الخميس، 30 يونيو 2022

طارق بن زياد وفتح الأندلس

طارق بن زياد وفتح الأندلس

     كان يوماً مشهوداً في التاريخ، شامخاً منيفاً عملاقاً ذلك الذي سارَ فيه الشابُّ القائدُ الشجاع طارقُ بنُ زياد بقلّةٍ مؤمنة من جندِه الكُماةِ الميامين، وعبَر فيه البحرَ من المغربِ إلى الأندلس، ونزلَ أولَ ما نزل على جبلٍ هناك لا يزال حتى اليوم يحملُ اسمَه الخالد.

     كان يوماً مشهوداً في تاريخ الإنسان لأنه بدايةُ مسيرةٍ طويلةٍ مُظفَّرةٍ لرايةِ القرآن، أرقَلت بها الكتائبُ المؤمنة الشجاعة من المغرب المؤمنِ الشجاع، إلى الجزيرةِ الخضراء المعطاء، أرضِ السحرِ والعطرِ والجمال، أرضِ الحضارةِ والسموِّ والعمران، أرضِ البطولةِ والتضحيةِ والملاحم، أرضِ الأندلس، التي كان لها دورٌ مشهود في رِفعةِ الحضارة، دورٌ ضخمٌ عملاق، بدأ فجرُه الساطعُ المنير في ذلك اليوم الذي عبرَ فيه طارقُ بنُ زياد مع جُندِه الأطهار الكرام ليُقيمَ للإسلامِ دولةً شامخة باذخة في تلك الديار النائية.

     إن المسيرةَ التي بدأت بعبورِ طارق، رفعت أعلامَ الهدى، وأوقدتْ مشاعلَ الحضارة ودفعتْ مواكبَ النورِ صَوْبَ الفتحِ المظفّرِ المنصور، فاجتاحت موجتُها المؤمنةُ المتدفقة السدودَ والقيودَ والجبالَ والأنهار، وانصبّت فيما بعد في أرضِ فرنسا، حيث قامت معركةُ بلاطِ الشهداء على بعد 100 ميل فقط من باريس، فعطّرت دماءُ الشهداء تلك الرُبى والآكام، وهاتيكَ السهولَ والمروج، وأصاخت مسامعُ الكونِ آذانَها تسمعُ الأذانَ العاطر يَصْدَحُ في تلك الديار النائية عن موطنِ الإسلام الأول.

     كان طارقٌ وجندُه الأبرار من أولئك الرجال العماليق الذين لهم هممٌ متقدة، وعزائمُ جيّاشة، وطموحٌ ضخمٌ ممتد، وأمانٍ شاسعةٌ واسعة، لم يكونوا من الذين يُكْثِرون من التفكير حتى يَصِلَ بهم ذلك حدَّ الشللِ والقعودِ والإحجام، بل كان لهم منه ما يكفي لينأى بهم عن غياهبِ الجهلِ والسفاهةِ والإقدامِ الأرعنِ الأحمق. أمّا ما بعدَ ذلك فهو إحساسٌ حارٌّ جيّاش بضرورةِ حَمْلِ هذا الدين وإبلاغِ رسالتِه للعالمين مهما تكنِ الصعابُ والتحدّيات، في إصرارٍ عنيد، واندفاعٍ موصول ما سارت الشمس، وما طلعَ القمر، وما تعاقبَ الجديدان.

     لو أنّ طارقاً ومَنْ معه أكثروا من حساباتِ الموقف جَمْعاً للمعلومات والأرقام، وتحديداً للقوى المادية المتصارعة، وانقطعوا عن النظرِ إلى ضخامةِ القوةِ المعنوية حينَ تنفجر لَما كان لهم أن يتوغّلوا في الأندلس، بل لَما كان لهم أن يعبروا البحرَ بادئَ ذي بدء، فهم قلةٌ مغامِرة تُلْقي بنفسِها في بحرٍ لجبٍ عميق!..

     لكنَّ طارقاً ومَنْ معه كان لهم موقفٌ آخر!.. موقفُ الإيمان إذ يندفعُ فيتّخذُ من الأسبابِ المادية ما يَقْدِرُ على اتخاذِه، ثم يمضي مُسرعاً دونَ خوفٍ أو وجل، ذلك أن المسلمين ما كانوا يقاتلون بعددٍ أو عُدَّةٍ، وإنما بهذا الدينِ الذي أكرمَهم اللهُ به.

     نزلَ القائدُ المؤمنُ الشجاعُ بجيشهِ المؤمن الصغير على أرضِ إسبانيا.. وأمرَ بإحراقِ السفن ليقطعَ على المسلمين أسبابَ الرجوعِ، وليستطيعَ أن يخاطبَهم بقولِه الخالد:

     "أينَ المفر؟ البحرُ من ورائِكم، والعدوُّ من أمامِكم، وليسَ لكم واللهِ إلّا الصدقُ والصبر!.."، فيثير فيهم القوةَ الكامنة، والبطولةَ الأصيلة، والنخوةَ والحميّة، فيعتمدون من بعدِ الله عز وجل على سواعدِهم وسيوفهم.

     صَفَّ طارقٌ جيشَه أمامَ العدو واستعرضَه، فرأى أنه لا يكافئُ الجيشَ الإسبانيَّ في العددِ والعُدَّة، ووصولِ الميرةِ والمدد، والغوثِ والنجدة، فالعدوُّ في مركزِه وأرضِه بينما جيشُ طارقٍ غريبٌ منقطعٌ عن مركزِه وبلاده، لا يَأْمُلُ أن يكْسَبَ زاداً أو يُصيبَ عُدَّة، إلا ما ينتزعُه من أيدي عدوِّه انتزاعاً ويتغلّبُ عليه.

     وإنَّ طارقاً لَيَعرفُ -وهو الفطنُ الذكي- أنّ جيشَه لو حدثَ به حادِثٌ، أو دارت عليه دائرةٌ؛ فإنه سوف يصبحُ خبراً من الأخبار في خَلَدِ الزمان، وطُعْمَةً للسّباعِ والنسور في أرضِ الميدان. وهذا ما أثارَ في طارقٍ التفكيرَ والاهتمامَ بحثاً عن قوةٍ يَدْعَمُ بها جيشَه المغامر.

     ولمْ يَرَ بعدَ إطالةِ التأمل إلّا أن يَضُمَّ لهذا الجيش قوةً لا تُهْزَم وإرادةً لا تُغْلَب، إنها القوةُ الإيمانيةً العظيمةُ التي تتصلُ بقوةِ اللهِ عز وجل وحَبْلِه المتين. وفرح طارقٌ بذلك أيَّ فرح، وتطلّقَ وجهُه واستبشر، فقد كان من أمرِه على يقين. أليسَ جيشُه الصغيرُ جندَ الله؟ أما جاءَ به ليخرج الناسَ من الظلماتِ إلى النور، ومن عبادةِ الناسِ إلى عبادةِ ربِّ الناس، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعتِها ومن جَوْرِ الأديان إلى عدلِ الإسلام؟

     أمَا قال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173]؟

     هنالك وقفَ القائدُ المؤمن يناجي ربَّه، ويطلبُ النصرَ والغلبةَ والتمكين، وكان في ذلك مُتأسِّياً بِهَدْي الرسول ﷺ، إذ وقفَ يومَ بدرٍ يدعو ربَّه عزّ وجل. تأسّى طارقٌ بهذا الموقفِ فكان منه دعاء، وكانَ منه رجاء، وكانت همّةٌ من بعدِ الدهاءِ والرجاء أعقبَهما النصرُ المبين.

     إن هؤلاء الفتيانَ الذين خرجوا مع طارق مجاهدين فاتحين، قومٌ منحَهم اللهُ عز وجل طموحاً وعلوَّ همّة، فهم لا يَرْضَوْنَ إلا أن يكونوا سادةَ العالم يحكمون الدنيا كُلَّها بحكمِ الله، وينفذون فيها أمرَه، لا يعلوهم سواه، ولا يخافون إلّاه.

     أبطالٌ غطاريفُ ميامين تنفلق بهيبتِهم البحار، وتنطوي لسطوتِهم الجبال، لقد ذاقوا لذّةَ الحبِّ والإيمان فاستعلَوْا بذلك على العالم والمادة. هانت عليهم الدنيا وشهواتُها، زخارفُها وزينتُها، لمعانُها وبريقُها، وذلك شأنُ الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب. ما خرجوا أَشَراً ولا بَطَراً، ولا رياءً ولا سُمعة، ولا طلباً لنفوذٍ أو مغنم، بل أخرجَهم الحنينُ إلى الشهادةِ التي هي أَمَلُ كلِّ مؤمنٍ صادق، والرغبةُ في إعلاءِ كلمةِ الله جلّ جلاله.

     القارّةُ التي وقفَ طارقٌ على شفيرِها جنوبَ الأندلس واقفةٌ على شفا حفرةٍ من النار، ولا يمكنُ أن يمنعَها من التردّي فيها إلا أن يبذلَ طارقٌ ومَنْ معه دماءَهم وأنفسَهم بشجاعةٍ وسخاء، ذلك أنّ أملَهم الكبير وطموحَهم الضخم لا ينهضُ به إلا دمٌ مؤمنٌ طاهر كدمِ طارقٍ ومَنْ معه.

     إنّ أزهار الخيرِ جافّةٌ ذابلة، وهي بحاجةٍ إلى دمٍ قانٍ طاهر لِتَرْفُلَ في حلّتهِ وتزهو، وتبدو ناضرة حيّة، وإنّ طارقاً ومَنْ معه هم هذا الدم العزيز الذي لا يتوانى أن يسيلَ على الأرض ما دام في ذلك تعزيزٌ لركبِ الخير وزحفِ الإيمان.

     إنّ طارقاً ومَنْ معه قَدِموا ليُريقوا دماءهم في بستان الجهاد الإسلامي، لتخضرَّ الأرض، وتُزهِرَ الأشجار، ويذوبَ الصقيع، وتَعْمُرَ البلاد، ويسود الأمن والعافية والرخاء، لتخصب شبه جزيرة إيبيريا بعد جفافٍ طويل، وجدبٍ متّصل، وسنواتٍ عجاف، ليحلّ الربيع بعد شتاءٍ قاسٍ ممتد ملأته الرياح الهوج، والعواصف المدمرة، والبرد الشديد القارس، لتستحيل شبه جزيرة إيبيريا شيئاً جديداً آخر اسمه الأندلس، ولتُطوى الصفحة الإسبانية منها، وتحلّ بدلاً منها الصفحة الأندلسية التي كانت أعطر أيام شبه الجزيرة تلك، وأجملها وأزهاها على الإطلاق، وأحفلها بالمبادئ القويمة، والأهداف النبيلة، وأعظمها دَوراً في خدمة الحضارة الإنسانية وإثرائها بكل نافعٍ مفيد.

     إنّها لَحقيقةٌ من حقائق التاريخ الكبرى أنْ تقول: إنَّ دور الأندلس المسلمة في الحضارة البشرية هو صفحةٌ مشرقة من أعظم صفحات هذه الحضارة وأنبلها على الإطلاق، وهي صفحةٌ كُتِبَ السطر الأول منها بموقف طارق الذي كان وسيظلُّ من نوادر مواقف الرجال في تاريخ البشر.

     وسجّل التاريخُ أنّ الله عز وجل أنزل نصره المؤزّرَ يومذاك على طارق ومن معه، فاقتحمَ المسلمون الأندلس وحكموها ثمانية قرون، ومنحوها بذلك أجمل أيام عمرها وأبهاها على الإطلاق، ونشروا فيها الهدى الإيماني الكريم، فإذا بالقرآن يُتلى، وإذا بالأذان يعلو، وإذا بالأندلس جزء من دار الإسلام.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة