الأحد، 2 يناير 2022

مساء شائق

مساء شائق

أقامت إثنينية الأستاذ عبد المقصود خوجه في جدة حفلاً لتكريم الدكتور شاكر الفحام، وطلب إليّ منظمو الحفل المشاركة فيه، ففعلت.

     الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد:

     فيطيب لي أن أشارك في هذا المساء الشائق لتكريم معالي الدكتور شاكر الفحام، وأحيي في هذا الحفل الذي هو عرس من أعراس الثقافة، المعاني الكريمة التي تكمن في عقول القائمين عليه وقلوبهم، وهي إعلاء قيمة الفكر والبيان، والإشادة بذوي الجهود المتميزة في حقول العلم والدعوة والإبداع، فهم في الحقيقة أنبل ما في الحياة، وهم أبقى ما في الحياة، وهم القادة والرادة والسابقون.

     الضيف الكريم المحتفى به، جمع بين الأدب والسياسة، وهو الآن يقود سفينة المجمع العلمي العربي في دمشق، وهو مجمع جاد عريق له جهوده المشكورة في خدمة ثقافتنا عامة، واللغة العربية خاصة، ولا غرابة، فدمشق منذ شرّفها اللَّه بالفتح الإسلامي بلد الإسلام وظئر العربية، وستبقى.

     تَرْبطني بالضيف الكريم - مع تباين انتمائنا الفكري - أكثر من صلة سيكون بعضها مفاجئاً له، تربطني صلة الإسلام وهي أول صلة، وأبقى صلة، وأغلى صلة، والإسلام كان وسيبقى: الهوية، والقضية، والماضي، والحاضر، والمستقبل، والأمل، والحل.

     وتربطني صلة العروبة، فالعروبة المؤمنة وعاء للفضائل ومهاد للمروءات ومستودع للمعادن الغالية، إنها موئل الكرم، ومثابة النبل، ومسرح الشجاعة، ومنبت الحرية، ودارة البطولة، ومنبع الوفاء، ومصنع الإباء، ومهوى العزة، ومُسْتراد الأريحية والنخوة والغيرة والفروسية.

     ولقد اختار اللَّه تعالى جزيرة العرب منطلقاً لرسالته، وله الحكمة البالغة، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، لأنها الأجدر بحملها مكاناً وزماناً وإنساناً ولساناً، ومن يومها اكتسبت هذه الجزيرة الميمونة هويتها ومهمتها، وأدتها خير أداء، والتاريخ خير شاهد، وانظر ما رواه عن بنيها الكرام منذ انطلقوا كالصقور فاتحين عادلين ظافرين يحملون إلى الدنيا هدي الإسلام ورحمته وعدله وحضارته، فكانوا وبحق خير أمة أخرجت للناس.

     وتربِطني بالضيف الكريم صلة الانتساب إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فلهذا القسم العريق أفضال كثيرة، وقد كنت في السنة النهائية فيه حين حَرَصت على حضور مناقشة الدكتوراه التي تقدم بها الضيف الكريم وكانت عن الفرزدق.

     ثم إننا من تلاميذ العلامة المرحوم محمود محمد شاكر، حارس العربية، وعاشق التراث، وسادن الأصالة، الذي فتح للناس عامة ولمريديه خاصة قلبه وعقله وبيته ومكتبته، وطالما استفدنا من كرم نفسه وصدق أبوته، وغزير علمه ودقيق ملاحظته، وتقبلنا شاكرين صابرين باسمين شتائمه حين يغضب علينا بحق أو من دون حق.


إن من حق كل أمة أن تعتز بلغتها، ولنا نحن العرب أن نعتز بلغتنا كما يعتز الآخرون وأزيد، لأنها لغة ديننا قرآناً وسنة وثقافة، ولأنها لغة حضارتنا الغنية المتميزة، ثم لأنها اللغة الأغنى والأخصب والأجمل والأعرق، إن لنا أن نفتخر أننا الأمة الوحيدة التي يستطيع تلاميذ المرحلة الابتدائية فيها أن يفهموا ويحفظوا وينشدوا نصوصاً عمرها أكثر من ألف عام خلافاً لكل لغات الأرض، لذلك نحن لا نبالغ قط حين نقول عن لغتنا: إنها مجد باذخ، وقول جميل، وعراقة وأصالة، وحياة وتجدد، وعرض يصان، ودرة غالية تسكنُ العقولَ والقلوب والألسنة قبل الكتب والأوراق.

هذه اللغة العالية الغالية الشريفة تتعرض الآن لهجوم واسع من العجمة والعامية والابتذال وما يسمى الشعرَ الشعبي وما تؤذينا به فضائيات تجور على كثير من ثوابت الأمة ومنها اللغة العربية.

والحرب على العربية جزء من المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد الأمة، ولن أخاف من قوم مردوا على اتهام من يتحدث عن المؤامرة، بأنه أسير الوهم، بل هم أُسارى الوهم، فالمؤامرة كانت وستبقى، وهي أكبر مما نظن ويظنون، لكنها قد تنجح وقد تخفق وقد ترتد على صانعيها.

إنني أهيب بكل غيور على اللغة وبالمؤسسات العلمية المتخصصة من جامعات ومراكز بحث علمي ومعاهد ومجامع؛ أن يهب الجميع لخدمة العربية بالعمل العلمي الجاد على كل المستويات، وأهيب بالضيف الكريم وهو على رأس مجمع محترم عريق أن يكون على رأس المبادرين في هذه المعركة الشريفة النبيلة التي تزداد الحاجة إليها يوماً بعد يوم.

***

هذه تحية النثر، أما تحية الشعر فهي هذه القصيدة التي كتبتها عن «الضاد» وإني إذ أمجد الضاد، أمجد الضيف الكريم، وأمجد هذه الكوكبة الكريمة من أهل العلم والفضل التي جاءت إلى هذا المساء الشائق.

***

الضاد

     الضاد لغة بهية عبقرية تمنحك من كنوزها بمقدار ما تقبل عليها.

يـا لســـاناً مثلَ الضحى عربيَّـا     تشـــرب العينُ حسنَه العبقريَّـا
وتصيـــخ الآذان عشقاً وشوقـاً     لغـواليــه بـــكـرة وعشيــــــــا
سيـــداً للبيـــان كنـــتَ وتبـقى     سيـــداً مالكـــاً وهوباً غنـــــيـا
تهــب الفكر كلَّ معنى جميـــل     حيــن تكسوه من حُلاك حليـــا
تــأسر الذائقَ العصيَّ رضـــاه     إذ تـلقّـــاه ســـاحراً ســـــامريا
ويجيء المعنى البعيد المرامي     فيــك يزهو مثلَ الصباح بهيــا
كل نعــمى على بســاطك راح     كل حســنى على رواقــك ريـا
كالدنــــان المعتقــــات اللـواتي     طبـــن طعماً وفحن مسكاً شذيا
أنت نهـــر أكوابـــه مترعـــات     وشــراب مثــل الرحيق نقيــــا
وبســـاط مثــل الربيع الموشّى     ضـاحكَ الغيثُ حسنَه الموشيـا
شهــد الأعصــرَ الطوالَ ولمَّـا     يَخــبُ حسناً وما يزال صبيـــا
إنـــه الضـــاد شمس كل بيــان     كـــان مذ كــان ملهماً وسريـــا
ســـرق الحسنَ كله واكتســــاه     وجـــلالَ الـنهى وكان حريــــا
ومضى يمــلأ الحيــــاة طيوبـاً     ويجــوب الآفـــاق طلق المحيا
***

ما تمــــلى بيـــــانَه ذو بيـــــان     وذكــــاء إلا اعتـــرته الحميـــا
وأعــــارته جـــذوة تتــــــنزى     وأصــــارته ضاحكاً أو شجيــا
مستعيــــداً ما راقــــه واستبـاه     مستهــــاماً به شغوفـــاً حفيــــا

***

وكـفى الضــــادَ عزة وفخــاراً     ما أطل الصبـــاح يوماً وحيــا
أن فيه الكتــــاب يتــــلوه قـوم     ملؤوا الرحبَ دانيـــاً وقصيـــا
ربما هبـــت البشـــــارات فيـه     فســرى فيهم الرضاء رخيــــا
أو توالـــت قوارع فتهـــــاووا     حــذر النــار سجــداً وبكيـــــا
ستشــيب الحياة والناس تبــلى     وسيـــبقى غضاً ويبقى طريــا
***

أنـــا للضــــاد عاشق فســـلوه     كيـــف أحببتـــه زمانــاً مليـــا
وحبــــــاني من وده ما حباني     واصطفـــــاني فكنت براً وفيا
ســـكن الضاد كاللبانـات قلبي     وبنـــاني وخاطري والمحيـــا
ولســــاناً يراه أحـــلى وأشهى     من كؤوس الـطــلاء في شفتيا
هو ضيفي في يقظتي ومنامي     ورفيــــقي أحنو ويحنو عليـــا
هو في كـــل ذرة من كيـــاني     وأخـــو خلوتي وفي مقلتيـــــا
وهو إلفي وصبـــوتي ونديمي     جئــــته مغـــرماً وجــــاء إليا
وهو لحن في مسمعي عبقري     وشـــذاً فـــاح طيبه ورديـــــا
***

عشت يا ضـــاد سيـداً وسَرِيّاً     مثـــلما كنت سيــــــداً وسَرِيّا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة