السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - الصورة الشعرية

الصورة الشعرية

     يلتقي النثر مع الشعر في أمور ويفترق في أخرى، وأهم ما يلتقيان فيه هو أن الشعر والنثر معاً يعبران عن الإنسان بالكلمة؛ خلافاً للموسيقى التي تعبر بالصوت، وللنحت الذي يعبر بالمادة المجسمة، وللرسم الذي يعبر بالخطوط والألوان والأشكال. لكن الشعر والنثر يفترقان في أمرين، الأول: هو الموسيقى، والثاني: هو الصورة. أما الموسيقى في النثر فقد توجد لكنها تبقى عملاً اختيارياً خلافاً للشعر الذي لابد فيه من الموسيقى، وأما الصورة فهي في الشعر مظنة الوجود المكثف خلافاً للنثر.

     من هنا كان على من يدرس شاعراً أن يتوقف عند «الصورة الشعرية» لأنها أحد معالم الشعر عامة، وأحد معالم قدرة هذا الشاعر أو ذاك خاصة.

     والحديث عن «الصورة الشعرية» حديث شائك، فهو أمر قديم جديد، وقد كثرت فيه الدراسات وتعددت بحيث صار القارئ يخرج منها بنتائج مشوشة لكثرة المصطلحات، وتعدد الرؤى، وسعة المفاهيم والعبارات التي يمكن أن تحمل أكثر من دلالة.

     يقول الدكتور صبحي البستاني: «لا يستطيع الباحث في الصورة الشعرية أن يتجاهل حقيقتين لابد من أخذهما بعين الاعتبار: الأولى وهي أن الصورة الشعرية تحتل عناوين عدد كبير من الكتب والدراسات، ناهيك بكتب النقد الأدبي التي قلما تتصفح أحدها دون أن تقع على صفحات قد تصل إلى فصل في بعض الأحيان أو أكثر، تعالج موضوع الصورة الشعرية. أما الحقيقة الثانية فهي الاتساع الكبير الذي بلغه الحقل الدلالي لكلمة «صورة»، فعندما يغوص الباحث في يمها يضيع بين المفاهيم المتنوعة، لا.. بل المتناقضة أحياناً كثيرة، وربما يصل إلى التعمية مع هذه الكلمة التي أصبحت تفتقر إلى حدود دقيقة ومحددة»[1].

     ويشكو الدكتور جميل علوش، من الحديث الكثير عن «الصورة الشعرية» الذي صار يتعب ويشوش، ويصل إلى الاضطراب والتناقض، ويسوق ذلك في أسلوب جميل فيقول: «لقد أصبح الحديث عن الصورة الفنية هو طراز العصر...، بحيث كثرت الكتب والمؤلفات في هذا الموضوع...، وقد جرت هذه الكثرة في المؤلفات التي تدور حول الصورة الفنية إلى الفوضى والضياع، بحيث لم يعد الناظر في هذه المؤلفات بقادر على أن يستخلص صورة حقيقية واضحة عما يكتب عن الصورة الفنية، وما هي إلا أفكار وخواطر مضطربة مشوشة لا يصل فيها القارئ إلى يقين...، فمن النقاد من يطرق هذا الموضوع من المداخل التي هيأها النقاد الأجانب له...، ومن النقاد من يتحدث عن الصورة الفنية وفي ذهنه البلاغة العربية...، ومن النقاد من يتناول هذا الموضوع تناولاً واسعاً مخلخلاً بحيث يجعله يتسع لكل ما يمكن أن يدور من كلام عن الأدب والشعر... إن الصورة الفنية أصبحت ككرة الثلج التي ما تزال تكبر وتتضخم حتى تستعصي على الحمل، فقد تجمع حول الصورة الفنية من المعاني والتفسيرات ووجهات النظر ما ينوء به الكاهل ويضيق عنه الفهم»[2].

     وفي النقد الغربي من يشكو مثل شكوانا، فيقرر أن الصورة والتصوير صارتا عبارتين غامضتين تستعملان في سياق التقريظ[3].

     وإذا أراد الدارس أن يجمع بين آراء النقاد ليصل إلى تحديد دقيق «للصورة الشعرية»، فإنه سيظل يضرب في التيه، وربما أصابته الحيرة لكثرة التفاسير وتناقضها وغرابتها، ولذلك فلنحاول أن نأخذ الأمر من أيسر طرقه وأقربها إلى الفهم والذوق العربيين، لنقول: إن الصورة الشعرية هي ما يلجأ إليه الشاعر للتعبير عما يريد، بعيداً عن المباشرة والتقرير والوصف الحرفي المنطقي للأشياء، مستفيداً من خياله الذي يضفيه على الموقف وقدرته على الجمع بين العناصر المختلفة زماناً ومكاناً وروابط، وتقديم ذلك في سياق متآلف يروع السامع ويبهره ويستبد بإعجابه. أما مصادر الصورة فهي الطبيعة بكل ما فيها وثقافة الشاعر التي يستمدها من التراث القديم والإبداع المعاصر، ثم يأتي تكوينها، ويكون بالاعتماد على الموهبة الأدبية والخيال المبدع والإحساس المتميز الذي ينفرد به الشاعر عن الناس. وذلك هو الأساس الأكبر الذي ينهض عليه بناء الصورة الشعرية، فهو الذي يقوم بالمهمة المطلوبة في تشكيلها عن طريق الجمع بين عناصرها المختلفة، المتسربة إلى الشاعر من مصادر متنوعة، وإعادة التأليف بينها لتصبح صورة للعالم الشعري الخاص بهذا الشاعر أو ذاك.

     وإذا كان مصدرا الشاعر في استقاء مواد صورته هما الطبيعة والثقافة؛ فإن ذلك لا يعني أنه ينقل عنهما نقلاً حرفياً مباشراً، وإنما هو يتجاوزهما إلى إضافته هو إلى الموقف، وهي إضافة تتكون من انفعاله واتجاه أفكاره ورغباته والجو العام الذي يتفاعل معه. ومعنى ذلك أن التشكيل الذي ينتهي إليه الشاعر في صورته الفنية قد لا يقوم بالضرورة على علاقات منطقية مفهومة يمكن ضبطها ضبطاً عقلياً دقيقاً، إنه قد يقوم على ذلك، ولكنه قد يقوم على تجاوز لهذه العلاقات وإبداع بدائل جديدة عنها، وبذلك يمكن القول: إن التعويل في النهاية ليس على مواد الطبيعة والثقافة، وإنما على قدرة الشاعر على التعامل مع هذه المواد والإضافة إليها، وهنا يتفاوت الشعراء وتتباين قدراتهم. ومن هنا يبدو لنا ما قاله الدكتور عز الدين إسماعيل منطقياً ومقبولاً، وذلك حين قرر أنه في «الصورة الشعرية يشكل الشاعر الزمان والمكان تشكيلاً نفسياً خاصاً يتفق وحالته الشعورية المسيطرة. إنه يقوم بعملية تكثيف للزمان والمكان، فإذا بالأشياء المتباعدة في زماننا ومكاننا تتقارب وتتشابك، وقد تتداخل في زمانه ومكانه، وليس لهذا التكثيف من سبب إلا أن بنية الصورة الشعورية إلى جانب كثافتها لا تجد من الواقع الطبيعي الصورة المقابلة المطابقة. ومن أجل هذا ينبغي في محاولتنا تذوق مثل هذه الصورة الشعورية ألا نحكم فيها النظر العقلي، لأن النظر العقلي سيرفضها منذ اللحظة الأولى ويحول دون إدراك الشعر فيها»[4].

     إن الشاعر يجد نفسه أمام مصادر كثيرة للصور، لكنه لا ينقل عنها نقلاً حرفياً، بل ينقل عنها من خلال اختياره وإضافته وتبديله وتجاهله لعلاقات بين مواد الصورة وبنائه لعلاقات أخرى. وهذا يعني «أن الصورة الشعرية في وضعها الأسمى ليست تعبيراً منتقى قصد به أن يدل على فكرة مجردة، حدد الشاعر معالمها سلفاً، ثم راح يتأمل تفاصيل الطبيعة من حوله ليختار أكثرها مناسبة لتصوير فكرته، ولكنها انبثاق تلقائي حر يفرض نفسه على الشاعر كتعبير وحيد عن لحظة نفسية انفعالية تريد أن تتجسد في حالة من الانسجام مع الطبيعة من حيث هي مصدرها البعيد الأغوار، وتنفرد عنها ربما إلى درجة التناقض والعبث بنظامها وقوانينها وعلاقاتها تأكيداً لوجودها الخاص ودلالتها الخاصة، وبحثاً عن صدق أعمق تتداخل فيه الذات والموضوع... إن الشاعر الموهوب يفكر بالصور»[5].

     وإن «مخاطبة الحواس والتمرد على الدلالة الحرفية، واكتشاف علاقة، وتحرك الخيال بين قطبين، وإدماج الحسي بالمجرد في شكل أو بناء موحد تملأ فيه الثغرة بين القطبين، تمثل أهم ما ينبغي أن يتحقق في الصورة الشعرية وفي الصور داخل البناء الشعري»[6]. والفنان لا يدرك الحقائق إدراكاً حسياً كما يدركها سائر الناس، ولا يدركها أيضاً إدراكاً عقلياً كما يدركها العلماء، إنما يدركها مصورة بخياله، ففيها من الأصل الحقيقي شيء أو أشياء، وفيها من خياله وانفعاله وأحلامه شيء أو أشياء، ومن هذا المزيج الذي يتشكل من الموضوع أصلاً ومن الذات إضافة تأتي الصورة التي يقدمها فناً حياً للناس.

     ولقد أشاد عبد القاهر الجرجاني إشادة رائعة بقدرة التصوير على تجسيم المجردات وتشخيص الماديات والجمع بين المتباعدات، وساق ذلك في أسلوب بياني بديع يقول فيه: «وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع بين المشئم والمعرق، وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهاً في الأشخاص الماثلة والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين»[7]. وهي لفتة نقدية ذكية تلتقي في مؤداها مع ما سبقت إليه الإشارة من طبيعة تعامل الفنان مع الحقائق وإدراكه إياها وامتزاجه بها وامتزاجها به.

     والفنان ذو العبقرية، كما يقول أحمد حسن الزيات: «ينظر ويشعر ويفكر ويقدر على طريقته الخاصة، فإذا وضع خطة أو رسم صورة أو بحث فكرة أخرجها على طراز فذ فتحسبها مبتكرة وقد تكون مطروقة، لأنه استطاع بقوة لحظه ولقانة طبعه أن يريك فروقاً لم ترها، ويقفك على تفاصيل لم تتصورها»[8].

     إن قول الزيات بديع في التفريق بين الفنان العبقري وسواه، ولكن الأبدع منه قول العقاد وهو يجيل ذهنه المتوقد في الخصائص التي ترفع الفنان إلى آفاق العبقرية، وذلك خلال حديثه عن ابن الرومي حيث يقول: «فالمسافة عظيمة جداً بين شاعر يصف لك ما رآه كما قد تراه المرآة أو المصورة الشمسية، وشاعر يصف لك ما رآه وشعر به وتخيله وأجاله في روعه وجعله جزءاً من حياته، وليس يعنيك أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعاً على المرئيات المتشابهة ليتصل ما بينك وبينه، ويقترب وجدانك من وجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون إنساناً حياً يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها وتلك مزية ابن الرومي»[9].

     وإذن فالصورة الشعرية أياً كان مصدرها ترتبط في النهاية «بتجربة الشاعر، تجسد فكرة أو عاطفة، وذات صلة قوية بالمشاعر التي تسيطر على القصيدة، وتصبح جزءاً منها، وتتآزر مع بقية الأجزاء الأخرى لتنقل إلينا التجربة كاملة، ويقوم الخيال بالدور الأساسي في تشكيلها، يلتقطها ببراعة من مشاهدات الواقع، وملابسات الحياة اليومية، أو يرتفع بها عن الحوادث العادية فيستمدها من مناظر الطبيعة، ومهابط الجمال الرفيعة، ويمزج بين عناصرها المختلفة فتجيء خلقاً جديداً يختلف في طبيعته وخواصه عن العناصر الأولية التي تألف منها. فالمهمة الأولى، والأشد بساطة لدور الصورة الشعرية أن تجسد ما هو تجريدي وأن تعطيه شكلاً حسياً. وجانب كبير من هذه الصور يقوم على أسس بلاغية، من تشبيه واستعارة، ومجاز وكناية، ومن تقديم وتأخير، وفصل ووصل، إلا أن ذلك ليس شرطاً فيها، فقد تجيء رسماً لموقف نفسي أخاذ في ألفاظ ذات دلالة حقيقية لا تنطوي على شيء من مقومات البلاغة التقليدية»[10].

     وكما ترتبط الصورة الشعرية بتجربة الشاعر ترتبط بخياله، فكلما كان هذا الخيال قادراً ومحلقاً ومولداً كانت صور صاحبه أغنى وأروع، ذلك أن «أدوات الفنان فطرية ومكتسبة، ويجيء الخيال في مقدمة المواهب الفطرية، ويلعب دوراً جوهرياً في الإبداع أياً كان لونه، فهو الذي يعطي الأفكار المبهمة الشكل والكثافة التي تكون بذرة العمل الأولى، وبقدر ما يكون الخيال حراً ومنطلقاً في مجال الممارسة يجيء إنتاج الفنان أصيلاً ومبتكراً»[11].

     والتجربة من ناحية، والخيال من ناحية، بحاجة إلى القدرة على الانفعال الذي يثير قدرة الشاعر على الاستقبال وعلى الإرسال، وعلى جمع الرحيق من الزهور، وعلى تخميره في معمله الخاص ليرسله بعد ذلك شهداً صنعه بنفسه. إن «الإحساس أيضاً موهبة مهمة للغاية وبقدر رفاهته وصفائه في استقبال التأثيرات الخارجية والقدرة على الانفعال بها، يكون مستوى الإبداع وجودته. ومن لا ينفعل أمام الجمال من الصعب جداً أن يجعل منه مادة لعمل فني أو يستطيع التعبير عنه، والمثل الشهير الذي أرسله هوراس لم يفقد شيئاً من جدته: إذا أردت أن تبكيني فعليك أن تتألم أنت نفسك أولاً»[12].

     وإحساس الشاعر هو الذي يجعله يتعامل مع عناصر الوجود تعامله الخاص حيث يراه كما يخيل إليه لا كما هو في الواقع، ويصنع من هذه الرؤية صوره، ولذلك يصفه بعض الناس أحياناً باضطراب الذهن وجنون الربط وخلل الاتزان في إدراك حقيقة العلاقات بين هذه العناصر، وهم حين يفعلون ذلك يظلمونه، فهو لا يتعامل مع الوقائع مثل تعاملهم التسجيلي الراصد، بل يتعامل معها من خلال رؤيته الذاتية لها، ولذلك يمكن القول: «إن الصورة الفنية تركيبة عقلية تنتمي في جوهرها إلى عالم الفكرة أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع»[13].

     يبقى علينا أن نحذر بشدة من خطورة النظر العقلي الصارم للصورة، لأنه يحيلها إلى تعريفات وقواعد جامدة وينقلها إلى جفاف وبرود يذكران الدارس بأجواء المختبرات العلمية، وهذا ما وقع فيه النقاد العرب القدامى الذين لا يكاد يخرج تحليلهم للصور؛ «في أغلب الأحيان عن النظر العقلي، وإخضاع ما يبدع النشاط التخيلي لقوالب منطقية محكمة ينم عليها معجم اصطلاحي يدور على الاستدلال والتخييل المعلل وغير المعلل، والاستعارة المفيدة وغير المفيدة، والمجاز اللغوي والمشترك، وإثبات ما ليس بثابت»[14]. وإن النقاد القدماء جعلوا «مفهوم الصورة قائماً على تفكير ذهني منطقي يلغي الجانب النفسي الذاتي في عملية الإبداع الفني، وهذا من آثار الثقافة اليونانية، فقد كانت بلاغة اليونان مقترنة بالجدل والإقناع، كما يظهر من كتاب الخطابة لأرسطو الذي ترجمه العرب منذ زمن مبكر، ولهذا كان المتكلم يراعي حال السامع ليقنعه بالفكرة، ولكن هذا لا يصلح أن يكون مقياساً للصورة الأدبية أو الإبداع الفني المثير، فالأديب حين يبدع الأثر الأدبي لا يكون في ذهنه حال المتلقي فحسب، ولكنه يجمع إلى هذا اهتماماً بالغاً بأداء ما في نفسه وتجسيد مشاعره وانفعالاته بألفاظ وإيقاع وصور. والطريقة التقليدية التي سلكها قدماء العرب من النقاد في تحليلهم للصور البلاغية، وهي تقطيع الصورة إلى أجزاء من غير نفوذ إلى روحها لإدراك قيمتها الحقيقية، هذه الطريقة لابد أن نتجاوزها اليوم لنعيد إلى الصورة البلاغية روحها التي لا تكون صورة أدبية بغيرها، فإذا فقدتها فقدت قيمتها وغدت صورة بلا حياة أو إيحاء»[15].

     وإذ يأخذ الدكتور ساعي على القدماء نظرهم المنطقي الجاف إلى الصورة، يعلي من مكانتها في الشعر ويقدمها على ما سواها، يقول: «وإذا اتجه القدماء في دراستهم لعنصر الخيال إلى الشعر بشكل خاص فلأن الشعر هو المجال الأرحب للعاطفة، والخيال هو وسيلة إبراز العاطفة وإثارتها في النفوس، إذ يقلب المجردات إلى مرئيات، والصورة أشد العناصر المحسوسة تأثيراً في النفس وأقدرها على تثبيت الفكرة والإحساس بها»[16]، بل إنه يجعل أثرها أبقى من أثر الموسيقى. «ويمكننا القول: إن الموسيقى هي توأم الخيال في إثارتها للعاطفة، ولكن أثرها مؤقت لا يلبث أن يزول مع زوالها من صفحة الذهن، أما الخيال فأثره دائم دوام الصورة في ذاكرة القارئ أو السامع، فالصورة وسيلة لتثبيت الآثار العاطفية للشعر أو الأدب في نفوسنا، أما الموسيقى فيزول أثرها من النفس بسرعة، وكذلك الأصوات المختلفة والألفاظ الموحية أو المثيرة للانفعالات»[17].

     لقد كانت الصورة وستظل من أهم أدوات الشاعر في نقل تجربته إلينا، ويقاس نجاحها بمدى قدرتها على تأدية هذه المهمة، فكلما استطاعت أن تجعلنا ألصق بالشاعر وأعرف بتجربته وأكثر تواصلاً معه، كان ذلك دليلاً على قدرتها وبالتالي على قدرة صاحبها.

     والخيال عماد الصورة؛ فهو الذي يجمع شتاتها وجزئياتها ويركبها ويضعها أمامنا خلقاً سوياً، لذلك يمكن أن يوصف بأنه «قوة تركيب الصور، يقوم الخيال بتركيب الصور من هذه الجزئيات المتنافرة في هذه الحنايا، وهي أخطر العمليات التي نسميها بعملية الكمون أو الاختمار، وتطول طول معايشة الشاعر لهذه التجربة وطول تأمله فيها وطول انفعاله بها كلما طالت المعايشة، وهي أشبه بأحلام اليقظة والاستغراق الكامل فيها، فيقوم الخيال بعملية تركيب الصور وهكذا تتخلق الصورة»[18].

     ولما كان الشاعر يخاطب الإنسان عقلاً وروحاً ووجداناً، خلافاً للعالم الذي يخاطب العقل فقط، كان أشد حاجة للتصوير الذي يتعامل مع جميع أبعاد النفس الإنسانية، ذلك أن «التعبير الذي يلقي المعنى مجرداً يخاطب الذهن وحده، والتعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلالاً يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال، وطبيعي أن الطريقة الثانية، أقرب إلى طبيعة الفنون، وأن الطريقة الأولى أقرب إلى طبيعة العلوم»[19].

     وسيظل التصوير ميداناً كبيراً لاختبار قدرات الشعراء، وتمايزهم وسعة اتصالهم بالمجرد والمحسوس والربط بينهما، والتعامل البسيط والمركب مع ما تلتقطه خيالاتهم.

     إن التصوير «عرض شيء أو فكرة عن طريق الإشارة إلى شيء آخر بحيث يصبح الشيء الأصلي مرتبطاً به في خيال الكاتب، أو التعبير عن الأفكار عن طريق الصور الذهنية. بما أن شخصية الفنان هي تركيب من كل ما عرفه ورآه وأحس به وفكر به فإن من الطبيعي أن يسجل الانطباع الذي هو شيء جديد أو موضوع جديد بالاستناد إلى خبرته السابقة. ويتصف كل عقل شاعري حقيقي بأنه يرى الأشياء بطرق جديدة ويحولها إلى أشكال، ويجد علاقات جديدة بين ما هو تجريدي وما هو محسوس، ويتفاوت ابتكار الصور من أبسط استعمالات التشبيه والتشخيص إلى أعقد أشكال المجاز (Metaphor) والرمزية (Symbolism) غير أن أفضل أنواع الصور سواء أكانت بسيطة أو مركبة، وسواء استخدمت في الشعر أو النثر هي ما يضيء ويغني الموضوع إلى الحد الذي يجعل الربط شيئاً حتمياً، وبحيث يظهر المعنى العميق المخبوء للفكرة المطروحة»[20].
❊ ❊ ❊

     ولقد شكلت الصورة الشعرية دعامة أساسية من دعائم البنية الفنية عند عمر أبو ريشة، مثلها مثل الوحدة العضوية، وبيت المفاجأة، وقد مر الحديث عنهما من قبل، والموسيقى التي سيأتي الحديث عنها من بعد. والحديث عن صور عمر أبو ريشة حديث واسع، ولكن علينا أن نعتمد فيه على ديوانه قبل كل شيء.

     وإذا كان عطاء الشاعر المبدع يتكون من الخصائص الذاتية ابتداء «الموهبة»، ومن الخصائص الأخرى المكتسبة «الثقافة» فإن التعويل بعد ذلك كله على قدرته على الهضم والتمثل والاختزان، ثم الإضافة التي تأتي نتيجة ذلك. ويبدو أن عمر أبو ريشة نموذج حي لذلك، فهو صاحب موهبة بادئ ذي بدء، ثم هو صاحب عزم على التفوق الشعري، مقترن بالدأب والمعاناة والصبر والتفاعل، ثم هو قارئ للشعر العربي وغير العربي، ومسافر جواب، وذو علاقات واسعة وظروف مواتية، الأمر الذي جعله كالنحلة تشتار زهوراً كثيرة لكنها في النهاية تجود بعطائها الخاص، وهكذا كان عمر أبو ريشة. لقد استوعب كل ما مر به واختزنه في أعماقه وصهره وأخرجه في النهاية جزءاً من ذاته، وملمحاً من ملامحه، وخاصية من خصائصه. وقد انتفع من ذلك أحسن انتفاع في تصويره المحلق ذلك أنه أدرك أن التعبير المباشر التقريري في الشعر ينال من قيمته الفنية، ويفقده كل عوامل الإثارة والتوهج والتأثير، لذلك ركز على التصوير وعني به وحشد له كل طاقته لأنه رأى فيه أداة جمالية غير مباشرة لها قيمتها الفنية المقررة. إن الصورة ليست «شيئاً جديداً فإن الشعر قائم على الصورة منذ أن وجد حتى اليوم، ولكن استخدام الصورة يختلف بين شاعر وآخر، كما أن الشعر الحديث يختلف عن الشعر القديم في طريقة استخدامه للصور»[21]، وسنقف الآن عند نماذج من شعر عمر أبو ريشة لنتبين منها كيف تعامل مع الصورة الفنية ولنختبر صحة هذه الأحكام النقدية.
❊ ❊ ❊

* إن الصورة المكثفة، من أهم ما امتلكه عمر أبو ريشة، ونقصد بها تلك الصورة التي توجز الكثير في القليل، والتي تومض كأنها لمحة برق لكنها تدعُك مأخوذاً مسلوباً، إنها جرعة مركزة لكن مفعولها كبير وغني، وهذا اللون من التكثيف يحظى بإشادة النقد الذي يرفعه ويعليه، يقول الأستاذ سيد قطب: «يحسن أن يكون التعبير الشعري مجملاً لا مفصلاً بحيث يريك جانباً من المعنى أو الصورة، ثم يدع لذهنك أن يستلهم بقيتها، ويترك لخيالك أن ينطلق فيكمل ذلك الجانب من الصورة، حتى لا يأخذ على خاطرك الطريق، ولا يقف به أمام التعبير المسهب المبسوط. وهذه ميزة الشعر على النثر، ولعل هذه الميزة مستمدة من طبيعة الشعر الذي يخاطب العواطف المبهمة أكثر مما يخاطب الفكر المحدود، العاطفة التي لا تعرف القيود ولا التحديد»[22].

     يقول أبو ريشة في قصيدته «خالد» وهو يبكي حالة أمته؛ كيف كانت وكيف آلت:

أنا من أمة أفاقت على العز وأغفت مغــموسة في الهوان
عرشها الرث من حراب المغيرين وأعلامها من الأكفان
والأماني التي استــماتت عليها واجمات، تكلمي يا أماني

     هذه الأبيات ثلاثة، لكنها أوجزت وركزت ولخصت دون استرسال أو إطالة، إن الأمة كانت في صحوها ترفل في ثياب العز بكل ما يثيره الصحو من معاني التوثب واليقظة والأمل والطموح، وبكل ما يثيره العز من معاني الغلبة والتفوق والسيادة والتمكن، ثم صارت في غفوة جعلتها تغمس في الهوان غمساً بكل ما تثيره الغفوة من معاني العجز والكسل واليأس والتراجع، وبكل ما يثيره الانغماس في الهوان من معاني السخرية المرة وسوء المصير. وهذا كله يتم في بيت واحد، تعظم فيه المفارقة بين شطريه.

     والبيت الثاني موجع في السخرية الدالة على بؤس الأمة التي نرى عرشها رثاً بالياً، أما حراب العدو المغير فقد أحدقت به، وأما أعلامها فهي من الأكفان، والمفارقة الساخرة كبيرة جداً، فالعلم عادة رمز للقوة والرفعة والاجتماع والحياة بكل دواعيها، لكنه صنع هنا من الأكفان بكل ما تحمله الأكفان من دلالات الخمود والفناء والصمت وما إلى ذلك.

في البيت الثالث نرى أماني الأمة وهي واجمة، وهي صورة في غاية الدقة والأداء، ذلك أن العهد بالأماني أنها أمل وبشر ومرح وانطلاق، لكنها هنا واجمة خرساء بسبب سوء أحوال الأمة التي فرضت عليها ذلك، والشاعر يناديها أن تتكلم، وأنى لها ذلك؟

     ومن الصور الموحية المكثفة في هذه القصيدة قول الشاعر يصور خالداً وهو في قمة مجده بعد الانتصارات الكبرى التي أجراها الله على يديه:

سمر الغيد في الليالي الكســـالى     وهوى الصيد في الزحام العوان

     والبيت مكثف جداً، غني جداً، دال جداً، لقد صار خالد حديث النسوة في سمرهن حيث تتخيله كل واحدة منهن فارس أحلامها، وسمرهن هذا ممتد متطاول لا داعي فيه للعجلة والسرعة، بل المطلوب فيه الإطالة، الإطالة التي تشي بالرغبات الخفية أو الظاهرة، وهو ما تؤديه تماماً عبارة الشاعر «الليالي الكسالى». إنها ليال ممتدة متطاولة ملأى بالحديث الشهي عن الفارس الذي ملأ على كل حسناء أحلامها.

     وإذا كنا قد فزنا من الشطر الأول بهذه الصورة، فالشطر الثاني ينقلنا نقلة رائعة إلى صورة أخرى مقابله لها، فنجد أنفسنا في عالم القتل والقتال، بكل ما يضج فيه من أهوال وكوارث تجعل الأبطال الصيد يجدون في خالد الملجأ والملاذ، فإذا كان خالد هوى النسوة في السمر فإنه هوى الرجال في الخطر. ومن هذا الهوى وذاك نعرف الشهرة الهائلة التي أدركها الفاتح البطل من خلال بيت واحد.

     ومن الصور المكثفة الغنية في القصيدة نفسها قول الشاعر يصور انتصارات خالد في بيت واحد:

أينما حل فالمآذن ترجيـ     ـع أذان المهيمن الديــان

     في هذا البيت لم يحدثنا عمر أبو ريشة عن انتصارات خالد الهائلة، ولم يذكر لنا الجيوش والقادة والوقائع، ولم يصور الملاحم، بل اكتفى بأن أخبرنا أن حلول خالد في أي مكان يعني انتصار الإسلام، ونحن نرى هذا الانتصار في المئذنة والأذان، بكل ما يرتبط بهما من غلبة الإسلام وامتداد ساحته، وبكل ما يقتضيه ذلك من زوال ما يعاديه من أديان وسقوط ما يواجهه من طغاة.

     وفي قصيدته «بعد النكبة»، وهي قصيدة وطنية عاصفة قالها في أعقاب نكبة العرب والمسلمين في فلسطين عام 1948م، وهي من أشهر شعره وأسْيره، يقول عمر أبو ريشة هذين البيتين:

رب وا معتصماه انطلقت     ملء أفـــواه البنات اليــتم
لامست أســـماعهم لكنـها     لم تلامس نخوة المعتصم

     وهذان البيتان الرائعان، هما في غاية الغنى والثراء والتركيز. ونحن فيهما إزاء كارثة يقتل فيها الرجال، وتبقى الفتيات اليتيمات محزونات يتساءلن عن نجدة مثل نجدة المعتصم يوم لُطِمَتْ امرأة هاشمية في أقصى بلاد المسلمين فصرخت «وا معتصماه»، فبلغ الخبر المعتصم، فقاد جيشاً مشى على رأسه من بغداد إلى عمورية، وحقق نصراً كبيراً، وأخذ بثأر المرأة المعتدى عليها. وجاء شاعر كبير كأبي تمام ليخلد هذه الواقعة في قصيدة شهيرة سكنت وجدان العرب حيث كانوا، وهذا كله تستدعيه «وا معتصماه»، فتثير في النفس دواعي الفخر والاعتزاز، لكن هذه الصرخة إذ تنطلق اليوم من أفواه الكثير من الفتيات اليتيمات، يقود صداها إلى العكس؛ يقود إلى الإحساس بالعار والعجز، والسخرية المرة من المتسلطين على رقاب العباد الذين لامست الصرخة أسماعهم لكنها لم تجد فيهم نخوة كنخوة المعتصم تحملهم على الثأر والغضب.

     وبهذا يمكن القول: إن هذين البيتين حافلان غنيان جداً، فيهما الوطنية الغاضبة، وفيهما السخرية المرة، وفيهما الاستدعاء التاريخي الموفق، وفيهما إثارة الحمية، وفيهما النقمة على العجز والعاجزين، وفيهما المقارنة بين حال وحال، وفيهما قدرة الشاعر على إظهار التضاد الصارخ بين صورتين الصورة المشرقة التي تتجلى في موقف المعتصم، والصورة المعتمة التي تعكس التخاذل والخنوع. ومن أطرف أبيات الشاعر في هذه القصيدة وأغناها، قوله:

أمتي كم صنـــــم مجّدتــه     لم يكن يحمل طهر الصنم

     وهي صورة مكثفة جداً نرى الأمة تجثو فيها بين يدي أصنام الطغاة بكل ما يحمله ذلك من معاني الجهل والغفلة والخسران واللوم أيضاً، وهذا كله نجده في الشطر الأول من البيت، أما الشطر الثاني فينقلنا نقلة بعيدة تزيدنا حزناً ومرارة وأسفاً حين نعلم أن هؤلاء الطغاة أقل من الأصنام شأناً وأهون.

     وهذا النوع من الصور المكثفة عند عمر أبو ريشة كثير، والتوقف عند كل واحدة منها يطيل الحديث ويجعله نمطياً مكرراً، ولعل الإشارة تكفي. فمن الصور المكثفة قوله في قصيدته «هكذا» يصور فيها ترف الثري الفاجر وسفاهته، وهو يقول لعشيقته:

أختـــك الشقراء مدت كفها     فاكتسى من كل نجم إصبع

     وقوله يخاطب الأخطل الصغير في قصيدته «حكاية سمار» مصوراً تزاحم الذكريات عليه:

الذكريات على الزحام تدافعت     فكــأنهن لديك سرب ضــرائر
فــلأيها تومي براحة تـــــائب     ولأيهـــا ترنو بمقـــلة غــــافر

     وقوله في قصيدة «الفارس» التي رثى فيها صديقه إميل البستاني، يصور اقتران المجد بالبطولة والتفوق بالإقدام:

صهوة المجد ما امتطاها جبان     كل نجــــم عشـــــاقه أنــــداده

     وقوله في القصيدة نفسها يصور كرم المرثي الذي لم يحجزه عن الكرم ما سببه له جوده من أحقاد في زمان ساءت فيه الناس وقل وفاؤها:

دأبك الوهب ما ثناك عن الوهـ     ـب، زمان هبـــــــاته أحقــــاده

     ومن أروع صور الشاعر المكثفة، مطلع قصيدته الشهيرة «بنات الشاعر» التي قالها في رثاء الأخطل الصغير:

نديك السمح لم يخنــــق له وتر     ولم يغب عن حواشي ليله سمر

     وقوله في القصيدة نفسها يصور الإباء ومغالبة المحن والكوارث:

فكم عثرنا ولم تعثــر إباءتنــــا     وكم نهضنا ولم يشمت بنا خور

     وقوله يطالب الأخطل الصغير بلقاء يبل الشوق وإن كان مختصراً:

وما عليـك إذا ما الزورة اختُصرت     بعضُ الربيع ببعض العطر يُختصر

     وأبلغ من هذا وذاك قوله في القصيدة نفسها ساخراً من الطغاة:

إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبـوا     أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العــار أن يمحى فكان لهم     على الربـــاط لدعم العـــــار مؤتمــر

     ومن الصور المكثفة الغنية قوله في قصيدته «في طائرة» يصف فيها جمال رفيقته الإسبانية الحسناء التي لقيها في الطائرة:

طلعة ريــــا وشيء بـــاهر     أجمال جل أن يسمى جمالا

     وقوله في ختام قصيدته «يا عيد»:

سينجلي ليلنا عن فجر معترك     ونحن في فمه المشبوب تغريد

     وقوله في قصيدته «معبد كاجوراو» مصوراً جمال إحدى النسوة:

وتجمعت فانهل نسريـ     ـن وأورق أقحــــــوان

     وقوله في ختام قصيدته «طلل» مصوراً عجز الموت والفناء أمام بقايا الطلل:

هنا ينفض الوهم أشباحه     وينتحر الموت في يأسـه

     وقوله مصوراً ذكريات لهوه مع رفاقه في لبنان في قصيدته «لبنان»:

ولنـــا في كل نـــــاد سمر    عـكف حول أمان شـــرد
رددت ما ذاع منـا فانثنت     في روابيك نشاوى سؤدد

     وقوله مصوراً النسر وقد أحاق به الوهن بعد مجد طويل، في قصيدته «نسر»:

نســــل الوهن مخـــلبيه وأدمت     منـكبيـــه عواصف المقـــــدور
والوقـــار الذي يشيـــع عليــــه     فضلة الإرث من سحيق الدهور

     ويخاطب عمر أبو ريشة روضة موحشة مقفرة كانت ملأى بالحياة والصخب، فيقول لها في قصيدته «الروضة الجائعة»:

فأصبحت خلف جبين الحيا     ة وأحلامها فكرة مضــمرة

     ويبرع الشاعر في تصوير بقايا ذكرياته بعد شجون مرت به، فيقول في قصيدته «وبقايا ذكرياتي»:

أمنياتي ذهب الماضي بها     وخيـــالاتي طواها العــدم
وبقايــــا ذكريـــاتي تعبت     فهي لا تبــــكي ولا تبتسم

     ويصور الشاعر في قصيدته «دليلة» تصويراً بديعاً لحظة انهيار الحجاب المانع من الوصل بين العاشقين:

وتهاوى ما بيننا من حجــاب     فانتشى جدول ورفت خميـلةْ
وأطل الصباح نشوان يروي     عن هوانـــا هديره وهديـــلهْ

     ونلقى مثل هذا التصوير في هذا البيت الغني المركز في قصيدته «غصن»:

آن للنعـــش الذي أودعته     كل أشلاء الصبا أن يدفنا

     وفي هذا البيت الذي يأتي في ختام قصيدته «أيام»:

ما كان أغرب كل أخيلتي     الحب مات ولم أزل أحيـا

     وفي هذا البيت في قصيدته «غريبان»:

حدثيني عن أمانينـــــا التي     تزحم الأفق وتغزو الأنجما

     وفي هذين البيتين من قصيدته «لا تندمي»:

لا تنـــدمي يا أخت لا تنــــــدمي     ما زال بعض الطيب في الموسم
ولم تــــــزالي في ســـماع الدنى     أشهى أغاني الشـــــــاعر الملهم

     ومن أروع صوره المكثفة وأغناها قوله في قصيدته «البرعم الأخضر» يخاطب إحداهن:

مفــاتن ريا الجــــمال الحيـــي     مجنـــحة بالهــــوى المبـــــكر
وأنت عليها انفــلات الحبيــس     من الطيب في البرعم الأخضر

     ومنها هذا البيت الغني الذي يصور البطولة والفداء أحسن تصوير في قصيدته «الصليب الأحمر»:

تقضي البطولة أن نمد جسومنا     جسراً فقل لرفـــاقنا أن يعبـروا

     وهذا البيت الفريد الغني في قصيدته «قيود»:

نوح المآذن ما يزال بمسمعي     تدوي به الآصال والأسحـــار

     وهذان البيتان البديعان من قصيدته السابقة نفسها يصور فيهما اعتداده وإباءه وتعاليه قالهما يخاطب إبراهيم هنانو الوطني السوري الشهير:

أنا عند عهـــدك لا تلين شكيمتي     كلا ولا يعــــزى إلي عثــــــــار
لا عشت في زهو الشباب منعماً     إن نــــال من زهو الشباب العار

     وأروع من ذلك هذان البيتان اللذان يذكراننا بروح أبي فراس والمتنبي والبارودي، واللذان كانا ختاماً رائعاً لقصيدته «كبرياء»:

لنا كبــرنا كم طال في التيه دربنا     وكم نفضت أقدامنـــا من غبــاره
وقوفاً يرانا الموت نخفي جراحنا     وليس يرانـــا ركعاً في انتظــاره

     وفي قصيدته «عودة المغترب» نجد هذين البيتين الرائعين المكثفين يصور فيهما طاغية قاتلاً سفاحاً:

سكيــــنه في شدقــــه ولعــــابه     يجري على ذكر الفريسة مزبدا
ما كان هولاكــو ولا أشبــــاهه     بأضل أفئـــدة وأقــــسى أكبـــدا

     والصورة في غاية الغنى، حيث نجد السكين في فم الطاغية، وشهوة البطش بلعابها المزبد، مما يجعلنا نرى في الطاغية نسخة من هولاكو بكل ضلاله وقسوته ووحشيته.

     هذه النماذج تدل على قدرة الشاعر على التكثيف الذي يحشد الكثير في القليل، والذي يختزل المدى الواسع في حيز صغير، ثم يدعك تتعامل معه تعاملاً مباشراً فتظل مأخوذاً وتظل قادراً على تأمل الصورة واكتشاف ما فيها شيئاً بعد شيء، فكأنها إذ تستأثر باهتمامك تظل قادرة على الإيحاء. يقول الدكتور أحمد البراء الأميري: «لقد كان من أبرع ما امتاز به أبو ريشة في شعره صوره الفنية التي توجز أحياناً وتركز في بيت أو بيتين، وهي صور تحتاج إلى أن يقرأها الإنسان عدة مرات متلاحقات أو متباعدات، وفي كل مرة يكتشف معنى جديداً وعمقاً جديداً، فقد درس الشاعر الكيمياء الصباغية في إنجلترا ليحول علم صباغة الأشياء إلى فن صباغة الكلمات والصور»[23].
❊ ❊ ❊

* أما الصورة المشهد أو اللوحة فلها عند الشاعر شأن مهم، وهي من مجالات تفوقه وإبداعه، وتكثر اللوحات الفنية في شعره كثرة مفرطة، حملت دارساً مثل الأستاذ أحمد الجندي على أن يقرر أن القصيدة عند الشاعر لوحات لا أبيات، بل حملته على أن يجعل منه المجدد الأول في الشعر العربي من هذه الناحية[24]، وحملت الدكتور شوقي ضيف على أن يقول: «إننا ما نزال نرى مشاهد رائعة عند هذا الشاعر الذي تشبه قصائده الطويلة أدق الشبه السياحات الكبيرة، ونقصد سياحات الخيال، وهي سياحات تملؤنا بالمتعة»[25].

     من هذه اللوحات البديعة قوله في رثاء صديقه الموسيقار كميل شمبير في قصيدته «مصرع الفنان»:

إنما لم تــزل رفـــاق ليــــــــــاليـ     ـــه، كــراماً على عهــــود وداده
تجـــمع الكــــأس شملهم فيخــــلو     ن، فراغ اتـكـــــائه واستنــــــاده
كـلـــما مر ذكره قـلبـــوا الكــــــأ     س، على الأرض حسرة لافتقاده

     وهي لوحة بديعة يقل مثيلها في الشعر العربي، نرى فيها الرفاق بعد غياب صديقهم ما يزالون يتلاقون على جلسات خلا مكانه فيها، لكن حضوره في نفوسهم يجعلهم يتوهمون أنه ربما يأتي عن قريب، فيتركون له مكانه فارغاً ليحتله إذا جاء، فإذا فاجأتهم الحقيقة بما يكرهون حزنوا وتحسروا وقلبوا الكأس على الأرض في مرارة وأسى.

     وتكثر في هذه القصيدة بالذات لوحات الشاعر، ومنها هذه اللوحة التي يصور فيها بؤس الموسيقار الفنان في عالم لا يقدر مواهبه:

مل دنيــاه بعدما سئـــــم السيـ      ر، عليها وضــاق في بـــلوائه
مورد الفن مظــلم لم يصــوبْ     فوقه الشرق مشعلاً من ضيائه
ســـار فيه وظلمة اليأس تطفي     تحت أنفــــاسها شموع رجائه
والصخور الجسام نـاتئة الأنــ      ـياب، تدمي أقدامه وهو تــائه
ورؤوس الأشــواك ترتد عنـه     وعليها ممــــزق من ردائــــه
والأفـاعي تفح من كل صـوب     نازعات إلى امتصاص دمائه
والأمـاني أمـــام عينيه أطيـــا     ف، سراب تموج في بيـــدائـه
فحنى رأســـه الكئيـــب وألقى     بعصـــاه وضـــج في بأســائه
وانثـــنى عائداً يشيّــع حلــــماً     يتـــلاشى من مقلتي نعمــــائه
عودة الثـــاكل الحزين وقد نفْـ     ـفَض، كفيه من ثـرى أبنــــائه

     وهذه اللوحة فريدة متكاملة صور فيها بؤس الفنان تصويراً حياً ناطقاً، لقد مل دنياه واستبد به السأم إذ لم يجد من يقدر موهبته فسار في طريقه الموحش الذي أطفأت ظلماته شموع الرجاء والذي تهجم عليه الصخور الناتئة الصماء لتدمي قدميه وهو يخبط في التيه، أما الأشواك فإنها تمزق رداءه، وأما الأفاعي فلها فحيح رهيب يأتيه من كل صوب، لذلك لا غرابة أن وجدناه يحني رأسه كئيباً بائساً ويعود وقد دفن أحلامه عودة المحزون المثقل المرزأ الذي دفن أبناءه لتوه وعاد من المقبرة وهو ذاهل ثاكل.

     وتأتي اللوحة التالية في القصيدة لتصور لنا الفنان الخائب العاثر بعد أن ضاق به كل شيء، فمضى إلى الحانة الحمراء يتوهم أنه يداوي همومه، وهو يزداد في الحقيقة انهياراً وينتحر انتحاراً، وهذه اللوحة مكملة لأختها السابقة ونتيجة لها، هي مشهد يعز نظيره:

ضاق في وجهه الفضاء وما في    قوســه نبــــلة لصون كيـــــــانه
فحوته في صدرها الحانة الحمـ     ــراء، خوفاً عليه من أحزانــــه
فتغـــنى بعطـــفها وحبــــــــاها     بالشهي الفتــــان من ألحــــــانه
وهــوى ينحــــر الـكــآبة نحـراً     بين نعــمى أوتـــاره وحســــانه
وانبـــرى يـكـــرع المدامة حتى    هرئـــت لـثتـــــاه عن أسنـــــانه
ويعـــب الدخـان حتى استحـالت    رئـتــــــاه مجـــامراً لدخــــــانه
خالعـــاً معطــف الوقــار مكبــاً     فـوق أهوائــــه طليـق عنـــــانه
لا تـلومـــوه في ضلال خطـــاه     رب رجس الطهر من أركـــانه

     هذه اللوحة تصور الانتحار الذي يلجأ إليه الفنان متوهماً فيه الخلاص. واللوحة تصوره لنا في الحانة بعد أن تداعت كل آماله، ولم يبق في وسعه مجال لعراك الأحزان، ويمنح المسكين حانته ومن فيها عصارة فنه، ويسرف في الخمرة حتى تتمزق لثته وتكشف عن أسنانه المهترئة، ويضيف إلى إسرافه في الخمرة إسرافاً آخر في الدخان فيعب منه حتى تصير رئتاه مجمرتين، ويمضي المسكين في رجسه وخطاه طليق العنان نابذاً الوقار.

     ومن أروع لوحات الشاعر مشهد الغروب في قصيدته «شاعر وشاعر» التي ألقاها عام 1935م في الجامعة السورية بدمشق في المهرجان الألفي لأبي الطيب المتنبي، وهو يمضي على هذا النحو:

مأتم الشمس ضج في كبـــد الأفــ     ــق وأهـــوى بطعنـــة نجـــــلاء
عصبت أرؤس الروابي الحزانى     بعصـــاب من جامدات الدمـــــاء
فأطــلت من خدرهـا غـــادة الليــ     ــل، وتاهت في ميسة الخيــــلاء
وأكبــــت تحل ذاك العصاب الـــ     أرجـــواني بالـيــــد الســــــمراء
وذؤابــــات شعــــرها تتــــرامى     في فسـيــح الآفــــاق والأجـــواء
وعيـــون الســـماء ترنــو إليــهـا     من شقـــوق المــلاءة الســــوداء
فـــإذا الـكـون لجـــة من جــــلال     فجــرتهـا أنــــامل الظـلمــــــــاء
يرسب الطرف في مداها ويطفـو     ثــم يرتـــد فاقـــــد الارتـــــــواء
فتطل الأشبــــاح من كــوة الوهـ     ـم، وتعـوي مجنونة في العـــراء
وتموج الأصــداء من زفـرة الأر     ض بـــأذن المهـــابة الصمـــــاء
صور أفـرغت على أذن الشـــــا     عــر نجـــوى علوية الإيحــــــاء

     والأبيات لوحة متكاملة الخطوط والألوان والظلال، كل ما فيها يكمل بعضه ويتمه، فلا نجد أنفسنا إزاء أبيات مفردة، بل إزاء أبيات مترابطة متراصة يؤدي كل منها دوره في تشييد اللوحة وإظهارها.

     ونحن في اللوحة أمام شمس تموت فيكون مأتمها الحزين عويلاً في الآفاق، أما حمرة الشفق فهي دم يعصب ذوائب الروابي المحزونة، وحين تطل غادة الليل تأبى إلا أن تجهز على هذه الحمرة، فتتقدم بيدها السمراء التي ما تلبث أن تصير سوداء مع اشتداد الظلام لتأتي عليها، فإذا بالكون قد غشيه من السواد جلال ورهبة، تعيث فيه الأوهام، وتمشي فيه الأشباح، ويشيع الصمت المهيب والسكون الثقيل.

     ويمضي عمر أبو ريشة ليقدم لنا أبا الطيب في لوحة متكاملة حية:

هكذا استعرض الوجود ملياً في غضون الإصباح والإمســاء
في اختلاج البروق في قهقهات الرَّعد في صاخب من الدأماء
في ابتسام الرياض في هدأة الجدول، في نفحة الربى الفيحـاء
فانثنى ضاربـــاً على الوتر الشـــادي أهازيج روحه الشــماء
فــض فيها عن الحيــاة نقابـــاً من خــداع وبرقعــاً من ريــاء
ورمى خـتــــم ســرها فتجــلت بعـــد لأي عريـــــانة للـرائي
فتهـــادت بنـــاتها باصطفاق الصَّــنْج والدف واتساق الغنـــاء
كــدمى هيــكل لقـــد نفـــض الله عليـــها اختـــلاجة الأحيـــاء
يتمـــايـلن راقصــــات نشـــاوى بـدلال مفجــــر الإغــــــراء
فمن الخصـــر عطـــفة تركت في حـــلمة النهد نفرة للعـــلاء
كل بنــت جيـــاشة الصــدر ترمي أختـــها بابتسـامة استهزاء
زمر من كواعب بــرزت في صـور العيـــش في أتــم جــلاء
عـزف الشـــاعر النبـيغ فجست أكبد الراقصات كف العـــزاء
مسنـــداً رأســه على كتــف القيثـــار، مستســـلماً إلى الأهواء
وإذا ما صحـــا على نفخــة الـبـوق، بأذنيه وازورار القضــاء
خدرت كفه على الوتر الشادي، وسالت أصداؤه في الفضـــاء
وتلاشت تلك الحسان تلاشي الشَّمع في زفرة اللظى الحـمراء
وهوى فوق مضـــجع من تراب تحت عطفي صفـافة غينــاء

     نحن في هذه اللوحة الكبيرة الممتدة أمام مشهد مثير، فيه الحياة، وفيه التنوع، وفيه الخيال البعيد، وفيه التكامل. لقد استعرض أبو الطيب الوجود صباحاً ومساء، وتأمل الرعد القاصف، والموج الثائر، والروض الباسم، والجدول الهادئ، والربى الفيحاء، وعاد بعد ذلك كله إلى وتره ليوقع عليه ألحانه، وإلى الحياة ليكشف أسرارها، وهنا نلتقي مع خطراته، وبنات وحيه، وقد غدون عرائس يرقصن ويتثنين ويغرين ويبتسمن ويستهزئن، شأنهن شأن الفتيات الصبايا الأتراب. وحين يصحو الشاعر من أحلامه ويفيء إلى دنيا الحقيقة تتلاشى العرائس الحسان كما يتلاشى الشمع تحت وطأة الشمس الموقدة. وهكذا نجد اللوحة مزيجاً متكاملاً متجانساً من الأوهام والأشباح والصور والخيال المولد الذي جسم تجسيماً ينطق بالحركة والحياة خواطر الشاعر وبنات شعره.

     وهذه القدرة التصويرية المحلقة هي التي جعلت الدكتور شوقي ضيف يجمع بين هذه الأبيات وبين أبيات ابن الرومي المصور الأكبر في الشعر العربي التي جسم فيها هنوات صديقه، فيقول: «أرأيت كيف صور خطراته وبنات شعره؟ إننا لنتذكر تواً ابن الرومي حين جسم هنوات صاحبه القاسم بن عبيد الله، ورآها فعلاً أطيافاً تحيط به فخاطبها، وحاورها حواره المشهور. وأنت لا تحس في هذه الصور جميعاً شيئاً من التخبط ولا من التناقض بين ظاهرها وباطنها أو بينها وبين مدلوها. ولعل فيما لاحظناه من استيحائه في هذه الأبيات الأخيرة من عمل ابن الرومي ما يدل على حقيقة مهمة عنده، وهي أن شعره يتصل مباشرة بعناصر شعرنا القديمة ورواسبه، فهو قد تثقف به ثقافة واسعة، ولذلك كان شعره قريباً منا... وحقاً إن البداوة تغذي شعره بخير ما فيها من نقاء وصفاء، وكم يذكر الرمال والصحراء وأخلاق البدو الكريمة!

   ومعنى ذلك أن البداوة تزدوج في روحه مع الحضارة كما يزدوج العالم الداخلي والعالم الخارجي في لوامع أشباحه»[26].

     هذه القدرة التصويرية التي مرت آثارها بنا في الأبيات السابقة تدل على موهبة الشاعر في هذا المجال، خاصة أن قصيدته في المتنبي التي وقفنا عند لوحتين منها قالها عام 1935م؛ أي وهو شاب لايزال يرقى في مدارج الشعر ومع ذلك يبدع هذا الإبداع المتوهج في هذه القصيدة التي أثنى عليها الدكتور شوقي ضيف أعظم الثناء، ورأى أن قدرة الشاعر التصويرية لم تتجمع وتتركز على شاطئ من شطآن شعره، كما تجمعت وتركزت فيها[27]. وحسب عمر أبو ريشة شاعراً مصوراً هذا الثناء الكبير يشهد له به ناقد كبير ويقرنه فيه بشاعر كبير.

     وفي قصيدته «محمد» صلى الله عليه وسلم نجد أنفسنا أمام هذه اللوحة الكاملة لمعركة بدر:

وقــف الحــق وقـــفة عند بـــــــدر
               شحذت في الغيوب سيف القضــاء
ووراء التــــلال ركـــب أبي سفـــ
               ـيـــان يحمى سريــــــة الفيحـــــاء
وقريش في جيشــها اللجب تسـعى
               بيـــن وهــج القنـــا وزهو الحــداء
بــلغــت منحنى الـقــليب ولفـــــت
               من عليــــه ببســــــمة استهــــزاء
وأرادت أكـفـــــــاءها فـتـلقـــــــــا
               هـــا، عـــلى ذؤابة الأكـفــــــــــاء
جـز بالسيــف عنق شيـــبة وارتـدْ
               دَ، إلى صحبـــــه خضيــب الرداء
فطـغى الهول والتقى النــد بالنــــدْ
               دِ، وماجـــا في لجــــــة هوجــــاء
وعيــون النـبي شاخصـــة تـــــــرْ
               قُـص، في هدبها طيـوف الرجـــاء
ودنــت منـــه عصبــة الإثـم والمو
               تُ، على راحهـا ذبيـــــح عيـــــاء
فرماهـــا بحفنـــــــة من رمــــــال
               ورنـــا ثـــــائر المنى للعـــــــــلاء
ودعــا «شاهت الوجوه» فيــــا أر
               ضُ، اقشعري على اختلاج الدعاء
قضي الأمر يـــا قريش فسيــــري
               للحـــــمى واندبي على الأشــــلاء
واحـــذري الطيب أن يمس غلاماً
               في نـــدي أو غــــادة في خبــــــاء
يوم بـــــدر يوم أغــــر على الأيْــ
               يَـام، بـــاق إن شئت أو لم تشـــائي
ركـــز الله فيــــــه أســمى لـــــواءٍ
               وجثــــا الخـــلد تحت ذاك اللـــواء

     نحن في هذه الأبيات أمام قصة معركة بدر، لكن ترى هل سجلها الشاعر تسجيلاً يجمع كل الوقائع ويرويها في إطار من السرد التقريري كما فعل أحمد محرم في ديوان مجد الإسلام؟ لا، لقد ألم بالمعركة، وطاف بها والتقط من خيوطها وخطوطها وتفاصيلها ما يدل ويغني، وجمع ذلك إلى بعضه فإذا بنا في مكان المعركة حيث أبو سفيان خلف التلال ينجو بالقافلة، وحيث قريش بزهوها وكبريائها وجيشها اللجب تسعى إلى القتال، وتقع المعركة ويطغى الهول ويلتقي المتحاربون، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو، تقع الاستجابة فتهزم قريش وتنسحب باكية قتلاها عازمة على الثأر، لكن ذلك كله لا يغير من الحقيقة الراسخة، وهي أن يوم بدر من أيام الله الكبرى رفع الله عز وجل فيه راية الحق وخذل راية الباطل.

     لم يتعامل الشاعر مع معركة بدر تعامل المصور الفوتوغرافي الذي يسجل بعدسته الأحداث والخلجات تسجيلاً محايداً آلياً، بل تدخل في اختيار ما صوره، وأضفى عليه من خياله وروحه، وركز على النقاط المثيرة، فصنع بذلك كله لوحته المتكاملة والمؤدية.

     ونحن إزاء مشاهد الشاعر في قصيدته «محمد» نجد أنفسنا مبهورين بسبب قوته التصويرية، حيث «لا يعتمد الشاعر على التقريرية والمباشرة واقتفاء آثار الأولين في الرصد الجاف والنظم الأجوف، وإنما يقيم عالمه الخاص الذي صممه بمشاعره وأحاسيسه تجاه الدعوة والداعي والمدعو... إننا أمام مشاهد حية ومضطرمة بالمشاعر والأحاسيس، تعبر باللمسات الخفيفة عن الصراع الرهيب بين النجوى المخضلة بالنعماء وقريش المعتصمة بحمى الضلال»[28].

     وفي قصيدته «حماة الضيم» نجد لوحة بديعة يصور فيها عمر أبو ريشة قوافل اللاجئين المطرودين من ديارهم بسبب بطش العدو وعجز الصديق:

فإذا سبيل الحق منفــض الصوى     تــاهت به الطـلقــــاء من زواره
وإذا قوافــــله العجــاف طريـــدة     والبغي يقذفهـــا بمــــارج نــاره
كم متعـــب جر السنيــــن وراءه     ومشيـــبه يبكي جـــلال وقـــاره
متـلفتـــاً صوب الديــــار مودعاً     وخطـــاه بين نهوضـه وعثــاره
كم حرة لم تدر عيــن الشمس ما     في خدرها أغضت بطرف كاره
وبنـــاتها وجـلى تضــــج أمامها     والرجــس يدفعها إلى أوكــــاره
بمن استجــارت هذه الزمر التي     مد الزمان لهـــا يد استهتــــــاره
العـــري ينشرها على أنيــــــابه     والجـــوع يطويهــا على أظفاره

     الأبيات مشهد حي متكامل، نرى فيه الحق ضعيفاً مغلوباً، ينعكس ضعفه على بنيه فنراهم قوافل تترى طريدة مهزولة تسير إلى مصيرها المظلم والبغي يقذفها بشواظ من نار عتوه واستكباره، وفي هذه القوافل نجد عجوزاً متعباً يجر وراءه سنواته الطوال، وشيبه يبكي وقاره الذاهب، وهو يتلفت صوب الديار التي أجبر على مغادرتها فيقع مرة وينهض أخرى، وفي هذه القوافل نجد حرة عفيفة لم تكن الشمس تعرفها، وهي تغضي حزناً وذلة وبناتها الصبايا من حولها يبكين من هول الرجس الذي ينتظرهن. وتمضي القوافل المرزأة تستجير من لا يجير، وهي نهب للخوف والعري والجوع والدموع.

     إن كل جزئيات هذه اللوحة تتضام مع بعضها لتقدمها لنا مشهداً متكاملاً نجد فيه الحق الضعيف، والباطل القوي، والمرأة والرجل والصبايا، والشيب والتعثر، والرجس الظامئ، والاستغاثة التي لا يستجاب لها، والمستقبل الملآن بالخطوب والكوارث. ترى لو أن رساماً أراد أن يصور هذا المشهد بريشته، ألا يستطيع من خلال أبيات عمر أبو ريشة وحدها أن يرسمه رسماً دقيقاً؟

     وكما وفق عمر أبو ريشة في تصوير العناصر المادية للمشهد، وفق في تصوير عناصرها النفسية، فجمع بين هذا وذاك ليثبت لنا قدرته شاعراً مصوراً له تميزه وتفرده.

     ومن أطرف لوحات الشاعر وأغناها، أبياته التي يخاطب فيها صديقه الأخطل الصغير في قصيدته «حكاية سمار» يوم بويع الأخطل الصغير أميراً للشعراء، وأقيم له مهرجان تكريمي عام 1961م، كان عمر أبو ريشة أحد فرسانه، وطرافة اللوحة تأتي من ربط الشاعر بين الأخطل شاعراً عاشقاً وبين عدد من مشاهير العشاق في الشعر العربي:

كم جولة لك في الصبــــابة والهوى
               ســـدت مسالكها حبـــــائل ظـــــافر
ولكم تخطفــــك الخيـــال فعدت بالـ 
               عشـــاق من حرم الزمان الغــــــابر
«عمــر ونعــم» يا خيـــــام تــلفتي
               صــوب العبيــر ويا نجوم تسـامري
نثــرا شفوف الليـــل حــول جدائــل
               لمعـــــانق وسـواعــد لمخـــــــاصر
يا طيب ما اختصرا رسالات الهوى
               فيــه ويا طيب الصدى المتطــــــاير
حــب طوتـــه يد البـــلى ونشــــرته
               وأعدت ماضيـــه حديـــث الحاضـر
وشجــاك عروة وهو يسحــب خلفه
               في الرمل تـــابوت الشباب العــــاثر
وخيـــــال عفــــراء يمر أمـــــــامه
               والمـوت في ذل العنيـــد الصــــاغر
فــــإذا مغـــاني البيــــد في ذكراهما
               رفــــات أهــداب وبــوح سرائــــــر
أشفقـــت أن ينسى الزمان مكـــانها
               فســـللتها من أدمــــع ومحـــــــاجر

     الأبيات لوحة بارعة شائقة أشادت بجولات الأخطل الصغير في عالم الحب والشوق. ولما كان الأخطل شاعر خمرة وغزل قبل كل شيء فلا بد له أن يتذكر شاعراً غزلاً كبيراً وقف شعره على الغزل وهو عمر بن أبي ربيعة ليراه بعين خياله مع محبوبته «نعم» في ساعة وصل مواتية تتلفت الخيام صوب عبيرها وتتسامر النجوم بالحديث عنها. حقاً لقد طواهما الزمان لكن الأخطل أعاد الحديث عنهما غضاً طرياً.

     وكما يتذكر الأخطل حب «عمر ونعم» يتذكر حب «عروة وعفراء» فيأسى لحال عروة إذ يجر وراءه بقايا شبابه العاثر المحطم وهو لايزال يحلم بعفراء ويراها بخياله، أما البيد وهي موطن العاشقين فإنها ترثي لحالهما لذلك نراها أعيناً تهمي وترف، وسرائر تبوح وتحزن. لقد أجاد أبو ريشة في استدعاء التاريخ ليوظف أربعة من رموز العشق فيه توظيفاً موحياً، خلال حديثه عن الأخطل شاعراً غزلاً انصرف في معظم شعره إلى عالم الحب والمحبين.

     وقصيدة «حكاية سمار» وهي من أروع شعر عمر أبو ريشة وأجمله ملأى باللوحات الفنية، ومنها هذه الأبيات التي يخاطب فيها الشاعر لبنان مشيداً بكوكبة الشعراء الذين وفدوا إلى المهرجان، وهم محبون لهذا البلد الصغير الجميل:

لبنان ما خبـــــأت عنك نوازعي     أتراك فيها عاذلي أم عـــــاذري
يغنيـــك عني إخــــوة ما غردوا     إلا وملء ربـــاك ذوب حنـــاجر
شربوا جمالك فانتشــوا وتأنقــوا     في بث نشــــوتهم تـــأنق قـــادر
ولربمــا صـــاغوا سنــه أساوراً     لمعـــــاصم وخواتماً لخنــــاصر
جمعتهم شيــم الوفـــــاء لمـــارد     في الشعر جواب الأعالي قــاهر
ضفروا له من دوح أرزك غاره     أكرم بمضفــــور له وبضـــــافر
هـز الشـــذا أعطافهم فتســاءلوا:     من أي مخضـــلّ الكمـائم ناضر

     والأبيات كلها إشادة بجمال لبنان وحب الشعراء الذين جاؤوا المهرجان له، يحملهم الوفاء مع الحب، ليصنعوا له من أرزه العريق إكليلاً من الغار يتوجون به رأسه العالي العزيز.

     وفي القصيدة لوحة أخرى يشيد فيها عمر أبو ريشة بتواضع الأخطل، لكنه يذكرنا أن هذا التواضع هو تواضع العزيز الأبي الشامخ الذي يعرف مكانته، والذي يعرف أيضاً أجداده العظام الذين صنعوا أمجاداً كبيرة يعتز بها الأخطل اعتزازاً مبرراً لا غرابة فيه:

يا مطرقـــاً يصغي بخشـــعة راهب
               متـواضـــع ويغــض جفــن تفـــاخر
ما زلت تسحـــب فـوق كل معــــاند
               ذيل الشـــموخ وفـــوق كل مكــــابر
أولست من نسل الألى نسلوا العــلى
               وكسوا ديــــاجير الورى بمنــــــائر
وتطلعوا صوب الشموس وأسرجوا
               للـفتــــح صهــوة كل مهر ضــــامر
ومضــــوا إلى غايــــاتهم ثم انثـنوا
               وعلى خـــدود النجـــم وشم حوافــر
عرفتـك دنيــــا البغي صرخة نــاقم
               يزري بهيبـــتهـا وغضبـــــة ثـــائر
أيـــام أعنــــاق البــــلاد جريحـــــة
               بقيـــود نــــــزاز الضغيـــنة جـــائر
فهـــززت عزمة كل وانٍ متعـــــب
               وأثـــــرت نخـــوة كل عان ســـادر
فــــإذا الجبـــــال الشم لفح معــــاقل
               وإذا الســــهول الفيــح نفح مقـــــابر
وإذا العبـوديـــــــات تخـــلع ليـــلها
               مزقاً على قدم الصبـــــاح الســــافر

     والأبيات لوحة مترابطة متناسقة أشاد فيها عمر أبو ريشة بتواضع الأخطل الصغير، وأشاد أيضاً بإبائه وشموخه، وعزا هذا إلى أصوله العربية التي يحق له ولها الفخار، فهو من سلالة الفاتحين الكبار الذين بنوا العلى ونشروا النور وجابوا الأفلاك وعادوا منها وآثار خيولهم عليها، وإذا كان هذا مجداً قديماً مؤثلاً، فللأخطل الصغير مجد جديد طريف نراه فيه ثائراً على المغتصبين والمستعمرين، ينشد شعره الذي يمد الناس بروح المقاومة فينشط المتعب ويهب المستسلم، وتعم روح الجهاد الجبال الشم والسهول الفيح، وينتهي ليل العبودية والقهر، ويشرق الصباح الجديد على بشائر انتصارات المجاهدين.

     بدأ الشاعر أبياته بالأخطل الصغير شخصاً مفرداً وانتهى بالأمة كلها ثاثرة منتصرة، وخلال ذلك حشد كل عناصر اللوحة من أجداد كرام، ومن فتوح ظافرة، ومن بطش المستعمر الظالم، ومن صرخة الأخطل، ومن سريان الروح المجاهدة تثير النخوة والحمية، ومن الظفر يأتي بعد العناء، فتطوى رايات الظلم، وتعلو رايات الحق.

     أما قصيدة «إفرست» فهي إحدى وثبات الشاعر في التصوير، وهي قطعة قصيرة تقع في خمسة أبيات:

إليـــك غير الظــــــن لا يرتقي     يا عـاصب الغيم على المفــرق
لأنت مجلى الأرض في شوقها     إلى البعيـــد المترف الشيـــــق
غـازلهــــا نجـــم غوي السنـــا     وهزهـــا من خدرها الضيــــق
فــــانتفضت تهتف يا خصــره     قــرب ويا وجـــدي به طــــوق
فكنـــت منها اليـــــد ممتــــــدة     ولم تـــزل ممتــــدة يــــــا شقي

     هذه اللوحة يثب فيها عمر أبو ريشة وثبة بعيدة تنبئ عن قوة خياله. لقد بحث عن سبب لارتفاع الجبل ارتفاعاً هائلاً فوقع في وهمه أنها حكاية حب نرى فيها الأرض في خدر ضيق ثقيل، ومن الأعالي يطل عليها نجم غوي فاتن فيغازلها فتهتز وتستجيب لرغبته ورغبتها في الوصال، وتمد يدها لتطوقه كما تطوق الحبيبة حبيبها، وهنا تنتهي القصيدة لنعلم أن يد الأرض المرتفعة لتطويق النجم هي إفرست. وربما يكون للهند بما فيها من أساطير وخيال وسحر وخرافات أثر في فكرة القصيدة ذلك أن الشاعر نظمها عام 1961م حين كان سفيراً لبلاده في الهند، وهناك ذهب إلى جبال الهيمالايا سائحاً متأملاً يرى ويفكر ويحلم، فتولدت عنده هذه الفكرة البعيدة التي بنى عليها قصيدته. وتذكرنا قصيدة عمر أبو ريشة في إفرست بقصيدة ابن خفاجة الأندلسي:

وأرعن طماح الذؤابة بــاذخ     يطاول أعناق السماء بغارب

     وفيها يخلع ابن خفاجة على الجبل صفات بشرية نراه فيها يتأمل ويحلم ويفكر، لكن عمر أبو ريشة مضى في قصيدته شوطاً أبعد حيث جعل العشق سبب ارتفاع الجبل أصلاً، ولما كان النجم غوياً فاتناً يغازل الأرض، ولما كانت استجابة الأرض لغزله قوية لحبها النجم ولضيقها بالحيز الصغير الذي يكتم أنفاسها كان ارتفاع الجبل عالياً، لأنه يد الأرض الممتدة المشتاقة التي يمثل ارتفاعها كل أشواقها ورغباتها وعنفوانها.

     القصيدة لوحة متكاملة تتوالى أبياتها آخذة برقاب بعضها، أما عناصر اللوحة وجزئياتها، فكل في مكانه يتكامل مع جاره ويتسق وينسجم، ليكون المشهد صورة حية بديعة.

     ولعمر أبو ريشة قصيدة تتكون من خمسة أبيات اسمها «ولا كلمة»، وتدور كلها حول ليلة وصل مترعة، مرت كلها دون أي كلمة:

في النجوى من نعـم اللقيا     ما أشقى الحب وما ظلمه
بـتنـــا وذراعانــــا قيـــدا     دنيـــا بالفتــــنة متســـمة
ومراشفنــا ريــــا وجــوا     نِحُنــا بالنشوة مضطرمة
ومحــاجرنا غرقى فيــما     سكبـــته يقظتنـــا النهـمة
وانفض الليــل وما مرت     في مســمعه منـــا كــلمة

     والأبيات مشهد كامل لكل ما يريده العاشقان من صبوات ووصال، بحيث تتوالى تفاصيل المشهد وجزئياته من فتنة تضطرم، ونشوة تمور، واقتراب مادي ونفسي بين العاشقين، مادي بالإسراف في الشهوات والانكباب عليها، ونفسي بالصمت الذي يدل على تواصل لا حاجة معه إلى حديث، لذلك ينطوي الليل كله دون أن تسمع كلمة واحدة في مسرح العشق والوصال.

     وفي قصيدة عمر أبو ريشة النونية التي ألقاها في أحد مواسم الحج والتي تكثر فيها اللوحات والمشاهد، لوحة متكاملة للكعبة الشريفة بعد الفتح حيث نجد الأصنام قد زالت، ونجد أهل مكة المكرمة قد فاؤوا إلى الحق، ونجد السلام يضمد الجراح، ونجد الحب يطفئ الأحقاد:

وتجــــــــلت إلي مكــة في أكــــ     ـرم مجــــلى وفي أجل كيــــان
خـــلت الكعبـــــة الوضيــئة مما     نشـــرته الأهـــواء من بهتـــان
وانجلت عن سمائها غيمة الشـر     ك وماجــت أرجـــاؤها بالأذان
وقريـــش خلـــف النبي تصــلي     ودموع المتــــاب في الأجفــان
الهـــدى خمـــد الجـراح وأودى     ببقايــــا الأحقــاد والأضغــــان
ومحـــا ظلمة الحيـــــاة وواسى     متعبيهــــــا بلفتـــة من حنــــان
وأراني مقيـــد الخطــــو لا أبــ     ـرح في زحمة الصفوف مكاني
لجـــج من عمـــــــائم وعبـــاءا     تٍ تشـــد الفرســـان للفرســـان
الـنـــبي الأميــن يخطب فيـــهم     موجز القـــول عبقـري البيـــان

     والأبيات متراصة متضامة، تتكامل لتقدم لوحة فريدة عن مكة المكرمة، وقد خلت كعبتها المطهرة من الوثنية، ودوى الأذان فيها، ودخلت قريش في موكب الحق نادمة تائبة، والإسلام الرحيم يمسح الجراح، ويبني على الإخاء مجتمعه، والرسول الكريم يخطب في الحشود المؤمنة، وأبو ريشة يتوهم أنه بينها مشدود مبهور.

     ومن لوحات الشاعر التي تجمع بين الجمال والطرافة قصيدته «مراهقة» التي قدم لها بقوله: «يسمعها شعره وهي شاردة ذاهلة»:

شئــــت فغنيـــــــت كما تشـــتهين
وكنــــت لا تصغيــن بل تحلميــن
يـــا للأمـــاني ويــــا للحنيــــــــن
حسنــــاء لا تفضي بما تـكتميــــن
ما بيـننـــــا قـــافـلة من سنيـــــــن
❊❊❊❊

أنـــا السرى في المنحنى المبـــهم
وأنت حــــلم الطيب في البــــرعم
❊❊❊❊

مالك أغضيــــت وأغضى الجمال
في طرفك الساهي وغص السـؤال
من أين من أين وبيـــض الليـــــال
مرت بنعمــــائي مرور الخيـــــال
لو جئتني والفجـــر سمح الظــلال
❊❊❊❊

كـــانت يـدي في حبــــــــك الملهم
رت عـــرى برديــــك بالأنجـــــم

     نحن والشاعر وفتاة مراهقة تطلب منه أن يسمعها شعره، فيستجيب لها، لكنها شاردة لا تلقي لإنشاده بالاً، مما قد يدفعه إلى الغضب، لكنه خلافاً للمتوقع من شاعر معتد بنفسه يلتمس لها العذر، لأنها في أول سن الشباب والأحلام، أما هو فقد اجتاز هذه المرحلة، ولو أنه لقيها وهو شاب مثلها لكان لهما حديث آخر.

     لقد غنى لها الشاعر لكنها مشغولة عنه بأحلامها، فبينهما قافلة من السنين كفيلة بأن تضع الحواجز بينهما، فهو «السرى في المنحنى المبهم» حيث يمضي في الليل إلى المجهول، وهي «حلم الطيب في البرعم» بكل ما يعد به الطيب الفواح والبرعم المتفتح من حيوية وتوثب وآمال.

     سكت جمال الفتاة كما سكتت وغابت أسئلتها التي يتوقع الشاعر أن يسمعها منها، ولا غرابة في ذلك لأنها لم تجده فتى أحلامها، وهي محقة في ذلك، فقد ذهبت ليالي فتوته وعنفوانه. ويلتمس الشاعر لفتاته العذر ويقرر محزوناً أنه ليس لها، ويتمنى رجعة للماضي تلقاه وهو شاب مثلها ليقطف النجوم ويضعها وشاحاً على برديها.

     القصيدة كما استبان لوحة حية صور فيها عمر أبو ريشة المشهد تصويراً كاملاً بكل أبعاده المادية والنفسية.

     ومن أجمل لوحات الشاعر، هذه الأبيات الأربعة في قصيدته «ساذج»:

كـنــــتُ كالمــــلاح في لجتـــــه     كســـرت مجدافه الريح فتـــاها
ســـدل الليــــل عليـــه سجــــفه     وجــلا عن مقلة الذعر عمـــاها
فـأصــــابته يــد من رحـــــــمة     لطمت من شامخ الموج الجباها
وانتـــهى زورقــــه الواهي إلى     شاطئ ألقت به النعمى عصاها

     تصور الأبيات النعمة الكبرى التي جادت بها المحبوبة على الشاعر فأنقذته مما كان يعاني وحملته إلى شاطئ الأمان. وفي المعاناة نجده ملاحاً تائهاً في لجة البحر حيث حطمت الرياح مجدافه فلم يعد قادراً على التحكم بزورقه الذي صار ألعوبة للموج والريح، وتشتد الأمور سوءاً حين يسدل الليل ستوره فيزداد الذعر ويعظم الخوف، وفي هذه الظروف المتراكبة سوءاً ويأساً وذعراً تمتد يد رحيمة تنقذ الزورق وصاحبه من الأهوال، وتأخذه إلى شاطئ من النعمى بكل ما تطلقه كلمة النعمى في خيال الإنسان من أمن وسلام وحب وراحة.

     وفي قصيدة الشاعر «مع المعري» التي ألقاها في المهرجان الألفي لأبي العلاء لوحة تامة الملامح والمعالم يصور فيها ضيق المعري بزمانه حيث يجد من دونه أرفع منه ذكراً، لكن الأيام أثبتت أنه أخلد منهم وأبقى، لقد ظل في وجدان التاريخ والناس، أما هم فكأنهم ما كانوا:

كيف تفتــر عن رضى ولـيــاليـ
               ــك أقــامت عليك حربــاً عوانــا
وعجـــاف الرجـــال أرفع قـدراً
               منـــك في غيـــهم وأنبــه شانـــا
طالمـا كنت مبصراً في ديـــاجيـ
               ـك وكـــانوا في نورهم عميــانا
أسرجوا صهــوة المذلة وانقضْـ
               ـضُوا على مثخن الجراح طعانا
واستباحوا مال الضعيـــف عتواً
               وأهـــانوا حرماتــــــه طغيــــانا
وأزاحـــوا عن المنـــــابـر أحرا
               راً فهــــزت أعوادهـــا عبدانـــا
وتمشـــوا لـــدى الأعـاجم حملا
               نـــاً وسابوا في قومهـم ذؤبــانـا
هــذه الزمــرة التي في حمـاهــا
               وقـــف الملك مطرقــــاً خزيـانا
ما أظـن العصور مرت عليـــها
               فتــــلفت أما تـراهـــا الآنــــــــا

     لقد صور عمر أبو ريشة كل النقائص التي مارسها أولئك الذين ضاق بهم المعري ذرعاً في لوحة متكاملة حشد فيها عارهم وخزيهم، ثم تكون النهاية حيث تطويهم الدنيا، ويبقى المعري يتلفت باحثاً عنهم فلا يجدهم. وللشاعر لوحة بديعة في تصوير الغرور الذي يظن أن أمير الشعراء أحمد شوقي أصيب به، جاءت في قصيدته التي قالها في رثائه:

فعــراه شبـــه الغرور وما كــا     ن ليصغي إلا لرجـــع ربـــابه
هكـــذا آفـــة الـنـبـــوغ غـرور     يفصم المرء عن كريم صحابه
كسفين هوجـــاء جن بها الركـ      ـب، وأفق الأنواء في تصخابه
لطمت عارض الخضم فأرغى     فـــكه واعتـــلى ضجيج عبـابه
ومضت كالسهام ضــاحكة منـ     ـه ووسنى عن بطــشه وعقابه
فرماها على الصخــور فكانت     لقــــمة مزقــت على أنيـــــابه

     واللوحة صورة متكاملة، نرى الغرور فيها سبيل الهلاك لأنه يفصل صاحبه عن رفاقه، ويجعله سفينة حمقاء تتحدى البحر وهو عاصف ثائر، فيلقي بها حطاماً على أنياب صخوره الناتئة.

     لم يقدم عمر أبو ريشة الغرور في حكمة جافة، ولم يلجأ إلى التعبير التقريري المباشر، بل ساقه لنا في مشهد حي مليء بالحركة والخيال والإبداع. وإذا كان عمر أبو ريشة قد جعل غرور شوقي سفينة تحطمها الأمواج فإنه يجعل من حافظ هزاراً يموت بعد طول عناء:

كهــــزار قد أوحشـــتـه مغــــانيـ
               ـه، وعــاثت كف الأذى بسـراحه
نـــــاح في وكره الكئيب وحيـــداً
               ومريـــر الآلام خـلــــف نواحــه
يرسل الصرخة الحزينة في الشد
               و، ويزقـــو من داميات جراحــه
أبصر الـنهـر راقصاً ورأى الرو
               ض، زاهيـــاً في ورسه وأقــاحه
ورأى إلـفــــه يــــروح ويغــــدو
               ويبـــث الأطيار عذب صـــداحه
فبــــكى لـوعـة فعــــاجله الـنـــز
               ع، فلف المنقـــار تحت جنـــاحه

     لقد جعل عمر أبو ريشة من حافظ هزاراً مثله مثل نده أحمد شوقي، لكن شتان بين هذين الهزارين، فشوقي يروح ويغدو في النعمة والثراء والترف، خلافاً لحافظ الذي يعيش مكابداً الأحزان والفقر وسوء الحظ، ويموت محزوناً ملتاعاً. والأبيات لوحة متكاملة تامة، تشكل وحدة مستقلة بذاتها في بناء القصيدة بحيث تصلح أن تكون قصيدة مستقلة، وهذه اللوحة مثلها مثل لوحة الغرور لم تأت في سياق تقريري جاف، ولم تلجأ إلى التعبير المباشر، بل قامت على الصورة التي تتحرك وتتكامل لتكون مشهداً يعج بالحياة.

     وتبقى للوحة الغرور، ولوحة الهزار قيمة خاصة، فهما حافلتان بالتصوير الحي المبدع كما رأينا، ثم إنهما وهذا موطن القيمة الخاصة تعودان إلى أيام الشباب المبكر لعمر أبو ريشة مما يدل على أصالة قدرته التصويرية وسعة موهبته فيها، فإذا كان تصويره الآخر يعزى من بعض وجوهه إلى ما حصل وخمر واكتنز وتمثل، فإن تصويره الأول الذي دلت عليه اللوحتان المذكورتان يعزى إلى مواهبه الذاتية المبكرة قبل كل شيء.

     ومن المشاهد البديعة عند عمر أبو ريشة تلك اللوحة الرائعة التي يصور لنا فيها البطل سعيد العاص في قصيدته «شهيد»:

وكـــأني أراك في زحــمة الهـــو     ل، على ســـرج ضــــامر طواح
وأخــوك الجسور في القمم الســو     د، مطـــل على الروابي الفســاح
لوحــت كـــفه بمنـــديـــله الأحـــ     مر، شوقـــاً إلى اللقـــاء المتـــاح
فحســـبت الأجيـــال تهتف يا خـا     لــد، جــاهد في فيـــــلق الجـراح
فتـرنحـــت واندفعـــت وهيــــهـا     ت، يليــن الجـــواد بعد جمـــــاح
واقتحمت اللظى فكنت مع الصيـ     ـد، فراشـــاً على فــم المصبــــاح

     والجديد الطريف في هذه اللوحة ذلك العنصر الغيبي الذي أدخله الشاعر فيها حين رأى البطل المرثي مناديل الشهادة الحمراء تلوح له بها أيد مؤمنة تدعوه أن يقاتل كما قاتل خالد مع الجراح في اليرموك، فركبه عنفوان البطولة، وانطلق لا يلوي على شيء حتى فاز بالشهادة، لوحة بديعة تتداخل فيها الحقيقة بالغيب والحاضر بالماضي، وتقدم لنا البطل في صورة شيقة غريبة.

     ومن المشاهد المتكاملة من ناحية، والتي يمكن النظر إليها على أنها تعبير عن نفسية الشاعر بكل طموحها واعتزازها وكبريائها وتطلعها إلى المجد من ناحية، قوله في قصيدته «عودة المغترب» التي قالها إثر عودته إلى بلده بعد غربته الطويلة:

جئت الحيـــاة فما رأتني زاهـداً     في خوض غمرتها ولا متـرددا
إني فرضت على الليالي ملعبي     وأبيـــت أن أمشي عليه مقيـــدا
فوقفت أقتبل الريــاح وما درت     من كان منا العـاصف المتمردا
ومضيـــت أنتعل الغـمام وربما     أشفقــــت خد النجم أن يتجــعدا
وأطلت في التيه المشت تنقــلي     وحمــلت ما أبـــلاه في وجــددا
فـكأنمــا المجـــد الذي خلــــدته     لم يكفني فأردت مجـــداً أخــلدا

     والأبيات لوحة كاملة تتكامل جزئياتها ليكون لنا من مجموعها مشهد دقيق نرى فيه الشاعر مقداماً جسوراً لا يزهد أمام الصعاب ولا يتردد، ولذلك يفرض نفسه على الدنيا، ويسير حراً متمرداً حتى على الأعاصير، ويجعل من الغمام بساطاً يمشي عليه، ومن النجم أرضاً يطؤها، ويظل يمضي في طريقه الصعب غير مضطرب ولا متردد، يريد مجداً جديداً خالداً يضاف إلى ما حققه من أمجاد.

     ومن أجمل المشاهد تلك اللوحة المتكاملة، التي يصور فيها عمر أبو ريشة في قصيدته «يا رمل» الصرخة الزهراء التي هتف بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم داعياً الناس إلى الهداية، واستجابة الناس لهذه الصرخة، حيث تسقط الأصنام ويعلو الأذان وينتشر الإسلام وينطلق الفتح. واللوحة ملأى بالحياة المتحركة والتفاصيل المحشودة:

يا رمل ما تعــب الحادي ولا سئما
               ولا شكا في غوايـات السراب ظما
عـلى وجـــومك من نجواه أخيـــلة
               شـق الـفتـــون بها أكمـــــامه ونمـا
كــــأنما من وراء الغيـــب هاجسة
               فضت على سمعه السر الذي كتـما
فرنـــح الـكـون في لألاء أمنـيـــــة
               عذراء ما عرفت أرضاً لها وســما
مرت طيوفاً على الدنيا فما غمست
               فيــها جنـــاحاً ولا جرت بها قــدما
حتى إذا طـالعتــها مكة اختــــلجت
               شوقـــاً وسالت على أجوائها نعــما
فــلاح أحمد في أعــراس دعوتـــه
               يسلسل الوحي إن صمتــاً وإن كلما

     لقد صور الشاعر ظمأ الدنيا للبعثة النبوية الشريفة في مشهد بديع حيث «تراءت له في صورة أمنية عذراء انبثقت من ضمير الغيب، وما وجدت لها في بقاع الدنيا أرباً، حتى إذا طالعتها مكة ترنحت شوقاً واستجابة، وأفاضت على أجوائها الخير والنعماء»[29].

     مشهد كامل تتضافر جزئياته وتتكامل لنفوز بلوحة حية من الخيال والجمال، نجد فيها الرمل الذي يرمز إلى الجزيرة العربية مهد الإسلام يبحث عبر الغيوب عن أمنيته وأمنية الكون من حوله، ويسعد بها وتسعد بها الدنيا كلها حين تتحقق بظهور الإسلام ديناً كريماً يحمل للبشرية كل ما هفت إليه من أمان وأحلام وضاء.

     والحقيقة أن لوحات الشاعر كثيرة جداً، يحتار معها الدارس ماذا يدع، وماذا يأخذ، وربما تكفي الإشارة إلى طائفة منها.

     فمن هذه اللوحات أبياته البديعة في قصيدته في رثاء الأخطل الصغير «بنات الشاعر» التي يصور فيها نفسه شاكياً لصديقه الفقيد سوء حاله.

     ومنها تصويره البديع لحالة الأمة وهي في قيود الذل والهوان، في قصيدته «يا عيد».

     ومنها تصويره البديع في قصيدة «أوغاريت «لأمته أيام أمجادها.

     ومن لوحات عمر أبو ريشة البديعة تلك اللوحة التي تحمل قصيدتها اسم «جبل»، وهي تقع في خمسة أبيات يفخر فيها بنفسه فخراً كبيراً ينقلنا فيه إلى عالم البطولة والفروسية الذي نجده لدى البارودي والمتنبي وأبي فراس وأضرابهم من الشعراء.

     ومنها أبياته في قصيدته «عودي»، وهي تقع في عشرة أبيات تشكل مشهداً متكاملاً وتروي قصة ذاتية.

     ومنها أبياته الستة التي تشكل قصيدته «اقرئيها»، وهو يصور فيها تصويراً مدهشاً غرفته المنسية بما فيها من صمت وغبار وعناكب وبقايا أشياء.

     ومنها أبياته في قصيدته «حواء» وعددها ستة، يصور فيها حزن إحداهن على ميت أحبها فجفته فأحست بالندم بعد موته.

     ومنها قصيدته الرائعة «المنحنى»، وهي تقع في ثمانية أبيات صور فيها تجواله مع من يحب في إحدى روابي كشمير الساحرة، وهو تجوال ينتهي ببكائها في خشوع وهي تسأله: كل هذا الجمال لنا؟

     ومنها قصيدته «عالم من نساء»، وهي تقع في ثمانية أبيات تروي قصة، وتشكل مشهداً متكاملاً.

     ومنها قصيدته «لن أرمي به»، وهي تقع في تسعة أبيات يصور فيها ضيقه بقيد يتعبه لكنه مع ذلك يحرص عليه، لأنه ذكريات حبه وعمره الذي لا يستطيع أن يسير في دروب الوحشة بدونه.

     ومنها مشهد الحانة في قصيدته «دليلة» بكل ما يستدعيه المشهد من عزلة وظلمة وسكارى وأسماء نقشها أصحابها على الجدران.

     ومنها صورة المغني العجوز في القصيدة نفسها، ونحن نراه فيها مهدود القوى، اشتعل رأسه شيباً وكاد غناؤه يستحيل عويلاً.

     ومنها في القصيدة نفسها أيضاً صورة الرجل، وقد عاد إلى بيت المعشوقة فيفاجأ بأنها لم تكن حبيبة وإنما كانت محترفة، لذلك يتسمر على بابها وهو يرى اثنين من طلاب المتعة يريدان الدخول، ويسمع صدى عربيد وضجيج فاجر، وعبث سكرى، وصخب خليلة، فيتراجع صامتاً ذبيح الرجاء جريح الرجولة.

     ومنها قصيدته «في البار» التي تقع في ثمانية أبيات، والتي يشم فيها شذا من يحب، فتستثار كل أشواقه لكن سلوك من في البار إزاءها يخرجه من أوهامه وأحلامه، ويكشف له حقيقتها كامرأة عابثة.

     ومنها قصيدته «مظاهر» التي تقع في ثمانية أبيات يصور فيها جارة له، فيها كل ما يدل على حياة سعيدة من جمال وشباب ونعيم وظروف مواتية، ثم تأتي المفاجأة لنعلم أنها انتحرت بالسُّم.

     ومنها قصيدته «كانت» التي تقع في ثمانية أبيات يصور فيها أبو ريشة منزلاً نائياً لامرأة آثرت العزلة بعد صبوات ونزوات، وجعلته مسرح لقائها بعشاق الأمس، تلهو وتطرب كلما جاءها واحد منهم.

     ومنها قصيدته «عزاء»، وتقع في خمسة أبيات تقدم لنا مشهداً كاملاً لشابة جميلة عذبته بالصدود، حتى إذا مرت الأيام، وصوح عرش الجمال، جاء إليها لا صباً ولا كلفاً، بل معزياً بشبابها الذاهب.

     وفي قصيدة الشاعر «فراق» التي قالها في رثاء صديقه وقريبه جميل مراد، عدد من اللوحات الباهرة، منها اللوحة التي يصور فيها شباب الفقيد وأحلامه وظروفه المواتية، وتقع في ثمانية أبيات افتتح الشاعر بها القصيدة، واللوحة التي يصور فيها عذراء متخيلة جازت إليه حجب الغيب، وأطلت عليه بدعوة إغراء فكان بينهما حب ووصال وموكب نعيم، وهي تقع في تسعة أبيات. واللوحة التي يصور فيها نادياً في لبنان كان مغنى للمتع والسهر والسمر، ثم انفض وصار موحشاً كئيباً يجفل الطرف وهو ينظر إليه، ويلفه الصمت، أما الأوتار فمقطعة، وأما كؤوس الخمرة فمهملة. وهي لوحة بديعة تقع في ثلاثة عشر بيتاً.

     وفي رثاء الشاعر لسعد الله الجابري في قصيدته «بلادي» نجد أنفسنا أمام مشهد متكامل يصور فيه تصويراً حياً بديعاً وقفة شجاعة محمودة للمرثي إذ جيء بالزعيم المجاهد إبراهيم هنانو الذي حارب الفرنسيين مكبلاً إلى قاعة المحاكمة، فتهيب الناس جميعاً أن يدافعوا عنه خوفاً من بطش المحتل وعسفه، لكن الجابري ينبري للدفاع عنه محمولاً بواجب الوطنية والشجاعة ودواعي الرجولة والوفاء، ويستغرق المشهد سبعة عشر بيتاً متكاملة مترابطة.

     وللشاعر قصيدة باسم «خاتمة الحب» قالها في فتاة إنجليزية أحبها يوم كان يدرس في مانشستر، ولما ذهب إلى أهله في الإجازة الصيفية ليستأذنهم في الزواج منها وقد عاد سعيداً بالموافقة وجدها قد ماتت، فنظم هذه القصيدة في مدينة لندن في شهر مارس من عام  1932م، والقصيدة تتكون من ستة مقاطع، والوزن واحد فيها وهو البحر الخفيف، أما القوافي فمتعددة، وكل قطعة لوحة حية متكاملة دقيقة، يبدو أنه بذل فيها جهداً كبيراً، والعجيب أن الشاعر أسقط هذه القصيدة من حسابه فلم تنشر في أي من دواوينه، مع أهميتها ومع عنايته بالمرأة في شعره عناية كبيرة.

     أما قصيدته «كأس» التي روى فيها قصة ديك الجن الحمصي بعد أن وظف الوقائع، ووجهها توجيهاً جديداً، فهي إحدى عجائب الشاعر الفنية، وهي تتكون من سبعة مشاهد، كل مشهد منها لوحة متكاملة تمام التكامل.

     وقصيدته «جان دارك» هي الأخرى إحدى عجائبه الفنية، وهي أيضاً تتكون من سبعة مشاهد، كل مشهد منها لوحة متكاملة.

     وبعد: فإن مشاهد عمر أبو ريشة «شبيهة بالألواح التي خلفها شعراء الفرنسيين حين أرادوا أن يرمزوا إلى أمر أو يصوروا حالة تخيلوها، فرسموها مشهداً وجعلوه مثلاً لما يقولون، كذلك فعل ألفرد دوفيني في موت الذئب فرسم الصياد يرميه، والكلب يهجم على الذئب ليحمله إلى صاحبه، فإذا بالذئب ينتقم ويموت من غير أن يرسل صوتاً في الرجاء أو الدعاء أو البكاء. ورسم «موسه» البجعة وقد قدمت أحشاءها لأبنائها صورة للشاعر الذي ينعم الناس بآلائه وهو يحتضر ببلوائه. وهذه الألواح هي التي عمد إليها أبو ريشة فألقى بها واحدة بعد واحدة تزحم قصيده فيتنقل القارئ من مشهد إلى مشهد، مأخوذاً بالخيال ناعماً بالموسيقى»[30].

     وإنها نماذج من فن التصوير العالي الذي تتآلف فيه جزئياته بحيث لا يكون ثمة نتوء أو نشاز، وهذا التآلف لا يتاح لكل شاعر، فقد «تكون الصورة الشعرية ذات أبعاد واسعة، وتعتمد على حشد من الألفاظ والعبارات لو قرأتها متفرقة لم يكن لها تأثير كبير، ولكنها مؤتلفة، كل واحدة منها توضح جانباً من الصورة، وتأتلف مع سائر الأجزاء، تجعلنا في نهاية المطاف أمام لوحة شعورية كبيرة ذات دلالة خاصة»[31]، وذلك بالضبط ما نجد فيه أنفسنا إزاء لوحات عمر أبو ريشة التي تتآلف عناصرها لتجعل منها عملاً جميلاً يسوده الانسجام والاتساق والتكامل، لأنها تقوم «على نظرة شمولية تجمع اللون والضوء والصوت والحركة ولأن تحليقات صاحبها الشعرية شمولية ومتكاملة»[32]. كما يقول الدكتور حسن ظاظا.
❊ ❊ ❊

❊ أما التشخيص فهو لون شائق وطريف من ألوان الصورة الفنية، فيه جمال وحياة وهو يستخدم «مقابلاً لكلمة Personification وهي مصطلح يستخدم للإشارة إلى خلع الصفات والمشاعر الإنسانية المادية على الأشياء والتصورات العقلية المجردة»[33].

     وفي التشخيص يخلع الشاعر على عناصر الوجود صفات بشرية تستحيل بها شخصيات حية تتحرك وتتكلم وتغضب وترضى وتحلم وتريد، وإذا وصف هذا اللون من ألوان الصورة الفنية بأنه شائق يحقق المتعة، وطريف يحقق الإثارة، فإنه يوصف أيضاً بأنه يضفي الحياة والحركة وفي هذين من الروعة ما فيهما. ومن قديم استنطق العرب الربع، وخاطبوا الطلل، وناجوا الليل، وحاوروا الخيام والنبات، والرياح والمياه.

     إن «التشخيص عملية نفسية صرفة تجعلنا في العمل الأدبي كأننا نمارس حياة حسية نتمثلها في الألفاط وفي إشعاعات الألفاظ وفي الدلالات الرمزية للألفاظ»[34]، وهذه العملية النفسية تتسم بالغنى الذي يجعل الشاعر أكثر تواصلاً مع عناصر الحياة، وهو تواصل يعين المبدع على أن ينقل تجربته للمتلقي في تشكيل جمالي مؤثر وأخاذ.

     ولأن التشخيص ذو قدرة تصويرية واسعة بما يضفيه من خصائص الأحياء على من ليس حياً، كان أكثر إيحاء ودلالة، وأعمق في نقل تجربة الشاعر، كما كان شاهداً على رهافة حسه ودقة مشاعره، ولذلك عد «سمة من سمات الفنانين الوجدانيين في كل العصور»[35]. ولما كان الرومانسيون أكثر رقة من سواهم في العواطف والخيالات وأكثر اتصالاً بعناصر الوجود المختلفة الحقيقي منها والوهمي كان التشخيص خاصية من خصائصهم. ويبدو الأمر طبيعياً ومنطقياً ومبرراً فالرومانسيون قوم حالمون يعيشون مع الأحلام والأطياف أكثر مما يعيشون مع الحقائق وهم ضائقون بمجتمعاتهم ومافيها من قيود، تواقون إلى حياة فطرية ساذجة عفوية، لذا يتواصلون مع الطبيعة أكثر مما يتواصل معها سواهم، ذلك أنهم يبحثون فيها عن ملجأ نفسي آمن، وملاذ روحي يتفق وما يريدون، متوهمين أنها تشاركهم عواطفهم الجامحة ورغباتهم المتنوعة الشاذ منها والسوي، مسبغين على عناصرها ملامح الكائن الحي، صانعين من ذلك كله صوراً جميلة للتشخيص فيها حضوره البارز.

     والتشخيص عند العقاد ملكة خالقة «تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً، أو من دقة الشعور حيناً آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرض والسموات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامسة ولامسة فيستبعد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير وتوقظه تلك اليقظة، وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة»[36].

     والتشخيص سمة فنية قديمة عرفها اليونان والرومان، وأدت عندهم دوراً مهماً في العبادة والأدب والفن على السواء بحيث تصعب معرفة الحد الفاصل بين ما هو ديني مقدس وبين ما هو أدبي فني[37].

     ويمكن أن يعد عام 1932م عاماً مهماً في حياة عمر أبو ريشة، ففيه حزن حزناً شديداً لفقده محبوبته الإنجليزية نورا التي أحبها وعزم على الزواج منها، فرثاها بقصيدته الحزينة الباكية «خاتمة الحب»، وهي قصيدة تشي بحزنه الشديد وانصرافه عن الحياة وزهده فيها، لكن صلة عمر أبو ريشة بالحياة والأحياء أكبر مما ظن يومذاك، وبهذه الصلة عاد عمر أبو ريشة إلى الحياة مقبلاً عليها منهوماً بحبها، الأمر الذي جعل صلته بها وبكل ما فيها قوياً متعدد الجوانب كثير الوشائج والأواصر. ولذلك يمكن القول: إن التشخيص يكثر عنده كثرة مفرطة لسعة خياله وإقباله على الحياة وعمق اتصاله النفسي والمادي بما فيها من عناصر. ولو وقفنا عند قصيدته «حماة الضيم» لوجدنا فيها الكثير، كهذا البيت البديع:

كم نجــــمة وثبــــت لتلثمه     فلم تظفر به فتعلقت بإزاره

     والبيت يصور لنا شخصاً عالي المكانة رفيع المنزلة، بحيث تغار منه النجوم فتثب إحداها لتقبله وهو في علاه، لكنها إذ لم تستطع أن تصل إلى رأسه لتطبع عليه قبلتها تتعلق بإزاره. لقد جعل أبو ريشة النجمة إنساناً حياً له غرائز الإنسان ومطامحه ورغائبه، يعجب بآخر إعجاباً يحمله على الوثوب إليه ليقبله، فإذا عجز عن ذلك تعلق بإزار من يحب. وفي الأفعال الأربعة في البيت «وثبت، تلثم، تظفر، تعلقت» كل الخصائص البشرية التي تجعل من النجمة شخصاً حياً. وللأفعال الأربعة مهمة أخرى في البيت، وهي إضفاء الحياة المتحركة على الصورة من الوثوب إلى التعلق.

     ويجعل عمر أبو ريشة المجد إنساناً يخجل، إذ يجيل الطرف في الوطن العزيز فيراه وقد هدم الجبناء أسواره وتركوه حمى مستباحاً للغاصب:

     المجد يخجل أن يجيل الطرف في ما هدَّم الجبناء من أسواره فالمجد هنا إنسان يجيل الطرف في ربوع الوطن، فيرى ما يسوء ويحزن، فيعود أسفاً خجلاً مما رأى. ويصور عمر أبو ريشة قوافل اللاجئين المنكوبين التي اضطرها الغاصبون إلى ترك ديارهم فيقول:

وإذا قوافـــــله العجـــــاف طريدة
               والبغي يقــــذفها بمــــارج نـــاره
كم متعــب جـــر السنيـــن وراءه
               ومشيــبه يبكي جـــلال وقــــــاره
كم حرة لم تدرعيـــن الشــمس ما
               في خدرها أغضت بطـرف كـاره
وبنـــاتها وجــلى تضـــج أمامهــا
               والرجـــس يدفعـهــا إلى أوكـــاره
بمن استجــــارت هذه الزمر التي
               مد الزمـــان لهـــا يد استهتـــــاره
العـــري ينشـــرها على أنيـــــابه
               والجــوع يطويهــــا على أظفـاره

     ونحن في هذه الأبيات نجد البغي إنساناً ظالماً يقذف القوافل المنكوبة بناره، ونجد المشيب إنساناً يبكي الوقار الذاهب، ونجد الشمس إنساناً يرى ويعلم، ونجد الرجس إنساناً فاسداً نهماً إلى المتع الحرام يدفع الصبايا المحزونات إلى أوكار المعصية، ونجد الزمان إنساناً مستهتراً لا يبالي بالقوافل التي تطلب عونه.

     وفي قصيدة الشاعر «هكذا» نقف عند هذا البيت العجيب الذي يصور في إيجاز مؤد محكم رغبة المترف الآثم، وتطلعه إلى المتعة الحرام:

منتهى دنياه نهد شرس     وفم سمح وخصر طيع

     فالنهد شرس عنيف، والفم سمح مستجيب، والخصر موات طائع، وكلها صفات إنسانية أضفت على البيت الحركة والحياة.

     وحين أراد أن يصور حزن البطولة التي تبكي حظها بسبب المترف الآثم ومن إليه قال:

والبطولات على غربتها     في مغـانينا جيــاع خشع

     فهي شخص حي ينظر إلى آماله المرجوة فلا يجدها، بل يجد نفسه غريباً لا مكان له في مناخ العابثين، بل هو إلى غربته جائع لا يجد ما يسد رمقه، خاشع ركبه الذل وأحاط به اليأس والإحباط، لقد أضفى أبو ريشة في بيته على البطولة الخصائص الإنسانية الملائمة للموقف واستطاع أن يحشدها في تتابع مركز نراها فيه غريبة جائعة خاشعة.

     وفي قصيدته «وجراحي» يقول عمر أبو ريشة:

أنـــا عمر مخضــب وأمــــان مشـــردة
ونشيــد خنقـــــت في كبريــــائي تنهـده
رب ما زلت ضاربــاً من زماني تمرده
صغر اليأس لن يرى بين جفني مقصده
بســـماتي سخيـــة وجراحي مضــــمدة

     والأبيات ملأى بالتشخيص الذي يخلع الحياة على الأشياء هنا وهناك. فالعمر مخضب كأنه إنسان أثخنته الجراح، والأماني أناس شردتهم الأحداث، والنشيد يتنهد محزوناً بسبب الإخفاق والإحباط، واليأس إنسان يريد أن يذل الشاعر الذي يرده مخذولاً صاغراً، وبسمات الشاعر مع جراحه الكثيرة كريمة سخية مثلها مثل الكريم الجواد من البشر. وهذه كلها صفات إنسانية ملأت الأبيات بالحيوية والإثارة والجمال.

     ومن أروع أبيات الشاعر قوله في قصيدته «جبل» مفتخراً بنفسه:

     فكم جبل يغفو على النجم خده وأذياله للسائمات ملاعب لقد جعل من نفسه جبلاً، وجعل هذا الجبل إنساناً عملاقاً، يغفو خده على ساعد النجم لأنه المكان الذي يليق بإبائه وشموخه.

     والحقيقة أن ديوان الشاعر مفعم بهذا اللون من التصوير الغني الذي يضفي على عناصر الوجود صفات إنسانية تنتمي بها إلى عالم الأحياء. وسنكتفي الآن بذكر نماذج منها. ففي قصيدته «حكاية سمار» يجعل من لبنان إنساناً يحبه ويحتفي به:

كنت الحفي به وكـان ولاؤه     وهواك قادمتي جناحي طائر

     وللشاعر زهو ربما يجرح، ولبنان يهتز للشعر النادر، أما الليالي فهي تعبث:

لا تجـــرحن له بقية زهـــوة     إن لم يهزك بالطريف النـادر
عبث الليالي لم يدع في حقله     إلا ادّكــار خمــائل وأزاهـــر

     والحسناء المتخيلة التي تزور الشاعر في القصيدة تجتمع فيها عناصر شتى من الفتنة تتنافس وتتقاتل، والفتون فيها آسر، والحياة تعرى، والشهوات تتلمظ، واللذات تعربد، والنجم تلفه الضفائر الشقراء:

من أنت قـــلت لها، ففيك تقـاتلت     شتى غوايــــات الفتــون الآســـر
أنــا بدعة الدنيـــا وسر خــلودها     هتكت على عري الحياة ستائري
تتــلمظ الشهوات فوق محـاجري     وتعـــربد اللــذات خـلف مآزري
وتســـلسل النعماء حمر مراشفي     وتــلف جيد النجم شقر ضفائري

     والذكريات عند الأخطل نسوة يتدافعن على بساطه، وبينهن ما بين الضرائر من غيرة وتنافس وتدافع، ولعلهن معذورات لأن بساطه غني نرى فيه قدرته على تجنيح الحرف الحرون وترقيص الوتر الحنون:

أمجنح الحرف الحرون ومرقص الـ
               ـوتر الحنــــون على أنــامل ســـاحر
الذكريــــات على الزحــام تدافعـــت
               فكــــأنهـن لديـــك ســـرب ضرائـــر
فـلأيهـــــا تومي براحـــة تــــــــائب
               ولأيهـــا ترنــــــو بمقـــــلة غــــافـر

     والخيام تتلفت نحو «عمر ونعم» والنجوم تتسامر بالحديث عنهما:

عمر ونعــــــم يا خيــــام تـلفــتي
               صوب العبير ويا نجوم تسامري

     والبيد المقفرة أناسي لها سرائر ربما باحت بمكنونها، وعيون ربما رفت أهدابها:

فإذا مغاني البيد في ذكراهما     رفـــات أهداب وبوح سرائر

     والدهر إنسان يتوب عن عبثه وتغلبه روح العفو فيأتي سمحاً معتذراً:

فاطلع عليهم إن دهرك تاب عن     أهوائه وأتــــاك سمح الخـــاطر

     وقصائد الأخطل هن بناته اللواتي علم كل الناس بموته باستثنائهن، وهن زمر متوالية فيهن الزهو وفيهن الحياء، يرقصن لأنهن خاليات من كل كدر، لذلك ليس لأحد أن يلومهن إذ يراهن باسمات منشدات، فقد أحسن من كتم عنهن الفجيعة، يقول عمر أبو ريشة مصوراً ذلك في قصيدته في رثاء الأخطل «بنات الشاعر»:

بنـــات وحيك في أرجـــــائه زمر     يهـــزها المترفان الزهو والخفــر
تيتـــمت وهي لا تــدري ونشوتها     من كل عنقود ذكرى كنت تعتصر
رواقص تحمل الســـلوى وتسكبها     وليس تعـــلم ما الدنيـــا وما القـدر
فـــلا تـلمها إذا لم تخـــب بسـمتها     ولم يعـــــكر صـــدى ألحانها كدر
لم يبــــلغ الخبـر الناعي مسامعها     عن مثل هذي اليتامى يكتــم الخبر

     والإباء رجل يظل قادراً على تجاوز عثرته، والخور يحاول أن يشمت به فلا يقدر:

فكم عثرنا ولم تعثـــر إباءتنـــا     وكم نهضنا ولم يشمت بنا خور

     وللحرمان صلف كصلف المتكبر المعاند:

وكم لدى صلف الحرمان من غصص
               نمنــــا عليهــا ولم تكـشــف لنا ستــــر

     والأشجار الأبية كالرجال الأباة تموت وهي شامخة واقفة:

وأنت تكتـــــم عنهم ما تكـــابده
               تموت وهي على أقدامها الشجر

     والليل والأشباح والسهر رفاق الشاعر في رحلته وهو وحيد محزون تكاد آماله لولا بقايا صبره تنتحر يأساً وإحباطاً:

يمشي الهوينى على صحراء رحلته
               وصحبـــه الليـــل والأشباح والسهر
وبيــــن جنبيـــه آمــــال مبعثــــــرة
               تـكـــــاد لولا بقــــايـا الصبر تنتحـر

     والقدر يخجل ويغضي حياء حين يسأله الشاعر عن آماله:

يسائل القدر المحموم في خجــــل     عنها فيغضي على استحيائه القدر

     وهو يلتمس عزاءه في كتائب الزحف المأمول، لأنها كتائب مرجوة لصناعة غد كريم، وحقدها حقد مقدس مشكور، وغضبها غضب نبيل علوي:

كتائب الفتح في إعصار عاصفة     بالحقـــد والغضب العلوي تنفجر

     ويضيق الشاعر بأحزانه فيبوح ببعضها ويخنق بعضها، والدمعة خرساء وقاتلة:

عفواً بشارة بعض البوح ضقت به     فســــال فوق فمي حران يسـتعـــر
خنقت بالدمعة الخرســــاء أكثــره     وأقتـــل الدمع ما لا يـلمـــح البصر

     وللمجد العربي في الأندلس إرادة قوية تجعله يتحدى الفناء، ويظل ماثلاً لا يزول وإن زال الذين بنوه وغابوا، وهذا ما نجده في قصيدة «في طائرة»:

فنــما المجد على آثــــارهم     وتحدى بعدما زالوا الزوالا

     والمجد الذي لقيناه قوياً متحدياً في القصيدة السابقة، نلقاه محزوناً كئيباً في قصيدة «يا عيد»:

يا عيد ما افتر ثغر المجد يا عيد     فكيف تلقـاك بالبشرى الزغاريد
طالعتنـــا وجراح البغي راعفـة     وما لها من أساة الحي تضميـــد
فللفجيـــعة في الأفواه غمغـــمة     وللرجولة في الأســماع تنــــديد
فتلك رايــــاتنا خجـــلى منكسة      فأين من دونها تلك الصنـــــاديد

     فالعيد محزون لا يبتسم وهو ينظر إلى جراح البغي التي لم تجد آسياً يضمدها، أما الفجيعة فهي تولول وتصرخ، وأما الرجولة فهي غضب يندد، وأما الرايات فهي خجلى مطرقة أسيفة. وأطلال «أوغاريت» كئيبة لا تعرف الابتسام، ذاهلة ذهولاً ينبىء عن جوى تكتمه وتعانيه وتغالبه:

ما لي أراك كئيــبة النظرات لم تتبسمي
               هذا الذهول ينم عن ذاك الجوى المتكتم

     وتتساقط الرمال والأنقاض من الصرح الروماني القديم باحثة عن أسسه، والشاعر يسأل اليوم الحاضر عن الأمس الراحل، وللدمار كف تتعب وتخاف وللموت يأس يدفعه إلى الانتحار. يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «طلل»:

رمال وأنقاض صرح هوت     أعاليـــه تبحث عن أســــــه
أقـــلـب طرفي به ذاهــــــلاً     وأســـأل يومي عن أمســــه
لقــد تعبــت منه كف الدمار     وبـــاتت تخـــاف أذى لمسه
هنـــا ينفض الوهم أشبـاحه     وينتحــر المــوت في يأســه

     وفي قصيدته «إيمان» تعجب الفراشة بالكون وسناه، لكنها تحتار من سرعة الفناء فتسأل أختها عن ذلك، ثم تجنح إلى اغتنام ما يمكن اغتنامه من النعمى المتاحة دون سؤال عن غد ربما يوقظ أشباحاً نائمة تعكر الصفو المتاح:

فراشة قــــالت لأخـت لهــا     ما أبهــج الكون وما أسـنى
لكنـني يا أخـت في حيـــرة     من أمره سرعــان ما يفنى
رفيقــة العمر لنــــا يومنــا     فلنجن من نعــماه ما يجنى
لا تســــألي عن غدنا ربما     أيقظت من أشباحه الوسنى

     وتنوء جراحات الشاعر بالقيد الذي يطوقه ويتعبه، فتغضب منه وتشتمه:

لم أزل أسحب قيدي متعبـــاً     وجراحي لم تزل تشتم قيدي

     وتتعرى فيينا في الشتاء، وتكتسي بالغيم، ويتعب الدانوب وهو يجر خطاه بثقل ومشقة:

وتعرت على الشتاء فيينـــا     واكتست بالغمائم المجدولة
وتلوى الدانوب بين يديهــا     متعباً ساحباً خطاه الثقيـــلة

     وللطرف ذهول ووجوم، وللأشواق مصارع، وربما حنت ليلة سالفة على ليلة باقية وربما لم تحن:

الوجوم المرير في طرفـك الذا     هل أقسى من مصرع الأشواق
ليس فيه من الليـالي المـواضي     أي حدب على الليـالي البواقي

     وللآمال قوة جامحة تجعلها تزحم الآفاق وتغزو النجوم:

حدثيـني عن أمانينـــــا التي     تزحم الأفق وتغزو الأنجما

     والرمال الظامئة تحلم بالماء الذي لا تستطيع الوصول إليه فيكون حلمها هو السراب:

إن تهتكي سر الســـــراب وجدته
               حلم الرمال الهاجعات على الظما

     وللنجوم شوق للأحبة يجعلها تسهر في انتظارهم:

وخـــلف ملاعبنا أنجم     على شوق أوبتنا تسهر

     وربما تعاطف الليل مع الشاعر فطفق يصغي معه:

من أيــــن لا أدري ولكنــــــني     أصغي وهذا الليل يصغي معي

     وربما غلبت الكآبة على الأرض لفقد الشباب، وربما شل الزهو وجرح الحسن:

مات الشبـــاب فملء صد     ر، الأرض أنفاس اكتئاب
فالزهو مشــــلول الخطى     والحسن مجـروح الإهاب

     وللأوطان نهوض بعد عثرة، لأن الحق لا يموت، والبغي يمشي منتصراً فترة من الزمن لكنه ما يلبث أن يهوي ويسقط دون آماله التي يحلم بها، والليالي الظالمة يسقط كبرياؤها مهيناً ذليلاً:

درج البغي عليـــها حقبــــة     وهوى دون بــــلوغ الأرب
وارتمى كبر الليالي دونهــا     لين النـــاب كليل المخـــلب
لا يموت الحق مهما لطمت     عارضيـه قبضة المغتصب
❊❊❊

❊ والتجسيم لون من ألوان التصوير يقدم لنا أمراً معنوياً في صورة مادية مجسدة، كتجسيم الروح أو الفكرة أو المبدأ[38]، الذي يجعل التواصل بين المبدع والمتلقي أكبر مساحة وأوسع أثراً.

     وقد برع عمر أبو ريشة في التجسيم براعته في التشخيص؛ إذ نراه قادراً على الدوام على عرض عناصر الوجود غير المادية في صور مجسدة مجسمة نكاد نلمسها بأيدينا ونسمعها بآذاننا ونراها بأعيننا فيزداد إحساسنا بها ونتفاعل معها، وذلك بفضل ما أضفاه الشاعر عليها «وقد كان يعرف دائماً كيف يجسد الصورة ويجسمها»[39]. لقد كان عمر أبو ريشة يتعنى في شعره، ويبذل فيه جهداً غير عادي خاصة فيما يتصل بالوحدة العضوية، وبيت المفاجأة، والتصوير، وهو يوفق في صوره توفيقاً مدهشاً، إذ يستدعي ما يلائم الموقف الذي يعرضه لنا من المخزون الكبير المترسب فيه، ونحن «إذ نتخيل لا نتذكر خبراتنا وتجاربنا بتفاصيلها وإنما نستحضر منها ما يلائم الموقف ويعين على التجربة الفنية»[40].

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «حماة الضيم»:

تلك البقيــــة من ســـلافة حلـــمه
               نضبـــت ولم تنقـــع غليـل أواره
أو ما لمحت على كآبـــة صمتــه
               ما شقــــت الأقـــدار من أستـاره
غنى عريـــق فخـــاره حتى أتت
               دهم الخطوب على عريق فخاره
فذري العتــاب فلن يهزك لحنــه
               ما دام مغــــموساً بــذل إســـاره
وطن أذاب على هـــواه شبـــابه
               وحبـــاه بالمـأثور من أشعـــاره
كم متـــعب جر الســـنين وراءه
               ومشيــبه يبكي جـــلال وقـــاره

     الحلم صار خمراً في البيت الأول، والصمت صارت له أستار تشقها الأقدار في البيت الثاني، والمصائب في البيت الثالث خيل سوداء تأتي على المجد العريق، والذل في البيت الرابع ماء آسن يغرق فيه الأذلاء، والشباب في البيت الخامس يغدو سائلاً مذاباً، والسنوات في البيت السادس عبء ثقيل يجره المتعب وراءه. إن الحلم والصمت والمصائب والذل والشباب والسنين، كل ذلك يستحيل أشياء مادية عند الشاعر الذي لا يتعامل معها كما هي في حقيقة الأمر، بل يتعامل معها كما يراها، فإذا بها على يديه أجساد متحركة، وأجسام تقع عليها حواسنا فتتأثر بها، فنرى ما لا يقع تحت دائرة الحس رؤيتنا لما يقع تحتها، وندرك ما هو غيب إدراكنا لما هو شهادة، وبذلك نتفاعل مع النص تفاعلاً أكبر ونتعايش معه ونلمس عناصره ونستجيب له، ونكمل نحن بملكاتنا التخيلية عمل الشاعر، فنتصور التفاصيل ونملأ الفجوات، فنرى الخمرة هي ما آل إليه الحلم، ولهذه الخمرة بقية ضئيلة ما تلبث أن تنضب فلا تروي غليل محتسيها، ونرى للصمت أستاراً كثيفة من الحزن والكآبة تشقها الأقدار، ونرى الخطوب خيلاً دهماً تغير على الفخار كأن بينهما عداوة فتأتي عليه، ونرى الذل مستنقعاً من المياه الآسنة يأسر من يغرقون فيه فلا يهزهم حداء ولا تثيرهم نخوة، ونرى الشباب وقد استحال ذوباً من قلب الشاعر الذي يحب وطنه ويحبوه بأفضل شعره وأعزه عليه، ونرى السنين عبئاً ثقيلاً يجره شيخ عاجز متعب فيزداد به عنتاً ومشقة. لقد جسم عمر أبو ريشة غير المحسوس ونقله إلى عالم المادة فقربنا إليه وقربه إلينا فتفاعلنا معه بأكثر مما لو بقي فكرة مضمرة أو غيباً مستوراً. وهذا التفاعل المتزايد أفضل ما يطمح إليه العمل الفني، إذ يبلغ بالشاعر هدفه، ويحقق الصلة بين المبدع والمتلقي، ويشرك المتلقي في استقبال رسالة الشاعر والإضافة إليها.

     وحين تمضي في عالم عمر أبو ريشة تجد هذا اللون من التصوير يقابلك حيث ذهبت لأنه مستكن في أعماق الشاعر، ولأنه حصيلة جهده ومعاناته وأسفاره وخياله المتوثب الجامح والجامع أيضاً.

     انظر كيف جعل النخوة والإباء جراحاً موجعة بسبب سلوك الفاجر المترف، وانظر كيف جعل الرياح تعوي غضباً وغيظاً في قصيدته «هكذا» حين أراد أن يسخر من سلوك عابث يتناقض مع تقاليد كريمة موروثة ومع واجب وطني مقدس:

بـــدوي أورق الصخــــر لـه     وجرى بالســـلسبيل البـــلقـع
فـــــإذا النخوة والكبــر عـلى     ترف الأيـــام جــــرح موجع
هانت الخيل على فرســــانها     وانطوت تـلك السيوف القطع
والخيــــام الشم مالت وهوت     وعـوت فيها الريـــاح الأربع


     النخوة والكبر أمران نفسيان خالصان، لكنهما صارا جرحاً حزيناً يألم للعمل المخزي، والرياح الأربع تعوي وتصرخ في الخيام الهاوية بعد طول استعلاء.

     وفي قصيدة الشاعر «حكاية سمار» نجد حبه لبنان وولاءه له قادمتين في جناحي طائر، ونجد الشباب شموعاً تذوب بين المزاهر والمجامر ونجد الزهوة تجرح ونجد لأشباح الونى حفيفاً في المسامع، ونجد لأطياف المنى رفيفاً في النواظر، وهو كله من التجسيم المؤثر الجميل:

كنـــت الحفيَّ به وكـــــــان ولاؤه
              وهواك قـــادمتَيْ جنـــــاحي طائر
كم في نديــــك من شموع شبـــابه
              ما ذاب بين مزاهـــــر ومجــــامر
لا تجـــرحن له بقيـــــة زهـــــوة
              إن لم يهزك بالطريف النــــــــادر
لبنان جئتك من غيابــــات السرى
              ويدي على دقــــات قـلب حـــــائر
وحفيف أشبـاح الونى في مسمعي
              ورفيف أطياف المنى في ناظري

     وأروع من ذلك أنه جعل جمال لبنان شراباً سائغاً يشربه الإنسان فينتشي، أما سناه فهو أساور في المعاصم وخواتم في الخناصر:

شربوا جمالك فانتشوا وتأنقوا     في بث نشــــوتهم تأنق قــادر
ولربما صاغوا سناك أساوراً     لمعاصم وخواتماً لخنـــــاصر
❊❊❊

❊ ومن خصائص عمر أبو ريشة في تصويره عنايته بالجمع بين الأمور المتناقضة وحشدها في إطار واحد، وتلك مهارة فنية وذكاء، ذلك أن النقيض يبدو أكثر وضوحاً وحِدَّة حين يقرن إلى نقيضه بحكم قانون التضاد، فاللون الأبيض يبدو أكثر بياضاً حين يكون بجوار اللون الأسود مما لو كان بجوار اللون الأصفر مثلاً. إن التضاد لغوياً قيمة بلاغية تبدو عن طريق المقابلة المتوازنة في الأشياء وفي الأفكار من حيث جوهرها وخصائصها[41]، لكن القضية عند عمر أبو ريشة واسعة لا يقف فيها على الأمور الجزئية كالجمع بين البخل والكرم، والصحة والمرض، والموت والحياة فقط، بل يتجاوز ذلك إلى دائرة أوسع تتصل بالحياة كلها.

     في قصيدته «بعد النكبة» يحزن الشاعر لحال أمته ويقول لها:

أمتي هـل لك بيـــــن الأمم     منبــر للسيــف أو للقـــــلم
أتـلقــــاك وطرفي مطـرق     خجلاً من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثــــاً     ببقــايا كبريـــــــــاء الألـم

     إن الأمة في نفس الشاعر شيء، وهي في واقع الحياة شيء آخر مناقض، وهي في التاريخ ذات حضارة مشرفة ومجد باذخ، مما يجعله يخجل من واقعها اليوم فيتلقاها وطرفه مطرق، وهو بانتمائه إلى الأمة التي عشق مجدها ذو اعتزاز وكبرياء ولكنه بانتمائه إليها وهي في ذلها وعجزها مجروح الكرامة يبكي بكاءً مراً يكاد يعصف بما بقي له من كبرياء وشموخ وعنفوان، ونحن في هذه الأبيات أمام مجموعة من التناقضات الحادة المرة التي يبدو كل منها في غاية القوة، ولقد استطاعت هذه التناقضات أن تبرز لنا بجلاء حياة الشاعر الداخلية وعالمه الغاضب العاصف، وحزنه المستبد، واعتزازه وخجله، وبكاءه وإباءه، مما جعل أثره فينا كبيراً وتفاعلنا مع تجربته بالغاً.

     ويشتد عتب الشاعر على أمته وغضبه عليها فيقول لها:

كيف أغضيـــت على الذل ولـم     تنفضي عنــك غبــار الـتــــهم
أو ما كنــت إذا البغي اعتـــدى     موجـــة من لهـــــب أو من دم
فيـــم أقـدمت وأحجـــمت ولــم     يشـــتف الثـــأر ولم تنتـــــقمي
اسمعي نوح الحزانى واطربي     وانظري دمع اليتـامى وابسمي

     نحن في هذه الأبيات إزاء مجموعة من التناقضات العنيفة التي تصل حد السخرية المريرة والتقريع والتوبيخ. إنه يسأل الأمة باستنكار ولوم كيف رضيت لنفسها الذل وكيف سكتت عن التهم التي تتراكم عليها خلافاً لما هو متوقع منها باعتبارها أمة ذات إباء واستعلاء؟ ويسألها ساخراً عن بطولتها المعروفة التي تحيلها بركاناً من اللهب والدماء حين يعتدي عليها أحد وأين ذهبت هذه البطولة؟ ويسألها أيضاً عن الإحجام بعد الإقدام دون ثأر وانتقام؟ ثم يطلب منها في سخرية حادة ربما تحرك كامن بطولتها الغافية أن تطرب على أصوات الحزانى، وأن تبسم وهي تنظر إلى دموع اليتامى. أبيات تفيض بالحياة الثائرة الساخرة، المحركة للكوامن، استفاد عمر أبو ريشة استفادة بالغة فيها من حشد التناقضات وتوظيفها توظيفاً مثيراً.

     وفي قصيدته «حماة الضيم» يقول عن نفسه:

كـــانت له خيـــــلاؤه أيــــــام لـم
               تهتـك بنــــات الدهر حرمة داره
أيــن انطلاق خيـــــاله في ملعب
               روى الجفون الرمد من أنـــواره
غنى عريــق فخــــاره حتى أتت
               دهم الخطوب على عريق فخاره

     وفي البيت الأول نجد أن للشاعر خيلاءه الكبيرة التي تبيد بعد أن عصفت بها الحدثان، وفي الثاني نجد أن له خيالاً بديعاً منطلقاً لكنه تبدد، وفي الثالث نجد أن الشاعر يغني مجد بلاده غناء الفخر والاعتزاز والإشادة، لكنه لا يلبث أن يتوقف عند ذلك حين تتكاثف الخطوب السوداء وتعصف بهذا المجد وتأتي عليه. وهذه كلها ألوان من التناقضات حشدها عمر أبو ريشة في حيز واحد فظهرت بقوة وأثرت بقوة.

     وأروع من هذه الأبيات قول الشاعر في القصيدة نفسها:

كم حرة لم تدر عين الشـــمس ما     في خدرها أغضت بطرف كاره
وبنــــاتها وجلى تضـــــج أمامها     والرجس يدفعــــها إلى أوكــاره

     المرأة العفة الحرة كانت في حال وصارت في حال مضاد، كانت لها عزتها ومنعتها وحرمتها، يستبين لنا ذلك من معرفتنا أن عين الشمس لم تكن تدري بما في خدر هذه الحرة، الشمس تطلع وتغشى كل شيء لكنها تجهل هذه الحرة ودارها وحياتها مما يستدعي إلى الذهن كل معاني العزة واليسار والصون والحفظ والكرامة والمكانة الاجتماعية والمالية، لكننا في الحال الثاني نجد أنفسنا في الموقف المناقض وبحدة وألم وعنف، نجدها تغضي بطرف الكاره المغلوب بل نجدها في إسار العجز والذلة والضياع وفقدان العون والنصير والوقوف الأعزل إزاء الكوارث، لذلك لا تستطيع أن تصنع شيئاً قط لبناتها الخائفات العاجزات اللواتي يطلبن العون ولا معين والرجس يدفع بهن إلى أوكار الإثم والعار، إن البيتين صورة في منتهى الغنى، وفي منتهى التأثير، والسبب الأكبر في ذلك هو التوفيق الذي أدركه عمر أبو ريشة من حشد التناقضات الحادة الدامية في حيز واحد.

     ويوفق عمر أبو ريشة توفيقاً بعيداً في تصوير البدوي المترف الفاجر بين حالتيه، يقول في قصيدته «هكذا»:

بـدوي أورق الصخــــــر له     وجرى بالســلسبيل البـلقــــع
فـــإذا النخوة والكبـــــر على     ترف الأيــــام جرح موجــع
هـانت الخيل على فرســـانها     وانطوت تلك السيوف القطع
والخيـــام الشم مالت وهـوت     وعوت فيها الريـاح الأربــع

     وتبدو التناقضات في الأبيات في أوج قوتها، فالبدوي كان يحيا حياة شاقة في صحرائه القاسية، لكنه اليوم غارق في النعيم إذ أورق له الصخر وجرى القفر بالماء، فإذا به اليوم في حالة تتناقض تماماً مع حالته بالأمس وهذا ما نجده في البيت الأول، فإذا جئنا البيت الثاني تذكرنا مروءة العربي ونخوته وإباءه وعزته لكننا ما نلبث أن نعلم أن ذلك كله تولى وانقضى وأن مكارم الأمس صارت جراحات حزينة اليوم، وسبب ذلك الترف الذي نقل البدوي من حال إلى حال. وفي البيت الثالث تهون الخيل على فرسانها وقد كانت عزيزة عليهم من قبل لأنها قرين بطولتهم المرتبطة بها فلما غابت البطولة غاب ما هو قرين لها مرتبط بها، أما السيوف القاطعة الباترة فقد جثمت في أغمادها لأنها لم تعد تستعمل، وفي البيت الرابع نجد الخيام التي كانت شماء باذخة يوم كان أهلها يعمرونها بالمكارم تهوي إلى الأرض بعد أن تخلوا عن مكارمهم وأسرفوا في الإثم والمعصية. وكل هذه تناقضات حادة حشرها عمر أبو ريشة في إطار واحد فازدادت وضوحاً وقوة وأثراً.

     والبيت الأخير من القصيدة يقول:

هكذا تقتحم القـدس على     غاصبيها هكذا تسترجع

     ونحن في هذا البيت المفرد إزاء تناقض حاد، مر، ساخر، مثير. إن القدس أسيرة عند عدو ظالم مما يدعونا إلى استرجاعها، والاسترجاع يدعو إلى الجد والحشد والخشونة وإيثار الصالح العام وما إلى ذلك، لكن عمل المترف الآثم لا يدل على ذلك قط، بل يدل على نقيضه تماماً، يدل على الترف والأثرة والهوان ونسيان المصالح العامة والعكوف على الصغائر والآثام. والتناقض الحاد بين الواقع المقيم وبين الواجب الغائب، أحيا الصورة واستثار الغضب، وأبلغ في الأداء، لذلك كان البيت ختاماً موفقاً جداً للقصيدة وخاتمة ناجحة لها.

     وفي قصيدته «حكاية سمار» يحسن عمر أبو ريشة مخاطبة الأخطل الصغير الذي أقيمت له حفلة تكريمية، ذلك أن الأخطل شاعر غزل، فلا غرابة أن يستدعي له شعراء الغزل من قبل كعمر بن أبي ربيعة:

كم جولة لك في الصبابة والهوى     سدت مســـالكها حبـــــائل ظافر
ولكم تخطفك الخيال فعـــدت بالـ     ـعشاق من حرم الزمان الغــــابر
عمر ونعـــم يا خيـــــــام تلفــتي     صوب العبير ويا نجوم تسامري
حــب طوته يد البــــلى ونشـرته     وأعدت ماضيه حديث الحــاضر

     عمر ونُعْم والحب الذي كان بينهما حديث مضى، لكن الشاعر الغزل يجوب مع خياله، ويعود إلى الوراء لينشر ما طواه الزمان ويعيد هذا الحب حياً شاخصاً يتحدث عنه الناس كما لو كان ماثلاً بينهم. وفي الصورة جمال وطرافة نراهما في مشهد الحبيبين الذي نشره الأخطل الصغير بعد قرون، فإذا عمر ونعم حاضران، وإذا الخيام تتلفت صوبهما، وإذا النجوم تتحدث عنهما. وبين ما طواه البلى وما استرجعه الخيال بون بعيد المسافة، قربه أبو ريشة بالجمع بين طرفيه النائيين، فزاد في طرافة الصورة وجمالها وإثارتها.

     ويشيد عمر أبو ريشة بالأخطل الصغير، ويمجده فيقول له:

يا مطرقاً يصغي بخشعة راهب     متواضـــع ويغض جفن تفــاخر
ما زلت تسحب فوق كل معــاند     ذيل الشموخ وفوق كل مكــــابر

     فالأخطل الصغير صامت خاشع مطرق كراهب في صومعته، لكنه إذ يفعل ذلك لا ينسى مكانته، فهو متواضع تواضع العزيز العارف لمنزلته العالية، لذلك يغض عامداً مختاراً جفن فخاره وجدارته، ومعرفة الأخطل بنفسه تبدو عنيفة متحدية إذا جاءه المعاند والمكابر، هناك ينتفض إباؤه وينفجر استعلاؤه فإذا به صقر يسحب ذيل شموخه وعنفوانه فوقهما.

     وأشعار الأخطل الوطنية سلاح للأحرار ينتصرون به فتمضي العبودية ويسفر الصباح:

وإذا العبوديـــــات تخلع ليلها     مزقاً على قدم الصباح السافر

     وعقيدة المؤمن لا تلين مهما تحدتها غواية الكافر:

هيهات ما لانت عقيدة مؤمن     مهما تحـــدتها غواية كـــافر

     والجمع بين التناقضات في البيتين أبرز المعنى وأوضح الصورة وزادها قوة وحدة.

     ومن أجمل صور عمر أبو ريشة في هذا المجال قوله في رثاء صديقه إميل البستاني في قصيدته «الفارس»:

كيـــف يرتـــد عن مـداه مـــراده
               وعلى ملعــــب الخـــلود طــراده
فــــارس نازل الليـــالي فعـــزت
               بالـتـــلاقي جيـــــادها وجيـــــاده
ما درت في الزحام أيهـــما أغـــ
               ــزر، فيضاً عنـــادها أم عنـــاده
صهــوة المجد ما امتطاها جبـان
               كـــل نجـــم عشـــاقه أنــــــــداده
وأطل الصباح والفــــارس الأسـ
               ـمـر، في كل غــــمرة أرصـــاده
مثخن بالطعـــان ما عرف الشكـ
               ـوى، ولا عض سيـــفه إغمـــاده
تشـــرق البســـمة اللعـوب بخديـ
               ــه، وتخفي ما ازور منه فـــؤاده
كيف نشكو الفراق والملهم المخـ
               ـتــــار، في يوم موتـــه ميـــلاده
طلع الخـــلد من محـاريبه الزهـ
               ـر، وناجــاك زهوه لا حـــــداده

     والأبيات ملأى بالتناقضات التي تشد الانتباه لقوة وقعها وحدة أثرها، ولطرافتها وغرابتها أيضاً. وفي هذه التناقضات ما يغري بالتجوال والتأمل والاكتشاف.

     في البيت الأول نجد للبستاني آمالاً فساحاً على ملعب الخلود تتنزى كأنها خيل مما يجعل التساؤل الإنكاري منطقياً حين يظن ظان أن مراد البستاني قد يرتد عن مداه وينحسر، خاصة ونحن الآن في البيت الثاني أن البستاني فارس كان بينه وبين الزمان نزال، والنزال يستدعي وجود طرفين متحاربين متناقضين. وفي البيت الثالث نعلم أن المرثي عنيد ذو إصرار وعزيمة، ونعلم أيضاً أن الزمان عنيد هو الأخر ذو إصرار وعزيمة، وهذا من شأنه أن يشعل الموقف بينهما، ويجعله أكثر حدة وعنفاً. والبيت الرابع يخبرنا أن المجد لا يصله جبان، لأن المجد يستدعي الشجاعة، فالعلاقة بين المجد والجبن علاقة تضاد وتناقض. وفي البيت الخامس يطل الصباح لا ليأتي بالبشارة والأمل كما هو متوقع، بل لنرى أنفسنا مع المرثي وقد أحاطت به الأرصاد والغمرات، أما البيت السادس فنراه فيه مثخناً بالجراح التي تغتفر معها الشكوى لكن صاحبنا لا يشكو ولا يضعف، ويبقى سيفه مسلولاً يأبى أن يأوي إلى غمده. بل إن المرثي ونحن الآن في البيت السابع يتجاوز جراحه وأحزانه ليقف على النقيض من دواعيها فيبتسم ابتسامة تخفي ما في فؤاده من جراحات. وفي البيتين الثامن والتاسع يقرن عمر أبو ريشة الموت والحياة والفرح والحداد ويجعلها في حيز واحد.

     تناقضات كثيرة، ومفارقات متنوعة، اجتمعت في إطار واحد، فأحيت الصورة كثيراً وأغنتها وأطرفتها، مما جعلها تنتزع الدهشة والإعجاب من المتلقي، وتنقل تجربة الشاعر إليه، وتكشف عن جهده في هذه الصور وقدرته على الحشد فيها.

     وتسعفنا النصوص كثيراً ونحن نبحث في ديوان الشاعر عن هذا اللون من التصوير القادر والمؤثر. ففي قصيدة «بنات الشاعر» يقول عمر أبو ريشة عن بنات الشاعر اللواتي يبتسمن لأنهن لا يعلمن بالوفاة، والبنات هن القصائد:

نبدي لها غير ما نخفي ولوعتنا     تكاد في صمتــها للشوق تعتـذر
فلا تـلمها إذا لم تخب بســـمتها     ولم يعــكر صــدى ألحانها كدر

     ويقول في نفس القصيدة مصوراً الأبي تخونه حظوظه فيعثر، لكن عزيمته تظل شامخة لا تعثر، وتنوء به الصعاب لكنه يغالبها فلا يكشف له ستر ولا يشمت به خور:

فكـــم عثـرنـــــا ولم تعثــــر إبــــاءتنا
               وكم نهضنـــا ولم يشمت بنــــا خـــور
وكم لدى صلف الحرمان من غصص
               نمنــــا عليها ولم تـكشــــــف لنا ستــر

     وأروع من هذا وذاك قوله في القصيدة نفسها ساخراً من الطواغيت الذين هزمت الأمة بسببهم، ومع ذلك ما يزالون حيث كانوا:
إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبـوا
               أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العــار أن يمحى فكان لهم
               على الربـــاط لدعم العـــــار مؤتمــر
على أرائـــكهم سبحــــــان خــــالـقهم
               عاشوا وما شعروا ماتوا وما قبــــروا

     والأبيات سخرية رائعة مرة تستثير الغضب والنقمة والازدراء، وفق عمر أبو ريشة فيها توفيقاً بعيداً، وكان من أبرز أسباب هذا التوفيق حشده للمتناقضات في إطار واحد.

     وحين يلتقي عمر أبو ريشة بالحسناء الإسبانية التي تعتز بدمائها الأندلسية العربية، يسألها عن نسبها فتمضي تشرح له بفخار واستعلاء عن أجدادها العرب وحضارتهم المشرفة في الأندلس، ثم تسأله بتحد واستفزاز عن نسبه كما سألها. ربما كان المتوقع أن يشرح لها كما شرحت له، وأن يشير إلى قرابته لها، لكنه يقف على الطرف المضاد فيسكت ويبكي ويتجاهل السؤال، تقول له الفتاة الإسبانية:

هؤلاء الصيـــد قومي فانتسب     إن تجد أكرم من قومي رجالا

     أما جوابه لها فهو:

أطرق القلب وغامت أعيني     برؤاها وتجاهلت الســــؤالا

     والرايات توحي بالعلو لكنها خجلة منكسة مما يوحي بنقيض العلو، والأبطال تتقدم للثأر لكنها تحجم خلافاً لما يستدعيه الموقف، والسيوف ساكنة في أغمادها وكان ينبغي أن تسل:

فتلك رايــاتنا خجــــلى منكسة     فأين من دونها تلك الصنــاديد
ما بالها وثبت للثأر وانكفــأت     وسيفها في قراب الذل مغمود

     ويحدث بين الشاعر وبين حبيبته ما يدعوه لمفارقتها، ويخرج من دارها الدافئة العابقة بالطيب الملأى بذكريات العمر وساعات الوصل والأنس ليجد نفسه فجأة في إسار الوحشة والظلام والبرد والوحدة:

تركت حجـــرتها والــدفء منسرحاً
               والعطـــر منســكباً والعمر مرتهنـــا
وســـرت في وحشتي والليل ملتحف
               بالزمهرير وما في الأفق ومض سنا

     وتجتمع الليالي المواضي مع الليالي البواقي في حيز واحد يقول فيه الشاعر:

ليس فيه من الليالي المواضي     أي حدب على الليالي البواقي

     ويلتقي الشاعر مع فتاة، لكنه يشعر أنها بشبابها ليست له بكهولته فيقول لها:

حسنــاء لا تفضي بما تكـتمين     ما بيـننـــا قــــافـلة من سنيــن
أنا السرى في المنحنى المبهم     وأنت حـلم الطيب في البرعـم

     وينتفع الشاعر من التناقض المادي بين ذروة الجبل وبين سفحه ليظهر لنا الإباء الذي يعانق الذرى والحقد الذي يعانق السفوح، فندرك أن ما بين الإباء والحقد من البعد النفسي هو الذي بين الذروة والسفح من البعد المادي:

معــــاذ خلال الكبر ما كنت حــاقداً
               ولا غاضباً إن عاب مسراي عائب
فــكم جبــل يغفـو على النجم خـــده
               وأذيــــاله للســـائمـات ملاعــــــب

     وحين يرثي عمر أبو ريشة سعد الله الجابري، يعرضه لنا في هذه الصورة الحافلة بالتناقضات:

وتجلى من بعدها يتهــادى     باختيال على الأذى واتئاد
زهوة في تواضع وإبــــاء     في خشوع ورقة في عناد
من ميادين نزع بالأمــاني     لميادين خضب بالعـوادي

     ويصور عمر أبو ريشة كبرياءه في هذين البيتين الحافلين بالتناقضات المثيرة:

لنا كبرنا كم طال في التيه دربنــا
               وكم نفضــت أقدامنا من غبـــاره
وقوفاً يرانا الموت نخفي جراحنا
               وليس يرانــا ركـعــاً في انتظاره

     وفي قصيدة الشاعر «عودة المغترب» التي قالها إثر عودته إلى سورية في مطالع السبعينيات بعد أن أحيل إلى التقاعد وانتهت رحلة غربته بانتهاء عمله الدبلوماسي، نجد مجموعة من التناقضات الطريفة، تطالعنا منذ البيت الأول الذي يجد فيه باب وطنه موصداً أمامه، فهو قريب منه وبعيد:

ألفيت منزلها بوجهي موصدا     ما كـــــان أقربه إلي وأبعـــدا

     وتتكاثر الظنون أمام الشاعر فتذهب به مذاهب شتى، وعندها يستوي الذم والحمد عنده:

وتقاتلت في الظنون وطاب لي     في حالتيهـــا أن أذم وأحــــمدا

     أما الحاكمون الذين يحملهم الشاعر مسؤولية ما حاق بالأمة:

والحاكمون الثـــأرُ راح مفرقــاً     ما بيـــنهم والعار جاء موحـــدا
كم ملعـب للتضحيات تواعــدوا     أن يقطعــوه شـــائـكاً ومعبــــدا
حتى إذا الخطب استحر تواكلوا     وتهــالكوا فوق الأرائك أعبــدا
وتـــأنقوا في ستر ذل خنـوعهم     فجـــلوه نهجـــاً بالدهــاء مؤيدا

     واجتماع التناقضات الحادة في الأبيات يحقق للشاعر ما يريد من سخرية مرة بالطغاة الذين كانوا سبب كوارث الأمة وبلائها، فهم يتفرقون إذا دعوا للثأر من العدو، لكنهم في حمأة العار الذي يدنسهم لجبنهم يجتمعون، وفرق كبير بين تفرقهم حيث كان ينبغي أن يجتمعوا، وبين اجتماعهم حيث كان ينبغي أن يتفرقوا. وهم في أمرهم هذا يجرون على عادة قديمة لهم، فهم يتعاهدون على أن يقطعوا دروب المجد السهل منها والصعب، حتى إذا لمسوا المخاطر فروا ونقضوا عهودهم وسارعوا إلى أرائكهم يجلسون عليها عبيداً وهم يتوهمون أنهم سادة، وبالغوا في خديعة الناس عن عارهم المفضوح وخنوعهم المكشوف.

     تناقضات كثيرة تجمع بين تفرق وتوحد، ووعد وإخلاف، ولين وشدة، وسلطان يبالغ في المظهر والدهاء مع أن كل ما حوله يكذبه ويفضحه.

     ولا شك أن هذا الحشد من التناقضات قد أغنى الصورة، وملأها بعناصر الغرابة والسخرية والدهشة، الأمر الذي يوصل رسالة الشاعر إلى المتلقي بقوة ووضوح.

     هذه القدرة على جمع التناقضات وحشد الأضداد في إطار واحد تذكرنا بأبي تمام الذي كان هو الآخر صاحب باع طويل في هذا اللون من ألوان التصوير، كقوله:

سرت تستجير الدمع خوف نوى غد
               وعــاد قتــــــاداً عنـــدها كل مرقـــد
وأنقــــذها من غـــمرة الموت أنــــه
               صـــدود فـراق لا صـدود تعـــــــمد
هي البـــدر يغنـــيها تــــودد وجههـا
               إلى كل من لاقـــــت وإن لم تــــودد
ولكنــني لـم أحو وفــــــراً مجـــمعاً
               ففـــــزت بـه إلا بشــــمل مبــــــــدد
ولم تعطني الأيــــــام نوماً مســـكنـاً
               ألـــذ به إلا بـنـــــــــــــــوم مشـــرد

     والأبيات ملأى بالأضداد المتناقضة، فالمراقد وهي موضع الراحة والاسترخاء صارت أشواكاً، وصدود الفراق الذي لا يكون عن كراهية كما هو الحال مع صدود التعمد ينقذ من الموت، وجمال الفتاة يجعل وجهها يتودد إلى الناس وإن لم تقصد ذلك، والوفر المجمع لا يكون إلا نتيجة الشمل المبدد، والنوم المسكن لا يأتي إلا بعد معاناة النوم المشرد.

     وكقوله أيضاً:

قد بثثتم غرس المودة والشحــ     ـنــاء في قلب كل قار وبـــــاد
أبغضـــوا عزكم وودوا نـداكم     فقـــروكم من بغضــــة ووداد
لا عدمتـم غريب مجـــد ربقتم     في عـراه نوافـــــر الأضــداد

     ونحن في الأبيات إزاء مودة وشحناء يغرسهما الممدوح في قلب كل حاضر وباد، أما المودة فهي نتاج الندى حيث يحبه الناس لما يصيبونه من خير بسببه، وأما الشحناء فهي نتاج الحسد لما يرونه فيه من منزلة عالية لا يبلغونها، ولأن مجد الممدوح يستدعي المودة والشحناء معاً يدعو له الشاعر بأن يظل قادراً على جمع «نوافر الأضداد» فيه.

     ويبدو أن أبا تمام كان حريصاً على هذا اللون من ألوان التصوير الذي كان يجمع التناقض والتضاد والصور الغربية، وكان يستخدمه قاصداً عامداً حتى لم تخل منه صفحة من صفحات ديوانه[42]. ويبدو أن عمر أبو ريشة كان كذلك أيضاً، ولعل مرد ذلك إلى ثقافة الشاعرين، وإلى أنهما كانا مولعين بالنادر والطريف، وإلى حرصهما على التجديد، ولعل مرده قبل ذلك كله إلى سعة اتصالهما بالحياة ورؤية الأواصر الخفية في عناصرها المتباعدة. إن الإنسان إذ يساير عين عمر أبو ريشة وقلبه وهما يتقلبان في أطراف الكون وألوان الليل والنهار يكون بوسعه أن يجمع الخيوط التي تربط بين عناصر قصائده فيبدو نسيجها الفني إنسانياً يمازج التجربة الإنسانية ولا ينفصل عنها، فيصدق عليه المصطلح النقدي الذي تردد لدى الشاعر الفرنسي بودلير واهتم بتفسيره الناقد والشاعر أرشيبالد ماكليش وهو «التجانس الكوني» المؤتلف في النفس المبدعة التي تجمع بين عناصر أو كائنات في رؤية[43]. وخيال الأديب هو الذي يلتقط جوانب العلاقات بين الأشياء التي لم يتفطن لها سواه[44].

     وإذا اتسعت رؤية الشاعر لعناصر الوجود، فجمع بين المتناقض منها أو بين ما يبدو لنا نحن متناقضاً ويبدو له متوحداً، كان لنا أن نظفر بهذا اللون المثير من ألوان التصوير عند عمر أبو ريشة ومن قبله عند أبي تمام.
❊ ❊ ❊

❊ ومما يستوقف النظر في صور عمر أبو ريشة تصويره للموت تصويراً فيه غرابة غير مألوفة، ربما كان مردها أنه لم يكن يتهيب الموت، ولم يكن يراه فناء وصمتاً ووحشة، بل كان يراه مجرد انتقال، يزكي هذا الفهم ما أكده مراراً من أن أهم ما اكتسبه في الحياة تحرره من شعوره بالخوف من شبح الموت، كما يزكيه أنه كان يؤثر استعمال كلمة «سافر» بدل كلمة «مات» حين يتحدث عن وفاة أحد، ومن أجل هذا نجده في الأبيات التي كتبها ووضعها في ظرف مغلق بين يدي زوجته قبيل إجراء عملية جراحية له في القلب في أمريكا، كما لو كان يكتب وصيته، يطلب منها ألا تجزع فيما لو مات، وأن تقول للناس: إنه سافر إلى كوكب بعيد لأن له موعداً هناك:

رفيقتي لا تخبري إخوتي كيف الردى كيف علي اعتدى
إن يسـألوا عني وقد راعهم أن أبصروا هيكلي الموصدا
لا تجفـــلي لا تطرقي خشعة لا تسمحي للحزن أن يولدا
قولي لهم: ســافر، قولي لهـــم: إن له في كوكب موعـدا

     ومما يصور عدم مبالاته بالموت هذه الأبيات التي يتوهم فيها أن بينهما سوء تفاهم انتهى إلى حقد الموت عليه لأنه كان يسخر منه ويقابله بكبرياء وإباء:

كـلما الموت لاح لي كنت أرميـــ
               ـه، بطرف بالكبريـــاء خضيـــب
وابتســـــامي على شـفـاهي ترنيـ
               ــمة شـــكر إلى شبــــابي اللعوب
وتمــــر الأيـــام والموت غــــــاد
               رائـــــح راصــــــد عـلي دروبي
كـلمـــا شــــئت أن أصافحه ازورْ
               رَ وولى بصمتــــه المســــــتريب
إنــــه حاقــــــد علي ولا يثـــــــــ
               ـنيـــه، عن حقده وقـــــار مشيبي
ليس ينسى الماضي وما كان مني
               في التـــلاقي من قـــلة التهـــذيب

     والإقدام عند عمر أبو ريشة لم يكن إلا لإغضاب الموت لما بينهما من خصومة:

تلك الغياهب لم نهتك سرائرها
               إلا لنترك فيها الموت غضبانـا

     وحين يمشي الأبطال لمواجهة الموت يخاف منهم ويحقد عليهم:

مشوا للموت فارتجفت يداه     حيـــاء من إبـــاءتهم وحقدا

     لذلك لم يكن غريباً أن يقول عمر أبو ريشة للموت إنه ميت بين يدي من يرثيه في قصيدة «الفارس» ذلك أن المرثي باق لم يرتحل، والموت هو الراحل الفقيد:

أنت ميت يا موت بين يديه     تلك أوتــــاره وذا إنشـــاده

     ولذلك يرفض الشاعر شكوى الفراق لأن المرثي ولد يوم مات، وزهوه لا حداده يناجي صديقه الشاعر الذي يرثيه:

كيف نشكو الفراق والملهم المخـ
               ـتـــار في يوم موتــــه ميـــــلاده
طـــلع الخــلد من محاريبه الزهـ
               ـر ونـــاجاك زهـــوه لا حـــداده

     والإنسان أسير التراب في حياته فإذا مات انطلق من أصفاد هذا الأسر:

نحن أسرى التراب ما أطلقتنا
               بعد من طيب أســره أصفـاده

     وصورة الموت في قصيدة «أوغاريت» صورة غريبة نجده فيها ذليلاً مستسلماً إزاء أطلال المدينة التاريخية المغرقة في القدم:

والموت دونك واقف     في ذلـــة المستســـلم

     وهو إذ يكتفي بالذلة والاستسلام في «أوغاريت» ينتحر في نهاية قصيدة «طلل» لأنه يقف كما يقول الشاعر في مقدمته النثرية للقصيدة مجروح الكبرياء أمام الطلل الضحية حيث لم يستطع أن يفتك بها أكثر مما فتك، فبقي الطلل وانتحر الموت:

لقد تعبت منه كف الدمار     وباتت تخاف أذى لمسـه
هنا ينفض الوهم أشباحه     وينتحر الموت في يـأسه

     ويقف جباناً فاقداً إباءه في قصيدة «مع المعري»:

قـــــام عنه أبو العــــلاء وقـــا     مَ الموت مستنزف الإباء جبانا

     ويأتي ذبيح التعب والإعياء في قصيدة «محمد»:

ودنت منه عصبة الإثم والمو     ت، على راحها ذبيح عيـــاء

     وربما جرحت كبرياء الموت إذا أخفق في قتل من يريد، فعوت الجراح غضباً، وضحكت الأعمار سروراً، وهو ما نجده في هذه الصورة الغريبة من قصيدة «قيود»:

والموت جرح الكبرياء بصدره     يعوي وتضحك حولــه الأعمار

     وربما وجدنا للموت عند الشاعر صورة أخرى نجده فيها رقيقاً متعاوناً ليناً، يوسع لأحد الناس مجال الخطو، مع أنه في قبضته بين حروب وأهوال، وهو ما نجده في قصيدة عمر أبو ريشة «أمرك يا رب» التي قالها في رثاء الملك فيصل بن عبد العزيز، حيث يجري على لسانه هذه الأبيات:

وكم مشى الموت في دربي وأوسع لي
               مجــال خطوي أكان الموت يخشـــاني
أيــــــام أبــليت أبراد الصبـــا ويـــدي
               على حســــامي ومهري قيـــد ميـداني
وجبـــهتي في خضــــم الهول عاقـــدة
               بالشـــمس من مزق الرايــات أكفــاني

     وينظر عمر أبو ريشة إلى نواعير حماة وهي تدور منذ آلاف السنين لا تتوقف عن الدوران، ولا تتوقف عن الأنين كذلك، فيخيل إليه أن هذا الأنين إنما هو بكاؤها لأنها سئمت عمرها الطويل فهي تندب هذا العمر معبرة عن ضجرها منه، ذلك أن حياة قصيرة كريمة يختمها الموت ليكون نعمة وراحة، خير من حياة طويلة تمضي بصاحبها في ذلة وهوان، يقول في أبيات له عنوانها «نعمة الموت» قدم لها بهذه الجملة: «نواعير حماة منذ ألفي سنة وهي تئن وتبكي»:

قل لمن يعشق الحياة على الضيـ     ـمِ، ويخشى بروق عمر قصيـــر
النواعيــر تنفث الضجــر القــــا     تــل، ما بين دمعهــــا والزفيـــر
ســئمت عمرها الطويل فما تنـــ     ـــدب، إلا خلودها في الدهــــور

     وإذا عبرت هذه الأبيات عن قدرة تصويرية لعمر أبو ريشة، وإذا عبرت عن رؤيته في الجمادات حياة ورغبة وضيقاً ودموعاً. فإنها تعبر في الوقت نفسه عن نفسيته الأبية العزيزة التي تفضل عمراً قصيراً في ظلال العزة على عمر طويل في ظلال الهوان، والتي تتعامل مع الموت دون رهبة كما دلت هذه الأبيات وكما دلت مثيلاتها السابقات.
❊ ❊ ❊

❊ ومن طرائف التصوير عند عمر أبو ريشة أننا نجد عنده تراسل الحواس الذي «يعني وصف مدركات حاسة من الحواس بصفات مدركات حاسة أخرى، فنصف المشمومات مثلاً بصفات المسموعات، ونصف المرئيات بصفات المشمومات... وهذا النقل وسيلة لإبراز الأثر النفسي والإحساس العميق»[45]، ومن هنا نجد الشعراء يتحدثون عن «نعومة النغم، أو بياض اللحن، أو تعطر الأغنية، كما يتحدثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم، أو العبير المنغوم»[46].

     نجد ذلك مثلاً في قصيدة الشاعر «يا رمل» حيث يجعل الدعوة الإسلامية صرخة زهراء:

فأرسل الصرخة الزهراء فانطلقت
               كتـــائب الله ترعى البيت والحرمـا

     فالصرخة وهي صوت تكتسب البياض وهو لون، مما يجعلها صورة جميلة مخالفة للمألوف. ومن أجمل ما نجده عند الشاعر وصفه لحديث جارته الإسبانية الحسناء في قصيدته «في طائرة»:

كل حرف زل عن مرشفها     نثر الطيب يمينـــاً وشـمالا

     فالحرف وهو صوت أيضاً، تغدو له رائحة محببة ينثر بها الطيب على من حوله، حالما تنطق به صاحبته. وفي قصيدته «طهر» يمزج الشاعر بين اللمس والشم:

طوقتها يا للشـــذا     مطوقـــاً مقبـــــلا

     فالشذا رائحة طيبة تشم، لكن الشاعر يتواصل معها باللمس إذ يطوقها ويقبلها.

     أما في قصيدته «ما بعدك» فنجد العطر وهو رائحة تشم قد صار لها حديث وهو صوت يسمع:

ومســــاحب أقدامي في التــر     ب؛ حديث العطر إلى النسمة

     وأما قصيدته «في البار» فإنه يربط فيها بين الشم وهو عمل محسوس وبين الإدراك، وهو أبعد من دائرة الحس وأرحب:

عرفت شذاك فالتفتت     تســائل عنك أشواقي

     ومثل هذا التصوير فيه طرافة وحيوية وإغراب محبب، وهو دليل على سعة خيال الشاعر الذي يحشد في ساحته أبعاداً وعناصر شتى جامعاً بين خصائصها، ليضيف بذلك إلى صوره ألواناً شائقة من الخيال. ومثل هذا التصوير شاهد صدق على ما قرره الأستاذ شاكر مصطفى من أن عمر أبو ريشة مغرم باللون والظلال والطيوب، وأن للألوان والأصوات والعطور في نفسه حركة أصداء وتهويل، لإيمانه أن بينها صلات خفية وتناغماً سحرياً، وأن ذروة الشعر حين تستطيع أن تحول آثار مختلف الإحساسات في النفس إلى نغمة شعور واحدة[47].
❊ ❊ ❊

❊ وما دمنا في سياق التقويم الأخير لصور عمر أبو ريشة، فلابد لنا من الإشارة إلى أن في صوره أحياناً نوعاً من الغموض، ولكنه ليس ذلك الغموض الذي يقود إلى استغلاق أمام النص، بل إنه الغموض الذي يفتح النوافذ أمام المتلقي ليشارك في تخيل الصورة وتقبلها من ناحية، وفي الاستمتاع بطرافتها وغرابتها من ناحية أخرى، كصورة العناكب المذعورة، والميت الذي يحركه الشاعر من رمسه، وحوافر خيل الزمان المتكلمة، وأشباح الوهم، وانتحار الموت، وما إلى ذلك مما نجده في قصيدته «طلل»، وصور الموت المستسلم الذليل، والمتمرد على القضاء في قصيدته «أوغاريت»، وصورة الموت الذي يموت والبغي الذي ينتحر في قصيدة «الفارس»، وصورة المئزر المنسوج من زبد البحر في قصيدة «لبنان»، وصورة الظن والغياهب وضمير الأثير وفحيح السعير والضحى المخمور في قصيدة «نسر»، وصورة الفكرة المضمرة خلف جبين الحياة وزنود الخريف وخشخشة المقبرة والشبح الفاغر شدقيه في قصيدته «الروضة الجائعة»، وصورة الحلمتين وهما قلق يتنهد على أمن في قصيدة «عشا»، وصورة رماد المنى على مجمر الزمن الأزور وعصاب الذهول في قصيدة «البرعم الأخضر»، وصورة الفم الذي يغدو قبراً للسان في قصيدة «خالد»، وصورة الجبل الذي ينام في غيهب الزمان في قصيدة «شهيد»، وصورة محاجر البركان التي لم تكتحل بالثلج في قصيدة «محاجر البركان»، وصورة الأشباح التي تطل من كوة الوهم في قصيدة «شاعر وشاعر».

     إن في هذه الصور بعداً وغرابة وطرافة وقد لا تدرك إلا بصعوبة، وقد لا يدرك بعضها حتى مع الصعوبة، ولكنها تبقى القدر الأقل من صور الشاعر من جانب، وتبقى من جانب آخر في الحدود التي يتفاعل معها المتلقي ويستجيب، ومثل هذا الخيال عند عمر أبو ريشة حي وجيد ودليل على قدرة صاحبه على الحشد والجمع وبناء العلاقات والوثبات البعيدة. إن «الخيال الجيد ليس هو الذي يشطح ويشط ويأتي بالأوهام والمحالات، وإنما هو الذي يجمع طائفة من الحقائق، حقائق الوجدان وانفعالاته ويربط بين أشتاتها ربطاً محكماً لا ينكره الحس ولا العقل، أما إن تحول إلى صنع صور مبهمة شديدة الإبهام فإنه يبتعد عنا وعن محيطنا وأرضنا»[48].

     وخيال عمر أبو ريشة وفق هذا المعيار خيال يغرب ويشرق ويحلق ويعتوره الغموض ولكنه لا يأتي بالمحال، لذلك يبقي قريباً منا ومن ذوقنا ويبقى قادراً على الإيحاء لنا والتأثير فينا، لأننا عرب تسكن الصحراء التي نشأ فيها الشعر العربي في أعماقنا، والصحراء وكل ما فيها عار واضح مكشوف لا يطيق الغموض.
❊ ❊ ❊

     إن ملكة عمر أبو ريشة بقوتها وحيويتها وغزارة عناصرها ملكة قادرة تجاوزت دائرة التصوير التقليدي الجزئي لتبرز ما وجده في الوجود من روح مستكنة تعامل معها وتفاعل معها، فحطم وبنى وجمع وأضاف ولون وزخرف وأضاء وعتم، فكان مصوراً نادر المثال، غلب التصوير عليه فكان أداته المفضله في التعبير، ومن هنا جعل الدكتور شوقي ضيف ذوقه قريباً من ذوق أبي تمام وابن الرومي ومن ذوق الغربيين وبعض شعراء المهاجر الأمريكي[49]، ومن هنا رأى الدكتور حسن ظاظا أنه يتفوق على شوقي في صوره، مع مكانة شوقي المقررة في هذا المجال، وهي مكانة يتفق فيها الدارسون ويرفعون فيها صوره مكاناً علياً[50].

     وبعد، فإن هذه السياحة في صور عمر أبو ريشة تنبئ عن قوة ملكته وخياله، وعن جهده الذي يبذله في صوره؛ إذ كان فيه يتعنى ويتأنى ويعمل عمل الصائغ المقتدر الصابر. إننا أحياناً نجد أنفسنا أمام صوره، وكأننا أمام تمثال نحته بدقة ودأب وتخطيط ومعاناة ومعاودة، ولونه من هنا، وطيبه من هناك، وأضاء هذه الزواية، وترك أختها في ظلام، وحسب النسب والأبعاد وحدد الخطوط، وقدر مساحة الظلال والأحجام، وإذا كان هذا كله يدل على قوة ملكته وسعة خياله فإنه يدل من جانب آخر على أنه لم يكن خاصة في ميادين الصورة الشعرية، والوحدة العضوية، وبيت المفاجأة شاعراً عفوياً يرسل شعره كيفما اتفق، بل كان -كما يقول النقاد القدماء- من مدرسة عبيد الشعر، وهذا الأمر يقود إلى عدم التسليم بأن الشعر هو ثمرة الإلهام فقط، ويدل على أهمية الصنعة القادرة ويعلي من شأنها.

     هذا الأمر عني به الدكتور عاطف جودة نصر، فقال فيه: «إن القصد الفني الذي يحجبه الشاعر بنوع من العفوية تصور يحطم مذهب الإلهام الذي كثيراً ما عبر عنه بوصفه انسياباً تلقائياً وتدفقاً عفوياً، وما دام الشعر إبداعاً فلابد أن ينطوي على ضروب من القصد، تتمثل في تخمير الموقف واحتضان التجربة ومعاناة الخلق المستند إلى الخيال، وهو يحطم ويركب ويضايف ويكشف عن النسب بين المعاني ويبني الأساليب والأفكار والصور، ويستخلص المتشابه من المتخالف، ويضع المتمايز في صميم المتماثل، وإذا كان الأمر كذلك فلا مجال للقول بالمباغتة والهجوم الخاطف والوحي النازل من السماء أو من قبل شياطين الشعر تفسيراً للإبداع، لأننا بإزاء قصد يباعد بين الشاعر وبين السذاجة في التخييل، وقد يخفى هذا القصد ويحتجب وقد ينكشف ويظهر، وبين احتجابه وانكشافه يتقوم معيار التمييز بين الشعراء»[51].

     ولعل هذه الأحكام النقدية التي ساقها الدكتور عاطف جودة نصر لا تصدق على شاعر في العصر الحديث كما تصدق على عمر أبو ريشة الذي كان شعره في أغلبه نموذجاً فريداً ومتفوقاً للقصد الفني الواعي والهادف.

     كان عمر أبو ريشة صاحب قصد واع هادف، وملح أيضاً في صنعته الشعرية، بدا هذا الأمر في حرصه على الوحدة العضوية، وبيت المفاجأة، والتصوير، ولقد ظهرت قدرته التصويرية فيما عرضنا له من نماذج، في أبياته المكثفة، ولوحاته المتكاملة، والتشخيص، والتجسيم، وحشد المتناقضات، وتراسل الحواس، وتصوير الموت تصويراً طريفاً. وهو في ذلك ثمرة موهبته وثقافته ودأبه، كما أنه ثمرة ظروفه المواتية، ولقد كانت الصورة الشعرية عند عمر أبو ريشة بشهادة ديوانه معلماً بارزاً من معالم أمجاده الشعرية، وهو من البروز والظهور والقوة بحيث يحتل مكان البداهة المقررة.

     لذلك لا غرابة أن نجد حشداً كبيراً من الدارسين والأكاديميين والشعراء يشيدون بصوره كثيراً ويرفعونه فيها إلى مكانة عليا، وهم في ذلك محقون، فأحكامهم هذه يصدقها شعره كما مر بنا من النماذج التي وقفنا عليها. فالدكتور شوقي ضيف يجعله واحداً من المجددين المقتدرين الذين أحسنوا الانتفاع من الشعر الغربي في صورهم، ويجعل التصوير أساس فنه[52]، والأستاذ أحمد الجندي يجعله بسبب صوره المجدد الأول في الشعر العربي[53]، والأستاذ نسيب نشاوي يعلي من خياله[54]، والأستاذ حنا الفاخوري يؤكد جمال صوره وما فيها من ابتكار[55]، والأستاذ سامي الكيالي يجعل التصوير مزيته الأولى[56]، والدكتور سامي الدهان يصف خياله بأنه محلق[57]، والدكتور عمر الدقاق يصف موهبته التصويرية بأنها موهبة خلاقة[58]، والدكتور حسن ظاظا يصف صوره بأنها شمولية تجمع اللون والضوء والصوت والحركة[59]، والدكتور حلمي محمد القاعود يصف صوره بأنها جديدة تماماً[60]، والدكتور جميل علوش يرى أن الصورة الشعرية هي أبرز مظاهر التجديد عنده ويصفها بأنها إحدى قلاع مجده الشعري[61].

     وأياً كان الأمر فإن قدرة عمر أبو ريشة التصويرية، قضية يكاد يجمع عليها الدارسون ويتفقون، فقد أشاد بها بالإضافة لمن سبق ذكرهم أحمد زكي أبو شادي[62]، وإيليا الحاوي[63]، وعبد الله يوركي حلاق[64]، وعبد الله جبر[65]، وأحمد قبش[66]، وأنور المعداوي[67]، وزكي قنصل[68]، وعزيزة مريدن[69]، وعمر موسى باشا[70]، وجميل صليبا[71]، وجوزيف عساف[72]، وعبد الله العصيمي[73]، وحسان عزت[74]، وأحمد سويلم[75]، والدكتور أحمد البراء الأميري[76]، ومأمون مصطفى حربا[77]، ومحمد جمال طحان[78]، وحسن عبد الله القرشي[79].

-------------------------
[1] الصورة الشعرية في الكتابة الفنية الأصول والفروع، ط1، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1986م، ص6.
[2] عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة، ط1، بيروت، دار الرواد، 1994م، ص141-145.
[3] A dictionary Of Modern Critieal Terms Ed, Roger Fowler, Rout ledge and Kegan Paul, London, 1975, P,92.
[4] الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ط3، دار الفكر العربي، ص163-164.
[5] محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، القاهرة، دار المعارف، 1988م، ص33.
[6] المرجع السابق، ص38.
[7] أسرار البلاغة، طبعة محمود محمد شاكر، ط1، جدة، دار المدني، 1412ه/1991م، ص132.
[8] في أصول الأدب، ط3، القاهرة، مطبعة الرسالة، 1952م، ص181.
[9] ابن الرومي حياته من شعره، ص315.
[10] الطاهر أحمد مكي، الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ط4، القاهرة، دار المعارف، 1990م، ص83-84.
[11] المرجع السابق، ص11.
[12] المرجع السابق، ص11.
[13] عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، بيروت، دار العودة، ودار الثقافة، ص66.
[14] عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م، ص199.
[15] أحمد بسام ساعي، الصورة بين البلاغة والنقد، ط1، جدة، دار المنارة، 1404هـ/ 1984م، ص31.
[16] أحمد بسام ساعي، الصورة بين البلاغة والنقد، ط1، جدة، دار المنارة، 1404هـ/ 1984م، ص28.
[17] المرجع السابق، ص29.
[18] ماهر حسن فهمي، قضايا في الأدب والنقد، رؤسة عربية وقفة خليجية، قطر، دار الثقافة، 1986م، ص10.
[19] سيد قطب، كتب وشخصيات، ط3، بيروت والقاهرة، دار الشروق، 1401هـ/ 1981م، ص28.
[20] H. L. yelland, S.C. Jomes and K.S.W. Easton: A Handbook Of literary terms angus & Rebwrtson, Publishers, Australia, 1983. P. 88.
[21] إحسان عباس، فن الشعر، ط4، دار الشروق، عمان، 1987م، ص193.
[22] مهمة الشاعر في الحياة، مكتبة الأقصى، عمان، ص98.
[23] ساحر الصور، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[24] شعراء سورية، بيروت، دار الكتاب الجديد، 1965م، ص124.
[25] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ط5، القاهرة، دار المعارف، 1974م، ص242.
[26] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص244.
[27] المرجع السابق، ص242.
[28] حلمي محمد القاعود، القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث، قراءة ونصوص، القاهرة، دار الاعتصام، ص167-169.
[29] محمد عادل الهاشمي، أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية، من 1920 إلى 1946م، الزرقاء، مكتبة المنار، 1986م، ص86، و247.
[30] سامي الدهان، الشعراء الأعلام في سورية، ط2، بيروت، دار الأنوار، 1968م، ص328.
[31] الطاهر أحمد مكي، الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ص86.
[32] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.
[33] مصطفى السعدني، التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل، الإسكندرية، منشأة المعارف، ص87.
[34] عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، القاهرة، دار الفكر العربي، 1955م، ص206.
[35] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل، ص434.
[36] ابن الرومي حياته من شعره، ص303.
[37] The Oxford Classial Dictionory, Ed. M. Cary et., al., Ocford University Press, London, G,B. 1964. P.669.
[38] Webster,S Third new International Dictionary- wwbster lnc., Publishers Springfield, MA 01102 U.S.A, 1986, p.739.
[39] شوقي ضيف، دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص236.
[40] عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، ص182.
[41] Webster,s Third New Intenational Dictionary, Merriam-webster lnc., Publishers Springfield, MA 01102 U.S.A. 1986, P,96.
[42] شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ط10، القاهرة، دار المعارف، 1978م، ص250-251.
[43] فايز الداية، جماليات الأسلوب الصورة الفنية في الأدب العربي، ط2، دمشق، دار الفكر، 1990م، ص128-129.
[44] Robin Mayhead, Understanding Literature, cambridge University press, cambridge. G.B. 1969. P.135.
[45] مصطفى السعدني، التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل، ص95.
[46] أحمد هيكل، تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، ص330.
[47] مجلة العصبة الأندلسية، البرازيل، عدد أكتوبر ونوفمبر، 1952م.
[48] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ص175.
[49] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص241.
[50] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا، في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1922م.
[51] الخيال مفهومه ووظائفه، ص179-180.
[52] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص235-236.
[53] شعراء سورية، ص124.
[54] مدخل إلى دراسة المذاهب الأدبية في الشعر العربي المعاصر، دمشق، 1980م، ص292.
[55] الجامع في تاريخ الأدب العربي، بيروت، دار الجيل، 1986م، 2/536.
[56] الحركة الأدبية في حلب، القاهرة، 1957م، ص222.
[57] الشعراء الأعلام في سورية، ص323.
[58] فنون الأدب المعاصر في سورية، بيروت، دار الشرق العربي، ص401.
[59] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا، في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1922م.
[60] القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص، ص181-182.
[61] عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة، ص141.
[62] قضايا الشعر العربي المعاصر، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1959م، ص147.
[63] عمر أبو ريشة شاعر الجمال والقتال، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980م، ص23.
[64] من أعلام العرب في القومية والأدب، ط2، حلب، منشورات مجلة الضاد، 1978م، ص87.
[65] جريدة البلاد، جدة، 25/ 12/ 1410هـ - 17/ 7/ 1990م.
[66] تاريخ الشعر العربي الحديث، دمشق، 1970م، ص276.
[67] مجلة الرسالة، القاهرة، العدد915، السنة19، ص87.
[68] من رسالة شخصية بعث بها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها: ذكريات عن عمر.
[69] جريدة المدينة، جدة، 1/ 1/ 1411هـ.
[70] جريدة المدينة، جدة، 1/ 1/ 1411هـ.
[71] مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، المجلد23، ج2، ص288.
[72] مجلة الضاد، بيروت، أغسطس، 1990م.
[73] جريدة المسائية، الرياض، 2/ 1/ 1411هـ.
[74] جريدة تشرين، دمشق، 25/ 12/ 1410هـ/ 16/ 7/ 1990م.
[75] النزعة الرومانسية في شعر عمر أبو ريشة، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[76] ساحر الصور، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[77] عمر أبو ريشة شاعر العروبة الراحل، مقال غير منشور، ارشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[78] لمسة وفاء في الذكرى الثانية لوفاة شارع الأمة عمر ابو ريشة، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[79] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 16/ 9/ 1990م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة