الأحد، 2 يناير 2022

حكاية الفلفل

حكاية الفلفل

     عرفت إلى الشيخ سلمان الحسني الندوي في مدينة الرياض العامرة، عندما كان طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قسم الدراسات العليا، ومنذ لقيته وحاورته وجدت فيه ذكاءً وألمعيةً، وروحاً دعويةً صادقةً، فأحببته كثيراً، ورأيت أنه شخص مميز، وقيادي، وعنده قدرة على التجديد والابتكار والريادة.

     وقد صدقت الأيام ظني فيه، ذلك أنه عاد إلى مدينته لكنو فبرز وأجاد، وصنع اللَّه على يديه خيراً كثيراً.

     وفي مدينة لكنو في الهند توجد ندوة العلماء، وكان رئيسها يومذاك الشيخ المربي الصالح القدوة أبا الحسن الندوي:، الذي تعلقنا به منذ شبابنا الأول، لأننا كنا نقرأ له ما يكتب، ونتابع نشاطاته المباركة، ونشاطات ندوة العلماء التي يقودها، وهذه الندوة بمناهجها، وأساتذتها، وطلابها ومطبوعاتها، جديرة بالاحترام، لأنها نموذج كريم للإسلام السوي المعتدل، الذي يقوم على العقيدة الصحيحة، والسماحة والوسطية، وتغلب على أبنائها روح الصبر والزهد والعفاف، وحب الآخرين، وإعلاء قيمة الأخوة والوحدة، وكراهية الخلاف والجدل، والرضا بالقليل.

     وشاء اللَّه تعالى أن أزور الهند، وكانت لا تزال لديَّ بقية من الشباب، والحماسة والقدرة على التجوال، والتعرف إلى المؤسسات الدعوية، فعزمت على الذهاب إلى ندوة العلماء في لكنو، لزيارة الشيخ الصالح أبي الحسن، أطلب منه النصح، وأرجو الدعاء، ولأشاهد الآخرين من تلاميذ الشيخ وأقاربه، وبخاصة من يعمل في مؤسسات الندوة التعليمية والدعوية، ومنهم الشيخ سلمان الذي كان من تلاميذ الشيخ وخلصائه، ومن أقربائه أيضاً، ذلك أني وجدت من العقوق أن أزور الهند ولا أزور لكنو وندوتها المباركة وأبناءها الكرام، وقد أكرمني اللَّه تعالى فغلبت العقوق والكسل، وظفرت بالزيارة.

     وكما هو المتوقع كانت الزيارة طيبة جداً، بسبب كرم الإخوة في الندوة، وبسبب تقارب المفاهيم الدعوية، وبسبب اليسر والسماحة وكراهية التكلف، هذا كله جعلني أشعر أني بين أهلي وذويَّ، نتحدث ونتحاور، ونتفق ونختلف، ونحن في غاية الرضا والود والصفاء.

     كانت عناية الجميع بنا جيدة، ولكن عناية الشيخ سلمان كانت أكبر لقدم المعرفة من ناحية، ولنشاطاته المتنوعة من ناحية، وقد حرص على أن يطوف بنا عليها، ففعل، وشكرنا له ذلك.

     كان من أهم ما قلته للإخوة هناك: إن العمل الدعوي ينبغي ألَّا يقدس تجاربه، ولا تجارب الآخرين، وأن يمارس النقد لهذه التجارب بضوابطه الشرعية والموضوعية، لأن الوعي بأخطاء هذا العمل الدعوي، أو ذاك؛ يعين الأجيال القادمة على تحاشيها، أما السكوت عنها فإنه قد يغريها بتكرارها، وخطأ السكوت مثل خطأ التكرار أو أشد.

     ومن أجمل الذكريات الطريفة الباقية في ذاكرتي؛ أننا جلسنا في فناء مفتوح على شكل دائرة، وكان بجواري أخ عربي هو ضيف مثلي، وبدأ شاب هندي نابه من تلاميذ الشيخ النجباء يقدمنا إلى الآخرين، فقال فيما قال: معنا الأخوان العالمان الذكيان الداعيان، وطفق يكرر الثناء ويبالغ فيه، في جمل محكمة، ومترادفات بليغة، باهرة جداً، بديعة جداً، لقد كانت مقدرته اللغوية المتألقة تنافس فيه محبته المتألقة لنا، وقد أجاد فيهما معاً وتألق.

     وقد راعني حبه الصادق الذي جعله يبالغ في الثناء، وراعتني لغته العربية بياناً وجمالاً وسبكاً، ومعرفةً واسعة بقواعد اللغة نحواً وصرفاً، أما مخارج الحروف فكانت في غاية الضبط والوضوح والإحكام، حتى بدا لي أنه بلبل يغرد، قلت في نفسي يومها: هذا الرجل يجيد العربية أحسن من أبنائها، بل أحسن من كثير ممن يحملون درجة الماجستير والدكتوراه فيها.

     المهم أنه حين انتهى من تقديمه لي ولأخي الجالس بجواري، طلبت الكلمة، فأذنوا لي، فشكرته شكراً جزيلاً على حسن تقديمه، وروعة لغته، ولكني عتبت عليه لأنه أسرف في الثناء، وكان ينبغي له أن يقتصد فيه، لأننا لا نستحق هذا الثناء الطويل العريض الذي أسبغه علينا.

     هنا بدت لي منه ميزة أخرى تدل على ذكائه، وحسن تخلصه، وسرعة بديهته، ذلك أنه قال: إن ما يقوله الأخ حيدر يؤكد لنا صدق ما تعلمناه من أساتذتنا أن سادتنا العرب أزهد الناس في الثناء، وأقربهم إلى التواضع، لنقاء فطرتهم، وسماحة نفوسهم، وكراهيتهم التكلف.

     وأقسم إنني ازددت بما قاله حباً له وإعجاباً به، ولو أن اسمه بقي في ذاكرتي لذكرته بما يستحق من الشكر والتقدير.

     انقضت الأيام كأنها حلم سعيد، وقد استفدت من آرائهم، ولعلهم استفادوا من آرائي، وأنا على ثقة أن استفادتي كانت أكبر.

     كنت في هذه الأيام أنام في غرفة خصصوها لي، وكانوا يعدون لنا الطعام، وكان طيباً وكثيراً، ولكني كنت أشكو من كثرة الفلفل في الطعام، فيقولون لي: إن ذلك هو المعتاد، ولكن هذا المعتاد عندهم يؤذيني كثيراً، فأطلب إنقاصه فيفعلون، ولكني أجد الطعام بعد الإنقاص لايزال مؤذياً، فأطلب من جديد فيفعلون، ولكن بدون فائدة، ذلك أنهم قوم اعتادوا على كثرة الفلفل، فمهما أنقصوا منه يظل بالنسبة لي كثيراً، فلم أجد إلا السكوت، وكنت آكل في بعض الأحيان وفمي يحترق، وعيناي تدمعان، ومع ذلك ظللت بين الحين والآخر أذكرهم بكثرة الفلفل تصريحاً أو تلميحاً، أو دعابةً؛ بدون جدوى، حتى عرفوا مشكلتي معه، وصبري عليه، وصارت هذه المشكلة، أشبه بنادرة طريفة، يتداولها بعضهم في سياق من الدهشة أو الاستغراب أو التسلية.

     كان مسك الختام أن دعاني الشيخ سلمان لألتقي عدداً من الطلبة النابهين الذين يجيدون اللغة العربية في قاعة واسعة، وكان هذا من ذكائه، لأن إجادة لغة الخطاب من المتحدث والسامع يجعل الفهم أفضل، والتواصل أتم.

     وجلسنا على المنصة هو وأنا في مقابل الطلبة، وتحدثنا وتحدثوا، وكان القبول والتوفيق والود تبدو آثارها المحمودة على الوجوه والأفواه، فلما آن وقت الانصراف فاجأني الشيخ سلمان بسؤال أمام الطلبة، فقال: قد سمعت منا وسمعنا منك، لكن لاحظت أنك لم تذكر عيباً لنا، ولابد أنا لنا عيباً بل عيوباً، فصارحنا.

     هنا شعرت أن الشيخ ساق لي من حيث لا يدري مفاجأة طريفة جداً أختم بها اللقاء، وأجعل الطلبة ينصرفون وهم يضحكون.

     قلت له: بل هناك عيب كبير، ولكن ليس من اللائق أن أحدثكم عنه وأنا ضيفكم الذي وجد منكم غاية الحفاوة والتكريم، قال: لماذا؟ قلت: سوف تغضبون، عندها وعدني أنهم لن يغضبوا، فأصررت على موقفي، وأصر هو على موقفه، وساد القاعة صمت ثقيل جداً، إذ توقع الطلبة أني وجدت فيهم عيباً مهماً في عقيدتهم أو سلوكهم أو نشاطهم، وأن هذا العيب بلغ من الفداحة مبلغاً يجعلني أمتنع عن ذكره.

     وظل الشيخ سلمان يكرر الطلب والوعد، وظللت أتظاهر بالخشية من الغضب، حتى ذهبت الظنون بالطلبة وشيخهم إلى أسوأ التوقعات، وهذا بالضبط ما كنت أسعى إليه.

     عندها وقفت على قدمي وقلت لهم: هل تعاهدونني على أن تقبلوا مني نقدي لكم من دون غضب؟ فقالوا جميعاً: نعم.

     فقلت والقاعة في صمت عميق، والآذان تصغي، والعيون تنظر، ولو أنك حينها ألقيت إبرة صغيرة في القاعة لسمعت صوتها: «اسمعوها مني بغاية الصراحة، نحن - ضيوفَكم العربَ - نشكو من قلة الفلفل في الطعام»!

     عندها انفجر الجميع دفعة واحدة في ضحكة جميلة بريئة، ملأى بالفرح والإعجاب، وهذا ما كنت أعمل من أجله، فما أجمل أن تنتهي بعض النشاطات نهاية سعيدة!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة