الخميس، 30 يونيو 2022

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

المسلمون في الأندلس.. بين جورج الثاني وهشام الثالث

     حين منح المسلمون في الأندلس، صادق ولائهم لدينهم المحفوظ الخالد، وأحسنوا تمثيله والتعبير عنه، منحهم هذا الدين الإيجابي العملي، أثمن الفرص من أجل أن ينالوا ذرى الكرامة والمجد، ويرتقوا القمم السامقة الشمّاء، في مسالك العظمة والقوة، ومدارج التفوق والإبداع. ولقد كان هذا هو ديدن الإسلام مع ذويه، ما منحوه شيئاً إلّا منحهم أشياء، وما قدموا له الطاعة إلا قدم لهم الخير، وما وهبوه كامل الولاء إلا وهبهم أسخى العطاء.

     وانظر إلى صفحة الحضارة المسلمة في الأندلس لتجد مصداق ذلك. إنه حين أحسن المسلمون الصلة بدينهم فهماً وصدقاً وسلوكاً، تقدموا وتفوقوا.. وشادوا وعمّروا، وصنعوا لأنفسهم الخير العميم في دينهم ودنياهم. لذلك لا عجب أن كانت حضارتهم قمة سامقة في مختلف الميادين، وفي ميدان العلوم والفنون والصناعات على وجه الخصوص.

     وقد احتل مسلمو الأندلس في ميدان المعارف بأنواعها مكانة عالية، وكانت لهم في أوربا شهرة واسعة في هذا المضمار، يصاحبها إعجاب شديد، لهذا لم يكن غريباً أن يكثر الطلبة الأوربيون الذين يطلبون العلم في المعاهد الأندلسية المختلفة، وأن يكونوا من شتى البلدان الأوربية، وأن يكون منهم الرجل والمرأة، والحاكم والأمير، والراهب والراهبة، وأن يكون في مسلك هؤلاء الطلبة ما يدل على الإعجاب الشديد بالأندلس المسلمة، حتى إننا لنرى بعضهم وبعضهن، يعتنق الإسلام، ويرفض العودة إلى بلده، ويتزوج ويقضي بقية عمره في الأندلس واحداً من أبنائها المسلمين، بل كان ممن يفعل ذلك راهبة وأميرة.

     وكان لبعثة فيليب ملك باڤاريا إلى الأندلس سمعة خاصة فيما يبدو، فقد كانت ثمة مكاتبات بين فيليب هذا وبين هشام الأول خليفة المسلمين الأندلسي، وكانت هناك عناية خاصة بالبعثة الوافدة، من حيث ضخامة العدد، ومن حيث تنوع المعلومات والمعارف التي جاء طلبة البعثة للحصول عليها، ومن حيث إن بعض عناصرها كُنَّ أميرات، وكان رئيس البعثة هو الوزير الأول عند فيليب.

     والدليل على أن هذه البعثة كان لها شهرة واسعة في أوربا، أن ملوكاً وأمراء أوربيين آخرين ساروا على المنوال ذاته، فأرسلوا إلى حكام الأندلس المسلمين يخبرونهم بما يريدون، وجعلوا من بين الطلبة الوافدين عدداً من أبناء وبنات الأشراف والأعيان، وأرسلوا على رأس المجموعة المبتعثة شخصاً مهماً من الوزراء أو النبلاء.

     وتحتل البعثة التي أوفدها جورج ملك ويلز، أهمية خاصة هي الأخرى. كانت هذه البعثة برئاسة ابنة أخيه، وكانت تضم ثماني عشرة فتاة، من بنات الأشراف والأعيان. وقد توجّهت البعثة إلى إشبيلية، ورافقهن في سفرهن "النبيل سفيلك" رئيس موظفي القصر في ويلز، وكان النبيل سفيلك هذا يحمل رسالة من الملك جورج إلى الخليفة هشام الثالث، تعد مفخرة من مفاخر المجد الإسلامي، وصفحة من أروع صفحات الحضارة الإسلامية الزاهرة في الأندلس المسلمة. وقد نشر المؤرخ الإنكليزي "جون داون يورث" نصّها في كتابه الخطير: العرب عنصر السيادة في القرون الوسطى.

     تقول الرسالة:

     "من جورج الثاني ملك إنكلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام:

     بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان.

     ولقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبان على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من اللواتي سيتوفرن على تعليمهن. ولقد أرفقتُ مع الأميرة الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.

     التوقيع: من خادمكم المطيع جورج م.أ."

----------

     وقد رد الخليفة هشام الثالث بهذه الرسالة:

     "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّه سيّد المرسلين وبعد:

     إلى ملك إنكلترا وإيكوسيا وإسكندنافيا الأجل:

     لقد اطلعتُ على التماسكم فوافقتُ بعد استشارة من يعنيهم الأمر، على طلبكم، وعليه فإننا نعلمكم بأنه سيتم الإنفاق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين، تأكيداً على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية، وهي من صنع أبنائنا هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام.

     التوقيع: خليفة رسول الله على ديار الأندلس هشام".

***

     ترى أثمة شك في أنها واحدة من أنصع وأروع أيادينا البيضاء على الحضارة البشرية؟ إنها الأمة الأندلسية المسلمة يوم أن قدّمت لإسلامها الطاعة والانقياد فقدم لها العزة والأمجاد، ومنحته من نفسها البطولة والفضيلة، فمنحها من فيضه الإباء والرجولة، ووهبته كامل الوفاء والولاء فوهبها شامخ النوال والعطاء.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة