‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد. إظهار كافة الرسائل

السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المقدمات والمحتويات

مقـدمة الطبعة الثانية

     يسعدني أن أضع بين يدي القارئ الكريم، الطبعة الثانية من كتابي «عاشق المجد عمر أبو ريشة شاعراً وإنساناً» بعد أن أعدت النظر فيه طويلاً، مستفيداً من ملاحظات متنوعة، بعضها من مراجعتي الشخصية لما كتبت، وبعضها من حصولي على مواد جديدة للشاعر وأخرى عنه، وبعضها مما قاله أو كتبه عدد من أهل العلم والفضل وجدت من واجبي أن أشكرهم شكراً جزيلاً، وهم:

❊ أستاذ الأجيال، الأديب العلامة الموسوعي، الشيخ الجليل علي الطنطاوي رحمه الله، الذي أثنى على الكتاب ثناء كبيراً، ووصفه بأنه مدهش وممتاز ومنصف، ووصف لغته بأنها عالية.

❊ الأخ النبيل الأستاذ عبد العزيز السالم الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وكتب عنه ست حلقات في جريدة الرياض الغراء، وفي كتابته متابعة واستقصاء، وفيها ملاحظات عامة وأخرى جزئية، بل إن فيها رصداً لأخطاء طباعية وغير طباعية، وهي مما لا يكاد ينتبه إليها القارئ، وقد فاتتني وفاتت سواي، ومع ذلك استوقفته فنبه إليها وحدد مواقعها، فله الشكر الجزيل مرتين، مرة لما فعل، والأخرى لأنه فعل ذلك وهو مشغول جداً بأعباء عمله المتنوعة والمهمة والكثيرة.

❊ الأخ الكريم الأستاذ الدكتور محمد علي الهاشمي الذي قرأ الكتاب قراءة دقيقة، وزودني بملاحظاته المشكورة، التي يظهر فيها حرصه ودقته وإتقانه، وهي صفات معروفة عنه في حياته وكتابته على السواء.

❊ الأستاذ الدكتور يوسف عز الدين الذي كتب في الأربعاء ــ وهو ملحق أسبوعي تصدره جريدة المدينة ــ مقالاً جميلاً علق فيه على ما كتبه الأستاذ السالم، وهو مقال فيه ذوق وأدب وثناء، وأفكار نافعة، أرجو أن أستفيد منها.

❊ الأخ الكريم الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، الذي قرأ الكتاب وكتب عنه مقالة جميلة، ضافية ودقيقة، أعانه عليها حســه الأدبي، ومعرفته بالكتاب منذ أن كان فكرة تقدم للجامعة، ثم رسالة تجاز منها، ثم عملاً منشوراً بين أيدي الناس، فضلاً عن الصلة الطويلة بينه وبيني، وهي صلة وثقى شدت عراها أخوة ومودة، وتقارب كبير في الفكر والثقافة والطباع.
❊ ❊ ❊

     أشرت في مقدمة الطبعة الأولى إلى أن أصل هذا الكتاب هو رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند عمر أبو ريشة، وقد أضفت إليه طائفة من الموضوعات يوم خرج من حيز الجامعة إلى حيز النشر، لكني وجدت أن هذه الإشارة مجملة ولابد من شيء من التفصيل.

     أصل هذا الكتاب هو رسالة تقدمت بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة عين شمس، للحصول على درجة الدكتوراه، وعنوانها هو: «عمر أبو ريشة - دراسة فنية»، وقد نوقشت الرسالة مساء يوم الأربعاء 7/12/1414هـ ــ 18/5/1994م، ونالت درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية. وقد أشرف عليها الدكتور يحيى عبد الدايم رحمه الله، وشاركه في مناقشتها الأستاذان الدكتوران إبراهيم عبد الرحمن، وأحمد مرسي.

     أما موضوعات هذا الأصل فهي: الوحدة العضوية ــ الصورة الشعرية ــ الموسيقى الشعرية ــ لغة الشعر ــ الرمز الشعري ــ تبديل وتعديل ــ القصة الشعرية ــ الملحمة الشعرية ــ المسرح الشعري.

     وكان هذا الأصل موزعاً على بابين وعدد من الفصول، لكني حين طبعته كتاباً للناس ألغيت هذا التوزيع، وجعلته موضوعات متوالية، كل موضوع يحمل عنوانه المذكور دون أن تسبقه كلمة «فصل» أو كلمة «باب» فقد وجدت ذلك أيسر على القارئ وأسهل، لأنه يتيح له أن يستمر في قراءة الكتاب دون أن تشغله تقسيمات فنية تتــــوزع عليها موضوعاتـــه، وأياً كان الأمر فإن هذا التغيير لم يجر على منهج الدراسة ومادتها ونتائجها، كما أنني حذفت من هذا الأصل بعض المواد التي بدت لي مغرقة في التخصص، مما لا يهم القارئ العادي، بل ربما أدى به إلى الملل.

     أما الإضافة فهي الموضوعات التالية: صورة كلية ــ مسيرة الحياة ــ في رحاب فيصل ــ إباء وكبرياء ــ مواقف جريئة ــ مبالغات وادعاءات ــ شعره الوطني ــ شعره الإسلامي.

     هذا وإن موضوع «مبالغات وادعاءات» يأتي إضافة جديدة في هذه الطبعة الثانية، ولقد كان لها جذور في الطبعة الأولى، لكنها أخذت مداها الآن.

     وقد جعلت المواد المضافة تسبق الأصل لأنها بمنزلة تمهيد شامل تعرف بالشاعر وحياته، وتعين على فهم شعره.

     ولقد تعاملت مع مناهج الدراسة الأدبية بمرونة وانفتاح في الحدود التي رأيتها تخدم البحث، ولكن همي الأكبر كان هو استنطاق النصوص، والغوص فيها، واستجلاء أبعادها، واكتشاف غوامضها، وإدراك مراميها، وإعادة النظر فيها، مؤملاً أن تكون دراستي هذه لشعر عمر أبو ريشة «دراسة نصية» بالدرجة الأولى وعساي نجحت.

     هذا وأود أن أشير إلى أن الشاعر كان يلتزم الواو في اسم عائلته أينما وقعت لأنها شهرة ثابتة له، وقد وجدت عدداً من الكتاب يفعل ذلك، ففعلت مثلهم ومثله. أما النصوص التي أنقلها عن هذا الكاتب أو ذاك فأورد اسم الشاعر فيها كما كتبه صاحب النص.

     وعسى أن يفسح الله في العمر، ويبارك في الوقت والجهد والهمة لنلتقي في طبعة ثالثة تكون خيراً من أختيها السابقتين.

     اللهم لك الحمد على ما أعنت ويسرت، فمنك العون، وعليك الاعتماد، وإليك المآب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

حيدر الغدير
الرياض - 1426هـ/ 2005م
---------------------------------------

مقـدمـــة الطبعة الأولى

     عمر أبو ريشة شاعر كبير، بدا لي بعد أن سمعته ينشد شعره، وبعد أن عكفت على هذا الشعر، وبعد أن تتبعت أخباره، أنه رجل عاشق للمجد، تغلغل عشقه للمجد في أعماقه وسيطر عليه ووجه الكثير من مواقفه طيلة عمره شاعراً وإنساناً.

     عشق المجد لأمته فأراد لهــا العــزة والظفر، وعشق المجد لوطنه فأراد له الحرية والاستقــلال، وعشق المجد لشعره فبذل فيه جهداً كبيراً وتطلع فيه إلى أعلى المراتب وبالغ في شأنه كثيراً، وعشق المجد لنفسه فأراد لها المكانة العليا وحرص على مصاحبة المشاهير والعلية من الساسة والأدباء والوجهاء والأعيان، وأدرك من ذلك حظاً طيباً كان يبالغ فيـــه. ومن هنــا جاءت تسمية هذا الكتاب التي أرجو أن تكون موفقة.

     أصل هذا الكتاب رسالة علمية تناولت الجانب الفني عند الشاعر، ولكني حين عزمت على طباعته كتاباً للناس أجريت فيه بعض التعديل، وأضفت إليه مواد تتناول حياة الشاعر ونفسيته ومواقفه، وموضوعات شعره، وطائفة من أخباره، لذلك يجد القارئ فرقاً واضحاً بين الأصل الذي تحكمه التقاليد العلمية المقررة وبين الإضافة التي لاتلتزم بذلك.

     ومن الله جل جلاله العون، وعليه الاعتماد، وإليه المآب، وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.

حيدر الغدير
الرياض - 1417هـ - 1997م
--------------------------------

المحتـويــات

(روابط قابلة للضغط)

الموضوع .......................................... الصفحة


المحتـويــــــــــــــات ........................................... 1
مقدمة الطبعة الثـانية ........................................... 2
مقدمة الطبعة الأولى ........................................... 5
ديـــــــوان الشاعــــر .......................................... 6
صــــــورة كليـــــــة ........................................... 9
مســــــــيرة الحيـــاة .......................................... 16
في رحـــاب فـيصـل .......................................... 43
إبــــــاء وكـبريـــــاء ......................................... 54

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المراجع العربية والأجنبية

المراجع العربية والأجنبية

المراجع العربية:

· إبراهيم أنيس: موسيقى الشعر. ط٦، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1988م.
· إبراهيم السعافين: مدرسة الإحياء والتراث. ط١، بيروت، دار الأندلس، 1401هـ ــ 1981م.
· إبراهيم عبد الرحمن محمد: بين القديم والجديد دراسات في الأدب والنقد. ط٢، القاهرة، مكتبة الشباب، 1987م.
· ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، البابي الحلبي، 1939م.
· ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون. القاهرة، دار الشعب.
· ابن رشيق: العمدة في صناعة الشعر ونقده. القاهرة، مطبعة هندية، 1344هـ ــ 1925م.
· ابن طباطبا: كتاب عيار الشعر. تحقيق الدكتور عبد العزيز المانع، الرياض، دار العلوم، 1405هـ ــ 1985م.
· ابن عبد ربه: العقد الفريد. تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م.
· ابن قتيبة: الشعر والشعراء. ط٢، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1966م.
· أبو القاسم الشابي: الخيال الشعري عند العرب. تونس، الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1961م.
· أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين. ط٢، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1971م.
· أبو يعلى التنوخي: كتاب القوافي. ط١، تقديم وتحقيق عمر الأسعد ومحيي الدين رمضان، بيروت، دار الإرشاد 1389هـ ــ 1970م.
· إحسان عباس: فن الشعر. ط٤، عمان، دار الشروق، 1987م.
· إحسان عباس ومحمد يوسف نجم: الشعر المهجري. ط٢، بيروت، دار صادر ودار بيروت.
· أحمد أبو سعد: الشعر والشعراء في العراق. بيروت، دار المعارف، 1959م.
· أحمد أمين: النقد الأدبي. ط٤، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1972م.
· أحمد بسام ساعي: حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه. دمشق، دار المأمون للتراث، 1398هـ ــ 1978م.
· أحمد بسام ساعي: الصورة بين البلاغة والنقد. ط١، جدة، دار المنارة، 1404هـ ــ 1984م.
· أحمد الجندي: شعراء سورية. بيروت، دار الكتاب الجديد، 1965م.
· أحمد حسن الزيات: في أصول الأدب. ط٣، القاهرة، مطبعة الرسالة، 1952م.
· أحمد زكي أبو شادي: قضايا الشعر العربي المعاصر. القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1959م.
· أحمد الشايب: أصول النقد الأدبي. ط٧، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1964م.
· أحمد هيكل: تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. ط٥، القاهرة، دار المعارف، 1987م.
· أكرم زعيتر: بدوي الجبل وإخاء أربعين سنة. ط١، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987م.
· أنطون غطاس كرم: الرمزية والأدب العربي الحديث. بيروت، دار الكشاف، 1949م.
· جابر قميحة: الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف. ط١، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1412هـ ــ 1992م.
· الجاحظ: البيان والتبيين. ط٣، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، القاهرة، مؤسسة الخانجي.
· جمال الدين الرمادي: خليل مطران شاعر الأقطار العربية. القاهرة، دار المعارف.
· جميل علوش: عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة. ط١، بيروت، دار الرواد للنشر والتوزيع، 1994م.
· جورج غريب: سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة. بيروت، دار الثقافة، 1986م.
· جورج غريب: الشعر الملحمي تاريخه وأعلامه. بيروت، دار الثقافة، 1985م.
· حسن محسن: الشعر القصصي. القاهرة، دار النهضة المصرية، 1980م.
· الحسين المرصفي: الوسيلة الأدبية. القاهرة، مطبعة المدارس الملكية، 1874م.
· الحصري: زهر الآداب. ط١، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1953م.
· حلمي محمد القاعود: محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث. ط1، المنصورة، دار الوفاء، 1408هـ ــ 1987م.
· حلمي محمد القاعود: القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص. القاهرة، دار الاعتصام.
· حلمي مرزوق: تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين. بيروت، دار النهضة العربية، 1983م.
· حنا الفاخوري: الجامع في تاريخ الأدب العربي. بيروت، دار الجيل، 1986م.
· خليفة محمد التليسي: قصيدة البيت الواحد. القاهرة، دار الشروق، 1411هـ ــ 1991م.
· خليل مطران: ديوان الخليل. القاهرة، دار الهلال، 1949م.
· زكي المحاسني: شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة. القاهرة، دار المعارف، 1961م.
· سامي الدهان: الشعراء الأعلام في سورية. ط٢، بيروت، دار الأنوار، 1968م.
· سامي الدهان: الشعر الحديث في الإقليم السوري. القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، 1960م.
· سامي الكيالي: الحركة الأدبية في حلب. القاهرة، 1957م.
· سامي الكيالي: الأدب العربي المعاصر في سورية. ط١، القاهرة، دار المعارف، 1968م.
· السعيد الورقي: لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية. ط٣، بيروت، دار النهضة العربية، 1984م.
· سليمان البستاني: مقدمة إلياذة هوميروس. القاهرة، مطبعة الهلال، 1904م.
· سيد حنفي: الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971م.
· سيد قطب: كتب وشخصيات. ط٢، بيروت والقاهرة، دار الشروق، 1401هـ ــ 1981م.
· سيد قطب: مهمة الشاعر في الحياة. عمان، مكتبة الأقصى.
· سيد قطب: النقد الأدبي أصوله ومناهجه. بيروت والقاهرة، دار الشروق.
· شكيب أرسلان: شوقي أو صداقة أربعين عاماً. القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1936م.
· شكري عياد: الرؤيا المقيدة. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م.
· شكري عياد: موسيقى الشعر العربي. ط١، القاهرة، دار المعرفة، 1968م.
· شوقي ضيف: البارودي رائد الشعر الحديث. ط٣، القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: دراسات في الشعر العربي المعاصر. ط٥، القاهرة، دار المعارف، 1974م.
· شوقي ضيف: شوقي شاعر العصر الحديث. القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في الشعر العربي. ط10، القاهرة، دار المعارف، ٨٧٩١م.
· شوقي ضيف: في النقد الأدبي. ط٧، القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· صالح جودت: بلابل من الشرق. القاهرة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، العدد 335، 1972م.
· صبحي البستاني: الصورة الشعرية في الكتابة الفنية الأصول والفروع. ط١، بيروت، دار الفكر اللبناني، 1986م.
· الطاهر أحمد مكي: الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته. ط٤، القاهرة، دار المعارف، 1990م.
· طه وادي: جماليات القصيدة المعاصرة. ط٢، القاهرة، دار المعارف، 1989م.
· طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1985م.
· طه وادي: شعر ناجي الموقف والأداة. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1990م.
· عاطف جودة نصر: الخيال مفهوماته ووظائفه. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م.
· عباس محمود العقاد: اللغة الشاعرة. القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م.
· عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني: الديوان في النقد والأدب. ط٣، القاهرة، دار الشعب.
· عباس محمود العقاد: ابن الرومي حياته من شعره. ط٥، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1383هـ ــ 1963م.
· عباس محمود العقاد: في بيتي. القاهرة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، 1945م.
· عباس محمود العقاد: عرائس وشياطين (ضمن مجموعة أعلام الشعر). بيروت، دار الكتاب العربي، 1970م.
· عباس محمود العقاد: جميل بثينة (ضمن مجموعة أعلام الشعر). بيروت، دار الكتاب العربي، 1970م.
· عباس محمود العقاد: ساعات بين الكتب. ط٣، القاهرة، مطبعة السعادة، 1950م.
· عباس محمود العقاد: فصول من النقد عند العقاد. تقديم محمد خليفة التونسي، مكتبة الخانجي بمصر ومكتبة المثنى ببغداد.
· عباس محمود العقاد: أشتات مجتمعات في اللغة والأدب. ط٦، القاهرة، دار المعارف.
· عبد الحميد الرشودي: الزهاوي دراسات ونصوص. بيروت، مكتبة الحياة، 1966م.
· عبد الرحمن الوجي: الإيقاع في الشعر العربي. ط١، دمشق، دار الحصاد، 1989م.
· عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر. ط٢، بيروت، دار النهضة العربية، 1401هـ ــ 1981م.
· عبد القادر القط: في الشعر الإسلامي والأموي. بيروت، دار النهضة العربية، 1979م.
· عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز. طبعة محمود محمد شاكر، ط٣، جدة، دار المدني، 1413هـ ــ 1992م.
· عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة. طبعة محمود محمد شاكر، ط1، جدة، دار المدني، 1412هـ ــ 1991م.
· عبد الله الطيب المجذوب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها. ط١، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1955م.
· عبد الله يوركي حلاق: من أعلام العرب في القومية والأدب. ط٢، حلب، منشورات مجلة الضاد، 1978م.
· عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. ط٣، القاهرة، دار الفكر العربي.
· عز الدين إسماعيل: التفسير النفسي للأدب. بيروت، دار العودة ودار الثقافة.
· عز الدين إسماعيل: الأسس الجمالية في النقد العربي. القاهرة، دار الفكر العربي، 1955م.
· عزيزة مريدن: القصة الشعرية في العصر الحديث. دمشق، دار الفكر، 1404هـ ــ 1984م.
· عمر الدقاق: نقد الشعر القومي. دمشق، دار الأنوار للطباعة، اتحاد الكتاب العرب، 1987م.
· عمر الدقاق: فنون الأدب المعاصر في سورية. بيروت، دار الشرق العربي.
· علي الجارم: ديوان علي الجارم. ط٢، القاهرة، دار الشروق.
· علي الجندي: الشعراء وإنشاد الشعر. القاهرة، دار المعارف، 1969م.
· علي شلش: في عالم الشعر. القاهرة، دار المعارف، 1980م.
· علي عبد الواحد وافي: الأدب اليوناني القديم. القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· فايز الداية: جماليات الأسلوب الصورة الفنية في الأدب العربي. ط٢، دمشق، دار الفكر، 1411هـ ــ 1990م.
· القاضي الجرجاني: الوساطة بين المتنبي وخصومه. ط٤، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، القاهـرة، عيسى البابي الحلبي، 1386هـ ــ 1966م.
· قدامة بن جعفر: نقد الشعر. تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1398هـ ــ 1978م.
· ماهر حسن فهمي: قضايا في الأدب والنقد رؤية عربية وقفة خليجية. قطر، دار الثقافة، 1986م.
· ماهر حسن فهمي: شوقي شعره الإسلامي. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· مارون عبود: مجددون ومجترون. ط٥، بيروت، دار الثقافة ودار مارون عبود، 1979م.
· محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء. شرح محمود محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1952م.
· محمد حسن عبد الله: الصورة والبناء الشعري. القاهرة، دار المعارف، 1988م.
· محمد عادل الهاشمي: أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية من 1920م إلى 1946م. الزرقاء، مكتبة المنار، 1986م.
· محمد عبد المقصود خوجة: الإثنينية. كتاب يجمع وقائع ندوة محمد عبد المقصود خوجة التي تعقد في جدة كل يوم اثنين، جدة 1411هـ ــ 1991م.
· محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث. بيروت، دار العودة، 1987م.
· محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر. ط٣، القاهرة، دار المعارف، 1984م.
· محمد فتوح أحمد: واقع القصيدة العربية. ط١، القاهرة، دار المعارف، 1984م.
· محمد مندور: الشعر المصري بعد شوقي. القاهرة، دار نهضة مصر.
· محمد مندور وعبد العزيز الدسوقي وأديب مروة: أعلام الشعر العربي الحديث. بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1970م.
· محمد مندور: الأدب وفنونه. القاهرة، دار نهضة مصر، 1974م.
· محمد مندور: فن الشعر. القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر.
· محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون. القاهرة، دار نهضة مصر.
· مختار الوكيل: رواد الشعر الحديث في مصر. ط٢، القاهرة، دار المعارف.
· المرزباني: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء. ط٢، طبعة محب الدين الخطيب، القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، 1385هـ.
· المرزوقي: مقدمة شرح ديوان الحماسة. ط٢، نشر أحمد أمين وعبد السلام هارون، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م.
· مصطفى السعدني: التصوير الفني في شعر محمود حسن إسماعيل. الإسكندرية، منشأة المعارف.
· مصطفى عبد اللطيف السحرتي: الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث. ط٢، جدة، مطبوعات تهامة، 1984م.
· نازك الملائكة: قضايا الشعر المعاصر. ط٨، بيروت، دار العلم للملايين، 1989م.
· نسيب نشاوي: مدخل إلى دراسة المدارس الأدبية في الشعر العربي المعاصر. دمشق، 1980م.
· النعمان القاضي: كافوريات أبي الطيب دراسة نصية. القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط ومكتبتها، 1975م.
· النعمان القاضي: أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي. القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1982م.
· هلال ناجي: الزهاوي وديوانه المفقود. القاهرة، مطبعة نهضة مصر.
· يوسف بكار: بناء القصيدة العربية. القاهرة، دار الثقافة، 1979م.
· يوسف خليف: ذو الرمة شاعر الحب والصحراء. القاهرة، مكتبة غريب.
· يوسف خليف: نداء القمم. القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1965م.
· يوسف عز الدين: التجديد في الشعر الحديث بواعثه النفسية وجذوره الفكرية. جدة، النادي الأدبي الثقافي، 1986م.


المراجع الأحنبية:

H. L. Yelland, S.C. Jones and K.S.W. Easton: A Handbook of Literary Terms Angus & Robertson Publishers, Sydney, Australia, 1983.
A Dictionary of Modern Critical Terms Ed. Roger Fowler, Routledge and Kegan Paul, London, 1975.
The Oxford Classical Dictionary, Ed.M. Cary et. al., Oxford University press, London, G.B. 1964.
Websters Third New International Dictionary, Merriam-Webster Inc., Publishers Springfield, MA 01102, U.S.A. 1986.
Robin Mayhead, Understanding Literature, Cambridge University Press, Cambridge, G.B., 1969.
M.H. Abrams, A Glossary of Literary Terms, Rinehart and Winston, New York, U.S.A,
- Critical Approaches to Literature, David Daitehes Longman, London, 1974.
❊ ❊ ❊

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - المسرح الشعري

المسرح الشعري

     يبدو أن عمر أبو ريشة كان يطمح إلى أن يكون شاعراً مسرحياً إلى جانب كونه شاعراً غنائياً، ولذلك نشر مسرحية كاملة هي «ذي قار» كانت أول أعماله المنشورة، وأوبريت باسم «عذاب» ضمن ديوانه، ونشر فصولاً من ثلاث مسـرحيات لم تكتـمل هي «محكمة الشعراء» و«الطوفان» و«سمير أميس»، وأعلن عن ثلاث مسرحيات هي «تاج محل» و«علي» و«الحسين»، ولكن لم ير النور منها شيء مع تكرار الإعلان وتطاول الزمان.

     ودراسة المسرحية الوحيدة المكتملة «ذي قار» التي لم يعد طباعتها قط، مع مرور قرابة ستين عاماً على طبعتها الأولى[1]، ودراسة الأجزاء المنشورة من مسرحياته الثلاث، والتساؤل عن جدية ما وعد به من مسرحيات أخرى، كل هذا يحمل الدارس على أن يقرر أن عمر أبو ريشة انصرف عن المسرح الشعري لأنه لم يرض عما أنجزه فيه، مما جعله يؤمن أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وهذا ما يؤكده الواقع حيث صب معظم اهتمامه على الشعر الغنائي حتى مات، ولقد كان محقاً فيما فعل فهذا الشعر هـــو مجال تفوقه وهو الذي عاش معه حتى آخر عمره.

     ومن المقرر لدى الدارسين والنقاد أن الأدب المسرحي أدب جديد على العربية، وأن الشعري منه أكثر جدة. وكان أحمد شوقي أول من أدخل المسرح الشعري إلى الأدب العربي، وقد وهب السنوات الأخيرة من عمره لهذا الفن، فأخرج مسرحياته «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» و«الست هدى» و«علي بك الكبير» و«عنترة» و«قمبيز».

     ومع الجهد الكبير الذي بذله شوقي في هذه المسرحيات، ومع أنه كتبها، وهو في أوج نضجه واكتماله إلا أن النقاد وقفوا عند عدد من العيوب والثغرات فيها، ولعل كونه الرائد الأول في هذا الباب يشفع له. وخلافاً لشوقي كان صنيع عمر أبو ريشة. بدأ شوقي شاعراً غنائياً وظل طيلة حياته كذلك، وعني بالمسرح الشعري أواخر عمره، أما عمر أبو ريشة فقد عني بالمسرح الشعري في أوائل حياته لكنه انصرف عنه مبكراً وركز على الشعر الغنائي.
❊❊❊

     مسرحية «ذي قار»: هي المسرحية الأولى للشاعر، وهي المسرحية الوحيدة المكتملة لديه، أما باقي مسرحياته فهي أجزاء غير مكتملة أو وعود، ولذا يجدر بنا أن نتوقف لديها لأنها أجدر من سواها بكشف قدرات عمر أبو ريشة المسرحية.

     تعود مسرحية «ذي قار» إلى العام 1929م، حيث نظمها الشاعر وهو لا يزال في العشرين من عمره ومثل هذه السن لا تؤهله للعمل المسرحي الذي يحتاج إلى دربة وخبرة ومعرفة جيدة بالفن المسرحي. وتأخر نشر المسرحية عامين فرأت النور عام 1931م، حين نشرها الأستاذ محمد صبحي اللبابيدي، صاحب المكتبة الحلبية في حلب، وهي تقع في مئة وست عشرة صفحة من القطع الصغير، وقد ألـحق بها الناشر عشر صفحات أخرى للأستاذ حمدي كامل، عنوانها «نظرة في شعر المؤلف».

     تدور مسرحية «ذي قار» حول قصة حب يلتقي فيها أبطال المسرحية في مسلسل من الوقائع يتداخل فيها هذا الحب بالصراع بين العرب والفرس الذي كانت ذروته يوم ذي قار الذي وقع مع بداية البعثة النبوية الشريفة أو قبلها بقليل.

     وأصل الواقعة التاريخية لذي قار أن كسرى ملك الفرس غضب على النعمان ملك الحيرة، وكان تابعاً له فقتله، وعين مكانه إياساً الطائي، وكانت للنعمان ودائع عند هانئ بن مسعود الشيباني فطالبه إياس بها فأبى، ومن هنا اندلعت شرارة الحرب بين الفرس والعرب، واستمرت الحرب أياماً انتهت بانتصار العرب في يومها الأخير الذي عرف بيوم ذي قار، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة.

     ولم يكن لهذا النصر قيمة إستراتيجية ذات بال، إذ ظل الفرس في موقع القوة والسيادة، وظل العرب في موقع الضعف والعجز حتى جاءت الفتوح الإسلامية بعد ذلك بقليل، فغيرت المعادلة وقلبت مجرى التاريخ، لكن هذا النصر كانت له قيمة معنوية كبيرة فقد فرح به العرب، وطربوا له، وارتفعت روحهم المعنوية إذ وجدوا أنفسهم ــ وهم الضعاف الفقراء الممزقون ــ منتصـرين على دولـة عظمى كانت أحـد قطبين يحكمان العالم: الفرس والروم.

     أما عمر أبو ريشة فلم يأخذ بالأصل التاريخي للواقعة، وإنما اختار منها وأضاف وتخيل، فكانت وجهتها عنده أن الأحداث وقعت في زمن النعمان نفسه، وخلاصتها أن كسرى أراد أن يتزوج ابنته الحرقاء، فرفض النعمان فاشتعلت المعركة، وانتصر العرب على الفرس، وتزوجت الحرقاء من المنذر بن الريان وهو ابن عمها وكان محباً لها.

     تتكون المسرحية من أربعة فصول يمكن إيجاز أحداثها على النحو التالي:

الفصل الأول: ويغطي الصفحات من 8 إلى 38، وتجري أحداثه إلى جوار غدير ماء، حيث نجد مجموعة من الشبان يرقصون «الدبكة»، وهم ينشدون أبياتاً على بحر راقص هو مجزوء الرمل، تقول اللازمة المكررة فيها:

كلما الصـب المعنَّى     أبصر المحبـوب أنّا
وإذا ما الليـل جــــنَّا     أترع الكــأس وغنَّى

     ويتفرق الشبان حين يدخل عليهم الأمير المنذر بن الريان، لكن الأمير يأبى أن يفسد صفوهم فيعودون، ويعود المجلس للغناء والراح، ويتفاعل الأمير مع المجلس فيكشف عن أحزانه ويبوح بحبه للحرقاء بنت النعمان، وتدخل وهو في حاله هذا من الوجد والبوح فتاتان هما هند ومريم فتعلمان حقيقة الأمر فتقوم مريم بإبلاغ الحرقاء بعشق ابن عمها لها، فيلتقي العاشقان المنذر والحرقاء، ويتبادلان الغزل ويتعاهدان على الإخلاص والوفاء.

أما الفصل الثاني: الذي يستغرق الصفحات من 39 إلى 59، فتدور أحداثه في بلاط كسرى ملك الفرس، حيث نرى كسرى ومعه وزراؤه وندماؤه وشعراؤه، أحدهم يمدح، والثاني يداعب، والمنشدون يغنون، وكسرى يطرب ويهب، وحين يدخل الطميح أحد قادة كسرى يزف لسيده بشرى انتصاره على بني شيبان، ويعرض عليه من سباهن من بناتها، وهن حسناوات كواعب يعجب كسرى بهن، فيشيد أحدهم بجمالهن الذي يكاد يشبه جمال الحرقاء، وهنا يسأل عنها كسرى فيعلم عنها ما يدعوه إلى الرغبة في الزواج منها، ويرسل إلى أبيها النعمان في طلب ذلك، وينتهي الفصل وعلى خشبة المسرح عربيان هما عصام وعناد، يعبران عن ضيقهما برغبة كسرى، ويريان أنه لا يليق بالحرقاء، فهو مزدكي إباحي غصوب، لا يرقى وإن كان ملكاً إلى مستوى الحرقاء الفتاة العربية الحرة.

أما الفصل الثالث: وهو يستغرق الصفحات من 59 إلى 81، فتدور أحداثه في الحيرة في قصر النعمان، حيث نشاهد الحرقاء تتحاور مع مريم وهي قلقة على ابن عمها المنذر الذي تأخر الوقت ولم يظهر، ومريم تهدئ من مخاوفها، ثم نشاهد النعمان مع وزرائه وحاشيته، يصرف شؤون دولته فيرى شيخاً يهودياً اعتدى عليه أحد وزرائه، فيحمله حبه للعدل على إنصاف اليهودي وتحقيق مطلبه وإلقاء الوزير الظالم له في السجن، ثم يدخل الشعراء ومنهم النابغة الذبياني الذي يلقي بين يدي النعمان قصيدة مطولة تقع في ثمانية وعشرين بيتاً مطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربع بثيــــنة وسعــــــاد

     وينتهي الفصل وقد جاء الطميح يخطب الحرقاء بنت النعمان لسيده كسرى، فيرفض والدها رفضاً قاطعاً مع ما في الرفض من أخطار ومهالك، ومع تهديد الطميح إياه.

أما الفصل الرابع: وهو الأخير أيضاً فإنه يغطي الصفحات من 82 إلى 116، وتدور أحداثه قرب قصر الريان، حيث نشاهد العاشقين المنذر والحرقاء يتلاقيان ونذر الحرب تتوالى، ويتعاهدان على الوفاء، ويتواصيان بالصبر والاحتمال، وتطلب الحرقاء من المنذر أن ينسى الغرام، وأن يبذل نفسه في طلب المعالي، وهي هنا بطبيعة الحال التصدي لكسرى ومطامعه، ثم نرى النعمان وحاشيته بملابس الحرب وهو ينشد أبياتاً حماسية يظهر فيها اعتزازه بملكه وعروبته وهزؤه بكسرى، ثم يبدأ القتال الذي يأخذ شكل مبارزات فردية يقتل النعمان في إحداها، وفي ثانية يلتقي الطميح وهو عربي موال لكسرى مع ابنه عصام الموالي للنعمان، ويدور بينهما حوار طويل تظهر فيه عروبة عصام وإخلاصه لقومه، ويتبارز الأب والابن فيسقط الابن قتيلاً. أما الحرقاء فتهرب إلى الصحراء حيث يجيرها بنو بكر بن وائل، وينتهي الفصل بانتصار العرب ومبايعة قبائلهم للمنذر ملكاً عليهم، وزواج المنذر والحرقاء، ويقفل الستار والعرب ينشدون أنشودة الانتصار على الفرس والاعتزاز بمجدهم وعروبتهم.

     ودراسة المسرحية تنتهي إلى النتائج التالية:

(1) لم يستطع الشاعر أن يبني مسرحيته بناء درامياً متقناً، يأخذ الثاني منه برقاب الأول، ويفضي إلى الثالث، بحيث تتدافع الأحداث وتتعقد، حتى تأخذ ذروتها ثم يكون الحل، فمثلاً نجده في الفصل الأول يطيل مجالس اللهو والشراب والغناء إطالة تخرج بها عن وظيفتها منذ أن نلتقي بمجموعة الفتيان الذين يرقصون ويغنون وينشدون إلى أن يدخل عليهم المنذر بن الريان فينشد هو الآخر أبياتاً دالية يعبر فيها عن حبه، وأبياتاً أخرى رائية يدعو الفتيان فيها إلى أن يستمروا في لهوهم حين هموا بالانسحاب توقيراً له واحتراماً، ويغفو الأمير ويصحو لنعلم خلال ذلك في أبيات له تطول كثيراً حتى تبلغ تسعة عشر بيتاً أنه وقع في حب ابنة عمه الحرقاء.

     ويتصل بهذا الملحظ أننا نرى في المسرحية مواقف استطرادية دخيلة تماماً كموقف الشيخ اليهودي المتظلم الذي نلقاه في الفصل الثالث، وهو موقف مقحم تمام الإقحام ليست له أي فائدة في دفع الأحداث أو تفسيرها ولو حذف كله لما خسرت المسرحية شيئاً، ومثل ذلك يقال عن القصيدة الطويلة التي يلقيها النابغة الذبياني بين يدي النعمان في الفصل الثالث، وهي قصيدة لا صلة لها قط بأحداث المسرحية، وليس لها أي داع مسرحي أو ضرورة درامية، بل إنها زيادة على كونها مقحمة تبتعد بالنظارة عن أصل المسرحية ومادتها الأساسية حين يسمعون إليها، وهي تتحدث في لغة فخمة جزلة بدوية عن القلوص والنؤي والأوتاد والأظعان والوجناء والشآبيب والعير والأثفان والرسيم والقتاد والقفر والرميم والذئب والمشطب والسيل والوادي، مما يصور فيه الشاعر رحلته في الصحراء حتى يصل إلى النعمان طالباً رفده وصفحه.

     إن هذا الطول في الأبيات، وهي مقحمة ابتداء، ثم هذه اللغة الحوشية الغريبة التي لا يكاد يستوعبها النظارة يشعرهم بالافتعال والتكلف، ويبعدهم عن جو المسرحية. وربما كان لهذه القطعة التي وضعها عمر أبو ريشة على لسان النابغة سبب نفسي لا علاقة له بالمسرحية وهو رغبته في أن يثبت مقدرته اللغوية فحشد لنا ما حشد في هذا الاستطراد، ويؤكد صحة هذا الاستنتاج ما رواه الدكتور سامي الدهان حين قال: «وكم فعل عمر مثل هذا حين كنا نخلو إليه في جلساتنا في حي قريب من قلعة حلب، يهدر بالشعر القديم ويقلده متندراً ساخراً، ولن أنسى أنه كان يخدعنا عن أنفسنا ونحن في مطلع الشباب فنحسب أن الشعر قديم حقاً، ويلهو بنا زمناً نبحث فيه عن صاحب الشعر في المصادر القديمة، ونعود إليه لنقرأ في ثغره ضحكة الشباب المنتصر الساخر»[2].

     وما قيل عن هذا الاستطراد يقال عن استطراد مماثل نراه في المبارزة التي تقع بين الطميح وابنه عصام، فهو استطراد مقحم هو الآخر لا يدفع بالأحداث ولا يضيف أي خيط إلى بناء المسرحية.

     وبهذا يتبين لنا أن في المسرحية مواقف مقحمة وطولاً يعطل الحركة، ويدفع إلى الملل، تفقد الأحداث معه تواليها وتسلسلها وتصاعدها.

(2) خالف الشاعر قاعدة الوحدات التي تحرص عليها المسرحية الكلاسيكية، وهي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، فبعض الأحداث يجري على الغدير، وبعضها يجري في قصر النعمان، وبعضها يجري في قصر كسرى، وبعضها يجري في منطقة ذي قار ليمتد عدة أيام، وكان أثر ذلك في المسرحية أن بدت مفككة تراخت معها الحبكة، وغاب التركيز وضعف عنصر الصراع وترهل.

(3) لم يستطع عمر أبو ريشة أن يصور خصوصية الأبطال الرئيسيين في المسرحية فكان عرضه لهم عرضاً سطحياً لم يغص فيه على أعماقهم، وإذا كان هذا مقبولاً حيال أي واحد منهم، فإنه لا يقبل قط فيما يتصل بالبطل الرئيسي المنذر بن الريان الذي يريد الشاعر أن يقدمه لنا بطلاً قومياً يتصدى لأعداء أمته ومقاتلاً شجاعاً لا يهاب ولا يضعف. إن صورته هذه تتناقض مع مشاهدتنا له عاشقاً رقيقاً رهيفاً يقول عن نفسه:

يميل بي اللحن ميل الزهور     وقد قبــلتها شفــــــاه السحر

     ومع مشاهدتنا له شاباً رومانسياً كثير البكاء والشكوى وهو يقول:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس
أترى تهجر قلبــاً مكلمـــا     يتلظى في سعـــير النفس

     ومع مشاهدتنا له دنفاً كأنه مراهق واهم حالم وهو يقول:

أيها الموت اقترب واشفق علي
يـا أخي
وانبتي يا أرض من بعد مماتي
كل نبت عاطر فـــوق رفــاتي
عله يقتـــاد من كنـــــــــت أود
فاستــبد

     إن المنذر بن الريان هو الشخصية المحورية في المسرحية، وهذا يستدعي من الشاعر أن يصور ملامحه النفسية تصويراً يجمع كل خيوطها ليبرزه لنا شخصاً مندفعاً مقداماً حياً، ذا ميل جامح يشد النظارة ويستأثر باهتمامهم، خاصة أن عمر أبو ريشة كان يريد أن يقدمه لنا بطلاً قومياً ومقاتلاً يدافع عن عروبته ضد عدو خارجي، لكن المشاهد التي عرضت لنا المنذر لم تتعاون كلها في بناء هذه الصورة الموحدة، بل تفرقت لترسم لنا عدة صور لشخصية محورية واحدة.

(4) هناك مواقف يشق على النظارة الاقتناع بها لأن عمر أبو ريشة لم يحشد لها المسوغات المنطقية المقنعة التي تخفف من غرابتها وتجعل الإنسان قادراً على افتراض إمكانيتها. فالموقف الذي يتبارز فيه الطميح مع ابنه عصام موقف غريب لم يستطع الشاعر أن يصوره التصوير الدقيق. نحن هنا أمام مأساة أخطر من حب المنذر والحرقاء، إنها ذروة مأساة درامية يقتتل فيها الأب الذي يوالي كسرى مع ابنه عصام الذي يوالي المنذر، ويقتل الأب ابنه مع إعجابه بانحيازه إلى قومه ودفاعه عن ذويه، وبعد وقوع القتل لا نجد من الأب القاتل الندم الذي يليق بمأساة من هذا النوع، وهي مأساة كانت جديرة بوقفة نفسية تحليلية ربما يتسرب بسببها شيء من الإقناع إلى النظارة الذين لابد أنهم استغربوا كثيراً وهم يرون والــــداً يقتـــل ابنــه دون تردد شديد قبل القتل، ودون ندم أشد بعده.

(٥) يلاحظ على الحوار امتداده واتساعه، وتحوله أحياناً إلى مقطوعات غنائية لا تدفع الحدث ولا تطور الشخصية بحيث يمكن أخذها كما لو كانت قصائد مستقلة والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الأبيات العشـــرون التي ينشدها المنذر في الفصل الأول والتي تبدأ بقوله:

يا غراماً بين أحشائي نما     ورماني في بحور التعس

     ومنها الأبيات التي تقولها مريم للحرقاء، وهي تحدثها عن حب المنذر لها ومعاناته، وتبدأ بقول الشاعر:

حرقـاء في كنف الغدير     صـب بمضطرم السعير

     وهي أبيات تقع في خمسة وعشرين بيتاً.

     ومنها أبيات عمر أبو ريشة التي تقع في ثمانية وعشرين بيتاً قالها على لسان النابغة الذبياني ومطلعها:

اعقل قلوصي أيهذا الحادي     إنا بربــــع بثيــنة وسعــــاد

(6) مسرحية ذي قار مسرحية تعليمية تنحو نحواً وطنياً يشيد بالعرب والعروبة بشكل تغلب عليه السذاجة، وهذا المنحى يتسق بشكل عام مع عمر أبو ريشة فقد كان شاعراً وطنياً جهيراً، ويتسق أيضاً مع المرحلة التي ظهرت فيها المسرحية (1929م ــ 1931م)، حيث وقع العالم العربي في قبضة الاستعماريين الفرنسيين والإنجليز والطليان والإسبان مما دعا الكتاب والأدباء والشعراء إلى استنهاض همم العرب ضد أعدائهم، ومن هنا جاء عمل عمر أبو ريشة ليكتسب صبغة وطنية بما نجده فيه من ثناء على العرب وإعجاب بشجاعتهم وتمرد على أعدائهم، ولذلك لا نستغرب أن نجد في المسرحية خطاباً مباشراً كقول النعمان:

نفس الملوك أبيــــــة لا سيما     من ينطقون طبيعـــة بالضـاد
إن الحياة وإن علت لرخيصة     إن قام أمر مواطــن وبــــلاد

     وكقوله أيضاً مخاطباً الطميح رسول كسرى إليه:

فأخـــبر مليـــــكك أني     ذو نخــــــوة وحميـــة
تـراه يجهــــــــــل أني     من أمـــــــــة عربــية
لله أمــــــــــة مجــــــد     به النفـــــــوس أبيــــة

     ومثل ذلك قول الحرقاء تستثير مروءة العرب ونخوتهم:

واذل يعرب أين الســــادة النجــب     وأين منهم أسود الغاب إن غضبوا
وأين مجدهم السامي الذي رفعــوا     وأين ملكهم العالي الذي ضربـــوا

     ومثل هذه الأبيات تذكر المرء بالمظاهرات الحماسية التي كان يقوم بها الشباب العربي ضد الاستعمار والصهيونية، وكانت تلقى فيها قصائد خطابية حماسية تثير حمية العرب ضد المستعمرين، وكأن أبيات عمر أبو ريشة هذه جزء منها. والنظر في أبيات الشاعر هذه وفي قصائده الوطنية الأخرى يدل على أنها من روح واحدة.

     ومما يؤكد التوجه العربي الوطني للشاعر في هذه المسرحية أنه وضع صورته في بدايتها وقد وضع على رأسه الكوفية والعقال، وأنه أهداها إلى الأستاذ حبيب العبيدي بهذه العبارة الدالة «إلى الرجل العربي الأستاذ حبيب العبيدي»، والعبيدي هذا عالم عراقي عمل من أجل العرب والمسلمين، وله كتاب باسم «جنايات الإنجليز على البشر عامة وعلى المسلمين خاصة»، طبع في بيروت عام 1916م، «فدلل عمر على حب للعرب وتفان في العقيدة، وكره في الاستعمار حين أهدى إليه المسرحية وهو ما يزال طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1929م»[3].

     أما آخر ثلاثة أبيات في المسرحية فهي هذه الأبيات التي نجد الجميع ينشدونها بعد انتصارهم على الفرس:

نلنا المنى بعـــد العنـــــا     بالسيف والرمح السنـين
فلتخـذل الحســـــــاد ولـ     ـتخسف عماد الظالمـين
وليبق مجـد العـرب طـو     ل الدهر وضاء الجبـين

     ومن صورة الشاعر وإهدائه في أول المسرحية، إلى ختامها بالأبيات الثلاثة السابقـة، مروراً بالأبيات الأخرى المماثلة التي جاءت في ثنايا المسرحية، نجد مسرحية ذي قار، مسرحية تاريخية وطنية لا تلتزم بالتاريخ تماماً، ولكنها تقتبس منه وتضيف إليه، وتسقط وقائعه القديمة على وقائع العصر الحديثة مؤملة أن يصنع أحفاد اليوم نصراً يماثل النصر الذي صنعه أجداد الأمس.

     ويقرر الدكتور عمر الدقاق هذا التوجه الواعي لدى عمر أبو ريشة في استدعاء التاريخ وتوظيفه توظيفاً وطنياً فيقول: «لقد طلع أبو ريشة على جيل ما بين الحربين وهو في نحو العشرين من عمره بمسرحية شعرية اسمها «ذي قار»، وقد قبس حوادثها من تاريخ العرب في الجاهلية، والحق أن أبا ريشة أحسن انتقاء هذه الزاوية من التاريخ، فأكسب بذلك مسرحيته روحاً قومية بالإضافة إلى ما هو مرتسم حولها من هالة تاريخية، فمعركة «ذي قار» أول التحام ذي شأن بين العرب وبين الفرس تجلت خلاله شهامة العرب وإباؤهم وعنفوانهم كما انجلى عن انتصار مبين للعروبة المتفتحة على الصلف الفارسي. وما من ريب في أن أبا ريشة كان يؤلف مسرحيته تلك وهو يضع نصب عينيه حال قومه في ظل الاحتلال البغيض، وتحت وطأة الصراع المرير بين حق العرب وباطل الغرب، واضعاً عيناً على الغابر، وعيناً أخرى على الحاضر، وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى إلهاب المشاعر المتوثبة وإمدادها بروح الثقة ونسغ الأمل، يؤيد ذلك تلك النزعة الرومانتيكية التي تطالعنا في تتويج المسرحية بهذين البيتين اللذين جعلهما تصديراً لذي قار، مرافقين لصورته بالزي العربي:

يا فؤادي ألا تـــــــــــزال كئيبــاً     شـــــاكياً باكياً على دون جدوى
لا تكن ظـــــالماً فإنـــك إن مـت     تركت الآلام من غير مأوى[4]

(٧) وعلى كل حال تبقى المسرحية في العمر الذي نظمها فيه عمر أبو ريشة في سن العشرين محاولة شجاعة منه أصابت حظاً من التوفيق، ومثلت على المسارح السورية، أما أخطاؤها فهي مغفورة للسن ولحداثة التجربة. ومن الواضح أن الشاعر قد اكتشف هذه الأخطاء، فلم يعدل في المسرحية قط، ولم يعد طباعتها قط، وكأنه أسقطها من تراثه، وقد نبه إلى ذلك الدكتور عمر الدقاق فقال: «ولعل أبا ريشة نفسه قد أدرك بعد نضجه تلك الصفة السطحية في مسرحيته، فضرب عنها صفحاً وأغفلها من بين ما عاود نشره من شعره»[5]. أما الدكتور سامي الدهان فإنه يمضي خطوة أبعد من خطوة الدكتور عمر الدقاق حيث يرى أن مسرحية ذي قار هي ديوان عمر أبو ريشة في شبابه وليست مسرحية، ذلك أن ذي قار «وحدها ديوان الشاعر المطبوع الذي يمثل صباه والطور الأول من حياته الشعرية صب فيها مختارات شعره لتلك السن على شكل حوار. أجل إننا نظرنا إليه كديوان لا كمسرحية، ففيه ألوان مختلفات من الأدب في الوصف والغزل والهجاء»[6].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثاني لعمر أبو ريشة الذي يأتي بعد مسرحيته ذي قار فهو «محكمة الشعراء» وهي مسرحية يحاكم فيها عمر أبو ريشة الشعراء، وهو أمر لا يبدو غريباً على شاعر مثله ظل معتداً بنفسه شخصاً وشعراً في كل مراحل حياته، ونحن نعرف عنه أنه ذم البحتري وسخر منه وهو طالب في الجامعة الأمريكية في بيروت، ووصف نفسه أكثر من مرة بأنه أكبر شعراء العربية وهو شيخ كبير متزن. وقد نشر الشاعر فصلين من هذه المسرحية في مجلة الحديث الحلبية عام 1934م، ووعد بنشرها حين تكتمل لكن الوعد لم يتحقق، مثله مثل وعود أخرى يبدو أن الشاعر الكبير انصرف عنها إما لأن الظروف لم تتح له إكمالها، وإما لأن ما أنجزه منها لم يرق له.

     وقد حشد عمر أبو ريشة في هذه المسرحية شعراء عصره المشهورين مثل أحمد زكي أبو شادي، وشفيق جبري، وجميل صدقي الزهاوي، وعلي الناصر، وأنطق كلاً منهم بما تخيل، وحكم لبعضهم، وحكم على بعضهم الآخر، وجعل "أبولون" إله الشعر في الأساطير اليونانية حكماً يستدعي الشعراء ويحاكمهم ويسألهم ويحاورهم، وجعل "منيرفا" إلهة الحكمة في الأساطير نفسها شاهدة على ما يجري، والمسرحية في حقيقتها نصرة للشعراء المجددين وهجوم على الشعراء التقليديين، بل هي ثناء على شعره هو لأنه أحد المجددين الذين يريدون أن يفسحوا لهم مكاناً إلى جوار المشاهير، يدل على ذلك أنه جعل أبا شادي ينشد أبياتاً سبق له أن قالها في أمين الريحاني عام 1932م وهي:

أرضعته الطبيعـــــة الفتانـــة يوم أن فتح الصبـــا أجفانـــــه
ورمى الفجر هالــــة فــوق فــوديــه بشتى أضوائه مزدانــة
وضمير الظلمــــاء فض عليــــــه ختم سر لم يستطع كتمانه
وحباه الخيــــال من أفقــــه الرحــب جناحـــين ذللا ميدانــه
وغفا الوحي لاثمـــاً شفتيـــه ولســـــان الإلهــام يهدي لسانه
فـــإذا الكون كله نصـــب عينيـه تجـــلت أسراره عريــــانة
نسمة من هداية نفح الله بها الناس فجاءت معطارة ريانة[7]

     وحين يسمع الزهاوي هــذه الأبيات يسخر منها، لكن "أبولون" وهو الحكم يحكم لها ويشيد بها.

     على كل حال يبدو أن هذه المسرحية كانت محاولة فيها اعتزاز الشباب وسرعته، لذلك لم يرض عنها عمر أبو ريشة وطواها فيما طوى من أعمال. وإلى هذا الرأي ينتهي الدكتور عمر الدقاق إذ يقول عنها: «غير أنه فيما يبدو أيضاً قد أنكر هذه المسرحية وعدها من نزوات الشباب لما انطوت عليه من آراء نقدية متطرفة في بعض الشعراء أغلب الظن أنه عدل عنها، فقد حشد أبو ريشة مشاهير شعراء عصره في الشرق العربي، وأجرى بينهم محاورات على أساس كونهم محافظين ومجددين»[8].
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الثالث لعمر أبو ريشة فهو أوبريت «عذاب» الذي نظمه عام 1935م، ويستحق هذا العمل وقفة فيها شيء من الأناة والبسط لأنه عمل مسرحي مكتمل، ذلك أن أعمال عمر أبو ريشة المسرحية المكتملة اثنان هما «ذي قار» و«عذاب»، أما باقي أعماله فهي ناقصة أو أنها مجرد أحلام ووعود.

     الأوبريت هي أوبرا مصغرة، وهي تجمع بين المسرح والموسيقى والإنشاد، وهي أيضاً من الفنون التي لم يعرفها العرب. وقد نظم عمر أبو ريشة أوبريت «عذاب» عام 1935م، أي بعد ست سنوات من «ذي قار»، وسنة من «محكمة الشعراء»، فلا غرابة إذا رأيناها أنضج من الناحية الفنية وأكمل، وهذا يفسر سر احتفاء الشاعر بها، إذ حرص على نشرها في كل طبعة تالية من ديوانه خلافاً لـكل من «ذي قار» و«محكمة الشعراء» اللتين أسقطهما من تراثه.

     لم تلحن أوبريت «عذاب»، ولم تخرج إخراجاً مسرحياً، بقيت على الورق مثلها مثل قصائده الغنائية، فكأنها ألحقت بالمسرح الذهني حيث ينصرف إليها القارئ يقرؤها ويتخيل مشاهدها دون نظارة أو تمثيل أو إخراج إذاعي. وبذلك يكون أدق تصنيف لها أنها من المسرحيات الذهنية ذات الفصل الواحد.

     ويبدو موضوع الأوبريت غريباً عن البيئة الشرقية، لأنه حكاية الزوج والزوجة والعشيق، ولعل ذلك من أثر الحياة الغربية على عمر أبو ريشة الذي قضى فترة من شبابه في إنجلترا، حيث لا تعد هذه الحكاية في الأسر الغربية شذوذاً مستغرباً، بل إنها إرث مألوف ومعروف في الحياة الاجتماعية والأدبية على السواء.

     أبطال الأوبريت ثلاثة هم: الزوج واسمه جميل، وهو فنان مثالي حالم يخلص لفنه وينصرف إليه ولا يعنى بأمور رزقه مع أنه ضعيف الحال قليل الموارد. والعاشق وهو نزار، وهو رجل لهو وملذات بوهيمي التوجه كان يحب سعاد قبل زواجها من جميل ولا يزال يطمع فيها، والزوجة وهي سعاد، وتتراوح اهتماماتها ونوازعها بين مثالية الزوج وبوهيمية العاشق، فلها عين على المثل والفن والقيم والطهارة، ولها عين على الملذات والمال والنعيم، وينتهي أمرها بالسقوط ثم الانتحار.

     يرفع الستار عن جميل وهو جالس في بيته المتواضع يرسم صورة فتاة، ومن البداية نكتشف أن الرجل مثالي رومانسي حالم ومحب أيضاً، فهو ينشد مخاطباً زوجته سعاد:

عرفت بك الله بعد الضـــلال     فدل البديــــــع على المبــدع
أغنيــك حبي وهـــذا الوجود     ضحــوك الثنـــايا يغني معي
سعاد منى القلب خلي الرؤى     تذوب على دافئ المضجـــع
لقد أومــأ الصبـح للساجعات     فهبت تفـــــتش عن مرتــــع

     وتدخل سعاد لتخاطب زوجها الفنان بدلال يزيد منه أن رأته يرسم صورتها، لكن الصورة رسمت المظهر الخارجي لسعاد، أما روحها التي سنكتشف بعد حين أنها حائرة مضطربة فلم تنلها ريشة جميل الذي يقول لزوجته محزوناً بعد أن سألته هاتفة بدلال وتشوف «أصورتني»:

ظلال الهيولــــى وألوانـــــــه     وراء بنـــــــــاني ولم أقـنــــع
ومن دون روحــك هذا القناع     وما نسج الظــــــن من برقــع
كأن حـــدود الفنـــــون انتهت     وما بلغتـني مـــــــدى مطلعي

     وفي هذه الأبيات إشارتان تنسجمان تمام الانسجام مع منحى الأوبريت، وتومئان إلى شخصية جميل، فنراه في الأولى فناناً مخلصاً لفنه لا يرضى بما أنجز، ويحس أنه مطالب بالغوص على الأعماق لاستخراج أقصى قدراته، ونراه في الثانية يتخوف من القناع الذي تتسربل به روح سعاد، فيحمله على الظنون السيئة وهو ما وقع بعد ذلك فعلاً. وتبدو سعاد غير سعيدة حين يقبلها زوجها فتقول له فيما يشبه الاستنكار:

تقبلني إن خــد الوســاد     تململ في ليلنـــا الممتع

     وحين تنظر من النافذة إلى البيوت البديعة، تعبر عن رغبتها فيها مما يشي بضيقها من فقر زوجها ورقة حاله:

أحن إلى مثل تلك القصور     كستها الخمائل أبهـى حلل
فكم مرغ الفجر أجفانـــــه     عليها ولم تتفتـــــح مقــــل

     وحين يدخل نزار ويرى الزوجين تتملكه الغيرة والحسد، فيقول لهما مغيظاً محنقاً:

لتجر لياليكما كلهـــــــــا     مضمخة بالأماني الغرر

     ويحاور جميل صديقه فنعلم من حديثه له أنه عابث عاكف على الملذات:

تجدد في كل يوم هــــــــواك     وتقطف من حيث شئت الثمر
كطير لعوب سريــع الجنـاح     فما قر فـــي الدوح حتى نفـر

     وتشي إجابة نزار برغبته الآثمة التي لا يرى لها سبيلاً:

رويدك لا تنكأن الجراح     على ذكريات رؤى هجد
لقد نفض اللهو مني يديه     فلن نتلاقـــى على مورد

     وحين ينظر جميل إلى سعاد يحزن، إذ يرى رداءها ممزقاً، وهو بسبب مثاليته وحبه لها يخجل من نفسه لأن فقره يحول دون أن يهيئ لها ما يود وما تود، فيقول:

ولو أستطيع خلعت الضياء     وشاحاً على قدهـــــا الأملد

     فتخجل سعاد مما يدل على أن فيها قدراً من العفة والمثالية والشرف لا يزال يصارع النوازع الهابطة فيها، فتقول لزوجها شاكرة لعواطفه مقدرة لظروفه:

تحملني العطف حتى أنوء     به يا جميـــــل فلا تـــزدد

     وحين ينفرد المشهد بسعاد نراها وحدها تنشد، وقد عرفت أهواء نزار وغرامه، ورغبته الآثمة التي تطل من عينيه، وإمكاناته المالية المسعفة له فيما يريد:

كأني أراه وفي مقلتيــــــــه     بريق من الغـــــيرة العاتية
أعاد لينشر مــــن أمســـــه     صحائف أهوائــه الماضية
أهاجته ذكراي أم رفــرفت     عليه طيوف الهوى الدامية
تفيض يداه بذوب اللجــــين    إذا ظمئت نفســه الطاغيــة

     وحين يدخل نزار يعترف لها بنوازعه الآثمة، فتذكره بزوجها مما يدل على استمساكها ومقاومتها حتى الآن فلا يبالي، ويعمد إلى تهشيم حصون امتناعها واحداً واحداً، فيذكرها بجمالها البارع الذي تهينه أسمالها البالية، ويخطف بصرها صوب الصبايا الملاح اللواتي يرفلن في زاهي ثيابهن، فتبدأ تتهاوى خاصة بعد أن يطالبها بقبلة وهو يريها خاتماً نفيساً يكون ثمناً لها، وتناجي سعاد نفسها وهي بين نوازع الثبات والانهيار، وتعبر عن مخاوفها من القبلة التي ستجر وراءها ما تجر من مسلسل التنازلات. وحين تستسلم سعاد لرغبة نزار يدخل جميل، فيبلغ التوتر أقصى درجاته، يسقط الخاتم ــ وهو ثمن الإثم ــ على الأرض، وتفترق سعاد ونزار، ويهتف جميل ذاهلاً:

تبسم على الجرح يا خافقي     فقد وثب الســـهم من قوسه

     ويطرق نزار، وتذهل سعاد، ويخاطب الزوج صديقه الخائن في سخرية مرة:

ألست صديقي وهـــــــــل بيننا     حجاب نخــــــاف أذى لمسه!؟
وماذا يضـــر الـكـريـــم الوفي     إذا شرب الصحب من كأسه!؟

     ويلتقط جميل الخاتم من الأرض فيناجيه وهو ثمن الإثم والخيانة، بأبيات بديعة غاص فيها عمر أبو ريشة على أعمق مشاعر الزوج الطيب المخدوع:

هو الثمن البخس رد الهوى     ذبيحاً إلى قلبي المضـــــرم
أخاتم إنـــــــي أرى مبسـماً     على شفتيه بقـــــــايا الـــدم
وألمح أشبـــاح بغي الورى     تموج في ماســـــــك الأقتـم
خيال الضحيـة يبكي عليـك     ويشتم فيك فــم المـــــجـرم
وما لفتـة منك في خنصري     بأهون من عضة الأرقــــم

     ويستبد الألم بسعاد وتندم، وتحاول الاعتذار من زوجها الذي يسخر منها سخرية مرة، يسخر وهو يشيد بحبه لها وسعادته بها، ويقدم لها رداء جميلاً، هدية باع الكثير مما هو أثير لديه ليحصل عليها، ويسخر وهو يحرك الخاتم بإصبعه وهو يضع الرداء بين يديها:

عصارة فكري لقـد بعتهـا     وجئت إليك بهــــذا الرداء

     وينتهي الأوبريت حين يستبد الجنون والندم بسعاد فتلقي بنفسها من النافذة منتحرة، وحين يستبد الجنون بجميل الذي يضحك ضحكة وحشية يفرغ فيها كل عذابــــه وإحباطه وأحزانه، لذلك يهدأ بعد هذا الضحك الجنوني الذي أعانه على تجاوز محنته، ويجلس هادئاً أمام الصورة التي كان يرسمها ويبدأ بإتمامها.

     إذا أمكن النظر إلى المرأة المنتحرة على أنها رمز للحياة بكل نقائصها وشهواتها وضعفها، وأمكن النظر إلى الفن على أنه رمز للمثالية والطهر والنقاء والقيم الجميلة، يمكن لنا أن نقول: إن عمر أبو ريشة قد نصر الفن على الحياة، فقد ماتت المرأة وبقي الفن، وهو آخر لوحة من لوحات الأوبريت، وفيه تنتحر المرأة الآثمة، ويضحك الفنان المثالي ضحكة وحشية يتطهر بها من معاناته ويعود بهدوء لإتمام رسالته الفنية. ومثل هذه النهاية تتسق مع شخص عمر الذي يمكن وصفه بأنه ــ من بعض الجوانب ــ رجل مثالي عرف بإبائه وعزته وترفعه، كما يمكن وصفه أيضاً بأنه فنان يتعنى في شعره ويتأنى، ويبذل فيه غاية جهده في الإتقان، ويكثر فيه من التبديل والتعديل، فلا غرابة إذن أن تدفعه مثاليته أولاً، وإعلاؤه للفن ثانياً؛ إلى اختيار هذه النهاية.

     ويمكن أن يوصف هذا الأوبريت بإتقان الحبكة، وتنامي الحدث، والنجاح في رسم ملامح الشخصيات والحوار المركز المؤدي والخلو من الاستطرادات، فضلاً عن إشراق اللغة وجمال الصياغة والوقع الموسيقي الجميل الذي يسكبه في الآذان البحر المتقارب بتفعيلاته المتوالية الهادئة المتسقة الذي اختاره عمر أبو ريشة لتجري عليه أبيات الأوبريت. وهذا كله يكشف عن تقدم الشاعر في صناعته الفنية المسرحية خاصة حين نقارنه بمسرحية «ذي قار» وما كان فيها من نقائص وعيوب. وأخيراً يبقى أوبريت «عذاب» لعمر أبو ريشة خير أعماله المسرحية، فقد تفوق على ما قبله كما رأينا، أما ما بعده فلم يكتمل منه شيء، وربما كان من أسباب هذا التفوق أنها أشبه بالمسرحية ذات الفصل الواحد التي يعين صغرها على التفرغ لها وحشد الطاقة الفنية لإخراجها إخراجاً متقناً.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الرابع لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «الطوفان»، وقد نشر منها مقاطع تنتمي إلى الشعر الغنائي في ديوانه الأول الذي نشره عام 1936م، وهي تنضم فيما يبدو إلى الوعود الكثيرة التي وعد بها الشاعر لكنه لم يستطع الوفاء بها لسبب أو لآخـر، مع مضي أكثر من نصف قرن على الوعـد، وهي مدة كافية للإنجاز وللنشر لو كان هناك إنجاز.
❊❊❊

     أما العمل المسرحي الخامس لعمر أبو ريشة فهو مسرحية «سمير أميس» وسمير أميس هي فيما تروي الأساطير ملكة قديمة تكونت من جسد امرأة وروح إله، فكان فيها عنصران متناقضان، فيها شعور الجسد الذي تشعر به كل امرأة، وفيها الروح الإلهي الذي يظل متطلعاً إلى الأعلى. وتزوجها القائد نينوى ومنحته كل شيء إلا روحها، فظل يحاول استرضاءها دون جدوى، وأخيراً قتلته. وثار عليها الناس يريدون الانتقام لمصرع مليكهم واقتحموا قصرها ففاجأتهم بأن وقفت أمامهم عريانة، فبهت الناس وسجدوا لها فعلمت بذلك أنهم وصلوا درجة عالية من الإحساس بالجمال، وهذا يعني أنها أدت رسالتها على الأرض، فانسحبت منها ومضت إلى الملأ الأعلى.

     وقد ذكر عمر أبو ريشة أنه بدأ كتابة هذه المسرحية عام 1943م، وانتهى منها عام 1958م، وأكد أنها تتكون من ألف وأربع مئة بيت صب فيها كل قدراته الفنية، وأنه نظمها ست مرات، ومزقها خمس مرات قبل أن تستقر على السادسة، وبذلك جاءت أسلوباً جديداً في العرض، وتفكيراً جديداًن وأجواء جديدة في دنيا المسرحيات[9]. ويبدو أنه لابد من الشك فيما قاله عمر أبو ريشة إزاء هذه المسرحية لسبب بسيط جداً وهو: لماذا لم ينشرها وقد أنجزها عام 1958م خاصة أنه معتز بها أشد الاعتزاز!؟

     وعلى كل حال يدل الجزء المنشور من هذه المسرحية[10]؛ على أنها عمل فيه الكثير من العيوب المسرحية. فهي ملأى بالشعر الغنائي الذي يتكون من مقاطع مطولة، وتأملات تجريدية مطلقة، وقواف لا تتنوع كما يقتضي الحوار المتنقل، فضلاً عن بطء الحركة، وضعف الحبكة، والنبرة الخطابية، واللهجة الجهرية، والأسلوب التقريري، وغياب الملامح المميزة للشخصيات، وهذا يعني أن العيوب التي سجلها النقد على تجاربه الأولى استمرت معه حتى آخر إنتاجه، وربما أدرك عمر هذه العيوب فانصرف عن المسرح الشعري.
❊❊❊

     أما مسرحيات عمر أبو ريشة «تاج محل» و«علي» و«الحسين»؛ فلم ير النور منها شيء مع إعلانه المتكرر عنها في مناسبات كثيرة مختلفة. إن الإنصاف يدعونا الى أن نحكم على العمل المسرحي من خلال دراسته كاملاً، وهو ما حاولناه في «ذي قار» و«عذاب»، والنظر في هذين العملين يدل على بدايات واهنة واعدة في الأول، وعلى تقدم مشكور في الثاني، وبين العملين ست سنوات، إذ يرجع الأول إلى عام 1929م، ويرجع الثاني إلى عام 1935م. ولكن يبدو أن الشاعر توقف نضجه الفني في المسرح الشعري منذ ذلك التاريخ، لذلك لا غرابة أن وجدناه يعد كثيراً بأعمال ثم لا يقدر على إنجازها، وربما كان السبب هو أن الشاعر عرف من خلال المعاناة أنه شاعر غنائي قبل كل شيء، وليس شاعراً مسرحياً، فلم يعد طباعة ما نشر، ولم ينجز ما وعد، ولعله أحسن بذلك غاية الإحسان، فلكل امرئ قدرات يحسن به ألا يحملها ما لا تطيق.
❊❊❊
----------
[1] ألف المسرحية عام 1929م، ونشرها عام 1931م، ومات عام 1990م.
[2] الشعراء الأعلام في سورية، ص311.
[3] المرجع السابق، ص308.
[4] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص224-225.
[5] المرجع السابق، ص237.
[6] الشعراء الأعلام في سورية، ص312.
[7] هذا البيت مكسور، وفيه زيادة.
[8] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص227.
[9] سامي الكيالي، الأدب العربي المعاصر في سورية، ص373.
[10] نشر منها فصل واحد فقط، في مجلة الحديث الحلبية، عام 1944م.

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - الملحمة الشعرية

الملحـمة الشعـرية

     حين تذكر الملحمة يقفز الذهن إلى الملحمتين اليونانيتين الشهيريتين «الإلياذة» و«الأوديسة» لأنهما أقدم الملاحم الشعرية البشرية المعروفة، ولأن النموذج اليوناني للملحمة هو النموذج الذي وضع بصماته وملامحه على الشعراء وهم يبدعون أعمالاً يحتذونه فيها وعلى الدارسين وهم يستخرجون منه أصول الملحمة وقواعدها وخصائصها.

     والملحمة قصيدة طويلة تعتمد على البطولة الحقيقية منها والمتوهمة، والخيال الممكن وغير الممكن، والإثارة، والمبالغات، والتشويق، وتروي حكايات تاريخية لها أصل حقيقي مع إضافات وزيادات، ويدخل في بنائها عنصر الأسطورة بكل ما له من طرافة وغرابة وتلبية لحاجة طفولية في الإنسان يأنس فيها أحياناً إلى الخرافات والأوهام والخوارق، ولعالم الغيب حضور قوي في المسرحية من آلهــــة مزعومة وقوى غير منظورة تتصارع وتؤيد فريقاً من البشر ضد فريق. وتركز الملحمة على شخص البطل فتزيد من بطولته، وتضفي عليه هالة من الشرف والجلال والترفع، وربما أضفت عليه سمة البطل الوطني القومي الذي يقود ذويه في صراع عنيف ضد أعدائهم ليكون في وجدان قومه فارساً وقائداً ورمزاً، وبالتالي معبراً عن الضمير الجمعي لقومه وبـــلاده.

     وتعبير العمل الملحمي عن الضمير الجمعي يكون أحياناً مدعاة لأن يشترك عدد من الشعراء المجهولين فيه، يضيف كل منهم إليه ما يرضي وجدانه ووجدان مجتمعه، ثم ينسى هؤلاء الشعراء ويبقى العمل بعدهم. وأشهر الملاحم البشريـــة ملحمة «الإلياذة» وملحمة «الأوديسة» للشاعر اليوناني هومـيروس، وملحمة «الإنيادة» للشاعر الروماني فرجيل، وملحمة «الشاهنامة» للشاعر الفارسي الفردوسي، وملحمة «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي، وملحمة «الفردوس المفقود» للشاعر الإنجليزي ملتون، وملحمتا «المهابهارتا» و«الراميانا» الهنديتان، وملحمة «جلجامش» الآشورية، وملحمة «دافيد ساسون» الأرمنيـة، ومغامرات «فاسكـودي غاما» البرتغالية، وأنشودة «نيبلونجن» الألمانية، وأناشيد «رولان» و«تليماك» و«الشهداء» الفرنسية[1].

     وقد عرف الأدب العربي القديم نوعاً من القصائد التي تروي أخبار البطولة والقتال، وتشيد ببطولة هذا أو ذاك، مما يجعلها تقترب من شعر الملاحم بمعناه العام. كمعلقة عمرو بن كلثوم، وبائية أبي تمام الشهيرة في فتح عمورية، وقصائد المتنبي التي تصور صراع سيف الدولة مع الروم، وهذه القصائد ومثيلاتها جعلت الدكتور زكي المحاسني يقرر أنه لا يرى أدب العرب خالياً من الملاحم، ولا ينبغي أن نعنتهم فنطلب إليهم أن يكون لديهم ملحمة كالملحمة اليونانية في أناشيدها وموضوعها وحديثها، إذ ليس شرطاً في كل ملحمة أن تحتذي الإلياذة أو سواها من ملاحم الأمم العتيقة أو الحديثة[2].

     كما عرف هذا الأدب نوعاً من القصائد المطولة القصصية، مثل أرجوزة ابن المعتز في الخليفة العباسي المعتضد الذي تولى الخلافة عشر سنوات، وأرجوزة ابن عبد ربه في الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر الذي كان من أقوى الشخصيات التي مرت على الأندلس، وكان عهده عهد قوة واستقرار وغلبة، وقد وصف ابن عبد ربه في أرجوزته هذه بطولة الناصر وانتصاراته وحروبه، وجاءت في خمس مئة وخمسين بيتاً، وقد قال عنها الدكتور زكي المحاسني: «إني لأعدها ملحمة صغرى على الرغم من سهولة أسلوبها ولين شعرها وفهاهة بحرها، ولو أن أديب الأندلس ابن عبد ربه أطال نفس شعرهن فبدأ قصيدته منذ عبد الرحمن الداخل الفاتح الثاني للأندلس لجاءت ملحمته الصغرى أوفى بالغرض»[3].

     وقد نظم أبو طالب الأندلسي مطولة تاريخية في قصص الأنبياء الكرام ودول الإسلام، كما نظم لسان الدين بن الخطيب، الأديب والشاعر والسياسي والمؤرخ الأندلسي الشهير، مطولة تاريخية روى فيها تاريخ الممالك الإسلامية سماها «رقم الحلل في نظم الدول».

     ونظم نشوان بن سعيد الحميري «الحميرية في ملوك اليمن»، وهي مطولة تاريخية تروي أخبار ملوك اليمن القدماء.

     على أن هذه المطولات وأمثالها يغيب فيها الفن الجيد، وتبدو وكأنها سرد تاريخي جاء في نظم جاف بارد يصدق على شعرائه قول الدكتور شوقي ضيف فيهم: «ولكنك تقرؤهم جميعاً فتحس أنك تقرأ شعراً تعليمياً أو شعر متون علمية لا روح فيه ولا حياة ولا محاولة لفهم التاريخ وتعليل الحوادث، وإنما هو سرد ورواية حوادث مسلسلة وكأننا نقرأ أثباتاً للتاريخ مرقومة»[4].

     وفي العصر الحديث اتجه عدد من الشعراء إلى التاريخ العربي والإسلامي يستلهمون منه قصائد تطول أو تقصر ذات نفس ملحمي، ذلك أن الأمة كانت منكوبة بالضعف والتمزق والاستعمار، فكان من الطبيعي أن يتجه نفر من شعرائها إلى تاريخها المجيد يصورون معاركه وأبطاله وأمجاده، ويقارنون ذلك بحالها الحاضر البائس، وكأنهم يريدون منها أن تبني حاضرها ومستقبلها على نموذج أمسها الذي يعملون على ترسيخه في أعماق أبنائها منارة هداية وجهاد وبطولة ورفض للطغيان ومقارعة للمعتدين ومغالبة للكوارث والخطوب.

     لقد كان التاريخ الإسلامي -وسيظل- معيناً لا يجف للفنون والآداب بأنواعها. «وكما شغف القصاصون والروائيون باستيحاء البطولات والتضحيات والنماذج الإنسانية الفريدة من أحداث الإسلام ووقائعه الأولى وشخصياته المعروفة، وجد الشعراء في ذلك كله مثاراً لوجدانهم الذي يعشق المثل العليا ويحن إلى الآفاق الروحية الأولى. والهجرة وما يدور حولها من معاني الإقدام والتضحية والإلهام والعناية الإلهية وانبثاق نور الإسلام، من الموضوعات الأثيرة عند هؤلاء الشعراء. وهم يجدون في جوها الروحي مجالاً رحباً للتعبير الوجداني والألفاظ «الشفافة» المحملة برموز النور والري، وإن كانوا يختلفون في هذا حسب ثقافتهم ومزاجهم وطبيعة مواهبهم، ومدى ارتباطهم بالتراث أو اندفاعهم إلى التجديد»[5].

     إن هذا الإحياء لتاريخ الأمس المجيد، وبعث رموزه وبطولاته، وتوظيفه للخلاص من الحاضر العاجز البائس، عمل أدبي مشكور، وعمل وطني كريم، بل هو أيضاً عمل ديني إلى جانب هذا وذاك، فمجد الأمس قام على الدين، وبالتالي يجب أن يقوم عليه مجد اليوم والغد.

     وقد كثرت القصائد التي تسير في هذا الخط، وتحول بعضها إلى مطولات، فللبارودي الرائد العظيم، مطولة تحمل اسم «كشف الغمة في مدح سيد الأمة» مطلعها:

يا رائد البرق يمـــم دارة العلم     واحد الغمام إلى حي بذي سلم

     وتقع المطولة في أربع مئة وخمسين بيتاً، وهو فيها يحتذي خطا البوصيري في بردته الشهيرة في إطارها العام، وقيمة هذه المطولة أنها أول قصيدة عربية طويلة في العصر الحديث تتفوق فنياً على مثيلاتها اللواتي سبقنها، فقد تخلصت مما كان فيهن من بديعيات، وقدمت مديحاً للرسول الكريم ﷺ في إطار عصري ناضج أولاً، وثانياً أنها فتحت الباب لمن جاء بعد البارودي من شعراء المطولات ليعبروا عن هموم الأمة وآمالها من خلال التاريخ، ويقتربوا من الشعر الملحمي بدرجة أو بأخرى.

     فكما كان البارودي رائداً في السياسة ورائداً في الشعر، كانت مطولته هذه رائدة في شعر المطولات بجلال موضوعها وقوة لغتها وصدق عاطفتها مما جعل الدكتور شوقي ضيف يصفها بأنها ملحمة[6].

     ولشوقي جملة من المطولات التي تستلهم التاريخ وتوظفه وتقترب من الشعر الملحمي، منها قصيدته «كبار الحوادث في وادي النيل» وهي همزية طويلة تقع في مئتين وتسعين بيتاً نظمها بمناسبة تمثيله مصر في المؤتمر الشرقي الدولي الذي انعقد في جنيف عام 1894م ومطلعها:

همت الفلك واحتواها الماء     وحداها بمن تقــــل الرجاء

     وقد روى في هذه القصيدة تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى تاريخ نظمها أيام الخديوي عباس، والقصيدة جيدة فنياً، متماسكة البناء، متصلة الحلقات، ذات روي واحد، وهي تدل على موهبة الشاعر القوية حيث كتبها في شبابه، وهي تعلو كثيراً على الشعر التعليمي، وتقترب من الشعر الملحمي، لذلك وصفها الدكتور شوقي ضيف بأنها ملحمة[7]، كما وصفها الأستاذ صالح جودت بأنها ملحمة خالدة[8]، وقال عنها الدكتور طه وادي: إنها من الشعر الغنائي الذي تشيع فيه سمة الطابع الملحمي[9].

     ولشوقي مطولة أخرى اسمها «صدى الحرب في وصف الوقائع العثمانية اليونانية» نظمها مبتهجاً بالنصر الذي حققه العثمانيون على اليونانيين في الحرب التي نشبت بينهم عام 1897م زمن السلطان عبد الحميد الثاني، ومطلعها:

بسيفك يعلو الحق والحق أغلب     وينصر دين الله أيـــان تضرب

     وتقع هذه المطولة في مئتين وتسعة وثلاثين بيتاً، وهي متينة البناء، فخمة الأسلوب، قوية اللغة، عنيت كثيراً بتصوير المعارك، وعاطفة الشاعر فيها قوية جياشة، وقد صور فيها فرحه وفرح المسلمين عامة بالنصر الذي مجدته المطولة، وأرخت له، وهي ذات نفس تاريخي وقصصي وتصويري واضح، ولعلها أقرب شعره للشعر الملحمي.

     وقد وصف الدكتور محمد مندور هذه المطولة بأنها تشبه الملاحم، وأنها مقسمة إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة[10].

     ووصفها الأمير شكيب أرسلان بأنها من الملاحم التي أتم بها شوقي نقصاً كبيراً في الشعر العربي[11].

     ووصفها الدكتور ماهر حسن فهمي، ووصف «دول العرب وعظماء الإسلام» بأنهما تحتلان مركزاً وسطاً بين شعر الملاحم والشعر التعليمي[12]. وهو في ذلك يلتقي مع الأستاذ أحمد حسن الزيات الذي وصف المطولتين السابقتين بأنهما تشبهان الملاحم في طول النفس وطلاوة الأسلوب ووطنية الموضوع وعمومية الحوادث، وبأنهما وسط بين الشعر القصصي والشعر التعليمي[13].

     وفي عام 1910م يطلع علينا شوقي بمطولته الشهيرة «نهج البردة»، وهي أشهر قصيدة احتذت بردة البوصيري على الإطلاق، وتقع في مئة وتسعين بيتاً ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلــــم     أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

     والقصيدة مثلها مثل قصيدة البارودي، تؤرخ لحياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتذب عن الإسلام، وتشيد بمزاياه، وهي محكمة إحكاماً جيداً، والشاعر يجيد فيها التخلص من موضوع لآخر، في لغة قوية، وأسلوب متين، وعاطفة حية، وتبدو هذه المطولة بجلال موضوعها وقوة بنائها وتصويرها للنموذج الإسلامي الأعلى للبطولة والأبطال وكأنها «مشروع» ملحمة متكاملة الأجزاء.

     والقصيدة من أروع شعر شوقي وأسيره، بل من أروع الشعر الإسلامي في العصر الحديث وأسيره، وقد احتفى الناس بها كثيراً، حتى إن شيخ الجامع الأزهر يومذاك الشيخ سليم البشري قام بشرحها، وقد كتب عنها بإفاضة الدكتور أحمد محمد الحوفي في كتابه «الإسلام في شعر شوقي»، والأستاذ علي النجدي ناصف في كتابه «الدين والأخلاق في شعر شوقي»، والدكتور ماهر حسن فهمي في كتابه «شوقي شعره الإسلامي»، وقد صارت بحق معلماً بارزاً يقف عنده كل دارس للشعر الإسلامي في العصر الحديث.

     ولشوقي قصيدة رائعة اسمها «الأندلس الجديدة» مطلعها:

يا أخــــت أندلس عليك سلام     هوت الخلافة عنك والإسلام

     وهي تقع في مئة وخمسة أبيات، قالها عام 1912م حين استطاع البلغار أن يقتحموا مدينة «أدرنة» بعد حصار طويل. هزم فيه المسلمون العثمانيون وانتصر البلغار. وكان للحرب وجهها الصليبي السافر، وارتكبت فيها فظائع وويلات ومظالم كثيرة، وقد صمد المسلمون المحاصرون صموداً مشرفاً لكنهم هزموا في النهاية.

     والقصيدة في حقيقتها رثاء مدينة، ورثاء دين، وهي مطولة مجدت البطولة والفروسية، وألمت بالتاريخ غير مرة، وصورت الكارثة تصويراً محزناً مؤثراً. وفي القصيدة يبدو لنا شوقي فيلسوفاً ينظر في التاريخ، وسنة الله في الكون، نظراً فيه فلسفة وتأمل وتحذير، وحكيماً يراقب دورة الحياة ومصارع الشعوب والدول، والقصيدة من غرر شعر شوقي، وهي تمت إلى شعر الملاحم بأكثر من آصرة ووشيجة.

     وحين نفي شوقي إلى الأندلس ظفرنا منه بمطولتين شهيرتين، تتصلان بالتاريخ والملاحم.

     الأولى هي «دول العرب وعظماء الإسلام» وهي قصيدة مطولة أبياتها 1526 بيتاً تؤرخ للمسلمين منذ أيام الرسول الكريم ﷺ حتى نهاية الدولة الفاطمية، وقد نشرت عام 1933م أي بعد عام من وفاة الشاعر بشرح الأستاذ محمود خاطر، ومطلعها:

الحــــمد لله القــــديم الباقــــــــي     ذي العرش والسبع العلا الطباق

     وقد وصفها الدكتور طه وادي بأنها «ملحمة تاريخية»[14]. مع أنها أرجوزة تعتمد القافية المزدوجة وتبدو أقرب للشعر التعليمي منها لأي شعر آخر، ولعل الشاعر الذي قل شعره كثيراً في أثناء منفاه في الأندلس أراد بها إزجاء الوقت في منفاه الطويل الممل، ولذلك تبدو أقل من شعره الآخر، الأمر الذي حدا بالدكتور شوقي ضيف إلى أن يصفها بأنها ربما كانت الشيء الوحيد عند شوقي الذي لم يحلق فيه[15].

     أما الثانية فهي «سينية شوقي» الشهيرة التي مطلعها:

اختلاف النهار والليـل ينسي     اذكرا لي الصبا وأيـام أنسي

     وهي مطولة بديعة تقع في مئة وعشرة أبيات، وتلتقي بالتاريخ والملاحم في تصويرها المأساة الأندلسية، وما شهدت حواضر المسلمين فيها كقرطبة وغرناطة من أمجاد ونكبات، وفي المطولة نوع من التأمل في فلسفة التاريخ ودوران الحضارات وصعود الأمم وسقوطها، ويبدو لنا شوقي فيها شاعراً ومؤرخاً وفيلسوفاً، يرقب حركة التاريخ معللاً مفسراً محذراً ناصحاً ملتمساً العبرة والعظة.

     وفي فبراير 1918م يلقي حافظ إبراهيم مطولته الشهيرة «العمرية» التي تقع في مئة وستة وثمانين بيتاً، في حشد كبير حافل يحضره الشعراء والوجهاء والمثقفون، وفي هذه المطولة أكثر من خيط يربطها بشعر الملاحم والتاريخ ومطلعها:

حسب القوافي وحسبي حين ألقيها
               أني إلى ساحـــــة الفاروق أهديها

     وقد أرخ فيهــا حافظ للخليفة العظيم عمر بن الـخطاب، وصور عدله وزهده وفتوحاته ونهايتــه، واستنهض في خاتمتها شبان المسلمين ليقتفوا أثر الخليفة العظيم.

     وتنتقل العدوى الحميدة إلى الشاعر عبد الحليم المصري، فيطلع علينا بمطولته الشهيرة «البكرية»، وواضح فيها أنه يحذو حذو حافظ، فهو يؤرخ لخليفة عظيم هو أبو بكر الصديق كما فعل حافظ، وهو يلقيها في حفل حاشد كما فعل حافظ، وذلك في مايو 1918م، أي بعد حافظ بثلاثة شهور، وتقع المطولة في 211 بيتاً، ومطلعها:

أفضني أبـا بكر عليهم قوافيا     وأمطر لساني حكمة ومعانيا

     وفي المطولة التي تبدو وكأنها مشروع ملحمة، أكثر من نسب ووشيجة تصلها بشعر التاريخ والملاحم.

     وتستمر العدوى المحمودة في سريانها فتصل إلى الشاعر محمد عبد المطلب الذي كان شديد الاعتزاز بالإسلام ديناً، وبالعروبة لغة وتاريخاً وتقاليد، فينظم مطولته الشهيرة «العلوية» ليروي فيها سيرة الخليفة العظيم علي بن أبي طالب، متأسياً خطا حافظ والمصري، ويلقي المطولة بعدهما بعام في نوفمبر 1919م في حفل ضخم حضره الأدباء والمثقفون والشعراء، وعلى رأسهم إسماعيل صبري شيخ الشعراء، وتقع المطولة في 316 بيتاً ومطلعها:

أرى ابن الأرض أصغرها مقاما     فهل جعــــــــل النجوم بها مراما

     وفي عام 1933م يقدم لنا علي أحمد باكثير مطولته «نظام البردة» التي يقفو فيها خطا البارودي وشوقي في النظم على غرار بردة البوصيري، وتقع المطولة في 257 بيتاً، ومطلعها:

يا نجمة الأمل المغشي بالألــم     كوني دليلي في محلولك الظلم

     وجميع هذه المطولات ذات نفس ملحمي واضح يظهر في طولها وروايتها للبطولة وعنايتها بالتاريخ والقصص، مع خلوها ــ بطبيعة الحال ــ من كل عناصر الأساطير والخرافات، لأن أبطالها مسلمون، ولأن شعراءها مسلمون أيضاً.

     وأياً كان حظ هذه المطولات من خصائص الشعر الملحمي يمكن القول إنها «كانت المرحلة الممهدة لظهور الملحمة الشعرية كلون جديد لم يعرفه الشعر العربي من قبل، وبخاصة أن المطولة تكاد تكون ملحمة مصغرة»[16].

     والقصائد التي تستلهم التاريخ وتقترب من النفس الملحمي اقتراباً يماثل المطولات سابقة الذكر، كثيرة جداً في العصر الحديث، وهي تأتي لتغني البطولة، وتمجد الأجداد، وتحث الأحفاد على مغالبــــة الصعاب، وتستثير عزائمهم لمقاومة الاستعمار والصهيونية والظلم والطغيان، وتدعوهم إلى امتلاك ناصية المجد والغلبة، وتهيب بهم أن يبنوا مستقبلهم على هدي ماضيهم في أيام زهوه وسيادته، في سياق وطني ديني أدبي ممتع يوظف التاريخ توظيفاً إيجابياً بانياً، مثل «يوم حطين» لعبد المحسن الكاظمي، و«ثورة بدر» لمحمود حسن إسماعيل، و«جيش أسامة» لأنور العطار، و«عبد الرحمن الداخل» لخير الدين الزركلي، و«من قارة إلى قارة» لعلي محمود طه.

     وربما كانت أشهر الملاحم التي تنحو منحى تاريخياً دينياً في العصر الحديث ملحمة «ديوان مجد الإسلام» أو «الإلياذة الإسلامية» للشاعر أحمد محرم. وقد نظم هذه الملحمة التي تبلغ خمسة آلاف بيت من الشعر استجابة لنداء الأستاذ محب الدين الخطيب الذي هاله أن يكون لكل أمة ملحمة تعتز بها، إلا المسلمين، فدعا على صفحات مجلته «الفتح» الشعراء إلى سد هذه الثغرة، فقام بذلك الأستاذ أحمد محرم، الذي سجل وقائع السيرة تسجيلاً تفصيلياً أرخ فيها كل أحداثها وفق التسلسل الزمني. وعمل الأستاذ محرم فوق الشعر التعليمي الذي نجده عند شوقي في «دول العرب وعظماء الإسلام»، وأهم عيوبه السرد والتقريرية وضعف الخيال، ويمكن أن يعد شعراً غنائياً فيه سمات ملحمية.

     وقد رفض الدكتور شوقي ضيف في الفصل الذي عقده عن هذا العمل أن يعده ملحمة، ورأى أنه مجرد قصائد جمع بعضها إلى بعض وسميت كذلك، ووصفه بالجفاف الشديد، حيث لم يستطع الشاعر أن يضفي الجمال والحيوية على التاريخ وإن كانت بعض خصائصه كشاعر غنائي تظهر من حين لآخر، وقرر أنه زاخر بالفتور ويبعث على الملل والسأم، وانتهى إلى أنه شيء بين الشعر الغنائي والتعليمي[17].

     ويرفض الدكتور أحمد هيكل أن يجعل من عمل أحمد محرم «ملحمة»، وينتهي إلى أنه في جملته قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز الذي يجعل الحديث عن البطولة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة كافياً لإطلاق هذا الاسم. لقد أراد أحمد محرم «أن يطوع الشعر للقصص التاريخي الحماسي الطويل، فألف نحو سنة 1933م «ديوان مجد الإسلام» ليحكي بالشعر سيرة الرسول وبطولاته وغزواته. وربما أراد محرم بهذا العمل أن يطرق بالشعر العربي فن الملحمة. ولكنه في الواقع لم يخرج ملحمة بالمفهوم الفني لهذا الجنس الأدبي، وإن طاب لكثير ممن تحدثوا عن هذا العمل أن يسموه الإلياذة الإسلامية. وذلك أن الملحمة في حقيقتها -وكما عرفت من أروع نماذجها التي خلفها هوميروس- تعتمد أساساً على الأساطير الشعبية والبطولات الخيالية، التي تصل أحياناً إلى جعل الأبطال في مصاف الآلهة أو أنصاف الآلهة، وهي لهذا كله لا تعنى بالوقائع التاريخية ولا الأحداث الحقيقية، وإنما تعنى قبل كل شيء بالخيال الجامح والتصوير الأسطوري، مما كان يرضي ظمأ الجماهير إلى البطولة الخارقة، وتلهفها على الأبطال الخياليين. أما ديوان مجد الإسلام فبرغم اتخاذه سيرة بطل عظيم مادة، وبرغم تسجيله لمعارك وانتصارات باهرات فإن هذا العمل الشعري قد التزم الوقائع التاريخية، وسجل الأحداث الحقيقية، ولم يعتمد أصلاً على الأساطير ولم يحكم الخيال؛ ثم هو بعد ذلك قد التزم في البناء الفني شكل القصائد الغنائية المتتالية، التي تؤلف في جملتها ديواناً ذا موضوع واحد، هو حياة محمد ﷺ، وبطولاته وغزواته. وقد درج الشاعر على أن يقدم بين يدي القصائد بمقدمة نثرية تجمل الأحداث التاريخية التي ستعالج فيما يلي من أبيات. كذلك درج على التزام الوزن والقافية في كل قصيدة تعالج فصلاً أو موضوعاً معيناً، ثم تغيير الوزن والقافيـــة في القصيدة الأخرى، وهكذا. ومن هنا نرى أن أهم تجديد في هذا العمل، هو معالجته في ديوان كامل لموضوع واحد، هو سيرة الرسول وبطولاته وغزواته. أما بعد ذلك فهو في جملته قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز، واعتبار الحديث عن البطولـــة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة، كافيا لإطلاق هذا الاسم»[18].

     وللأستاذ عامر بحيري ملحمة عن الرسول الكريم ﷺ اسمها «أمير الأنبياء»، وللأستاذ كامل أمين الذي تخصص في شعر الملاحم التاريخية المطولة عدة ملاحم هي «عين جالوت» و«السموات السبع» و«محمد» و«القادسية»، وللأستاذ إبراهيم العريض ملحمة باسم «أرض الشهداء» يتحدث فيها عن كارثة فلسطين، وللأستاذ بولس سلامة ملحمتان هما «عيد الرياض» و«عيد الغدير».

     ويبدو أن النقد الحديث يتوسع أحياناً في مفهوم الملحمة فيطلقها على المطولات وإن لم تتصل بالتاريخ والحروب والخوارق والبطولات بسبب، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى القصائد التالية «شاطىء الأعراف» لمحمد عبد المعطي الهمشري التي تصفها الأستاذة نازك الملائكة بأنها «ملحمة كاملة تحدث فيها عن رحلته الأولى بعد الموت نحو الحياة الأخرى، والقصيدة تكاد تكون أغنية حب موجهة إلى الموت، لا أثر فيها للحسرة ولا للذكرى، وكأن الشاعر يلتذ بكل لحظة من لحظات موته إن صح التعبير»[19]، وكذلك نجد الأستاذ صالح جودت -وهو صديق الشاعر- يصف القصيدة بأنها ملحمة[20]، ونجد الدكتور محمد فتوح أحمد يصفها بأنها ملحمة ذائعة[21].

     ومطولة «ثورة في الجحيم» للشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي البالغة أربع مئة وخمسة وثلاثين بيتاً، تصفها نازك الملائكة بأنها ملحمة[22]، ويعدها الأستاذ أحمد أبو سعد ملحمة[23]. أيضاً، علماً أنها لا تتصل بالبطولة أو التاريخ، بل هي قصيدة ذات منزع فلسفي تأملي تتخيل ثورة تحدث في الجحيم، اعتراضاً على الظلم الذي يتوهمه الشاعر واقعاً على سكانه، وتدور أحداثها في القبر حيث يرى الشاعر أنه مات، وبعد ذلك في الجنة والنار والسماء، وهي دعوة للتمرد على الدين والمجتمع والتقاليد.

     والدكتور شوقي ضيف يصف مطولة الشاعر المهجري فوزي المعلوف «على بساط الريح» بأنها ملحمة[24]، علماً أنها تصور رحلة يقوم بها الشاعر في السماء ويتصل فيها بعالم الغيب، في سياق فلسفي تأملي.

     والأستاذ صالح جودت يصف مطولة الأستاذ عباس محمود العقاد «ترجمة شيطان» بأنها ملحمة[25]، وهي قصيدة فلسفية لا علاقة لها بالمأثور من شعر الملاحم في قليل أو كثير.

     والدكتور زكي المحاسني يصف قصيدة ابن الرومي في فتنة الزنج في البصرة بأنها ملحمة مع أنها أقرب إلى الرثاء العام منها إلى أي شيء آخر[26].

     ومع هذا التوسع المتسامح لمفهوم الملحمة يمكن أن نعد من شعر الملاحم مطولة «عشتروت وأدونيس» لحبيب ثابت، ومطولة «عبقر» للشاعر المهجري شفيق المعلوف، ومطولتي الشاعر علي محمود طه «الله والشاعر» و«أرواح وأشباح».

     ومن المطولات الملحمية التاريخية خارج نطاق التاريخ العربي والإسلامي قصيدة «نيرون»[27] الشهيرة لخليل مطران، وهي قصيدة طويلة ذات روي واحد تقع في ثلاث مئة وثمانية وعشرين بيتاً ألقاها عام 1924م في الجامعة الأمريكية ببيروت، مطلعها:

ذلك الشعب الذي آتاه نصرا     هو بالسبة من نيرون أحرى

     والقصيدة هجوم على الظلم في شخص نيرون، وعلى الشعوب التي تمكن لهم، فلولا العبيد لما كان الطغاة. وقد عدها الدكتور شوقي ضيف «ملحمة كاملة»[28]، وعدها الدكتور جابر قميحة ملحمة أيضاً[29]. كما وصفها الدكتور جمال الدين الرمادي بأنها «ملحمة» لأن مطران اقترب فيها من ذوق الشعر الملحمي الغربي بخصائصه المعروفة[30].

     والحديث عن الملاحم يقتضي منا أن نشير إلى أن الأستاذ سليمان البستاني قد عرب إلياذة هوميروس، وعمل في ذلك 18 عاماً، وقد قسمها إلى 24 نشيداً، وقد صدرت عن مطبعة الهلال في القاهرة عام 1904م.

     وعمل الأستاذ البستاني عمل مشكور، إذ إنه وضع بين أيدي الشعراء والنقاد في مطلع القرن العشرين -حيث تتحفز الأمة للنهضة من خلال محاور شتى منها الشعر- أول ملحمة شعرية في التاريخ الإنساني. ولا يخفى على أحد أن النقاد يكادون يجمعون على أنها كانت المنطلق الذي بدأت منه، وسارت كل الملاحم فيما بعد، وأن خصائصها وموضوعها قواعد لكل الملاحم التي اقتفت آثارها، كما يقرر الأستاذ حسن محسن[31].

     هذا ومن الطبيعي أن تتفاوت آراء النقاد والدارسين في الشعر الملحمي، فمثلاً يرى الدكتور زكي المحاسني «أن كل شعر طال أو قصر، إذا وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجهاد هو من شعر الملاحم»[32]، وهذا الرأي لا يجعل النموذج اليوناني هو النموذج الذي ينبغي أن يحاكيه كل عمل ملحمي، ولعله أقرب إلى ذوق اللغة العربية وآدابها، فكلمة «ملحمة» في اللغة العربية تعني الوقعة العظيمة، والشعر الذي يتضمن أحداث المعارك ووقائعها هو شعـــر ملاحم. ويدعم رأي الدكتور زكي المحاسني أننا نجد أبا زيد القرشي في «جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام»، يطالعنا بسبع قصائد تسمى «الملحمات» كلها تشترك في تصوير الحياة البدوية وما يتخللها من لهو بريء أيام الصبا، ومن تطاحن عنيف بين القبائل أيام الحروب، وهذه القصائد للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة، والكميت، والطرماح.

     أما الملحمة عند الأستاذ أحمد حسن الزيات فهي «حكاية شعرية في الغالب لأمر خارق عجيب، أو عمل حماسي عظيم له أثر في حياة شعب بأسره، فهي تختلف عن الرواية بأنها تحكي الحادث وهذه تمثله، وعن التاريخ بأنها تخلق وتبالغ وتؤثر بالصور الكلامية الخلابة، وهو يروي ولا يبتدع، ويحقق ولا ينمق، ويصدق ولا يمين»[33].

     ويلتقي رأيا الأستاذين الزيات والمحاسني في أنهما لا يشترطان لوازم النموذج اليوناني للملحمة من تدخل الآلهة في المعارك وانحيازها إلى هذا الفريق أو ذاك، وبذلك هما أقرب للحس الإسلامي والعربي، وضمن هذا الفهم الواسع والمتسامح منهما للملحمة تدخل قصائد كثيرة قديمة وحديثة في باب الشعر الملحمي.

     أما الأستاذ سامي الكيالي فله رأي يقف على النقيض من رأي الدكتور المحاسني، فعنده «أن الملحمة عمل قصصي له قواعد وأصول، يشاد فيها بذكر الأبطال والملوك وآلهة الوثنيين، ويتألف من أناشيد عديدة نظمت في وصف حرب من الحروب ووصف جيوشها وأبطالها والأمكنة التي دارت فيها، تشترك الآلهة في وقائعها وتقوم على الخوارق والأساطير، وما أظن أن أرجوزة من بضع مئات من الأبيات مهما كان لونها تعد من أدب الملاحم»[34]، وواضح أن رأي الأستاذ الكيالي يجعل النموذج اليوناني هدفاً ومثلاً، ووفق معياره هذا لا يوجد شعر ملحمي في الأدب العربي قديمه وجديده.

     وللدكتور محمد مندور رأي يتجاوز الآراء السابقة جملة وتفصيلاً، ومؤداه أن فن الملحمة فن لا ينسجم مع طبيعة العصر، ومرد ذلك أن شعر الملاحم الذي ظهر في التاريخ القديم للبشرية كان مقبولاً لأنه يغذي في الناس يومذاك ما هم بحاجة إليه من بساطة وسذاجة وطفولة نفسية وعقلية مما لم يعد يحتاجه إنسان اليوم ولا يطيقه، ومن أجل ذلك لم تعد الإنسانية تقرأ وتشغف إلا بالملاحم القديمـــة «كالإلياذة والأوديسة والإنيادة في الغرب، والمهابهارتا والراميانا في الهند، والشاهنامة في فارس، والواقع أن الآداب الفنية في العصر الحديث قد تركت فن الملاحم للآداب الشعبية...، وأن محاولة بعض شعرائنا المحدثين كتابة الملاحم إنما هو ضرب من المجازفة الذي يتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية، وما نظن أن أحداً منهم يستطيع أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة والسذاجة الساحرة التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة»[35]. وهذا الرأي المتفرد للدكتور محمد مندور يطوي صفحة الشعر الملحمي، ويجعلها تاريخاً أدى مهمته ذات يوم، ولم يعد يصلح للعصر ولم يعد العصر يطيقه.

     والدكتور مندور مصر على رأيه هذا لأننا نراه يؤكده مرة ثانية قائلاً: «ففن الملاحم يلوح أنه قد انقرض بانقراض العقلية البدائية والمرحلة الحضارية التي اتسعت له»[36]. ومرة ثالثة قائلاً: «إن فن الملاحم قد عفَّى عليه الزمن منذ عهد طويل بعد أن تخطت الإنسانية دور طفولتها الأولى التي كانت تخلق فيها الأساطير لتحيط بها معارك بطولتها، وتتغنى بتلك البطولات الأسطورية في سذاجة ساحرة»[37].

     وللدكتور الطاهر أحمد مكي رأي مشابه لرأي الدكتور مندور يقرر فيه: «وفي العصور الحديثة حاول عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر كتابة ملاحم، وكلهم فشلوا جميعاً وطوى الزمن ملاحمهم، ولم تعد الإنسانية تقرأ أو تعجب بغير الملاحم القديمة»[38].
❊❊❊

     ترى أين يقف شعر عمر أبو ريشة الملحمي في هذه الآراء النقدية المتعارضة إزاء الملحمة؟

     أياً كان الأمر فإننا سوف نقف على قصيدتيه الشهيرتين «خالد» التي نظمها عام 1938م، و«محمد» التي نظمها عام 1941م، ونتجاوز ما وعد به من أعمال لم تر النور على كثرة الوعد وتطاول الزمن.

     فإذا بدأنا بالقصيدة الأولى «خالد» التي تقع في تسعة وستين بيتاً، والتي تجري على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر وعلى روي واحد هو النون المكسورة المسبوقة بألف ممدودة، نجد الشاعر يخاطب راويات الزمان في مقطع يشكل أربعة عشر بيتاً أولها:

لا تنامي يا راويات الزمـان     فهو لولاك موجة من دخـان

     وهو يطلب في هذه الأبيات من راويات الزمان ألا تغفل عن مهمتها في رواية التاريخ وتسجيل وقائعه، فبذلك يخلد التاريخ، وبدونه يصبح موجة ضائعة من الدخان تتبدد وتتلاشى، والعصور تظل غضة طرية، والحياة تظل تبسم، ذلك أن الراويات تسجل كل شيء، ولذلك يطلب منها الشاعر أن تلتفت إليه، وألا تبخل عليه بحكاياتها الملهمة وأساطيرها الموحية، فروحه ظمأى إلى ذلك تريد أن تجعل منها صلاة في القلوب وأغاني في الشفاه.

     ثم يطلب منها أن تجدد صلته بماضي المسلمين المجيد، لينفض الغبار عن أردانه، ولتستيقظ في وجدانه ذكريات الأجيال الكريمة ومواكب الطيوف الرانية ليجد نفسه في زمن البعثة الشريفة، والفتوح الهادية، والمجد والكرم والبيان، يحفل بذلك كله موطنه الصحراوي المقفر الذي يمتلئ قلبه إعزازاً له وإكباراً، فهو منبت المجد والجمال وهو ساحة الكرم والعطاء.

     وفي الأبيات الخمسة التالية نجد أنفسنا مع بني مخزوم، وهم قوم خالد، يستعدون لطلب الثأر من المسلمين في «أحد» لعلهم يغسلون ما حل بقريش من هزيمة في «بدر». وفي هذه الأبيات يرى الشاعر ونرى معه، خيام بني مخزوم تجوس خلالها الرجال والخيل في غضب يعصف بالعقول حيث يستعد القوم لرحلة الانتقام، وهدفها هو النبي الكريم ﷺ تريد الثأر منه، وينتهي المشهد والخيل مسرعة إلى «أحد» تخطف الأرض خطفاً.

     في المشهد التالي نجد أنفسنا في ساحة المعركة في «أحد» حيث يلتقي الحق الذي ينشد الهداية بالجاهلية السادرة في عبادة الأوثان، وتقوم المعركة عنيفة مهولة تتحطم فيها السيوف وتتقصف الرماح، وتلوح بشائر النصر للمؤمنين الذي تلهيهم بروق الأطماع عن واجب الجهاد، فما يشعرون إلا بسيوف المشركين تحيط بهم وتتخطفهم، وفي الطليعة فتى مقدام يطيح برؤوس المؤمنين وينتزع الإعجاب ببطولته وإقدامه، وهو خالد الذي لا ينسى أن هدف المعركة هو قتل النبي ﷺ، فيسرع نحوه، لكن شيئاً غير عادي يحدث، فمهره يكبو وسيفه لا يقوى وقدماه لا تتحركان، فيعود وفي قلبه هاجس كريم من هداية الله، وتلك هي إشراقة الإيمان الأولى التي ما تلبث بعد ذلك أن تفيض.

     ويراجع المؤمنون أنفسهم فيخجلون من تقصيرهم إذ عصوا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وخالفوا أمره حين حدد لهم واجباتهم القتالية مما أتاح الفرصة للمشركين أن يهزموهم، ومما أتاح الفرصة لبروز هذا البطل المخزومي الفريد الذي فتك بهم، غير أن النبي الكريم ﷺ ما يلبث أن يأخذ زمام المبادرة، فيجمع صفوف أصحابه من جديد، ويحذرهم من الزيغ والضلال.

     بعد ذلك يقفز عمر أبو ريشة فوق الأحداث ليطوي مرحلة زمنية يسلم فيها خالد ويموت فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويأتي عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لنجد الفتح الإسلامي يمتد في العالم، ولنجد خالداً أبرز رموزه وصانعيه، وعليه وشاح البطولة، ومن حوله زغاريد النصر وأناشيد الجهاد، وقد ظهرت عبقريته العسكرية المتفردة، وثباته ورباطة جأشه، يمضي في غرب الأرض وشرقها، وكأنه بجهاده البطولي لإعزاز الإسلام يكفر عما كان منه يوم أحد، ويصدق الفاتح العظيم مع الله عز وجل فيمُنُّ الله عليه بالنصر تلو النصر، فإذا صداه في كل مكان، وإذا المآذن تصدح بالأذان حيث حل، وإذا الروم في اليرموك يلقون على يديه شر هزيمة، تحمر الأرض من دمائهم، ويجري نهر اليرموك بجثث قتلاهم.

     ويتناقل المؤمنون في كل مكان أخبار الفتوح الرائعة التي يصنعها خالد للمسلمين، فإذا بالجميع رجالاً ونساء يتحدثون عنه، ويكادون يجعلونه سبب النصر، فيفطن إلى ذلك الخليفة العظيم، ويريد أن يقضي على الفتنة التي ربما تطل فينحيه عن القيادة ويؤمر عليه وعليها أبا عبيدة، فيكشف هـــذا العزل عن أصالة خالد ومعدنه النفيس وإيمانه القوي حيث لم يغضب للعزل، وازداد بطولة وتفانياً، ومضى يقتحم الأسوار، فقد راضته العقيدة على العطاء وطهرته من دواعي الأثرة المقيتة.

     بعد ذلك يأتي دور الشاعر الذي يناجي البطل الفاتح وهو بين يدي الله عز وجل ويعاهده أن يكون لسان حق لا يجبن عن الجهر به مهما عصف البغي، ويشكو إليه حالة الأمة اليوم، لكنه يلتمس لها العذر، فهي مازالت موئل البطولة والشجاعة، وكوارثها اليوم تعود أسبابها إلى من قادوها وتولوا أمرها.

     ويعود الشاعر في نهاية القصيدة ليناجي راويات الزمان يبثها حزنه ومتاعبه ويطلب منها أن تكون عوناً له فيما يلاقي من عنت ومشقة، ويطلب منها أيضاً أن تكون منارة للأجيال الجديدة تنفض عنها النوم وتهديها سواء السبيل.

     أما قصيدة «محمد»؛ فقد نظمها عمر أبو ريشة بعد ثلاث سنوات من قصيدته «خالد» ودائماً كان يضع بجوار عنوانها هذه الجملة «مقدمة ملحمة النبي» التي لم تر النور مع كثرة الوعود وتطاول الأيام، وتقع القصيدة في مئة بيت، وهي أيضاً على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر، ولها روي واحد هو الهمزة المكسورة المسبوقة بألف ممدودة، ومطلع القصيدة:

أي نجوى مخضلة النعماء     رددتها حنـاجـر الصحراء

     تبدأ القصيدة ببزوغ فجر الرسالة المطهرة الذي يغضب قريشاً خوفاً على وثنيتها فتمشي إلى الكعبة المشرفة وترتمي على اللات والعزى تجأر بالدعاء وتطلب العون وتنحر القرابين، ثم تعود بعد ذلك وقد ركبها من جاهليتها العمياء الزهو والخيلاء، ولكن الشاعر ينظر إلى رعاية الله عز وجل للناس وهدايته إياهم، فيطلب منها ــ ساخراً ــ أن تعربد ما تشاء، لأن عربدتها لن تقف أمام قدر الله عز وجل الذي شاء أن تظهر النبوة في قفر مكة المكرمة على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، كما ظهرت من قبل في قفر سيناء على يدي موسى عليه السلام.

     بعد ذلك نجد أنفسنا في رحاب بني هاشم والبشر يخلع عليهم مطارف الخيلاء، والسعادة تملأ أقطار نفوسهم وهم يحيطون بالوليد العظيم اليتيم الذي تزاحم الغبراء تيهاً به مناكب الجوزاء.

     يلي ذلك المشهد الذي نرى فيه اليتيم الكريم في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية التي تحبه حباً جماً لما رأت فيه من خير وبركة ويمن، لذلك تحزن أشد الحزن حين ينتهي مقامه عندها ويعود إلى أمه آمنة، فما يلبث أن يفقدها كما فقد أباه من قبل فينشأ يتيم الأب والأم. ويشب اليتيم الكريم بعيداً عما يشيع بين أترابه من عماية وغواية متصفاً بكل خلق نبيل، فتجمع قريش على حبه وتلقبه بالأمين، وتنشر ذكره الطيب العطر بين الناس، ويجد نفسه بفطرته النقية وعقله الراجح رافضاً لوثنية قومه معتزلاً لها ناقماً عليها.

     وتأتي لحظة الخير والسعادة له ولقريش وللناس أجمعين حين يفاجئه جبريل عليه السلام في غار حراء طالباً منه أن يقرأ، ويقرأ اليتيم الكريم ما نزله عليه ربه عز وجل، فيكون النبي العظيم الخاتم، ويبدأ بذلك عهد النبوة الزاهر يحمله إلى كل مكان رسول كريم لم يعرف القراءة والكتابة.

     بعد ذلك نقفز ثلاثة عشر عاماً لنجد أنفسنا يوم الهجرة حيث هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ليقيموا فيها دولة الإسلام، وتعمل قريش بكل وسعها لمنع الرسول الكريم ﷺ من الهجرة، وتعزم على قتله لكن الله عز وجل يبطل كيدها فيخرج ومعه الصديق إلى غار ثور ترعاهما عناية الله حتى إذا هدأ الطلب عنهما هاجرا إلى المدينة المنورة، وعادت قريش خائبة حزينة والرياح تعصف بالرمال وتنثره على وجوهها الغاضبة.

     بعد ذلك نجد أنفسنا في المدينة المنورة وقد وصلها الركب الكريم فهي سعيدة به، سعيدة بالدعوة الجديدة، وأذانها المبارك وصلاتها الطهور، سعيدة بالإنسان الجديد الذي تطهر من أدران الجاهلية ووهب نفسه للرسالة الكريمة، ولكن الغضب لم يزل يملك على قريش أقطار نفوسها، فهي حاقدة، عنيفة، عنيدة، تعتدي على من تناله أيديها، وتتردى في خسة تغضب المروءة وتستفز الغضب، مما يجعل الصدام بينها وبين الدعوة الجديدة أمراً لا مفر منه، وما كان ذلك ليروق للنبي الكريم ﷺ، ولكن الحلم إذا أخفق فلابد من السيف، وهنا نجد أنفسنا في مشهد جديد هو معركة بدر.

     تقع معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بين الإسلام الهادي والوثنية المتخلفة، وكانت قريش في زهوها وقوتها وكثرتها خلافاً للمسلمين الذين كان سلاحهم الإيمان والعزيمة، ويبدأ القتال بالمبارزات الفردية فتكون الغلبة للمؤمنين، فتنشب المعركة العامة ويطغى الهول، والنبي الكريم يدعو ربه، ويمن الله عز وجل بالنصر على المؤمنين، فتعود قريش إلى ديارها خاسرة خائبة تبكي قتلاها، وتستعد للثأر ناسية أن الله عز وجل نصر المؤمنين في بدر نصراً باقياً شاءت أو لم تشأ.

     يلي ذلك مشهد يختزل أحداثاً كثيرة حيث يهزم المسلمون في أحد، لكن موكبهم الظافر لا يتوقف فتتوالى انتصاراتهم ويكون في قمتها ذلك اليوم السعيد الذي تفتح فيه مكة المكرمة، وتطهر من الأوثان، وتعلو راية التوحيد، ويقف الرسول الكريم ﷺ في قمة انتصــاره ليترفع عن الانتقـام ويفي بالعهود ويمن بالعفو الجميل على من أساء.

     نجد أنفسنا بعد ذلك في المشهد الذي يصور وفاة الرسول الكريم ﷺ، والحزن الذي يعصف بالمؤمنين، حتى يقع الفاروق ــ على جلالة قدره ــ في الخطأ حين يأبى أن يصدق خبر الوفاة، لكن الحقيقة ما تلبث أن تتضح وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات لكن دينه باق لا يتطرق إليه فناء.

     يقفز عمر أبو ريشة بعد هذا المشهد قفزة بعيدة نرى فيها الفتوح تتوالى، فتغمر بنعماها فيما تغمر الشام والعراق والأندلس، وتملأ الأرض عدلاً ونوراً.

     ويعود عمر أبو ريشة ليناجي الصحراء في آخر القصيدة كما ناجاها في بدايتها طالباً منها أن تعيد للعرب أمجادهم ذلك لأن دأبها العطاء ولو صمتت إلى حين.
❊❊❊

     بعد هذا الاستعراض الدقيق للقصيدتين، يمكن للدارس أن يقرر أن فيهما جملة من خصائص الشعر الملحمي التي تسوغ انتسابهما إليه، وهي:

(1) المطلع الذي يطلب فيه الشاعر العون، ويبدو ذلك من مخاطبة الشاعر راويات الزمان في مطلع قصيدته «خالد» حيث يطلب منها وعي التاريخ وتسجيله، ويطلب أن تبل غليله من حقائق وأساطير، يتعهد لها أن يحفظها ويردها لها صلوات لا تنتهي وأناشيد لا تبيد:

لا تنــامي يا راويـات الزمـــان     فهو لولاك موجـــة من دخـــان
تتـوالى عصـــوره وبهـــــا من     ـك ظـــلال طريـــــة الألـــوان
أبــداً تبســـــــم الحيــــاة عليـها     بســـــمة المطمئــــن للحدثـــان
أسمعيني حفيــف أجنـــحة الإلـ     ـهام من أفقـــــك القصي الداني
وانثري حوله الأسـاطير فـالرو     ح على شبـــه غصـة الظمـــآن
حسبــها أن أردها لك مــن قلـــ     ـبي صــلاة ومن شفاهي أغاني
راويات الزمان هل شعر الرمـ     ـل بنفض الغبـــــار عن أرداني

     وكما بدأ الشاعر قصيدته بمناجاة راويات الزمان، يختمها بمناجاته إياها مرة ثانيـــــة:

راويات الزمان ما لي أناجيـــ     ـــك وما لي أغص بالأشجـان
اغسلي الذكريات عني فما لي     في احتمال العبء الثقيل يدان
أو فسيلي مـراوداً تنثر الكحـــ     ـــل ضياء في مقلة الوسنـــان

     هذا العمل من الشاعر هو في حقيقته، تجاوز لعالم المادة، يتطلع فيه إلى قوى غيبية غير منظورة يستلهمها العون ويطلب منها الإلهام، ولعل الشاعر تذكر ما يزعمه اليونايون القدماء من أن هناك آلهة للفنون ومنها الشعر، تمنع أو تعين الشعراء الذين يظلون دائماً خائفين من منعها مؤملين في عطائها. وربما يكون قد نظر إلى استهلال هوميروس للإلياذة فتأسى به، وهو ما قرره الدكتور محمد فتوح أحمد، إذ جعل عمر أبو ريشة في افتتاح مطولته في خالد بمناجاة راويات الزمان إنما كان يحتذي خطا هوميروس في الإلياذة والأوديسة، وجعل نجوى الشاعرين ترجع إلى التعويل على فيض فني يتنزل إليهما من طاقة غيبية[39]. ومطلع عمر أبو ريشة جعل لقصيدته سمة ملحمية، ارتفع بها فوق الوقائع وفوق الجدية والرتابة والتكرار النمطي في حياة تتشابه باستمرار، وتحرر من أسرها، وعاد إلى عالم فيه الطفولة العقلية والنفسية، والبساطة الساحرة بحقائقها وأوهامها، والأحلام المجنحة، والأساطير الطريفة، والبدائية الأولى بسذاجتها وغرارتها وبعدها عن العقل والمنطق وما إلى ذلك، مما يلبي في النفس الإنسانية حاجتها حين تريد أن ترتد أحياناً إلى الطفولة التي تصدق الخرافات وتأنس للخوارق وتسعد بالأساطير.

     والملاحظ أن الشاعر لم يأت بمثل هذا المطلع في قصيدته الثانية «محمد» التي نظمها عام 1941م أي بعد ثلاث سنوات من قصيدته «خالد»، وقد يكون السبب أنه عدل عن الإحساس بضرورة محاكاة النموذج اليوناني، أو لأنه شعر أن مثل هذا المطلع لا يليق في مقام الحديث عن الرسول الكريم ﷺ، إذ كيف يأتي بأشياء وثنية أو أسطورية وهو يمجد الرجل العظيم الذي جاء دينه ليقضي على الأوثان والأساطير.

     وعلى كل حال لقد اختار عمر أبو ريشة في قصيدة «محمد» مطلعاً موفقاً صور فيه حاجة الجزيرة العربية إلى البعثة الشريفة تصويراً بديعاً جعل فيه الصحراء تردد نجواها المتعطشة إلى من ينقذها من ليل الجاهلية والوثنية والتيه والضلال وأشواقها إلى الفجر الجديد الذي سوف يبني لها حياتها على قواعد العدل والهداية والتوحيد والسلام، وما إلى ذلك مما كان يتردد لدى العقلاء والحنفاء والأحبار قبيل البعثة النبوية الشريفة، وكان يعد من إرهاصات البعثة ومقدماتها ومطالعها:

أي نجوى مخضلة النعماء     رددتها حناجــر الصحراء

     وكما كان مطلع الشاعر موفقاً كان ختامه موفقاً أيضاً، إذ ختم قصيدته بمناجاة الصحراء، رابطاً بينها وبين المجد، طالباً منها أن تعيد للعرب والمسلمين مجدهم، وفي هذا تذكير بمهد الرسالة الأولى الذي يرجى منه أن يكون مهد المنطلق الجديد، وفيه تذكير أيضاً بما يشيع في الصحراء من أخلاق الرجولة والمروءة والحرية والبطولة مما يعد لوازم لا غنى عنها لصانعي الانطلاقة الجديدة، وفيه أيضاً تذكير بهوية الجزيرة العربية وصحرائها، وهي هوية المؤمن صاحب القضية وحامل عبء الرسالة والعامل على نشر أنوارها في العالمين:

يا عروس الصحراء ما نبت المجـ
               ـــد على غـيــر راحة الصحـــراء
كلما أغرقت ليــــاليهــا فــي الصـ
               ـصـمـت قـــامت عن نبــأة زهراء
وروتها علــى الوجــــود كتــــابــاً
               ذا مضاء أو صارمــــاً ذا مضـــاء
فأعيـــدي مجــــد العروبـة واسقي
               من سنــــاه محـــاجــــــر الغـبراء
قد تـــرف الحيــــــاة بعــد ذبـــول
               ويليـــن الزمــــــان بعـــــد جفـــاء

     وهكذا بدأت القصيدة بالصحراء وما يتصل بها ويشيع فيها من تشوف وأمان ورغاب، وختمت بالصحراء وما يتصل بها ويشيع فيها من تشوف وأمان ورغاب، فبدأت بأمل محمود، وختمت بأمل محمود، وهو أليق ما يقال في مقام الحديث عن النبي الكريم ﷺ ورسالته الكريمة. وإذا تذكرنا أن قصيدة «خالد» بدأت بمخاطبة راويات الزمان وانتهت بمخاطبتها كذلك، وأن قصيدة «محمد» بدأت بالصحراء وانتهت بها كذلك، أمكن لنا أن نعد اختيار الصحراء في «محمد» بديلاً عن الراويات في «خالــد» عمــــلاً واعياً مقصوداً من الشاعـــر، تجنب فيه الأساطير وما يتصل بها إجلالاً لمقام النبوة، وحسناً فعل، واختار بديلاً مناسباً ومؤدياً وموحياً ووثيق الارتباط بالرسالة من قبل ومن بعد.

     وقد فطن الدكتور حلمي محمد القاعود إلى توظيف عمر أبو ريشة للصحراء في أول قصيدته «محمد» وآخرها هذا التوظيف الإيجابي فقال: «وإذا كان مطلع القصيدة ينطلق من الصحراء ومن اهتزازها للبشارة بمحمد فإن الشاعر يختتم أيضاً بمخاطبة الصحراء، ويرى فيها دائماً القدرة على النبت الجديد أو البشارة المتجددة كلما أغرقت لياليها في الصمت والسكون، ولعل خطاب الشاعر للصحراء كان محكوماً بحلمه الجميل في استعادة مجد الأمة أو العروبة التي طال ليلها وصمتها، وفي هذا المقطع الختامي، رغم ضجيج النصر وفرحة المنتصرين، رنـــة الأسى والحــزن على واقع الأمة وإحساس الشاعر بالذبول والجفـــاء»[40].

(2) الطول؛ إذ الملاحظ أن قصيدتي الشاعر طويلتان جداً بالقياس إلى أكثر شعره فقصيدته «خالــد» تقع في تسعة وستين بيتاً، وقصيدته «محمد» تقع في مئة بيت، والطول إحدى سمات الشعر الملحمي. حقاً إن القصيدتين لا تصلان في عدد أبياتهما إلى ما اعتاده الناس من طول القصيدة الملحمية، ولكنهما حين تقرنان إلى بقية شعر عمر أبو ريشة تبدوان طويلتين، ذلك أن أكثر شعره قصائد قصيرة، بل إن كثيراً من هذه القصائد لا يصل إلى عشرة أبيات، مما يدل على أن هذه القصائد كانت تعبيراً عن تجارب ومواقف محدودة خلافاً للقصيدتين الطويلتين «خالد» و«محمد».

(3) وثمة سمة ملحمية ثالثة نجدها في هاتين القصيدتين، وهي غياب الجانب الذاتي فيهما، وبروز الجانب الموضوعي، ذلك أن الشعر الملحمي تعبير عن وجدان جمعي وأمان عامة وهموم قومية لا مجال فيها لنوازع الشاعــر الخاصـــة، وهذا هــو ســر احتفاء الناس به، إذ يجدونه وكأنه يعبر عن نفوسهم جميعا خلافاً للشعر الذاتي الذي قد يتفاعل معه الناس، وقد لا يتفاعلون إذ لا يجدون ما يشدهم إلى تجارب ذات خصوصية مفرطة.

     ودراسة القصيدتين تدل على سيطرة الوجدان الجمعي عليهما، وهو من آثار التعميم الموضوعي الذي تستدعيه طبيعة الشعر الملحمي. ونحن لا نجد في قصيدة «محمد» أي جانب ذاتي ولو قل، ولا نجد في قصيدة «خالــد» إلا هذه الأبيات الثلاثة:

لا رعاني الصبا إذا عصف البغـ      ـي، وألفى فمي ضريح لســــاني
أقســـــم المجـــــد أن أقطـع أوتـا     ري عليـــه بأكــــرم الألحــــــان
أنا مـــن أمـــة أفـــاقت على العزْ     زِ، وأغفت مغـــموسة في الهوان

     وهذه الأبيات الثلاثة -وإن ظهرت فيها ذات الشاعر- هي بمنزلة توظيف لملكته البيانية من أجل قضية الأمة، فهو يأبى أن يسكت حيث ينبغي له أن يقول، خاصة أن المجد أقسم عليه أن يكون شاعراً ينشد أمته أناشيد البطولة ويحفزها إلى الخلاص مما هي فيه من هوان، ويطالبها أن تستشرف ما يليق بها من مكان بحكم جدارتها السابقة.

     وتبقى هنا قضية مهمة تتعلق بصلة الشعر الملحمي بالوجدان الجمعي الذي يعبر عن وجدان المجموع لا وجدان الفرد، وهذه القضية هي نظرة الشعراء خاصة في العصور التي تضعف فيها الأمة ويتكالب عليها أعداؤها إلى الشخصية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم. وخلاصة هذه النظرة أنهم يجدون فيها صورة المنقذ القومي إلى جانب صورة المنقذ الهادي الديني، وكأنهم يلتمسون من استلهام مواقفها وتاريخها وذكرياتها نصراً يغسلون به عار الواقع، ويتغلبون فيه على الأعداء. لقد سكنت الشخصية المحمدية بملامحها الغنية العظيمة وجدان كل عربي، «ولا شك أن الملامح المحمدية في صورتها العامة قد استولت على الاهتمام الأكبر للشعراء خاصة في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، فتوقف الشعراء عندها باعتبارها الملاذ الذي يناغي أحلامهم ويهدهد أشجانهم ويقودهم رغم أي شيء إلى تحقيق الحلم في الوجود الظافر القوي المتحضر، وقد اعتمد الشعراء على الملامح العامة كقناع يتحدثون من ورائه عن هموم الأمة وأحلام المسلمين في واقع أفضل، واتخذوها رمزاً يعبرون به أو يدافعون به عن هوية الأوطان الإسلامية وشخصيتها الذاتية. وقد رأى الشعراء العرب في هذه الملامح المحمدية صورة المنقذ القومي ورسول الإنسانية ورمز التفوق والحضارة، فقد نظروا إليه من خلال صورة المنقذ القومي باعتباره الأمل في حفز المسلمين على الجهاد والتضامن ومواجهة الأعداء وتجاوز الخيبة التي أصابت المسلمين في القرن الرابع عشر الهجري أمام جحافل المستعمرين والغزاة»[41].

     ولم يكن الشعراء العرب في العصر الحديث بدعاً فيما صنعـوه إزاء تعاملهـم مع الشخصية المحمدية حين وجدوها رمزاً للبطولة والإنقاذ والحكمة والنصر، فالقضية قديمة، وهي تبرز أكثر ما تبرز في فترات المواجهة العنيفة خاصة حين تكون الأمة مغلوبة والعدو غالباً، ففي زمان المواجهة الإسلامية مع التتر والصليبيين «كانت الشخصية المحمدية هي المحور الذي دارت من حوله الأشعار والمطولات باعتباره رمز الانتصار المؤزر والحكمة البالغة والبطولة الظافرة، وكان لذلك التصور أثره الكبير في صمود الشعوب العربية والإسلامية حتى تغلبت على الغزوة التترية والغزوات الصــليبية جميعاً...، وقد تعامل الشعراء في القرن الرابع عشر الهجري مع الشخصية المحمدية من خلال ملامحها الخاصة والعامة، بقصد الدفاع عنها والدفاع بها في وجه الهموم الذاتية والهموم الإسلامية والقومية والوطنية جميعاً، ولكل من حالتي الدفاع قيمتها الفنية وظروفها التي تبررها. وإذا كان معظم الشعراء المحافظين قد تبنوا حالة الدفاع عن الشخصية المحمدية، فإن الشعراء المجددين قد خطوا خطوة أكثر تقدماً حين دافعوا به في وجه الهموم والهجوم الذي قوبل به الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرن الرابع عشر»[42].

     ويقرر الدكتور ماهر حسن فهمي أن الشعر الذي يدور حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ازدهر في ثلاث فترات، الأولى: في فترة الدعوة الإسلامية أيام البعثة الشريفة، والثانية: في فترة الحرب الصليبية، والثالثة: في العصر الحديث. ويرجع سبب هذا الازدهار إلى إحساس المسلمين بالخطر الماحق في هذه الفترات الثلاث، بحيث يتلفتون باحثين عن حصن وملاذ وأمل، فيجدون في رسولهم الكريم ذلك كله. ويصف الفترة الثالثة بأنها: عصر التحدي الأكبر، نكون أو لا نكون، «ولذلك تعود المدائح النبوية قوة دافعة من جديد، وتعود السيرة مثلاً أعلى وقدوة يتبعها السائرون»[43].

     كما يقرر أيضاً أن المدائح النبوية ظلت قادرة على العطاء، تنبض بالحياة، وتمنح الإحساس بالأمان في فترات الشدة، وتكمن فيها قوة دفع كبيرة، وأن هذا التوجه في المدائح دار حوله كثير من الشعراء مثل محمد مصطفى الماحي وحسن عبد الله القرشي وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة[44]. ثم ينتهي إلى القول: «وهكذا يتضح في النهاية أن حياة الرسول ظلت نبعاً يتدفق بالعطاء على مدى السنين، وقد أثرت في الأدب العربي الحديث شعره ونثره بنفس القدر الذي أثرت به في أدب التراث، غير أن الأدب العربي الحديث أكثر ثراء وأشد تفنناً»[45].

     وهكذا غدا الرسول صلى الله عليه وسلم ملاذاً دينياً ووطنياً وجهادياً يفزع إلى نبوته وسيرته وبطولته وانتصاراته الشعراء خاصة في أيام الكوارث والخطوب، ذلك أنهم يجدون فيه البطل المجاهد والقائد المنصور الذي يحلم ويصفح ويعفو، لكنه إذا دعا داعي القتال قاتل خلافاً لنبي كريم آخر هو المسيح عليه السلام الذي لم يقاتل قط. من هنا وجدنا شاعراً مسيحياً كبيراً هو الشاعر القروي «رشيد سليم الخوري» يحث الناس في سورية على محاربة الفرنسيين أيام استعمارهم إياها، وذلك باتباع طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدفع سيفه الظلم، لا طريق المسيح عليه السلام المتسامح حتى مع عدوه:

إذا حاولت رفع الضيم فاضرب     بسيف محمــد واهجــر يسوعــا

     وربما كانت مطولة عمر أبو ريشة «محمد» أشهر قصيدة بين مثيلاتها في العصر الحديث ذاعت وشاعت، وقد استلهم فيها الشاعر الشخصية المحمدية استلهاما موفقاً، ووظف سيرته المجيدة توظيفاً محموداً. فأبو ريشة «وقد استلهم التاريخ المحمدي في بناء قصيدته بناء متتابعاً متنامياً قائماً على التدفق والترابط، قد استطاع أن يوظف الشخصية المحمدية توظيفاً جيداً لجلاء ملامحها، ولتقديم نموذج البطل الذي يتجاوز كل العقبات ليحقق الانتصار الكامل والساحق»[46].

     وقد ظل للشخصية المحمدية هذا الحضور الملح في وجدان الشعر والشاعر الذي يوظفها في إطار التعبير عن الوجدان الجمعي، فنرى عمر أبو ريشة عام 1945م يذيع قصيدته «يا رمل» التي تأتي أهميتها في هذا المجال من ارتباطها بحدث هام في التاريخ الحديث، وهو إعلان الرئيس الأمريكي روزفلـت أن ميثاق الأطلسي كفيل الحريات الأربـع، لا أثر له في الوجود، فيحزن الشاعر لحال أمته، ويأسى لنكث القوي عهوده ومواثيقه، ويتجه إلى التاريخ فيرى في الشخصية المحمدية «المنقذ القومي» كما رآه من قبل. ومن هنا تأخذ القصيدة شيئاً من السمة الملحمية. وواضح أن الشاعر كان «يعالج من خلال قصيدته الواقع العربي الذي أصمته المحن، وعربد فيه المستعمرون، خاصة في فترة الحرب العالمية الثانية، والقصيدة بوضعها الذي هي عليه الآن أقرب إلى قصيدة «محمد» في البناء الشعري، وإن كان إلحاح الواقع يظهر بوضوح أكثر مع الإشارة إلى ميثاق الأطلسي الذي ما غير شيئاً، بل ازداد تحت ظلاله سفك الدماء وسفح العبرات والصراخ ألماً، ولعل الشاعر في بيتيه التاليين قد حالفه التوفيق:

وما المواثيق إن فاه القوي بهـــــا     ونصب الختل في أقداسها حكمــا
ما كان أغناه عن تزوير غايتــــه     من يحمل السيف لا يبري به قلما

     وتبدو القصيدة أكثر انتماء للعصر، من خلال تناولها الواقع، ولذلك نجد الشاعر يكشف عن غايته في المقطع الختامي، فيستدعي شخصية محمد ﷺ من أجل الإنقاذ القومي في إطار من التصوير الجميل والحلم الجميل أيضاً:

يا رمل رجع حداء في مسامعنــــا     هل حمل الركب بشـراه وما علما
قيثارة الوحي لم تجــرح لها وتـراً     أيدي الليالي ولم تحبــس لها نغـما
أمن سنـــا أحمـــد حر ستطلعــــه     وتطلع المجد في برديه مضطرما

فيرجع الأرض ريا بعـدما همدت ويمتطي الدهر غضاً بعد ما هرما»[47]

     وتلفتنا قصيدة «يا رمل» لعمر أبو ريشة إلى معنى آخر طالما ركز عليه الشعراء وهم يتحدثون عن الرسول الكريم محمد ﷺ، وهو الإشادة بالجانب الإنساني العام الذي يقدم الإسلام دين حضارة عالمية إلى جانب كونه دين قوة وغلبة وظفر، وهو بهذا البعد الحضاري الحافل بشتى الفضائل النبيلة يفضح زيف الحضارة المعادية التي تبطش بالمسلمين وتتنكر للعهود والمواثيق.

     وبهذا مثل الرسول الكريم ﷺ، كما مثلت رسالته بآفاقها الحضارية السامية النبيلة «لدى الشعراء العرب الجانب الإنساني الذي يتجاوز حدود الوطن القومية إلى الدائرة العالمية»[48].

     كما مثل «باعتباره رمزاً للتفوق والحضارة جانباً هاما لدى الشعراء العرب، فهو القائد المنتصر والقائد المتحضر والقائد المتفوق، وقد أكثروا من النظم في هذا الجانب ليواجهوا العالم الغالب والقاهر من حولهم، وقد كانت المقارنة بين المدنية الغربية والمعطيات الإسلامية من خلال الشخصية المحمدية عنصراً بارزاً في أعمال الشعراء، حيث ركزوا على إبراز الجوانب الحضارية التي تحث عليها الشخصية المحمدية في العلم والقوة والتفوق البطولة»[49].

     وكأن عمر أبو ريشة في قصيدته «يا رمل»، إذ يدين الغدر الغربي بتنكره لعهوده ومواثيقه يطالبنا بأن نوجه أبصارنا صوب الرسول الكريم ﷺ، لنستلهم منه ومن رسالته وانتصاراته ووفائه بالعهود دروساً في الإيمان من ناحية، وفي البطولة من ناحية، وفي الأخلاق من ناحية.

     وإذا كانت قصيدة «يا رمل» قد انتهت بالتطلع إلى الغد الظافر، حيث سيطلع الفجر الجديد مهتدياً برسالة الإسلام وأنوارها الهادية، وهو فجر واعد بكل ما ترنو إليه الأمة، وتصبو إليه من عز بعد ذل، ومجد بعد ضياع، وشباب بعد هرم، ونماء بعد جدب، فإن القصيدة الأخرى «محمد» تنتهي بتطلع مماثل إلى غد مماثل:

قد ترف الحياة بعـد ذبول     ويلين الزمان بعد جفـــاء

     وبهذا البيت يختتم عمر أبو ريشة قصيدته وهو يرنو إلى أمله المنتظر الذي يراه وشيك التحقيق في بعث الأمة التي تصنع النصر، وتبني الحضارة، وتشيد أركان المجد، وتستأنف حياة رغدة لينة بعد ذبول وجفاف.

     لكأن عمر أبو ريشة في قصيدته الملحمية هذه يبشر بأن صراع الأمة مع أعدائها سينتهي بفوزها، ومن هذه البشارة يبدو الحلم الجديد بالفوز «امتداداً للحلم الذي كان نبراساً في المسيرة الإسلامية الطويلة، وفي انتصاراتها الباهرة صاغه الشاعر في إطار فني متميز ومقتدر»[50].

(٤) والسمة الملحمية الرابعة في القصيدتين هي تلك الروح الغيبية التي تشيع فيهما، والتي تصلنا بأسرار الكون وما فيه من قوى مؤثرة غير منظورة، مع الفارق الذي لا بد منه هنا، وهو أن الملاحم القديمة تكثر فيها الخرافات والأساطير لسببين هما: وثنية قائليها، وطفولة العقل البشري يومذاك، خلافاً لموقف عمر أبو ريشة الذي نحى ذلك بعيداً بحكم إسلامه وطبيعة عصره.

     لقد احتلت الأساطير والخوارق والخرافات وما يتصل بها من سحر وغموض وإثارة وغيوب وأسرار حيزاً مهما في الملاحم القديمة، لذلك نرى النبوءات ونرى المبالغات، بل نرى للآلهة المزعومة حضوراً بارزاً، نجدها فيه تتدخل في الصراع بين البشر وتجتمع في الأولمب، وربما ائتمرت بهذا الطرف لصالح ذاك، وربما كادت كما يكيد البشر، وما من ريب أن هذا كله ثمرة من ثمار الوثنية التي سادت اليونان، وثمرة من ثمار العقل البشري الذي كانت فيه طفولة وسذاجة يصدق معهما ذلك.

     أما عمر أبو ريشة فليس له أن يفعل ذلك لأنه مسلم موحد نشأ في أسرة متدينة منذ صغره، وقد حدثنا عن الأناشيد الصوفية التي كان يشارك فيها في صغره حديث المحب لها المتذكر لنشوتها الروحية مع مضي أكثر من نصف قرن عليها[51]. ولما كان طالباً في مانشستر كتب مقالاً يدافع فيه عن الإسلام ويهاجم المنصرين[52]، وللشعر الإسلامي في ديوانه حظ وافر موضوعاتٍ ورموزاً وإشاراتٍ وإسقاطاتٍ. وليس له أن يفعل ذلك أيضاً لأنه رجل مثقف واسع الاطلاع غزير المعلومات، كثير الأسفار واسع العلاقات؛ يعلي من قيمة العقل الذي يرفض الوثنية ويأباها.

     على أن عمر أبو ريشة لم ينس أن في الكون جانباً من الغيب يقره الإسلام، ويجعله أحد أركان الإيمان، وهذا الغيب مقيد بما جاء في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فليس للبشر فيه نصيب من قريب أو بعيد، وبذلك يبقى في دائرة الصواب فلا تتسرب إليه وثنية أو خرافة أو وهم، خـــلافاً للغيب الذي نراه خارج الدائرة الإسلامية والذي يختلط ما فيه من حق وهو قليل بما فيه من باطل وهو كثير بسبب إضافة البشر إليه.

     وفي قصيدة «محمد» يوظف عمر أبو ريشة الغيب توظيفاً حميداً لا يخالف العقيدة كما نرى ذلك في أبياته التي يصور فيها لجوء النبي الكريم إلى غار حراء ونزول جبريل الأمين عليه ليهتف به «اقرأ» ويخبره بأن الله عز وجل اختاره نبياً كريماً:

وأتى طوده الموشح بالنـــــو     ر وأغفى في ظل غار حراء
وبجفنــيه من جــــلال أمانيـ     ـه طيــوف علويـة الإســراء
وإذا هــاتف يصيح به اقــرأ     فيــدوي الوجـــود بالأصـداء
وإذا في خشــوعه ذلك الأمْـ     ـمِــيُّ، يتلو رسالة الإيحــــاء
وإذا الأرض والسماء شفــاه     تتغنى بسيـــد الأنبيـــــــــــاء

     ونحن في هذا المشهد نلتقي بجبل يتوشح بالنور، ونرى الرسول الكريم ﷺ نائماً في الغار والأطياف السماوية تحيط به، وجبريل الأمين يطلب منه أن يقرأ، فيقرأ وهو الأمي ما نزله إليه ربه، وتتجاوب الأرض والسماء بالثناء على سيد الأنبياء ويبدأ من يومها عهد النبوة السعيد.

     ومن المواقف المتصلة بالغيب والأسرار ما نجده يوم الهجرة حيث تعزم قريش على قتل النبي الكريم ﷺ فيأتيه الصديق خائفاً عليه فيجده هادئاً مبتسماً عليماً بالأمر حيث جاءه الوحي بذلك وأمره بالهجرة فهاجر، وحين أقام مع الصديق في غار «ثور» ووصل إليه المشركون وكان بوسع أحدهم أن يراهمــا لو نظر إلى الغار من موقـــع قدميه؛ خاف الصديق فقال له الرسول الكريم مستشعراً عظمة الله تعالى ورعايته لهما: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما!؟». وقد وفق عمر أبو ريشة توفيقاً بعيداً في تصوير هذا الموقف:

جمعت شملها قريش وسلـــــت     للأذى كل صعـــــــــدة سمـراء
وأرادت أن تنقذ البغي مـن أحـ     ـمد في جنح ليلـــــــــــة ليـــلاء
فأتاه الصديق منخـــلـــع اللـــبْ     بِ مثاراً بأفــــــــدح الأنبــــــاء
فتلقــاه أحمـــد بــاســم الثغــــــ     ــر عليماً بما انطوى في الخفاء
أمر الوحي أن يحـــــــث خطاه     في الدجى للمدينـــــة الزهــراء
وأقاما في الغــــار والملأ العلــ     ـــوي، يرنو إليهمــــا بالرعـاء
وقفت دونه قريـــش حيــــارى     وتنزت جريحـــــــة الكبريـــاء
وانثنـت والرياح تجـأر والرمــ     ـــل نثير في الأوجـه الربـــداء

     وعناصر الغيب واضحة في المشهد، وخاتمة المشهد تزيدها قوة إذ نرى الرياح بأمر ربها عوناً للمهاجرين الكريمين تقف في صفهما ضد الأعداء، ولو أضاف الشاعر إلى ذلك الروايات التي تذكر الحمامة التي سكنت في مدخل الغار والعنكبوت الذي نسج خيوطه عليه لزادت العناصر الغيبية قوة وجمالاً وتأثيراً، ولاستفادت بالذات من الطرافة التي تأتي من تسخير حيوانات لا تعي لصرف أنظار العدو عن المهاجر الكريم وصاحبه.

     ومنها دعاء النبي الكريم ﷺ يوم بدر حيث كان يقود المعركة وهو شاعر بأهمية العصابة التي يقودها في مسيرة حركة التوحيد. فدعا وألح في الدعاء وفي عينيه الكريمتين طيوف الأمل، وفي يديه الكريمتين حفنة من رمال يلقيها في وجوه المشركين قائلاً: «شاهت الوجوه»، فتقشعر الأرض من رهبة الموقف:

وعيــون النـــبي شـــاخصة تـــر     قـص، في هدبها طيـوف الرجـاء
ودنت منه عصبة الإثم والمــــــو     ت، على راحهــــــا ذبيـــح عيـاء
فرماهــــــا بحفنــة مــــن رمــال     ورنــــــا ثـائــر المنى للعـــــــلاء
ودعا «شــــاهت الوجوه» فيا أر     ضُ اقشعري على اختلاج الدعاء

     ومن هذه المواقف المتصلة بالغيب ذلك الموقف الذي يصور فيه عمر أبو ريشة معركة أحد، وقد حقق خالد النصر فيها لذويه على المسلمين، ومضى صوب الرسول الكريم ﷺ يريد أن يقتله فإذا به يشعر بقوة خفية تحول دون ذلك: فرسه يكبو، وقدماه لا تنطلقان، ويداه تخذلانه حين يجرد سيفه. لقد سمرته هذه القوة الخفية وحالت بينه وبين ما يريد، فلا غرابة أن وقع في قلبه إحساس رباني بأن هذا الرجل الذي يريد قتله محفوظ يصونه قدر الله، ويرعاه قضاؤه، ويكون هذا الإحساس الرباني الخيط الأول الذي يدفع بخالد إلى الهداية:

دفع المهر مغضبـاً فكبا المهــــ     ــــر أمام النـبي بعــــد حــران
فانتضى سيـــفه وهم فلــم يقـــ     ــو، ولم تنطــــلق لـه قدمــــان
فارتضى بالسجــال وارتد حرَّا    ن، وفي النفس هاجس رحماني

(٥) والسمة الملحمية الخامسة التي نجدها عند عمر أبو ريشة هي وصف المعارك الذي يعد معلماً أساسياً من معالم الشعر الملحمي. إن تصوير المعارك ووصف البطولات والإشادة بالشجعان الذين لا يرهبون موتاً ولا ظلماً، أمر محبب إلى النفس الإنسانية التي تتوق بفطرتها إلى الحرية والعدل والحق، فإذا عجزت أن تحقق ذلك بنفسها سرت به وهو يتحقق على أيدي الأبطال الذين تروي الملاحم ما صنعوه منها، فترى فيهم أحلامها وآمالها، وتفرح لانتصارهم، وتحزن لإخفاقهم.

     وفي قصيدتي عمر «خالد» و«محمد» من الحديث عن المعارك ووصفها والإشادة بالبطولة والتغني بالإقدام، وإعلاء قيمة الشجاعة، وتصوير الصراع بين الخير والشر، والفرح بانتصار الخير، ما يوثق الصلة بين هاتين القصيدتين وبين الشعر الملحمي. وقد سبق أن مر بنا رأي الدكتور زكي المحاسني وهو «أن كل شعــر طال أو قصر إذا وصفت فيه المعارك، وسردت فيه أخبار البطولة، ورويت فيه ملاحمات الجهاد، هو من شعر الملاحم»[53].

     في قصيدة «خالد» يقدم لنا عمر أبو ريشة وصفاً لمعركتين، كان النصر فيهما حليفاً للبطل، الأولى: في معركة أحد قبل إسلام خالد حيث نرى ذوائب مخزوم التي ينتمي إليها البطل غاضبة زائغة الحلوم تستعد لقتال محمد ﷺ لعلها تدرك منه ثأر هزيمتها يوم بدر، وتدور المعركة في أحد، ويطغى الهول، وينتصر المسلمون في البداية، ثم يخسرون في النهاية لعصيانهم أوامر نبيهم وقائدهم ﷺ، وكان البطل المخزومي أبرز الفرسان الذين ساقوا النصر لقريش:

وإذا المشــــركون عاصفة هو     جــاء تدمي جوانب الميــــدان
وفتــــاهم ذاك المطوح بالهـــا     م، مثير الإعجاب في الفرسان

     أما الثانية: فهي في معركة اليرموك، حيث أسلم البطل وتفانى في الجهاد وكأنه يريد أن يكفر عما كان منه يوم أحد. وقبل أن يدخل الشاعر في وصف معركة اليرموك يخبرنا عن خالد أنه البطل المتثني بوشاح أرجواني، الذي تزغرد الانتصارات له، والذي يمعن في شرق الأرض وغربها مجاهداً صادقاً، تتوالى الفتوح بين يديه، ويقترن باسمه الظفر، فحيثما حل علا صوت الأذان، وبنيت المساجد، ورفرفت راية التوحيد. لكن الشاعر يشير إلى عقبة في طريق هذا الموكب المتواصل من الظفر وهي الروم الذين يعترضون طريق الرسالة الجديدة ويحشدون قوتهم لمحاربتها فلا بد لخالد إذن من مواجهتهم بالأبطال الذين استوى عندهم الموت والحياة:

وبدا الروم في ضـلال مناهم     شوكة فــــي معاقد الأجفـــان
فأتاهم بحفنــة من رجـــــــال     عندها المجـــد والردى سيان

     وتدور المعركة بين الروم والمؤمنين حاسمة عنيفة، فينتصر الإيمان، ويحمر وجه الأرض من دماء القتلى، ويمضي نهر اليرموك إلى غايته وهو يحمل الجثث الهامدة بعد أن صار قبراً لها:

ورماهـــم بهـــا وما هــــــي إلا     جولــــة فالتراب أحمر قـــــــان
وضلوع اليرموك تجري نعوشاً     حامـــــلات هوامــــد الأبــــدان

     أما قصيدة «محمد» فيقدم لنا فيها عمر أبو ريشة وصفاً حيا لمعركة بدر، نتعرف فيه على غيظ قريش وزهوها، وحشدها جيشاً لجباً لمحاربة الإسلام، وغرورها الذي يجعلها تسخر من المسلمين وجيشهم الضئيل بالقياس إلى جيشها، وروح التحدي التي تجعلها تطالب الأكفاء اللائقـــين بمبارزة أبطالها في القتال الفردي الذي يسبق القتال العام، ومصرع هؤلاء على أيدي أبطال المسلمين وعنف المعركة التي يطغى فيها الهول ويلتقي الند بالند، والهزيمة التي تحيق بقريش، والنصر الذي يصنعه الله عز وجل للإسلام والمسلمين في بدر:

وقريش في جيشها اللجب تسعى     بين وهج القنا وزهــو الحـــــداء
بلغت منحنى القليـــــب ولفــــت     من عليه ببسمــة استهـــــــــزاء
وأرادت أكفـــــــــــاءها فتلقـــــا     ها علــــــــي ذؤابــــة الأكفــــاء
جز بالسيف عنــق شيبة وارتــدْ     دَ إلى صحبه خضيــب الـــرداء
فطغى الهول والتقى النـد بالنـدء     دِ وماجا فـــي لجـــة هوجــــــاء
قضي الأمر يا قريش فســــيري     للحمى واندبي على الأشــــــلاء
يوم بدر يوم أغــر علـــــى الأيـْ     ـيَـام باق إن شئت أو لم تشائـــي
ركز الله فيــــــــــه أسمــى لـواء     وجثا الخلد تحـت ذاك اللــــــواء

     إن هذا الوصف للمعركة يذكر المرء بأبطال الإلياذة مثل: أخيل وهكتور وإينياس وهم في مواقف بطولية نادرة وشجاعة تأسر القارئ، ويضفي على القصيدة جواً ملحمياً أخاذاً. ولذلك قرر الدكتور محمد فتوح أحمد أن ما عمله هوميروس وعمر أبو ريشة من تصوير النموذج البطولي تصويراً يرتقي فوق مرتبة البشر، لم يكن محض مصادفة لأن كلاً منهما كان يصور تجربة ذات عبق ملحمي واضح[54].

(6) والسمة الملحمية السادسة في قصيدتي عمر أبو ريشة هي البناء القصصي، فمن المعلوم المقرر أن الشعر الملحمي يعنى كثيراً بالجانب القصصي الذي يأسر ألباب الناس وهم يستمعون إلى وقائعه المثيرة، وقد زينها الخيال والخارقة والمبالغة والأسطورة. وقد عني أبو ريشة بالسرد الروائي في قصيدتيه مع فارق كبير بينه وبين هوميروس، فهوميروس يطيل ويفصل ويلاحق الجزئيات ويتابع كل واقعة من بدئها حتى نهايتها، أما عمر فيستغني عن ذلك بسرد «انتقائي» يختار فيه موقفاً حياً، أو واقعة غنية ذات دلالة، أو مشهداً ذا ظلال وإيحاء، ويتحاشى السرد التقريري التسجيلي المفصل. وربما كان ذلك من عمر وعياً بطبيعة العصر الذي لم يعد يطيق بالضرورة ذوق عصر قديم. وربما كان أثراً من آثار الشعر العربي القديم الذي يميل بطبيعته إلى الإيجاز، وربما كان أثراً من آثار المذهب الرمزي الذي يجنح إلى الإيحاء، ويتحاشى التصريح، ويكتفي باللمحة المؤدية الدالة بدلاً من متابعة الدقائق والتفاصيل والجزئيات وحشدها.

     ففي قصيدته خالد لم يقف عمر أبو ريشة عند نشأة البطل وظروفه الأولى وطفولته، بل قفز قفزة بعيدة لنرى فيها بني مخزوم وهم ذوو البطل يستعدون لمعركة أحد، ولنرى البطل يشارك في المعركة فارساً متميزاً يحقق النصر لقومه، ويهاجم الرسول الكريم ﷺ فلا يقدر، وينشأ من جراء ذلك الخيط الأول لهدايته. ثم يقفز الشاعر مرة أخرى قفزة بعيدة يتجاوز فيها وقائع كثيرة ويضعنا في إطار معركة اليرموك والنصر الساحق الذي حققه المسلمون، ثم يشير إلى الموقف النبيل لخالد وهو يتلقى أمر العزل ويقاتل تحت إمرة الجراح راضياً متفانياً في سبيل المبدأ الغالي الذي جعل الجهاد من أجله هدفه الأعلى في الحياة. وهكذا اكتفى عمر أبو ريشة بهذه اللمحات المضيئة المتفوقة في حياة خالد عن التفاصيل الكثيرة التي تزدحم بها حياته الملأى بالأحداث والوقائع. ولعل الموقف الذي كان يجدر بالشاعر أن يضيفه إلى قصيدته هو وفاة خالد، فهو مشهد حي مؤثر، فيه تفوق وإثارة وروعة وفيه خاتمة حزينة مأساوية للبطل الذي يموت حتف أنفه، مع توقه الشديد للشهادة، ومع المعارك الكثيرة التي خاضها، ولو فعل ذلك لأغنى قصيدته وارتفع بها.

     وفي قصيدة «محمد» يميل الشاعر إلى السرد القصصي ميلاً واضحاً يزيد كثيراً على ما وجدناه في قصيدة «خالد»، فنحن نرى المولد الشريف الذي يجعل أقيال بني هاشم في سعادة وحبور، ونرى أبا طالب يقدم الأضاحي شكراً وابتهاجاً، ونرى الطفل الكريم في ديار بني سعد مع مرضعته وحاضنته، ونراه يعاني من موت أمه كما عانى من قبل من موت أبيه، ونرى شبابه العفيف المترفع عن لهو أترابه، ونرى عزلته في غار حراء ونزول الوحي عليه، ونرى الهجرة بظروفها وأحداثها المثيرة، ونرى المدينة المنورة سعيدة بالمهاجر الكريم، ونرى معركة بدر بمقدماتها وأحداثها ونتائجها، ونرى الفتح الذي تطهر فيه الكعبة المشرفة من الأصنام.

     لم يذكر عمر أبو ريشة بطبيعة الحال كل أحداث السيرة الشريفة، ولكنه اختار منها طائفة أحسن انتقاءها، وسردها سرداً قصصياً ملفعاً بالخيال والجمال دون مبالغة أو أسطورة أو خرافة، وبذلك اقتربت قصيدته من أصول الشعر الملحمي، واكتسبت سمة مهمة من سماته، وحققت قدراً كبيراً من المتعة الأدبية، وارتفعت درجات في مضمار الجلال والجمال، جلال القصص الشائق الواقعي، وجمال التصوير الحي البديع، وتجاوزت كثيراً من جوانب القصور التي عابت من سبقه، وحققت وحدة متجانسة نفسياً وشعورياً هيأت لعمله نوعاً من التفرد والامتياز.
❊❊❊

     هذا وإن لعمر أبو ريشة قدراً جيداً من القصائد، فيه سمات من الشعر الملحمي تتفاوت وتتناوب بدرجات مختلفة، من حيث: الإشادة بالبطولة، ومتانة الصياغة، وسطوة الألفاظ، وجلال المعاني، وحفز الهمم، وإشاعة الأمل، ووصف المعارك، واتقاد الحماسة، وقوة الموسيقى، وطول النص، والوجدان الجمعي، والعرض الشيق، والتصوير القصصي، قالها في مراحل عمره المختلفة، في شبابه، وفي كهولته، وفي شيخوخته، وهي من أجمل شعره وأفضله، وأجدره بالبقاء.

     واستعراض هذه القصائد يقود إلى النتائج التي خرجنا بها من قصيدتيه الشهيرتين «خالد» و«محمد» لذلك نكتفي بالإشارة إليها، وهي:

❊ قصيدته في المتنبي «شاعر وشاعر» التي قالها في عام 1935م، وتقع في ثلاثة وتسعين بيتاً، ومطلعها:

شاخص الطرف في رحاب الفضاء
               فـــوق طــــود عالي المناكــــب ناء

❊ قصيدته «قيود» التي قالها في ذكرى إبراهيم هنانو في عام 1937م، وتقع في أربعة وأربعين بيتاً، ومطلعها:

وطن عليـه من الزمان وقار     النور ملء شعابــــــه والنار

❊ قصيدته «شهيد» التي قالها في رثاء سعيد العاص في عام 1937م، وتقع في خمسة وستين بيتاً، ومطلعها:

نام في غيب الزمــــان الماحي     جبل المجد والنــــدى والسماح

❊ قصيدته «يا عوادي» التي قالها في رثاء الملك غازي في عام 1939م، وتقع في ستة وسبعين بيتاً، ومطلعها:

شهقة في الدجى وراء البـــوادي
               روعت خاطر الضحى المتهادي

❊ قصيدته «هذه أمتي» التي قالها إثر خروجه من السجن في عام 1945م، وتقع في اثنين وستين بيتاً، ومطلعها:

ما صحا بعد من خمار زمانه     فليرفه بالشــــدو عن أشجانه

❊ قصيدته «يا رمل» التي قالها في عام 1945م، وتقع في خمسين بيتاً، ومطلعها:

يا رمل ما تعب الحـادي ولا سئما
               ولا شكا في غوايات السراب ظما

❊ قصيدته «بلادي» التي قالها في رثاء سعد الله الجابري في عام 1947م، وتقع في سبعة وسبعين بيتاً، ومطلعها:

هيكل الخلد لا عدتك الغوادي     أنت إرث الأمجــــاد للأمجاد

❊ قصيدته «عرس المجد» التي قالها ابتهاجاً باستقلال سورية في عام 1947م، وتقع في تسعة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

يا عروس المجد تيهي واسحبي     في مغانينا ذيــــــول الشهـــــب

❊ قصيدته في رثاء عدنان المالكي التي قالها في عام 1955م، وتقع في ثمانية وستين بيتاً، ومطلعها:

لا تحل بين جرحـه وضماده     
وترفق إن كنـــت من عـواده

❊ قصيدته «حكاية سمار» التي قالها في حفل تكريم الأخطل الصغير في عام 1961م، وتقع في ثلاثة وثمانين بيتاً، ومطلعها:

هل في لقائك للخيــال الزائر     إغضاء سال أم تلفـــت ذاكر

❊ قصيدته «الفارس» التي قالها في رثاء إميل البستاني في عام 1963م، وتقع في ثلاثة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

كيف يرتد عن مداه مـراده     وعلى ملعب الخلود طراده

❊ قصيدته «بنات الشاعر» التي قالها في رثاء الأخطل الصغير في عام 1969م، وتقع في أربعة وخمسين بيتاً، ومطلعها:

نديك السمح لم يخنـق لـــه وتر     ولم يغب عن حواشي ليله سمر

❊ قصيدته «من ناداني» التي ألقاها في موسم الحج في عام 1972م، وتقع في ثلاثة وستين بيتاً، ومطلعها:

رد لي ما استرد مني زماني     فأراني ما الحلــم كان أراني

❊ قصيدته «أنا في مكة» التي ألقاها في موسم الحج في عام 1974م، وتقع في مئة بيت وبيتين، ومطلعها:

لم تزالي على ممـــــر الليالي     موئل الحق يا عروس الرمال

❊ قصيدته «أمرك يا رب» التي قالها في رثاء الملك فيصل بن عبد العزيز في عام 1975م، وتقع في اثنين وخمسين بيتاً، ومطلعها:

يا رب أمرك هذا لا أطيق له      رداً فأمرك يا ربـــي تولاني
❊❊❊

     وبعد: فإن بوسع الدارس أن يقرر أن لعمر أبو ريشة جهداً متميزاً في الشعر الملحمي، ومحاولة جادة مشكورة. صحيح أنه لم يتابع النموذج اليوناني متابعة دقيقة ولكنه حسناً فعل، فذلك النموذج لا يناسب العصر أولاً، ولا يناسب أبطال الشاعر وهو مسلم وهم مسلمون ثانياً. ولعل من الحكمة والإنصاف أن ندرك ما يلائم العصر والظرف والشاعر وأبطاله، في أي عمل ملحمي إدراكاً يوسع أمامنا دائرة الاختيار والتطوير، بحيث يكون لكل عصر وشاعر نوع خاص لملحمته، يعبر فيه عما يريد ويوصل للمتلقي الرسالة التي يريد.

     ولا يسع الإنسان المنصف إلا أن يشيد بشعر عمر أبو ريشة الملحمي، ويراه نسيجاً متفرداً عبر فيه عما أراد، واختار له الأسلوب الذي أراد، ووظفه توظيفاً إيجابياً لصالح دينه وأمته وبلاده، فذكر بالأمجاد، وأشاد بالبطولة، وأعلى من مكانة الإيمان، وحفز الهمم، وحارب العجز، وقارع البغي والطغيان، ودعا إلى بناء الغد على هدي الأمس، فكان شاعراً ذا رسالة كريمة، وهموم إسلامية وقومية ووطنية عامة، وكان مناضلاً ضد الاستعمار، وكان لسان صدق، وكان داعياً للجهاد، وكان حادياً للأمة، وكان رائداً لا يكذب أهله وكان بشيراً ونذيراً.
❊❊❊

-------------
[1] انظر: جورج غريب في كتابيه: "الشعر الملحمي تاريخه وأعلامه"، بيروت، دار الثقافة، 1985م، ص8. وسليمان البستاني في مقدمة الإلياذة" ص54.
[2] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[3] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص26-27.
[4] شوقي شاعر العصر الحديث، القاهرة، دار المعارف، ص54.
[5] عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص321.
[6] البارودي رائد الشعر الحديث، ط3، القاهرة، دار المعارف، ص93.
[7] شوقي شاعر العصر الحديث، ص26.
[8] بلابل من الشرق، ص60.
[9] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1985م، ص12.
[10] أعلام الشعر العربي الحديث، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، 1970م، ص53.
[11] شوقي أو صداقة أربعين عاماً، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1936م، ص22.
[12] شوقي شعره الإسلامي، ط2، القاهرة، دار المعارف، ص170.
[13] في أصول الأدب، ص176.
[14] شعر شوقي الغنائي والمسرحي، ص56.
[15] شوقي شاعر العصر الحديث، ص54.
[16] حلمي محمد القاعود، القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص، ص11.
[17] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص44-57.
[18] تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، ص285-287.
[19] قضايا الشعر المعاصر، ص308.
[20] بلابل من الشرق، ص180.
[21] الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص199.
[22] قضايا الشعر المعاصر، ص343.
[23] الشعر والشعراء في العراق، بيروت، دار المعارف، 1959م، ص51.
[24] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص280.
[25] بلابل من الشرق، ص147.
[26] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص167.
[27] ديوان الخليل، 3/51.
[28] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص138.
[29] الأدب الحديث بين عدالة الموضوعية وجناية التطرف، ص263.
[30] خليل مطران شاعر الأقطار العربية، القاهرة، دار المعارف، ص146.
[31] الشعر القصصي، القاهرة، دار النهضة المصرية، 1980م، ص115.
[32] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[33] في أصول الأدب، ص350.
[34] الأدب العربي المعاصر في سورية، ص385.
[35] فن الشعر، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص8-9.
[36] الأدب وفنونه، القاهرة، دار نهضة مصر، 1974م، ص55.
[37] الشعر المصري بعد شوقي، 2/29.
[38] الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ص74.
[39] واقع القصيدة العربية، ط1، القاهرة، دار المعارف، 1984م، ص88.
[40] محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث، ط1، المنصورة، دار الوفاء، 1408هـ/ 1987م، ص384-385.
[41] المرجع السابق، ص523-524.
[42] المرجع السابق، ص521-522.
[43] قضايا في الأدب والنقد رؤية عربية وقفة خليجية، ص93-94.
[44] المرجع السابق، ص97.
[45] المرجع السابق، ص125.
[46] حلمي محمد القاعود، محمد صلى الله عليه وسلم في الشعر الحديث، ص385.
[47] المرجع السابق، ص385-386.
[48] المرجع السابق، ص524.
[49] المرجع السابق، ص524.
[50] المرجع السابق، ص183.
[51] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ= مايو 1978م.
[52] عنوان المقال: التبشير الإسلامي وأثره في بلاد الغرب، وقد نشرته مجلة الجهاد الحلبية، في 6 مارس 1932م.
[53] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ص23.
[54] واقع القصيدة العربية، ص89.

الأكثر مشاهدة