله، وعوض الأمة منه خير العوض، بعد حياة ملأى بالإنجازات، وعطاء أصيل متنوع، بلغ فيه ذروة عالية متفردة لا يشاركه فيها أحد.

     ‏ولد عام 1910م في إحدى قرى دمياط، وتوفي عام 2005م، أي أنه عاش قرناً من الزمن شهد تبدلات كثيرة: ثقافية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، لكن الثوابت الكبرى في حياته لم تتبدل، فقد بقي طوال عمره المصري، الريفي، المسلم، العربي، الذي وهب حياته للعلم، وعاش في محرابه حتى مات.

     ‏ومراحل حياته معروفة متناولة - وهي في برقية موجزة - التحاقه بالمعهد الديني في دمياط الذي تخرج فيه عام 1926م، ثم التحاقه بقسم اللغة العربية - كلية الآداب - جامعة فؤاد الأول - «جامعة القاهرة فيما بعد» الذي تخرج فيه عام 1936م، وكان أول دفعته، فاختاره الدكتور طه حسين معيداً، وهنا تدرج حتى ظفر بالماجستير، فالدكتوراه، فالأستاذية، ثم صار عضواً في مجمع اللغة العربية، فأميناً عاماً له، فنائباً للرئيس، فرئيساً.

     ‏تلاقت في شخصية شوقي ضيف رحمه الله؛ مجموعة من العوامل، أدت إلى نجاحه الفريد الذي يشهد له الجميع به.

     ‏كان متديناً تديناً عميقاً محباً للإسلام، معتزاً به، واسع الثقافة فيه، ورث ذلك عن الريف المصري الطيب الذي يتنفس الإسلام في كل حياته منذ عهد عمرو بن العاص، وعن أبيه عبد السلام، الرجل الطيب الذي تخرج في المعهد الأزهري في دمياط، وعاد إلى قريته يعلم الناس، ويسعى في مصالحهم، وأخذ ذلك عن المعهد نفسه الذي درسه حقائق هذا الدين العظيم، فكان تأصيله الشرعي متيناً، وأخذ ذلك عن حفظه للقرآن الكريم الذي ظل وثيق الصلة به طوال حياته، يضاف إلى ذلك ‏قراءاته المستفيضة عن الإسلام التي كانت ركناً ركيناً في حياته.

     ‏حدد الرجل هدفه، ومضى إليه في خُطاً ثابتة، لم تشغله الصوارف وإن كان لها بريق، ولا المطامع وإن كان لها إغراء، مثله كمثل إنسان وقف في السهل، ونظر إلى القمة فأراد أن يبلغها، فخلا بنفسه، ورسم طريقه، وانطلق فيه، بهدوء وأناة، ولكن بتصميم وعناد، وما زال كذلك حتى ظفر بما يريد، وفي هذا درس مهم لطلاب المعالي؛ وهو أن يعرف أحدهم حقيقة قدراته، ونقطة تفوقه، والوسيلة المطلوبة، ثم يشمّر عن ساعد الجد، معتمداً على خالقه، صابراً مرابطاً مثابراً، مستعصياً على التشتت والصوارف. إن كثيراً من الأذكياء أضاعوا أنفسهم لأنهم جهلوا ذلك، وإن كثيراً من متوسطي الذكاء حققوا نجاحاً أكبر لأنهم عرفوا ذلك.

     ‏جمع الرجل بين الثقافتين: الثقافة الإسلامية الأصيلة التي تلقاها فطرة وتربية ودراسة، والثقافة الحديثة التي تلقاها في الجامعة، فحقق بذلك أفقاً واسعاً، ‏وتنوعاً، وخصوبة، أعانه على ذلك جده، وإتقانه، واعتدال مزاجه الفكري والنفسي.

     ‏كان رجلاً عفيفاً؛ عفيف السريرة، عفيف المظهر، لذلك كان لسانه في غاية الأدب مع من يوافقه، ومع من يخالفه، والعفة الحقيقية ليست فضيلة لسانية فقط، إنها أوسع من ذلك مجالاً، وأرحب مدىً، إنها فضيلة تومئ إلى فضائل أخرى، وحسنة تبشر بأخوات لها، والفضائل كالرذائل ينادي بعضها بعضاً، ويقود بعضها إلى بعضها الآخر، هذه العفة أكسبته - إلى جانب مزاياه الأخرى - احترام الجميع، وأضفت عليه جلال العالم، وحب الزملاء والأساتذة والطلبة، وثناء ‏الناس حيث كان.

     ‏كان فيه نوع من التصوف السوي الذي نجا من السلبية، والخرافة، وذوبان الشخصية، كما نجا من الضلالات والانحرافات، وكان لهذا ‏اللون من التصوف السوي السني فضل كبير عليه، فعاش عمره المديد المبارك، وفيه قناعة، ونقاء، وصفاء، وزهد، وعفاف، ورضا، وصبر، وتوكل، مع عمل دؤوب، وعزم قوي، وعقل يقظ، وتخطيط حكيم، وتحديد للهدف، وضبط للوسيلة، وتفان وإتقان، كل ذلك في إطار من التوازن والشمول والانسجام.

     ‏هذا التصوف السوي المتوازن أبعده عن القلق والسخط والتوتر والغضب والحسد، وما إلى ذلك من معاصي القلوب، وهي غوائل مدمرة، وصوارف ومثبطات، وملأه بالأفكار الصحيحة والمشاعر النبيلة، وهي حوافز دافعة، وقوى بانية، فكان بما نجا منه من ناحية، وما اكتسبه من ناحية؛ حريّاً ‏أن يصل إلى ما وصل إليه.

     ‏وتتسم كتاباته بالعمق والإحاطة التي تدل على ذاكرة قوية، وقراءة واسعة، وتفرغ تام، واستقصاء عميق، وقدرة كبيرة على حشد الأدلة بين يدي الأحكام التي ينتهي إليها، لذلك تظل تحترمه سواء أوافقته في الرأي أم خالفته، وتلك ميزة نادرة يشار إليها بالبنان.

     ‏كما تتسم هذه الكتابات بالوضوح، فلغته تجمع إلى الصحة الجمال، ولا بدع فهو حافظ للقرآن الكريم، عليم بأسرار البيان العربي، غائص على درره ونفائسه، ثم إن شخصيته الواضحة تجعل بيانه واضحاً، ذلك أنه يكره التكلف والتشدق، وينأى عن المصطلحات الغامضة، والرموز الغريبة، والعبارات الفضفاضة، التي يلجأ إليها بعض الكتاب ليستروا بزيفها ولمعانها خواءهم الفكري، أو ضلالهم العقائدي، وليوهموا السذج من القراء أن لديهم من التميز والإبداع والتجديد أكثر من الآخرين، فيعجب بهم هؤلاء المساكين، وهم لا يعلمون أنهم مخدوعون.

     ‏أحب أساتذته الأعلام، وكانت علاقته بهم وثيقة، فيها وفاء واحترام، أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وعبدالوهاب عزام، ومصطفى عبدالرازق، لكن هذا كله لم يفقده ثقته بنفسه واحترامه لخصوصيته، فلم يذب في أحد منهم قط، ولعل أبرز مثل لهذا هو موقفه من طه حسين الذي اختاره معيداً، ومنحه درجة الدكتوراه بتفوق، لقد حفظ له الجميل، ولكنه خالفه في أدب وصراحة في قضية الانتحال في الشعر الجاهلي.

     ‏أعانه على إنجاز ما أنجز أنه رجل منظم؛ منظم في كل شيء، في الوقت، والمال، والأولويات، والعلاقات، والأرشفة، والنوم، واليقظة، والطعام، وما إلى ذلك، والإنسان المنظم يتسع وقته، ويربو عطاؤه، وتهدأ أعصابه، ويتسع مداه العقلي والنفسي ‏والشعوري، وتعظم قدرته على التركيز والإبداع والتجدد، خلافاً للإنسان الفوضوي المشوش، وصدق من قال: قل لي: ما برنامجك؟؛ أقل لك: من أنت.

     ‏بعض الناس يحصلون على الشهرة من خلال مهاجمة أعلام كبار لهم وزنهم في الساحة، وبعضهم من خلال ثروة مالية يوظفها لمن يكتبون عنه وله، وبعضهم من خلال موقع إداري يتيح له أن يوظف جهود عدد من مرؤوسيه للكتابة عنه وله، وهذا كله ‏سرقة وعدوان ومجد زائف.

     ‏وبعضهم يحصل على الشهرة والمجد متحاشيًا ذلك كله سالكًا إلى هدفه السبيل القويم بكل ما يتطلبه هذا السبيل من أخلاق وعناء ومثابرة، ومن ‏هذا الصنف أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، لم تصعد به إلى الذروة مصادفة عابرة، أو إرث مالي، أو مكانة اجتماعية، أو عصبية حزبية، أو شغب على الأعلام والثوابت، أو رعاية من ذي جاه وسلطان، بل صعدت به - بعون اللَّه تعالى - فضائله وحدها.

     ‏وبعد:

     ‏فإن الدكتور شوقي ضيف أعجوبة من أعاجيب عصرنا الثقافية، وهو قمة حقيقية تدعوك إلى الإعجاب وحين تعجب بالقمة، وتحاول احتذاءها وتقليدها، فالفضل لها، ذلك أن فضائلها هي التي حملتك على الإعجاب بها، فالشكر لها، والفضل لها من قبل ومن بعد.

     ‏أما الجوائز التي نالها فقد شرفها أكثر مما شرفته، وزانها أكثر مما زانته.

     ‏وسوف يبقى عطاؤه - بإذن اللَّه - دهراً طويلاً ينتفع به الناس، في الحين الذي يبيد فيه عطاء سواه من المتسلقين ‏والمدعين والمشاغبين والمزيفين والمزورين، وأهل الإيهام والإغراب والسارقين جهود غيرهم، والمستوردين نظريات غريبة عن دين الأمة وذوقها وتميزها؛ ولا غرابة، فذلك قانون إلهي نبأنا به العليم الخبير حين قال: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].

     ‏لو أن عصبة من أولي العزم والقوة استطاعت أن تنجز ما أنجزه الفقيد الكبير لكانت جديرة بالثناء والإعجاب، فما هو حقه علينا إذن، وقد أنجزه وحده؟

نثار من ذكريات خاصة:

     كنت طالباً متفرغاً في قسم اللغة العربية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة «1959-1963م» عاشقاً للعربية، حريصاً على العلم، سعيداً بالقسم وأساتذته، وفي طليعتهم شوقي ضيف، وكنت أشعر في أعماقي بفرح وزهو، لأنني كنت من تلامذته، وكان يشجعني كثيراً، ويوليني عناية خاصة.

     ‏خرجت ذات يوم من بيتي في حي الروضة حيث يقيم وأقيم للذهاب إلى محاضرة له، فوجدته ذاهباً أيضاً، عندها استوقفت سيارة أجرة، وركب فيها وركبت، وسارت السيارة إلى الجامعة، وكنت في غاية السرور أني إلى جواره، وحين دفعت للسائق الأجرة، وكانت شيئاً يسيراً أبى: إلا أن يكون هو الدافع، وهو أحد الأساتذة الأقلاء الذين لا يتقبلون الهدايا.

     ‏حين تخرجت صيف عام 1963م‏ زرته في بيته برفقة الأخ الزميل أحمد مرسي «الدكتور فيما بعد»، يومها قال لي: لا تسافر من مصر، وابق معي حتى أمنحك الماجستير والدكتوراه في خمس سنين. ولم أطعه يومها، وقد أخطأت فيما فعلت، ولكن أقول: قدر اللَّه وما شاء فعل.

     ‏في كتابه «الترجمة الشخصية» تحدث عن أحد الأعلام، لعله محمد كرد علي، وذكر أنه زار تركيا في عهد أتاتورك وسماه «مصلحها الأكبر»، فعجبت من ذلك، ووجدت في نفسي الجرأة لأحدثه عن جنايات أتاتورك التي تجعله في مصاف المفسدين لا المصلحين، لم يغضب ؒ، بل شكرني وأخذ يدي بيده، ومشى معي قليلاً وهو يشجعني، فازددت إكباراً له.

     ‏جئت القاهرة صيف 1964م ‏لأقدم امتحان السنة التمهيدية للماجستير، وكان امتحانًا شفويًا، فوجدت اللجنة التي تختبر الطلاب قد انتهت من أعمالها، فأدركني حزن شديد لفوات الفرصة، ولما أبصرني رحمه الله، جاء إليَّ مشجعًا ومواسيًا، وقادني إلى اللجنة، وأثنى علي أمامها، وطلب منها أن تعقد لي جلسة خاصة فيما بعد، واستجابت له اللجنة، واختبرتني في موعد لاحق، وكان من أعضائها الدكتور عبدالعزيز الأهواني، ونسيت بقية الأسماء، وقد رضيت عني اللجنة، وسرت بإجاباتي فنجحت، وهي يد مشكورة له تضاف إلى أياديه الكثيرة عليَّ وعلى سواي.

     ‏زرته ذات مساء في بيته في حي الروضة، ثم تبين أن عنده لقاء مع مجموعة من أهل العلم والفضل، فأبى ‏له كرمه إلا أن يصطحبني معه، ودخلت معه الدار التي كان فيها اللقاء، وأنا بين الهيبة والفرحة، أنظر في وجوه الأعلام الذين يتحاورون، وكان من بينهم الدكتور محمد يوسف موسى، وشرَّق الحديث وغرَّب، حتى إذا وصل إلى نقطة سبق أن حاورته فيها، قال: ولكن لحيدر رأيًا آخر في الموضوع، وأوحى إلي أن أتكلم، وهو لون كريم من التشجيع يدل على نفسية كريمة.

     وفي عام 1983م؛ ‏وكنت يومها في الندوة العالمية للشباب الإسلامي في ‏الرياض، أصابتني فرحة غامرة وأنا أشارك في إعداد المذكرة المطلوبة لترشيحه لجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الأدب العربي، ذلك أني وجدت في ذلك شيئًا من الوفاء، وشيئاً من رد الجميل، لعلم شهير، له أفضاله المشكورة على محبي الأدب العربي ودارسيه في كل مكان، وحين نال الجائزة كانت فرحتي أكبر.

     ‏وفي عام «1410هـ/ 1990م» أكملت رسالتي للحصول على درجة الماجستير في الأدب العربي، وكان الموضوع «الرثاء في شعر البارودي وحافظ وشوقي»، وكان الإشراف للأستاذ الدكتور طه وادي، أما المناقشان الآخران فهما أستاذ الأجيال الدكتور شوقي ضيف، والوزير الأديب الشاعر الدكتور أحمد هيكل، وقد لامني الدكتور شوقي في مودة حانية لأني تأخرت في متابعة دراستي العليا، خلافًا لما أوصاني به سنة التخرج، فاعتذرت منه وشكرته، وقلت له: ها قد عدت، وحين نوقشت الرسالة في المدرج العريق الشهير رقم 78 ‏ في الكلية العريقة، أبى له كرمه، وكرم الأستاذين الآخرين إلا منحي الدرجة العلمية بتقدير «امتياز»، كما أبى لهم حبهم للعلم وإخلاصهم له إلا تنبيهي إلى عدد من الأخطاء والملاحظات كنت بها سعيدًا.

     وخلال المناقشة أشدت كثيراً بشوقي من حيث حبه للإسلام، وصحة فهمه له، وفي شعره الكثير من إجلاله للَّه تعالى، وثنائه على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وصحابته، وأبطال المسلمين، وفرحه لانتصاراتهم، وحزنه لمصائبهم، وله في ذلك قصائد شهيرة ذاعت وشاعت، غنت بعضها أم كلثوم فزادت ذيوعاً وشيوعاً.

     ولكني أخذت عليه أنه كان محباً للخمر، مدمناً عليها، بارعاً في معرفة أنواعها وأسمائها، حتى إنه سمى بيته الذي تحول إلى متحف خاص به «كرمة ابن هانئ»، وابن هانئ هو أبو نواس؛ أشهر شعراء الخمر في الأدب العربي، ومن باب الإنصاف له وصفت معصيته هذه بأنها «معصية سلوك لا معتقد»، تجرح سلوكه لا معتقده، ومع ذلك فهو مسلم صادق الإسلام، بل إنه من أعظم شعراء العربية الذين دافعوا عن الإسلام في عصره.

     وكنت فرحاً جداً بثنائي على شوقي، وبنقدي الموضوعي المنصف له، لكن حبَّ الأستاذ الكبير الدكتور شوقي؛ للشاعر الكبير شوقي، جعله يعترض علي جداً، فوقع في خاطري أن قلبَه غلب عقله، وإعجابَه غلب دقته وموضوعيته، فلُذْت بالصمت، وعذرته.

‏مقترحات:

     ‏إن النسيان سمة الإنسان، وطبع البشر، وهذا الأمر سوف يصيب أستاذنا الراحل بدرجة أو أخرى، لذلك أضع بين أيدي المهتمين هذه الاقتراحات، وفاء للراحل الكريم من ناحية، وإطالة لأمد الانتفاع من تراثه الغزير من ناحية.

- تخصيص قاعة في مجمع اللغة العربية، تحمل اسمه، وتوضع فيها مكتبته، وما كتبه، وما كتب عنه، وبعض متعلقاته الشخصية من أوسمة وجوائز وشهادات، وتفتح للدارسين.

- تشجيع طلبة الدراسات العليا على اختيار موضوعات للماجستير والدكتوراه تتصل به.

- تهيئة طبعات شعبية من كتبه ليكون بوسع الفقراء امتلاكها، وتوضع في الإنترنت ليتاح الحصول عليها دون مقابل.

- إطلاق اسمه على إحدى قاعات قسم اللغة العربية الذي أفنى فيه زهرة عمره، وعلى مدرسة أو مسجد أو شارع في قريته التي نشأ فيها.

- تبنِّي مجمع اللغة العربية، وقسم اللغة العربية، إصدار كتاب جامع وثائقي عنه، يشترك فيه الأعلام من كل مكان، يؤرخ لحياته العلمية والعملية بالتفصيل، ويحصي ما كتبه، وما كتب عنه بالتفصيل أيضاً، ويتم تجديده بين الحين والآخر، ليكون المرجع الأول لكل من يريد معرفة هذا العَلَم المتفرد.
***

رسالة إلى نجيب محفوظ

رسالة إلى نجيب محفوظ

     نجيب محفوظ أديب متفرد تجاوز الدائرة المصرية إلى الدائرة العربية، ثم إلى الدائرة العالمية، وأصبح بين أبناء جيله «ظاهرة» يتوقف عندها كل دارس لا مجرد أديب عادي، مثله في ذلك مثل شوقي الذي فرض نفسه بين شعراء عصره «ظاهرة» كبرى، وهما معاً يذكران المرء من بعض الجوانب بالمتنبي الذي لم يتوقف عنه الحديث حتى يومنا الحاضر لأنه فعلاً «مالئ الدنيا وشاغل الناس».

     وفي نجيب محفوظ أدباً وحياةً وفكراً الكثيرُ مما ينتزع الإعجاب، فهو في فنه صاحب موهبة صقلها بالدرس والصبر والمران، فارتقى بها حتى بلغ ما بلغ فكان القصاص العربي الأول.

     وهو في حياته رجل منضبط جداً بطريقة تدعو إلى الاحترام والإكبار، عرف موهبته فانكب عليها ونماها ومارسها وصقلها، ثم إنه انصرف عما لم يخلق له فنجا من شتات الأمر الذي أضاع - ولا يزال يضيع - مواهب الكثيرين، وعرف قيمة الوقت وهي من أجل النعم للناس عامة وللنابهين خاصة، فسيطر على وقته سيطرة رائعة، ووزعه توزيعاً دقيقاً بين واجباته المختلفة، وعرف قيمة المال فأحسن التعامل معه بقصد وحكمة، وعرف قيمة الصحة فعني بجسده فلم يسرف عليه، وظل حريصاً على قسط من الرياضة يؤديه باستمرار، ولم يتوقف عن المشي إلا بعد أن كَلَّ جسمه وضعف سمعه وبصره، وهو ما جعله عاجزاً عن ممارسة مشيته المحببة على شاطئ النيل. لذلك يمكن أن يوصف بأنه راهب من رهبان الأدب والحياة والفكر يعشق التأمل، ويحب الخلوة، ويجنح إلى الزهد، وهذا يفسر لنا لماذا لم يغادر مصر طوال عمره؟ ولماذا لم يذهب إلى السويد لاستلام جائزته في مهرجان عالمي رائع تتحلب أفواه الكثيرين إلى ما هو أقل منه؟

     وفي فكر نجيب محفوظ ما يروعك، فإذا كانت شهرته العظمى هي في المجال القصصي فإن ثمة مجالاً آخر قد يكون أعمق - وإن قلت شهرته فيه - وهو تلك الأفكار التي ينشرها في الصحف بأسلوب يتسم بالإيجاز شكلاً وبالعمق موضوعاً. وهنا أضع بين يدي القارئ الكريم نصين له نشرهما في صحيفة الأهرام يناقش فيهما قضية العنف، أنقلها من مقالة ممتازة للأستاذ فهمي هويدي عنوانها «إنصافاً لنجيب محفوظ» نشرها في صحيفة الشرق الأوسط في «19/5/1415هـ، 24/10/1994م».

     يقول النص الأول الذي يحمل اسم «فتح الطريق المسدود»: «يحدثونك عن الإرهاب فيربطون بينه وبين أشياء كثيرة، مثل الفتاوى الخاطئة، والأزمة الاقتصادية، والفراغ السياسي، والحكم الشمولي، والاستهانة بحقوق الإنسان. والإرهاب يمكنه أن يكون ثمرة مرة لجميع تلك الظاهرات مجتمعة أو لإحداها تبعاً للظروف والأحوال، غير أنهم ينسون ظاهرة أخرى، لا تقل عن أي من تلك الظاهرات عاقبة إن لم تزد، «إحباط وضيق لجيل صاعد يتطلع إلى حقوقه في الحياة»، ومن بينها، وربما في مقدمتها، حق تبوُّؤ السلطة.

     الحق أن كل جيل جديد يتطلع إلى السلطة أو الحكم باعتبار ذلك سبيله إلى تحقيق ذاته الفردية وحلمه الجماعي لتغيير المجتمع، ومن حق كل جيل جديد أن يتطلع إلى ذلك، بل إن واجبه وانتماءه وطموحه يملي عليه أن يتطلع إلى ذلك، ويعمل على تحقيقه بكل وسيلة مشروعة، فإذا بدا الطريق أطول مما يجب، أو طال بطريقة مفتعلة، أو سد تماماً فلا أمل في منفذ، أصبح اللجوء إلى العنف مما قد يرد على بعض الخواطر.

     لقد عاصرت الحياة قبل ثورة يوليو، وأشهد أنه لو كان الدستور قد احترم، وعرفت كل هيئة حدودها، لربما قدر لتاريخنا أن يكون غير ما كان، كان من المحتوم أن تفقد الأحزاب القديمة شعبيتها، وتحل محلها أحزاب شابة مبشرة بالتغيير الاجتماعي، وفي تقديري أن أجيال الشباب يميناً ويساراً كانت سترث الأغلبية في انتخابات 1950م، وتمضي في تطبيق ما طبقته ثورة يوليو في جو من الحرية والديمقراطية، كان خليقاً أن يجنبنا كثيراً من الأخطاء القاتلة.

     فلننظر إلى واقعنا على ضوء ماضينا من ناحية، والتسليم بالحقائق البشرية من ناحية أخرى، فنجعل لنا طريقاً ممهداً خالياً من العقبات المفتعلة والرواسب الشمولية، من أجل ذلك أقول: إن الحل الأمثل هو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان».

     ويقول النص الثاني الذي يحمل اسم «أسرة الإرهاب»: «لعل أبسط تعريف للإرهاب هو استعمال القوة غير المشروعة في سبيل الوصول إلى غاية ما. إن صح هذا التعريف فليس الإرهاب المعروف هو الإرهاب الوحيد الذي يمارس في المجتمع، فكل ما يتحقق بالقوة لا بالقانون أو الشرعية هو نوع من الإرهاب، والقوة لا تعني الرصاص والقنابل فحسب، فهناك أيضاً قوة النفوذ والقرابة والحزب، والطائفة والدين، فيمكن القول: إن أية قوة تستعمل لخرق الشرعية أو تخطي القانون فهي إرهاب. ويجب أن نعتبرها كذلك، وأن نضعها في كفة واحدة مع الإرهاب الذي نطارده صباح مساء. فالوصول إلى السلطة قد يكون نتيجة جهاد مشروع أو ثمرة لعنف إرهابي، وشغل الوظائف العامة قد يكون برأي المجموع أو من خلال امتحان نزيه، وقد يعتمد على قوة النفوذ والواسطة، أي على الإرهاب، والصفقات التجارية قد تعتمد على قوانين السوق، وقد يتحكم فيها النفوذ والرشوة وغير ذلك من وسائل الإرهاب الاقتصادي.

     على هذا النحو تجري الخدمات، فانظر إلى ما يقع في الطريق والمستشفى والمواصلات والمصالح الحكومية، هل تتم المعاملة وفقاً لنظام ثابت شامل لا يفرق بين شخص وآخر، أم أنه يفتح ذراعيه بحرارة الترحاب لأناس، ويصب على الآخرين عذاب المعاناة بغير حساب؟

     بعد هذا التمهيد، فإنني أدعو كل قارئ لتأمل ما يحدث في مجتمعنا، وليحكم بنفسه، أهو مجتمع قانوني شرعي أم مجتمع إرهابي!؟ وأظنك تتفق معي على أن أولى درجات الحضارة أن يتحول المجتمع من مجتمع يقوم على الغريزة والقوة إلى مجتمع يحيا في ظل القانون والشرعية، ليحقق الحرية والعدل».

     والقارئ لهذين النصين لا يسعه إلا أن يتوقف عندهما معجباً بما فيهما من تركيز مؤدٍّ، ونظرة شمولية، وصراحة مشكورة، وحسن تعليل. إن حديثه حديث المثقف المتزن المسؤول الذي يحسب لكل كلمة حسابها، والذي يدرك أبعاد الخلل في البناء الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والديني الذي أفرز ظاهرة العنف، والذي ينأى بنفسه عن تلك المجموعة من الناس التي اكتفت بإدانة العنف والتسابق في سب المتهمين به والتركيز في المحسوبين منهم - بحق أو باطل - على التيار الإسلامي.

     وإني أتوج ما حاولت أن أعدد به مآثر نجيب محفوظ بتلك الكلمة الموجزة الرائعة التي وجهها وهو لا يزال يعالج في المستشفى من آثار محاولة اغتياله إلى الندوة التي انعقدت في القاهرة تحت عنوان «نحو مشروع حضاري عربي» في شهر جمادى الآخرة 1415هـ/ نوفمبر 1994م، والتي ألقاها عنه الأستاذ محمد سلماوي، وهذا نصها: «أرحب شخصياً بجميع الإخوان المشاركين في المؤتمر من مصر والوطن العربي، وقد كنت أتمنى أن أشارك في استقبالهم جميعاً والعمل معهم في سبيل وضع مشروع حضاري عربي، ولكن نظراً للظروف التي أمر بها الآن فإني أكتفي بالمشاركة من بعيد بالإعلان عن رأيي دون الاستفادة من الاستماع لآرائكم التي كنت أتطلع إليها. ورأيي في اختصار هو: أن المستقبل الحضاري يجب أن يقوم في أساسه على الإسلام، وفي تطوره على الحوار مع سائر حضارات العالم، والاستفادة من كل نقطة نور لا تتناقض مع مبادئنا الأساسية، وأن يكون اعتماده في ذلك على دعامتين: القيم الموروثة من ناحية والعلم من ناحية أخرى؛ بالإضافة لكل ما أثبت أنه مفيد في تطوير البشرية، تمنياتي القلبية بأن يوفقكم ربنا إلى وضع الأسس الصالحة لمشرعنا الحضاري وإلى العمل على تنفيذها».

     وميزة هذه الكلمة المضيئة أنها حددت لنا بإيجاز مبين بليغ ما ينبغي أن يقوم عليه المشروع الحضاري المرجو بحيث يشيد على الإسلام فيكون روحه وقاعدته وأساسه، ويفتح بعد ذلك باب الانتفاع من الآخرين علماً وحواراً واقتباساً على ألا يتناقض شيء من ذلك مع مبادئنا الأساسية، وهو استدراك ذكي وحصيف يشكر عليه الأستاذ محفوظ، وأجدني مع هذه القاعدة الراسخة، والدعوة إلى الانفتاح، والاستدراك المشكور المحمود، مؤيداً للأستاذ محفوظ في كلمته هذه تمام التأييد.

     ومما يشكر عليه الأستاذ نجيب محفوظ إشارة طيبة جاءت خلال حديث أجري معه مؤخراً عن روايته الشهيرة «أولاد حارتنا» التي صدرت عام 1959م، وأثارت لغطاً كبيراً، وكانت من أكبر المآخذ الدينية عليه، ومؤدى الإشارة أن الأمور اختلفت منذ ثلاثين سنة، وهو كلام طيب يوحي بالاعتذار وإن كان لا يكفي، وأهم من هذه الإشارة قوله لمحاوره: «لعلي تبت يا أخي»، وهي كلمة وجيزة فيها عبق ديني يضوع من التوبة، وفيها لمسة إنسانية حانية تضوع من الأخوة، وأهم من هذين رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول التي أوردناها آنفاً بنصها.

     تبقى بعد ذلك مجموعة من الملاحظات المهمة تفرض نفسها في هذا المجال:

· تعرض هذا الرجل ذو المكانة المتميزة إلى محاولة اغتيال في يوم «14/10/1994م» وهو يركب سيارة أحد أصدقائه شاء اللَّه أن يكرمه بالنجاة منها، وقد أثارت المحاولة - وهذا هو المتوقع - جدلاً واسعاً واستنكاراً كبيراً، وقد زاد من هذه الإثارة أن المحاولة استهدفت شيخاً كبيراً في الثالثة والثمانين من عمره المديد، وهن جسمه، وضعف بصره، وكل سمعه، وصار يعيش الحياة من خلال الآخرين أكثر مما يعيشها من خلال نفسه. الأمر الظالم في حملة الإثارة أنها انصبت على التيار الإسلامي بعامة، وقبل أن يقول القضاء كلمة واحدة بدعوى أن هذا التيار هو المحرض على القتل بطريقة أو بأخرى. والذي يمكن أن يحدد هوية القاتل ودوافعه هو قضاء حر نزيه فقط، هذه واحدة. وأما الثانية فإذا ثبت أن القاتل ينتمي إلى مجموعة إسلامية فلا ينبغي أن ينسحب هذا الحكم على كل المجموعات الأخرى. وفي مثل الظروف التي تمر بها مصر العزيزة الآن، وفي مثل طبيعة محاولة الاغتيال ترد كل الاحتمالات، فربما كان صاحب المحاولة مخلصاً مندفعاً من نفسه، وربما كان مخلصاً محرَّضاً من غيره، وربما كان مأجوراً، وربما كان يمثل نوعاً من الاختراق لمصلحة جهة من الجهات التي تريد بمصر وبالإسلام وبدعاته شراً مستطيراً، ومرة أخرى إن الذي يمكن أن يأتي بالقول الفصل في هذا الأمر هو قضاء حر نزيه، وفي مصر قانونيون عظام مشهود لهم بالنزاهة يمكن أن ينهضوا بمثل هذا الأمر وزيادة كالمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا.

· ينبغي ألا يغيب عن بال الأديب الكبير أن في حياته الفكرية والأدبية ما يؤاخذ عليه، ففكره خليط من الليبرالية والعلمانية، أما الليبرالية ففيها جوانب مشكورة لكنها لا تؤخذ على إطلاقها، وأما العلمانية فقد كانت إحدى الكوارث التي أوردت الأمة موارد الدمار، ثم إن الأديب الكبير كان أحد الذين دافعوا عن سلمان رشدي علماً أن كتاب سلمان تافه من الناحية الفنية، وأما الناحية الموضوعية فليس له فيها أي نصيب مهما قلّ، إذ إن كتابه مملوء بافتراءات وأكاذيب لو قيل بعضها في حق أي واحد منا لحكم القضاء على سلمان بجريمة القذف في حقه، فكيف بها وقد قيلت في سيد البشر!؟ وإذن فلنا أن نقول: إن دفاع الأديب الكبير عن الكاتب الضال دينياً، التافه فنياً، الساقط موضوعياً، غلطة كبرى لا تقبل منه وهو الرجل المتزن المتعمق ذو الأناة والدقة.

· أما رواية «أولاد حارتنا» فربما كانت أكبر أخطاء محفوظ الدينية لأنها أساءت كثيراً في حق اللَّه U والأنبياء الكرام. ربما يقول محفوظ: إن الرواية فسرت خطأ، وإنه لم يقصد منها ما فهمه المعترضون، وهو دفاع غير مقبول لأن بوسعه - وهو الفنان المقتدر - أن يكتبها بالطريقة التي لا تسمح بفهم خاطئ، ولأن بوسعه أيضاً أن يتحلى بشجاعة الاعتذار، وهي شجاعة في الفكر لا تقل عن الشجاعة في القتال إن لم تزد عليها. ثم إن للأديب الكبير آراء في التطبيع مع اليهود تؤذي الشعور الديني والشعور الوطني على السواء، وهي آراء يجهر بها كثيراً، وهي إحدى مواد الحديث في ندوته المعتادة كل يوم جمعة حتى كادت هذه الندوة تغدو منبراً من منابر الدعوة إلى التطبيع.

· ينبغي ألا يغيب عن ذكاء الأديب الكبير أن من يسمون أنفسهم دعاة «التنوير» هم طبعة جديدة من العلمانيين جرى فيها من التعديل ما تدعو إليه الظروف، لكن الروح واحدة، وأن هؤلاء إنما يريدون استثمار محاولة اغتياله للإساءة إلى كل ما هو إسلامي، فهو مدعو إذن إلى أن يعي الأمر، وأن يضع الأمور في نصابها، والمحاولة في إطارها وحجمها.

· وينبغي ألا يغيب عن ذكائه أيضاً أن كلمته الرائعة في رؤيته للمشروع الحضاري العربي المأمول لا تكفي، بل ينبغي أن يؤكدها بطرق شتى لأنها تمثل خلاصة عمره الفكري، ولأن في هذا التأكيد ما يجعلها حَكَماً على فنه وفكره، ولعل الأديب الكبير يعي جيداً أن من أرادوا استثمار محاولة اغتياله استثماراً سيئاً قد وقعت كلمته عليهم وقوع الصاعقة لأن مؤداها في النهاية ضد ما يدعون وضد اتجاههم الفكري. ولن تزداد أيها الأديب العظيم إلا مكانة وعلواً حين تقرر أنك أصبت هنا وأخطأت هناك، ونحن بشر، وليس لأحد منا عصمة. لقد أصدر الأستاذ خالد محمد خالد كتابه الشهير «من هنا نبدأ»، وفيه قرر أن الإسلام دين لا دولة، ثم عاد بعد ذلك ليصحح نفسه بنفسه في كتابه «الدولة في الإسلام»، وهي شجاعة فكر وقلب يشكر عليها، ولي ولك فيه أسوة حسنة.

· لا يصح لنا أن ننظر إلى أهل الفكر أن لهم قناعات ثابتة لا تتغير، فالإنسان حصيلة بيئته وظروفه وتفاعله، والأغبياء هم الذين لا يتغيرون على ضوء ما يمر بهم، المهم أن يحتفظ المفكر بالثوابت التي لابد منها من عقيدة صحيحة، وولاء واضح، وغيرة على البلاد والعباد، وموضوعية وأمانة، واحترام للرأي الآخر، وقدرة على الاعتراف بالخطأ وتجاوزه، وحب صادق للناس، فإذا تم له ذلك فإن التغيير واقع لا محالة؛ من هنا علينا أن نرحب بكل بادرة خير ونرعاها ونوسع مداها لنفوز من أهل الفكر بخير كثير، ولعلنا جميعاً نتذكر هنا أن الدكتور محمد حسين هيكل بدأ في خندق العلمانية لينتهي كاتباً إسلامياً، وأن الأستاذ خالد محمد خالد بدأ في خندق الماركسية واليسار لينتهي مع الرعيل الذي يدافع عن الإسلام بحرارة وجرأة، ومثل هذا الكلام يصح أن يقال عن الدكتور مصطفى محمود، والدكتور محمد عمارة، والأستاذ محمد جلال كشك، والمستشار طارق البشري، والأستاذ عادل حسين.

· إذا كان اعتذار الأستاذ نجيب محفوظ عن حضوره حفل جائزة نوبل مع كل مغرياته الكثيرة أمراً يمكن أن يقبل، بل يمكن أن يشكر لأن فيه دليلاً على عفة وزهد وترفع؛ فإن اعتذاره عن أداء العمرة ممن دعاه إليها أمر لا يمكن أن يُفْهم، ولا يمكن أن يُقْبل. ربما يعتذر الأستاذ نجيب بظروفه الصحية وهي ظروف صعبة حقاً، لكن الرحلة إلى مكة المكرمة حرسها اللَّه لأداء العمرة يحفها ويحوطها كل ما يجعلها سهلة ميسرة من قرب ويسر وأمن ورفقة تعين على أداء النسك بما يجعله ممتعاً سهلاً جميلاً تراعى فيه كل ظروفه الصحية وغير الصحية، ومما يدعوني إلى الإلحاح على الأستاذ نجيب محفوظ بقبول الدعوة لأداء العمرة - وهو النجيب المحفوظ إن شاء اللَّه - أمران، الأول: أن العمرة ستكون تصديقاً عملياً لتوجهاته الدينية الأخيرة تؤكدها وتبارك فيها وتجهر بها، والثاني: أن العمرة ستحقق له الكثير مما يريد ويحب - وهو في ضيافة اللَّه تعالى - من أشواقه الروحية، وستمده العمرة بدفعة قوية من المشاعر النبيلة التي تلتقي مع فطرته من حب للخلوة، وحدب على الناس، وتأمل في الحياة، ومراجعة للنفس، وتجدد واستشراف.

· أيها الأديب الكبير: لو كنت بالقرب منك يوم «14/10/1994م» أثناء محاولة الاغتيال لحاولت مساعدتك، لكني مع ذلك لا أملك إلا أن أقول لك: أخطأت هنا، وأصبت هناك.

***

محمود محمد شاكر شيخ العربية وفارس الفصحى

محمود محمد شاكر

شيخ العربية وفارس الفصحى

     محمود محمد شاكر رحمه الله؛ رجل غير عادي في عصرنا، يمكن أن تصفه بأنه كان بما له وما عليه «أمة وحده»: وغفر له.

     عاش تسعين عاماً، فقد ولد في الإسكندرية في شهر المحرم من عام 1327هـ، الموافق لشهر (فبراير) من عام 1909م، وتوفي في القاهرة في شهر ربيع الآخر من عام 1418هـ، الموافق لشهر آب (أغسطس) 1997م.

     ولد في أسرة دين وعلم، فأبوه شيخ فاضل تقلب في مناصب دينية منها أنه كان وكيلاً للجامع الأزهر، وله مقال ناري في مهاجمة كمال أتاتورك يوم ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924م، يمكنك أن تجده في كتاب الدكتور محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية»، أما أخوه الشيخ أحمد فكان محدثاً عاش عمره وهو يخدم السنة المطهرة.

     ولا يرمي هذا المقال إلى الكتابة عن آثاره المباركة وجهوده المبرورة في الدفاع عن أمته ودينه ولغته وحضارته، التي يمكن أن تجد حديثاً عنها في كتاب الأستاذ محمود إبراهيم الرضواني «شيخ العربية وحامل لوائها أبو فهر محمود محمد شاكر بين الدرس الأدبي والتحقيق»، أو في كتاب «دراسات عربية وإسلامية مهداة إلى أبي فهر»، وهو كتاب أعده عدد من محبيه وتلامذته بمناسبة بلوغه سن السبعين وأهدوه إليه، لكن هذا المقال يرمي إلى تقديم صورة كلية عنه تحاول أن تنصفه بما له وما عليه، وتحاول أن تفسر شخصه وعصره.

     وأنا أعلم صعوبة هذه المحاولة لأن رسم الإطار العام لشخص وعصر أمر تكتنفه صعوبات كثيرة، ذلك أنك مطالب بلملمة جزئيات وأشتات كثيرة ووضعها في حيز واحد يجمع عناصرها ويفسر متناقضها، كما أنك مطالب بالنزاهة والأمانة، ثم إنك مطالب بالصراحة في تناول علم شامخ بحيث تقول ما له وما عليه، وهو علم غير عادي في عصرنا له من يحبه ومن يعاديه في كل مكان، ومع علمي هذا سأحاول؛ ومن اللَّه تعالى العون والتوفيق.

     كان الفقيد مجموعة شخصيات في شخصية، كان فيه صدق المسلم المؤمن الموحد المعتز بدينه أي اعتزاز، وكان فيه خلق العربي الذي أحب أمته وما يتصل بها حباً ملك عليه أقطار نفسه، وكان فيه قدر من الإباء والعناد يمتزج بقدر مماثل من طبيعة الفارس المقاتل الذي يشعر أنه ينبغي له أن يكون آخذاً بعنان فرسه على الدوام ليذود عن الحمى ويصون الذمار إذا سمع الصريخ. ولقد تملكه إحساس هائل بأن مجمل الظروف العامة والخاصة جعلته مطالباً أن يكون أكثر من سواه بشير أمته ونذيرها معاً، وهو في هذا يلتقي مع أستاذه مصطفى صادق الرافعي الذي كان يمتلكه هذا الشعور إزاء أمته، وهذا أحد الأسباب المهمة في حبه للرافعي وإعجابه به منذ أن راسله عام 1921م حتى وفاته عام 1937م، وقد حزن عليه يومها حزناً شديداً، وحين ألف الأستاذ محمد سعيد العريان كتابه الشائق «حياة الرافعي» كتب له الفقيد مقدمة بديعة، رحم اللَّه الجميع وأحسن إليهم.

     وثمة جانب آخر في شخصية الفقيد، وهو أنه يحمل قلب طفل فيه الطيبة والبراءة والعفوية والدهشة والانفعال، فضلاً عن سرعة الغضب وسرعة الرضا، والجهر بما عنده دون مداراة أو مجاملة.

     محمود محمد شاكر مسلم خالص الإسلام، عربي خالص العروبة، عاش عمراً مديداً حافلاً بالأحداث العامة والخاصة التي تركت آثارها فيه، العامة على صعيد الأمة إذ شهد انطواء الراية العثمانية التي مثلت الخلافة الإسلامية في آخر مراحلها والتي كانت - بما لها وما عليها - دولة تتبنى الشريعة وتحفظ بلاد المسلمين في رقعة واسعة ممتدة، كما كانت سداً عسكرياً منيعاً أمام الهجمة الاستعمارية الصليبية على العالمين العربي والإسلامي ولابد أنه قرأ مقال أبيه الذي سبقت الإشارة إليه في بكائها.

     وشهد كذلك سقوط العالم الإسلامي إلا قليلاً منه في قبضة الغزاة المستعمرين، وشهد حركات الجهاد والتحرير ضد هؤلاء الغزاة، وهي حركات كان وقودها الأكبر الحمية الدينية لدى أبناء المسلمين، ثم شهد جلاء الغزاة ومجيء الحكومات الوطنية التي قادت البلاد والعباد في مسلسل من التيه في ثوب ديمقراطي تغريبي، أو عسكري ديكتاتوري، أو ليبرالي علماني، أو حزبي متسلط غشوم، وكان المسلسل في حقيقته مجموعة من الكوارث والنكبات، كان الفقيد يعبر عنه بمرارة فيقول لأبناء أمته: يا أبناء إسماعيل أنتم في التيه!، وكأنه يراهم في تيههم يكررون تيه بني إسرائيل. وشهد الفقيد كذلك كارثة سقوط القدس وخروجها من أيدي المسلمين، ورأى تداعيات ضعف الأمة ووهنها وانقسامها حتى باتت تلهث وراء حل سلمي مع الصهاينة لا يعيد الحقوق ولا يصون الكرامة ولا يحفظ ماء الوجه، ولابد أنه مات وفي قلبه من هذا جراحات كثيرة.

     وشهد الفقيد في العقود الأخيرة وبالذات بعد نكبة 1967م انحسار موجة الشعارات القومية والاشتراكية واليسارية والعلمانية والبعثية التي كان زعماؤها ودعاتها السبب الأكبر في النكبة. كما شهد بداية الموجة التي اصطلح على تسميتها «الصحوة الإسلامية»، وهي موجة متداخلة عبرت عن نفسها بممارسات كثيرة يتداولها الصواب والخطأ، وهي بحاجة إلى فرز وتحليل عميقين جداً للخروج بالعبر المستقاة منها خاصة بعد الدروس المرة التي لا تخفى على أحد في أفغانستان وإيران وغيرهما، ولابد أن الفقيد مات وفي قلبه من هذا جراحات وأحزان.

     وأستأذن القارئ الكريم في هذا الاستطراد؛ حيث سقط الحكم الشيوعي في أفغانستان، وآل الأمر إلى الذين قادوا الجهاد الأفغاني ضد الشيوعيين فاقتتلوا فيما بينهم، وقضوا على الأمل الذي تعلق به المسلمون في العالم كله ودعموه، وهو أمل الالتفاف حول جهاد خالص يقيم حكماً عادلاً ونموذجاً مشرفاً للعمل الدعوي والجهادي إذا انتصر، وظهروا خليطاً من نسب متفاوتة من العصبية القبلية الجاهلية، والرغبة الحادة في السلطة، وولاء إسلامي مشوش، فضلاً عن الجهل بحقائق السياسة والجغرافية والاقتصاد، والعجز عن إيجاد طرق حضارية لحل الخلافات تعتمد على ضوابط ومرجعيات لها احترامها، وكل ما يقال عن التدخلات الأجنبية في إيقاد الفتن فيما بينهم لا يصلح للدفاع عنهم، فهم المسؤولون أولاً وقبل كل أحد عن الكارثة، لقد كانوا - في جملتهم - نموذجاً رائعاً في إزهاق الباطل، لكنهم لم يكونوا كذلك في إحقاق الحق، وكانوا نموذجاً رائعاً في مرحلة القتال، لكنهم لم يكونوا كذلك في مرحلة الدولة. والتمييز بين المراحل يحتاج إلى ذكاء وشجاعة نفسية، وكما ينبغي للقائد أن يشهر سيفه عند الحاجة للحرب ويحشد الناس لها؛ ينبغي له أيضاً أن يغمد سيفه عند الحاجة للسلم، ويحشد الناس للبناء والتعمير. إن للموت صناعة، وإن للحياة صناعة، ولا بد من كل منهما في ظروفه، على أن صناعة الحياة أهم وأجدى، ودواعيها أكثر، وحساباتها أدق، والحكيم من يحسن اختيار هذه الصناعة المطلوبة أولاً، ويعرف أدواتها ثانياً.

     هذا العصر الحافل بالأحداث العامة الكبيرة كان له انعكاساته على حياته الخاصة، أولاً لأن التداخل بين الخاص والعام أمر لابد منه، ثم لأنه شخص كان يعيش لأمته ودينه ولغته وحضارته وثقافته، وكان يدرك حجم المؤامرة عليها، كما كان يدرك حجم تقصيرها في حق نفسها، وأيضاً لأنه كان رجلاً حاد الطباع، قلق النفس، متوتراً، كأن أعصابه شعلة من نار.

     وجاءت مجموعة من الأحداث الخاصة لتلتقي مع المؤثرات العامة المشار إليها فتزيد من أزمة الفقيد وحدته، دخل الجامعة عام 1926م وتتلمذ على أستاذه الدكتور طه حسين في قسم اللغة العربية في جامعة الملك فؤاد «جامعة القاهرة فيما بعد» وكان الدكتور طه حسين قد طلع على الناس بدعوى انتحال الشعر الجاهلي، وهي قضية شغلت الناس كثيراً في حينها، وكان الفقيد يرى أن أستاذه مخطئ من جانبين: الأول: أن الفكرة في ذاتها خطأ، والثاني: أن الدكتور طه أخذ الفكرة من المستشرق مرجليوث ولم يشر إلى ذلك، وهو عنده سطو يخالف الأخلاق، فضلاً عن التقاليد العلمية المقررة، وكبر الأمر عليه فغادر الجامعة وهو في السنة الثانية عام 1927م دون أن يتم دراسته، وعكف في داره على تثقيف نفسه والتبشير بأفكاره، والانقطاع إلى الكتابة مرة، والانقطاع عنها مراراً، وظل على هذا الحال سبعين عاماً منذ ترك الجامعة حتى وفاته «1418هـ/ 1997م» رحمه الله.

     وفتح الفقيد بيته وقلبه ومكتبته للناس، وخصوصاً لطلبة الدراسات العليا في العلوم العربية والإسلامية الذين كانوا يؤمون الجامعات المصرية من شتى بلدان العالمين العربي والإسلامي، فاستفاد منه الكثيرون في اقتراح موضوع، أو حل معضلة، أو تحقيق قضية، فضلاً عن الانتفاع من مكتبته الزاخرة بالكتب والمخطوطات، ومن نصائحه الثمينة لما يواجهونه من صعوبات، وكانت داره كأنها خلية علم لهؤلاء الطلبة ولغيرهم من أعلام الشعر والأدب والثقافة، وربما تحولت إلى ما يشبه داراً للضيافة أحياناً، ومنها تخرج أناس بلغوا أعلى المناصب وحملوا أعلى الدرجات، وقد انتهت الأمور بينه وبين بعضهم إلى الخصومة، وهذا ما جعله يصفهم بالعقوق.

     وفي العهد الناصري دخل السجن مرتين، وهو ما ترك في نفسه جراحاً كثيرة، وفي المرة الثانية لازمه في إثر خروجه من السجن نوع من الاكتئاب والسخط، تخلص منه أو من جزء منه بصعوبة بالغة.

     فإذا أضفت إلى ذلك أنه ظل سبعين عاماً، منذ أن هجر الجامعة حتى وفاته بدون دخل ثابت، تبين لك أن هذا الأمر شغله، خصوصاً بعد أن كبر، وجاءه ولداه فهر وزلفى في خريف العمر، ولابد أنه كان يشعر بالقلق إزاءهما وهو ينظر إلى شمسه تغرب شيئاً فشيئاً؛ رحمه الله، وأحسن إليه.

     من هنا يمكن القول: إن تلاقي الأحداث العامة مع الأحداث الخاصة في عمره المديد ترك آثاره في حياته بصورة حادة لا يخطئها من اتصل به أدنى اتصال.

     محمود محمد شاكر مسلم صادق الإسلام أحب هذا الدين ومنحه ولاءه وأخلص له، وأحب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وقرآنه العظيم، وحضارته وثقافته.

     وهو عربي خالص العروبة، أحب العرب، وأخلص لهم، ودافع عنهم، وكانت نفسه ملأى بالاعتزاز بهم وبلغتهم وبشعرائهم وبرموزهم في كل ميدان.

     وقد تداخل عنده هذان الحُبَّان، حب الإسلام وحب العرب، وهذا أمر منطقي ومسوَّغ، فالعرب مادة الإسلام، وهم حاملو رايته ولوائه، ثم إن العربية لغة هذا الدين، والعرب منحوا الإسلام ولاءهم فارتفعوا به، والإسلام يرفع معتنقيه عامة، فكيف إذا كانوا أصحاب مزايا تجعلهم جديرين بأن يكونوا أول من حمله!؟ واللَّه أعلم حيث يجعل رسالته.

     ولما كانت اللغة العربية هي لغة الإسلام؛ كان ينبغي أن تحظى بعناية خاصة من قبل الجميع، وبالذات من المشتغلين بنشر الدعوة الإسلامية، ذلك أنها المفتاح الصحيح لفهم هذا الدين فهماً سليماً، وقد لاحظ الشاعر الكبير محمد إقبال ؒ؛ أن العقل العربي المسلم في جملته استطاع أن يفهم الإسلام أفضل من أخيه العقل المسلم غير العربي في جملته، وأرجع ذلك إلى اللغة، وقد صدق الشاعر الكبير في هذه الملاحظة التي تؤكدها شواهد كثيرة.

     والملاحظ في حركة المد والجزر في التاريخ الإسلامي أنه كلما انتشر الإسلام مقترناً بانتشار العربية كان أدوم للإسلام وللعربية معاً، ولذلك حين كان ينحسر الإسلام في بلد عربي لسبب ما يظل هذا الانحسار أقل من مثيله حين يقع في بلد مسلم غير عربي، والمثال التركي أوضح الأمثلة على صدق هذا الرأي وقوته، فلقد كان حجم الانحسار في تركيا هائلاً لأسباب كثيرة منها أن الأتراك لم يتعربوا يوم كانوا قادرين على ذلك، ولعل هذا هو أكبر أخطائهم على الإطلاق، ولو أنهم تعربوا لظلت صلتهم بالإسلام أفضل لامتلاكهم أهم أدوات فهمه وهي اللغة. والعبرة المستفادة من ذلك للمهتمين بنشر الدعوة الإسلامية هي أن يحرصوا على نشر العربية معها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فذلك أعون على صحة الفهم من ناحية، وأعون على الدوام من ناحية.

     هذا الأمر وعاه الفقيد رحمه الله وأحسن إليه، وكان أحد أسباب حبه للعربية والدفاع عنها، وهو سبب يضاف إلى الأسباب الأخرى من عظمة هذه اللغة بحد ذاتها ومن عروبة الفقيد الصميمة. وحب العربية يقود بالضرورة إلى حب العرب، وحب العرب يتداخل مع حب الإسلام عند كل عربي وعند كل مسلم، وهكذا كان الفقيد.

     على أن حبه لأمته المسلمة عامة والعربية منها خاصة لم يكن يخلو من السخط عليها، فقد سخط عليها كما سخط على أعدائه وأعدائها، والفارق بين السخطين أنه جهر بسخطه على العدو في شجاعة خلافاً لسخطه على أمته الذي كان يداريه ويغالبه؛ لكنه يأبى إلا أن يظهر بين الحين والآخر. ومرد هذا السخط إلى شعوره أن الأمة لم تبوئه المكانة التي يستحقها، وذلك عنده نوع من الجحود والعقوق، ولعله نسي أنه هو بطبعه ومزاجه السبب الأكبر في ذلك.

***

     كانت حكمته أقل من علمه، وأنا أعلم أن هذا الكلام يغضب عدداً من محبيه وعارفي فضله وأنا واحد منهم، لكن هذه هي الحقيقة، وربما كان في الأمثلة ما يؤكد الفكرة، وينفي عنها شبهة المبالغة.

     هذا الرجل الذي عاش مدة طويلة من عمره فاتحاً قلبه وعقله وبيته ومكتبته وخبرته لطلبة الدراسات العليا، كان بوسعه أن يجعل من هؤلاء الطلبة رسل خير يتبنون أفكاره الجيدة النافعة ويعممونها حيث يكونون في مختلف المواقع الثقافية التي يحتلونها وعلى امتداد العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يترك لا محالة أعمق الآثار وأنفعها للعرب والمسلمين، ولما كان يؤمن به ويدعو إليه ويبشر به ويقاتل من أجله ويحترق بسببه، لكننا لا نجد من هذه الآثار إلا النزر القليل، والسبب هو مزاجه الحاد الذي كان يصطلي به رواده ومحبوه، فينفر من ينفر، ويسكت من يسكت، ولطالما سمع منه هؤلاء اتهاماً لهذا أو ذاك بالجهل أو السوء وما يشبه ذلك. لقد كانت لديه القدرة على كسب الناس ثم خسارتهم كلياً أو جزئياً، ولو كان حظه من الحلم والأناة والحكمة والتودد إلى الناس والصبر على أخطاء الطلبة الذين يرونه أستاذهم ومرشدهم مماثلاً لحظه من العلم لصنع خيراً كبيراً لهم ولأمته ولغته ودينه ولنفسه أيضاً.

     من أروع ما مر بي من ضرورة التوازن بين العلم والحكمة جملة سمعتها منقولة عن الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله، وهي «درهم مال يحتاج إلى درهم عقل لحسن تدبيره و القيام عليه، لكن درهم علم يحتاج إلى درهمي عقل للانتفاع منه»، وهي جملة بليغة جداً، فالعلم وحده معلومات «خام» قد تكون خاطئة، والعقل هو الذي يفرز الصواب والخطأ من ناحية، ثم هو الذي يدل صاحبه كيف يستعمل الصواب منه زماناً ومكاناً ومناسبة من ناحية. ولقد أدى الخلل بين العلم والحكمة في التاريخ الإسلامي إلى كوارث محزنة في مجالات العلم والدعوة والسياسة منذ الخوارج إلى أيامنا، وسوف تظل هذه الكوارث تطل برأسها ما ظل هذا الخلل.

     ولا أزال أذكر أول مرة زرت فيها الفقيد في بيته في مصر الجديدة عام 1963م، حيث اصطحبني إليه الأخ الصديق النبيل عبد العزيز السالم، وكنا طالبين في السنة الرابعة من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وكانت صلته به أسبق من صلتي، وكيف كان الزميل النبيل يحدثني في الطريق عن بدواته ومزاجه، ويدعوني لأحتمل ما قد يسوؤني منه، ومن يومها وطنت نفسي على ذلك، فما زرته في بيته في القاهرة أو في الرياض التي كان يأتي إليها لأسباب عامة أو خاصة، إلا وأنا على أتم الاستعداد لاحتمال كل ما يقول، لاقتناعي بنصيحة الزميل العاقل، ولشعوري أن هذا الرجل نادر حقاً، وله مزايا كبيرة، فاحتماله مكرمة لا مهانة، ولقد سمعت منه فعلاً واحتملت.

     ومن العجب أن هذا الرجل منذ خصومته مع أستاذه طه حسين اختار الصمت أكثر مما اختار الكلام مع وجود الدواعي الشخصية والعامة التي تدعوه إليه. يبدو لي أنه عاقب نفسه وعاقب أمته بهذا الموقف، ولم يعاقب من يراهم أهل الخطأ والزيغ من مبشرين ومستغربين ومستشرقين وعلمانيين ومن إليهم. هذا الموقف يذكرني بطرفة مرت بي في كتاب «الأيام» للدكتور طه حسين، يروي فيها أنه وزملاءه من طلبة الجامعة امتنعوا عن حضور درس لأستاذ إيطالي مستشرق كان يدرسهم احتجاجًا على إيطاليا لأنها قامت بغزو ليبيا، كما لو كان هذا الأستاذ الإيطالي «نلينو» هو المسؤول عن الغزو، وكما لو كان الامتناع عن حضور درسه هو الرد الصحيح، يومها قال الأستاذ الإيطالي لطلبته: مثلكم مثل الذي أراد أن يعاقب زوجته فخصى نفسه.

     ومن العجب أيضاً أن إنتاج هذا الرجل قليل بالقياس إلى عمره المديد وإلى العقود السبعة التي عاشها متفرغاً لما يريد بدون عمل ولا دخل، ولو أنه أحسن استثمار وقته، لكان إنتاجه أكثر بكثير، فسبعون عاماً مدة طويلة مباركة وبخاصة لشخص في ذكاء محمود محمد شاكر وعلمه وتفرغه وسعة مكتبته والتفاف الناس حوله، ولكن المزاج الحاد أضاع عليه، وعلى الأمة من بعده، هذا العطاء المنتظر. لقد كان هناك أخيار آخرون، أقل منه علماً وغيرة وحرقة على الدين والأمة، ولكنهم كانوا أكثر منه عطاء، ونفعاً للبلاد، وذلك لحكمتهم وتوازنهم، ولو أن حظه من الحكمة يماثل حظه من العلم لصنع خيراً أكبر مما صنعوا، لأمته ودينه ولغته ولنفسه أيضاً، ولولا الحرج لسميت عدداً من هؤلاء الأخيار.

     ومن العجب أيضاً أن هذا الرجل لم يستطع تجاوز أزمته مع الدكتور طه حسين، فقد ظلت هاجساً ملحاً عليه منذ أن وقعت حتى مات؛ أي سبعين عاماً. حقاً لقد كانت الأزمة مهمة على مستواه الشخصي وعلى مستوى الأمة، لكن التعامل مع أي أزمة ينبغي ألّا يتحول إلى عقدة دائمة بحيث تأخذ أكبر من الاهتمام المكافئ لها، وبحيث تجور على اهتمام آخر ينبغي أن يوجه لأزمة أخرى قد تكون أخطر وأكبر، ولكنه - مرة أخرى - المزاج الحاد وعقابيله.

     وثمة نقطة أخرى هي من العجب، بل من أعجب العجب، وهي أن الرجل الغيور على دينه ولغته وأمته وثقافته لم يشتغل بفكر البدائل كما اشتغل بفكر المكاشفة والمواجهة. إن معرفة الداء تحتاج إلى شجاعة عقلية لأن هذه المعرفة عمل فكري بالدرجة الأولى، وإن الجهر بهذه المعرفة يحتاج إلى شجاعة أدبية لأن الجهر قوة نفسية تصدم الآخرين فيما يعتقدون، ولقد امتلك الفقيد الشجاعتين العقلية والنفسية على السواء. ولكن هذا كله هو نصف المطلوب، أما النصف الآخر والأخطر أيضاً فهو تقديم البدائل، وماذا عسى ينفعك الطبيب الحاذق إذا عرف داءك وأعلمك به ولم يصف لك الدواء؟ نعم لقد كان للفقيد اجتهاده في هذا المجال لكنه كان أقل من المتوقع من رجل في حجمه، وكان أيضاً أقل مما شغل به نفسه في عمره المديد.

     أبا فهر: لقد حاولت أن أكون منصفاً صريحاً وعساي وفقت. فإن كان في حديثي ما يغضب أحداً من محبيك – وأنا منهم – فلي العذر، وقد تعلمنا منك فيما تعلمنا الشجاعة في الجهر بالرأي.

     رحمك اللَّه يا أبا فهر وأجزل لك المثوبة، «اللهم تقبل عمله، واغفر زلته غير خال من عفوك، ولا محروم من إكرامك، اللهم أسبغ عليه الواسع من فضلك، والمأمول من إحسانك، اللهم أتمم عليه نعمتك بالرضا، وآنس وحشته في قبره بالرحمة، واجعل جودك بَلَالاً له من ظمأ البِلى، ورضوانَك نوراً في ظلام الثَّرى»[1].

     أبا فهر: للشعر فيك موعد قادم بإذن اللَّه أرجو أن أوفق فيه لما يليق بمكانتك.
       
***

الصقر

مقاطع من قصيدتي في محمود محمد شاكر رحمه الله.

صقــر على شم الجبــال يحــــلقُ     ومداه مغرب شمسـها والمشــرقُ
والنجـــم والأفـلاك في تطـــوافها     والروح في أســــرارها والمطلق
نسجته من أرض الجزيرة ريحها     وخيـــولها ونخيـــــلها والأيـــنق
وجبـــــالها ورمالهـــا وجلالهـــا     وبيــــانها العــذب الشهي المونق
وحـــراء والآي الزواهر تزدهي     فيه وتهدي العــــالمين وتعبـــــق
فـــأتى أبــر رجـــالها وأعــزهم     وأحب ما يرجو الفخار ويعشــق
***

بــاق عطاؤك في الزمان مفاخراً     كالنيــــرات زواهـــراً تتـــــــألق
ستظل للفصحى وإن كره العـــدا     العـــلمَ يُرْوَى والصوارمَ تبـــرق
أما عِــداك ففي غـــدٍ رايــــــاتهم     تُطوى كما يُطوى الظلام وتمحق
فيقــول راوٍ عـــارَهم وشنــارَهم     انظر إليـــهم لا بقيـــن ولا بقـــوا
***

أبــــداً رواقك للمعــــــارف أفيح     وعليه من ســـمت الجلالة رونق
والطالبـــون الرفد فيه قوافــــــل     ترنـــو إليـــك محبــــة وتحـــدق
يــأتـون من كل البلاد دنــــــانهم     ظمأى ليستــبقوا لديك ويستــقوا
فعـــلى خُوانـــك وهو دانٍ ليـــن     حشـــدٌ من النجبـــاء فيه تألقـــوا
يأتيـــك من أقصى البلاد مغرِّبٌ     فـــإذا مضى بالعلم جاء مشــرِّق
وتقيـــل عثــرة مخطئ في أمره     وسلاحك الحـــلم الجميل الأرفق
ولربمـــــا تقســـو فـــأنت أُبـــوَّة     ترضى على أبنــائهـا أو تحنــق
بك يدرك الشادون كل عويصـة     فتبـــوح بالســـر الخفي وتنطـق

--------------
[1] هكذا دعا الفقيد لأخيه الشيخ أحمد، رحم الله الجميع.

الأكثر مشاهدة