السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - شعره الإسلامي

شعره الإسلامي

أحبَّ الإسلام، وقال فيه أروع القصائد.

     نشأ عمر في بيئة توقر الدين وتعليه، وتعتز بالإسلام وما يتصل به اعتزاراً كبيراً، لذلك احتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والتاريخ الإسلامي وأبطاله العظام مكانة عظيمة في نفسه، وقد عمق هذا التوجه عنده النشأة الصوفية الأولى التي عاشها في عكا في رحاب أخواله حيث كان يستمع ويشارك بلذة عظيمة في الأناشيد التي كانوا يرددونها في مجالسهم، وقد سكنت هذه الأناشيد سويداء قلبه لذلك وجدناه يتحدث عنها بشغف وسرور بالغين، وهو في أواخر عمره مع امتداد الزمان، وتطاول العهد واختلاف الظروف.

     وهكذا يصح القول: إن عمر نشأ على ولاء طيب للإسلام كان يزيد مرة ويضعف أخرى لكنه يظل ثابتاً. ويلاحظ أنه خلال دراسته في بريطانيا «1929 - 1932م» كتب مقالاً مشكوراً يدافع فيه عن الإسلام. لقد كان شاباً في مقتبل شبابه مشغولاً بدراسته من ناحية ومشغولاً بالحب والجمال من ناحية أخرى، ومع ذلك لم ينس ولاءه لدينه وغيرته عليه.

     كما يلاحظ أيضاً أن توجه عمر الديني ازداد في أواخر عمره، ولا غرابة في ذلك، فالإنسان مع السن والنضج والإحساس بالاقتراب من الموت يصحح من حياته بما يجعله أكثر التزاماً بدينه الذي آمن به وأحبه. ولقد كان في مقامه في جدة قريباً من الديار المقدسة مؤدياً للحج والعمرة بين الحين والآخر مشاركاً في الاحتفالات السنوية الكبيرة التي جرت العادة على إقامتها كل عام لوفود الحج ما زاد من التزامه هذا وعمقه، وأذكر أني رأيته مرة يسعى هو وزوجته الكريمة بين الصفا والمروة، وهو في سعيه يدعو وينظر ويتأمل ويختزن، فدنوت منه وسلمت عليه، وسألته عن ملحمته الموعودة عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فابتسم ووعد خيراً.

     كانت ثقافته الإسلامية أقل بكثير من حبه للإسلام، وكان في حواره مع نازك باسيلا في مجلة الأسبوع العربي الذي امتد عشر حلقات روى فيها كثيراً من ذكرياته، ما لا يقبله الإسلام في قليل أو كثير، كحديثه عن التقمص والحلول، وتفسيره لما سماه التطهر الروحي الذي يمكن الوصول إليه من خلال التأمل في التماثيل التي تصور مشاهد جنسية فاضحة، رآها في بعض المعابد الهندية إبان سفارته هناك، والمسافة كبيرة بين هذا الكلام الخاطىء المردود وبين ذلك الولاء القديم المحمود.

     أما التزام عمر السلوكي فكان فيه مثل بقية الشعراء المتساهلين، كان بشراً من البشر، وشاعراً من الشعراء، ففيه ضعف البشر العام، وفيه ضعف الشعراء الخاص، كان فيه الذي له وكان فيه الذي عليه، ولقد أنصف من نفسه إنصافاً يحمد له حين قال في مقابلته لنازك باسيلا: أنا في ظلال الله، دائماً في ظلاله، يخيل إلي أحياناً أني حدت عن طريق الله كلما تراكمت على نفسي الخطايا، أنا أحيا على كل حال في رحاب نفس نقية صافية مشبعة بالإيمان، ومثل كل بشر أضعف أحياناً مع أهواء الجسد. كما يحمد له أنه حين سئل عن الإيمان في المقابلة نفسها أجاب: أقول إنه الأقوى، يخيل إلي أنني أتغلب على كل شيء، وحده الإيمان يغلبني.

     وقد شمل هذا الإيمان العميق عمر بسكينة عميقة تغشته وملأته باليقين والصبر والرضا والنظر إلى الدار الآخرة، ولذلك أكد غير مرة أنه لم يعد يخاف الموت، وأكد أيضاً أنه كان كثيراً ما يذهب إلى المقابر يتخلص في جوها من همومه وغمومه.

     ويحسن هنا أن نورد ما قال عمر لنازك في هذا المجال، ففيه طرافة بالغة، وفيه أكثر من دلالة: نظرتي إلى القبور تنبع من نظرتي إلى الموت، الروح لا تفنى، لا تموت، الموت راحة الأجساد لا أكثر ولا أقل. ذكرت سابقاً أنني لا أخاف الموت. وأضيف الآن أنني لا أخاف القبور. أرى أنها لون من ألوان الراحة. كنت وأنا في حلب، أحمل كل ما ينتابني من هم لألقي به بين القبور. هناك، وبطريقة محسوسة كلياً يتجسد في نظري «أن كل شيء في الأرض باطل»، فلطالما ارتاحت نفسي إلى سكينة منازل الأموات، كلما أعياها الضجيج المنبعث من منازل الأحياء.

     تعودت الذهاب إلى القبور للترويح عن النفس، كما يذهب الناس لهذه الغاية إلى المقاهي ودور السينما. وكانت زوجتي ترافقني أحياناً رغم خوفها المكتوم، إلى هذه الخلوات التي طالما خيل إلي أنها نوع من الهروب إلى العالم الآخر. أجلس صامتاً لا أتكلم، وتجلس منيرة قربي تشاركني الصمت الطويل. أظن أنها كانت طوال هذه الجلسات تحاول التغلب على مشاعر الخوف. منذ زمن غير بعيد، اعترفت لي بحقيقة ما كان ينتابها يومئذ.

     عبثاً كان الأصدقاء يحاولون العثور علي، وأنا سابح في تلك الخلوات المشبعة بالصفاء. كنت أشعر بأنني في معزل عن كل ما يبلغ إليه البشر بدافع الفضول، حتى قدر لي ذات ليلة أن أقع في شرك الصدفة. لا أنسى ما حييت تلك الليلة المظلمة التي ذهبت فيها برفقة منيرة إلى مقابر الأنصاري الواقعة على طريق وعرة خارج حلب. جلسنا صامتين كالعادة ساعة، ساعتين أو أكثر، الوقت ينزلق عني، يتناثر حولي، لا أشعر به، لا أتحسسه على الإطلاق، أسترسل في شرود يشبه الذهول. وإذا بأضواء كشافة تسلط علينا، وتصحبها أصوات تنادي وتصرخ، وأخرى تصدر الأوامر. فانتفضنا واقفين، وكان رجال الشرطة قد أحاطوا بنا، كدنا نتعرض لنيران مسدساتهم، لو لم يلطف الله سبحانه وتعالى فيتعرف إلينا بعضهم. كان بإمكانهم أن يقتادونا مخفورين إلى التحقيق وربما إلى السجن، وسرعان ما اتضح لي أن هؤلاء الرجال يراقبون المنطقة، بإيعاز من رجال الجمارك الذين نصبوا هناك كميناً لشاحنة تحمل السجائر المهربة.

     ما زلت أشعر بأن المقابر، دون سواها تسري عني، تريحني كلما أرهقتني أثقال الحياة، أما مقبرة الأنصاري فلها عندي مكانة هامة. فيها ضريحا سعدالله الجابري وإبراهيم هنانو، وغيرهما من ذوي الطينة الخيرة المجبولة بماء الزهر ودماء الرجولة.
❊❊❊

     وأول ما ينبغي الإشارة إليه والإشادة به من شعر عمر الإسلامي أربع مطولات، هي «خالد» و«محمد» و«من ناداني» و«أنا في مكة». والأولى والثانية ترجعان إلى أيام شبابه، والثالثة والرابعة ترجعان إلى أيام كهولته ونضجه.

     ولنبدأ بالحديث عن المطولتين الأولى التي ترجع إلى عام 1938م ومطلعها:

لا تنامي يا راويات الزمان     فهو لولاك موجة من دخان

     والثانية التي ترجع إلى عام 1941م ومطلعها:

أيُّ نجوى مخضلة النعماء     رددتها حنـ،اجر الصحراء

     ويلاحظ أن الثانية منها حظيت بشهرة خاصة لأنه أنشدها كثيراً في المحافل الكبيرة، ولأنه أكد عدة مرات أنها جزء من ملحمة طويلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مقدمة لها.

     وفي المطولتين أكثر من وشيجة تربطهما بشعر الملاحم لذلك اتسع الحديث عنهما هناك وطال، ولكن لابد من وقفة وجيزة إزاءهما لأنهما علامتان متميزتان في شعر عمر الإسلامي.

     في المطولة الأولى تصوير لسيرة الفاتح المسلم الشهير خالد بن الوليد، وما كان منه في معركة أحد قبل إسلامه من بلاء سبب الهزيمة للمسلمين، وما كان منه من جهاد مشكور بعد إسلامه في حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهو جهاد نادر المثال كتب الله عز وجل له فيه انتصارات باهرة جعلته أحدوثة عصره، وأحدوثة كل عصر بعده.

     وفي الثانية تصوير لفجر الرسالة، وفرح الكون بها، وتأريخ غير سردي لحياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ مولده حتى وفاته، وتصوير لحركة الفتح الإسلامي التي تملأ الأرض عدلاً وهداية، وأملاً في أن تعود الأمة إلى سالف مجدها الذي بناه لها صاحب الرسالة العظيم.

     أما مطولتا عمر الثالثة «من ناداني» والرابعة «أنا في مكة» فهما من شعره الإسلامي في مرحلة كهولته ونضجه.

     تبدأ المطولة الثالثة التي تقع في ثلاثة وستين بيتاً بهذا المطلع:

رد لي ما استرد مني زماني     فأراني ما الحــلم كان أراني

     ثم تمضي في تصوير سعادة الشاعر الذي يجد نفسه في الرحاب الطاهرة حاجاً داعياً يجدد إيمانه ويرقب جموع الحجاج القادمة من كل مكان، ثم تبدأ باسترجاع ذكريات التاريخ من ولادة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وفرح ذويه به، وبشارة بحيرا، وبدء الوحي في حراء، والصراع بين الإسلام والوثنية، وفتح مكة المكرمة، وحجة الوداع، ووفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحركة الفتح الإسلامي.

     يعود الشاعر بعد ذلك إلى مناجاة ربه عز وجل طالباً منه الرحمة والمغفرة لما فيه من أخطاء وتقصير، ثم ينتقل إلى تصوير حالة الأمة بعد أن هجرت دينها، وأخذت تخبط في التيه والجاهلية.

     وتنتهي أخيراً بمقطع من سبعة أبيات يوجهه الشاعر إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز طالباً منه أن يهب لنجدة الأمة التي علقت آمالها عليه.

     وبهذا تشبه المطولة أختها التالية فلا حاجة لا ستقصائها بالتفصيل الذي ستحظى به هذه الأخت للتماثل الذي يكاد يصل حد التطابق أحياناً.

     والفرق بين المطولتين أن الرابعة بنيت على مقاطع يتلو بعضها بعضاً خلافاً للثالثة، هذا من حيث البناء الشعري. وهناك فرق آخر من حيث زمان كل منهما،. إن الفرق الزماني بينهما قليل لكنه مهم، فالمطولة الثالثة تعود إلى مناخ المرارة الذي كان سائداً بعد هزيمة 1967م، فقد قيلت عام 1972م والجرح لايزال غائراً، فكان حجم المرارة فيها أشد، أما المطولة الرابعة فقد قيلت بعد انتصار عام 1973م فكان حجم الأمل فيها أكبر.

     ويلاحظ أن المطولتين تنتهيان بخطاب الشاعر للملك فيصل، ومرد ذلك إلى أنه ألقاهما بين يديه في احتفال كبير، وإلى أن الملك مثل أحلام الشاعر وآماله حيث وجده الفارس المنشود لقيادة الأمة وريادتها.

     أما مطولة عمر الرابعة «أنا في مكة» فهي كما سبق القول من شعره الإسلامي في مرحلة كهولته ونضجه وتقع في مئة بيت وبيتين، وتتكون من ثلاثة عشر مقطعاً يركز الشاعر في كل واحد منها عدسته على مشهد متكامل، وتستحق وقفة طويلة.

     يبدأ المقطع الأول وتبدأ به القصيدة بمناجاة مكة المكرمة التي يجد الشاعر نفسه في رحابها مبتهلاً تائباً سعيداً بنفحات الإيمان:

لم تـــزالي على ممرّ الليـــالي     موئل الحق يا عروس الرمـال
أنا في خدرك الوضيء التفـاتا     ت ذهول وهيـــنمات ابتـــهال
طالعتني فيه الحيـــــاة بأسـنى     ما تجر الحيــــاة من أذيــــــال
فتلمّســـت في خشــوع مكـاني     ثم شيعــــت في هداه ضــلالي

     ثم تتوالى تسعة مقاطع، كل مقطع يبدأ بهذه الكلمات الثلاث «أنا في مكة» لتكون كأنها اللازمة الثابتة المتكررة على الأذن بالسماع، وعلى العين بالنظر، والمنطلق الذي تبحر منه عدسة الشاعر عبر القرون ليقدم لنا المشهد الذي يريد. والمشهد الذي يقدمه لنا المقطع الثاني هو نشأة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يتيماً في ظروف صعبة:

أنا في مكة وتمضي رؤاي القهقرى في مواكب الأجيال
ما أرى إنه لربــع بن عبد الله، ربع الإعســـار والإقلال
عـــاد يأوي إليه ما أَوْجَعها! .. عودة اليتــــيم الغـــــالي

     ثم يمضي المشهد فنرى آمنة بنت وهب، وأبا طالب بن عبدالمطلب، وينتهي مع بحيرا وهو ينشر البشرى بنبوة اليتيم الكريم.

     المقطع الثالث يقدم لنا حكاية الحجر الأسود والفتنة التي كادت تنشب بين زعماء قريش لولا أن أطفأها محمد صلى الله عليه وسلم بحكمته:

أنــا في مكة وأسمع في الكعبة ضوضــــاء سادة أقيـــال
إنهم غاضبون والحجر الأســود ما بينهم قريب المنـــال

     وحين تحل المشكلة ينظر الجميع إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإكبار والإعجاب:

وحنـــوا للأمين زين الميامين رؤوس الإكبار والإجلال

     المقطع الرابع يصور لنا غار حراء، ونزول الوحي الأمين، وبدء النبوة المطهرة:

أنـــا في مكة وغار حراء كوكب في جبيــنها متـــــلالي
همسة في سماع أحمد قرت وهو ذاك الأمي ذاك المثالي
فــــإذا مشعل النبـــوة ما بين يديه ينيــــــر دهم الليـــالي

     في المقطع الخامس نلقى أنفسنا في دار أبي سفيان، وملأ قريش يأتمرون بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يريدون منعه من الهجرة وقتله:

أنـــا في مكة ودار أبي سفيــــان حبلى بالطغمة الجهــال

     لكنهم يخيبون وتكون الهجرة، ويطل على يثرب فجر السعادة، إذ تكون دار الإسلام الأولى:

وأفـــاقت على صبـــاح جديد ملء آفــــاقه أذان بـــــلال

     في المقطع السادس ترجع عدسة الشاعر إلى الوراء، ترجع خطوة إلى ما قبل الهجرة حيث الصراع على أشده بين الإسلام والوثنية، وهو صراع يشفق فيه أبو طالب على نفسه وعشيرته من أذى قريش فيسر للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك فتكون إجابته الربانية العظيمة: «والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»:

أنــا في مكة وأحمد يبــــدو مثقــــل الخطـــو بالهـــموم الثقــــــــال
وأبـو طــــالب إلى جنـــــبه يســعى وفيــــه ما فيــــه من بلبــــــال
قـــال: أين انتهيت يا ابن أخي ال أغلى فخوفي عليك فوق احتمالي
قـــال: يا عــــم لست أطمع في صــــولة مُلكٍ ولا غوايـــــة مــــال
لو أقاموا شمس الضحى في يميني وأصاروا بدر الدجى في شمالي
لن يروني أطوي رســــالة ربي فامض ياعم وارو فحوى مقــــالي

     في المقطع السابع نجد أنفسنا يوم الفتح، فتح مكة المكرمة، وقريش غاضبة إذ ترى أصنامها محطمة:

أنـا في مكة وحقد قريش في اصطخاب وشملهم في انحلال
تلك أربــــابهم مبعثــرة الأشـــلاء؛ منثـــورة على الأطلال
وحماة الإسلام في الكعبة السمحة؛ شم الأنوف بيض الفعال

     والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعالج الغضب بالتسامح ويأسو الجراح بالحب:

أحمد يكره الجراح وإن سا لت؛ بأدران كل داء عضال
جبلة الحب قلبه كل نبض فيه تسبيـــــح مكرمات غوال

     أما المقطع الثامن فيصور لنا حجة الوداع، وحزن المؤمنين وهم يحسون من خطبة نبيهم الكريم أنه الوداع، وأن الموت غاية كل حي، وأن البقاء للرسالة فقط:

أنا في مكة ورايات دين ال له؛ ملء الربى وملء الجبـــال
والمصلون مطرقون على ره بة؛ هجس مفجـــع الإعـوال
كلمات الوداع فجرها أحمد؛ بين أجفـــــــانهم دموع ابتهال
قاربت شمس عمره شفق العمر؛ ومالت وذيلها في اشتعال
كل حي إلى الزوال وتبـــقى آية الله فــوق طــــوق الزوال

     المقطع التاسع ينقل لنا مشاهد الفتوحات التي خرجت تنشر النور بين الناس:

أنــــا في مكة وتلك سرايا الفتــح فيها في زهوة واختيـــال
عقدت بالشموس هدب أمانيها؛ وسارت على رقاب الليالي
ومنــــار القرآن يهدي خطاها في الدياجي لصالح الأعمال

     في المقطع العاشر يضعنا الشاعر أمام صورة مناقضة لما جاء في المشهد التاسع حيث نجد الضعف يغشى الأمة، فتتقطع الأوصال، ويشيع الضلال، ويرضى الناس بالذل، وتعلو لليهود راية:

أنا في مكة وتنفضُّ رؤيا ي؛ وأصحو على عجيـــب المآل
وأرى ملكها المديد على الأرض؛ بديـداً مقطع الأوصـــال
بعضه هاجع على بدع الكفر؛ وبعض بالضيم غير مبـــال
أين إســــــلامهم ونجمة إسرائيل؛ فيه تدوس خدَّ الهــــلال

     في المقطع الحادي عشر يعود الشاعر لمناجاة مكة المكرمة التي سعد بها:

يا عروس الرمال طاب على نجواك؛ عمري وكل ما بي صفا لي
جئتـــك اليوم نافضـــــاً عن إهابي ما ترامى عـليـــه من أوحـــال
فـــأراني أهلاً لحبــــك لا طرْ فيَ؛ مغض ولا فـــؤادك ســـــــالي

     ثم ينتقل من السعادة الخاصة إلى السعادة العامة، فيصور لها فرح الأمة بانتصارها على اليهود في تشرين من عام 1973م انتصاراً محا عنها حزن هزيمتها في حزيران من عام 1967م:

فض تشرين ما أقام حزيرا ن؛ على دربنا من العـذال
أنا يا مكتي رجعت إلى مع ناك؛ حراً وبالجبين العالي
غضبة الكبرياء والعزة الشماء كانت كريمة الأهـوال
قد شفت مارد العروبة مما حز فيه من القيود الثقـــال

     ويعود الشاعر في المقطع الثاني عشر ليمجد المارد الذي خرج من رحم الأمة يجلو عنها عارها وشنارها، ويستعذب الموت من أجل غايته:

عاد من غيهب النوى ذلك المـــارد، والمجد طيع ومـــــوال
علمتــــه آلامه حرفــــة الموت، وفـــن الإيــــــلام والإذلال
حمل الحقد مارجاً في المهاوي وجلا الثأر نيزكاً في الأعالي
وروى بالدمــــا ثرى طبريا وبنى بالضلوع جسر القنــــــال

     أما المقطع الثالث عشر والأخير فيتجه فيه الشاعر إلى الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كان يسمع منه القصيدة حين ألقاها في مهرجان كبير كان هو راعيه، وهو أطول مقاطع المطولة، إذ يتكون من ثلاثة عشر بيتاً. والأبيات كلها نداء حار يوجهه الشاعر إلى الملك الذي أحبه، والذي مثل في خلده صورة الفارس الذي طالما شغف به ومجده وغنى له، وبحث عنه طويلاً في عصرنا الحاضر فوجده فيه، لذلك يحمله مسؤولية قيادة الأمة لإخراجها من نكبتها وصناعة نصر جديد لها يشبه النصر الذي رفع رأسها في رمضان 1393هـ تشرين 1973م، والذي كان الملك أبرز صانعيه.

     ينادي الشاعر الملك الذي عرف بالحلم والأناة وقلة الكلام وإيثار العمل الصامت:

يا ابن عبد العزيز يا لنــــداء في مداه نــــاديت كل الرجــــــال
طـــال حــــلم الحليــــم طال على كيد العوادي تمرد الأنــــذال
عشت في صمتك المدل على الحرف، غريباً عن كل قيل وقال

     يناديه ليقول له: إنه على موعد مع التاريخ، موعد نادر يتيم المثال، لاخيار له فيه، موعد ينتظر واحدة من المفاجآت التي عرف بها، وهو بذلك جدير لأنه أهل للتحدي:

شئــت أم لم تشأ فأنت مع التاريخ؛ في موعد يتيم المثـــال
الفجاءات في مجالك في الساح؛ وفي راحتيك سر المجال
أنت رنحـت بالعبــــاءة عطفيه؛ وعصَّبت رأسه بعقـــــال
لم تهـــادن ولم تزل تتحدى كل بـــــاغ أو غادر ختــــــال

     وينتهي المقطع وتنتهي معه المطولة بهذا البيت الذي يطالب الشاعر فيه الملك بإنقاذ القدس والصلاة فيها، وهو الحلم النبيل الذي ملك عليه أقطار نفسه:

سر بنا صوبه وصلِّ بنا في القدس واضرب حرامه بالحلال

     والحقيقة أن مطولة الشاعر «أنا في مكة» من أجمل شعره الإسلامي، وقد أضفى عليها تعدد المقاطع والمشاهد جمالاً وحيوية دفعت عنها الرتابة والملل، مثلها مثل (الكاميرا) التي تنتقل بين المناظر المختلفة لتقدم لك الممتع الشائق، على أن هذا التنوع لم يفقد المطولة وحدتها واسترسالها، لقد بدأت بمناجاة مكة المكرمة، وتصوير سعادة الشاعر الذي يجدد إيمانه فيها، ثم توالت لتعرض علينا ظهور النبوة المشرفة وحياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ودعوته وجهاده حتى وفاته، ثم صورت لنا حركة الفتوح الأولى، وأعقبت ذلك بالضعف الذي آلت إليه الأمة، ثم عادت للحديث عن المناخ الذي كان سائداً يوم ألقاها صاحبها، وهو مناخ فيه مرارة موجعة من هزيمة حزيران 1967م، ونشوة غامرة من انتصار تشرين 1973م، ومن بين المرارة والنشوة تنطلق صيحات الإعجاب بالمارد العربي المسلم الذي صنع ما صنع، ومن بينهما أيضاً يركز الشاعر في ختام مطولته على الملك الذي رآه جديراً بأن يكون فارس المرحلة وقائدها، ويركز بالذات على أمنيته الشهيرة وهي أن يصلي في القدس المحررة، فيكون ختاماً مؤدياً موفقاً.
❊❊❊

     ومن طريف الشعر الإسلامي عند عمر أننا نجده يقدم البعثة النبوية الشريفة في صورة أمنية عذراء اشتاق لها الكون وارتقبها، فلما شرفت بها مكة المكرمة كان عرس الكون وعرس الدعوة:

مرت طيوفاً على الدنيا فما غمست
               فيها جنــــاحاً ولا جرت بها قـــدما
حتى إذا طالعتـــها مكة اختــــلجت
               شوقاً وســــالت على أجوائها نعـما
فـــلاح أحمد في أعراس دعوتــــه
               يسـلسل الوحي إن صمتاً وإن كلما
ويسحب المرود الأسنى على مقـل
               ما زادها النـــور إلا ضِــلَّة وعمى
هنـــاءة شقيت هوج النفوس بهــــا
               فعربدت صلفاً واستــكبرت شــمما

     سعد الكون كله بالدعوة الجديدة، وسعد بها الناس، لكن الذين يصرون على الضلال يشقون بها ويستكبرون ويعادونها، فتقوم المعركة بين الحق والباطل، وينادي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهاد، فتكون الاستجابة التي تحطم الأصنام، وتصنع النصر وتنشر النور، ويقبل فرسان العرب وسادتهم مؤمنين مبايعين:

فأرسل الصرخة الزهراء فانطلقت
               كتــــائب الله ترعى البيت والحرما
فما هوى صــــارم إلا رمى عنقــاً
               ولا هوى معــــول إلا رمى صنما
ولا بــدت ســـدة إلا تســـــــنّمهــا
               مؤذن لم يـــدع في مسمع صــمما
فتــــاب من لم يكن بالله معتقـــــداً
               وثــــاب من لم يكن بالله معتصـما
فأقبــــلت سروات العـرب خاشعة
               تجـــلو بإيمانها عن دينــــها التهما

     ثم يكون الفتح المبارك الذي يحمل الدعوة الجديدة إلى العالمين:

والفتـــح يغــــمزها حتى إذا وثبـــت
               لم تبق في الشرك لا عرباً ولا عجما
فـــرف في كل مجلى للهدى عـــــلم
               يظل في كل مجــــلى للفــــدا علمــا
فــازينت بالبنـــــاة الزهر مملكة الـ
               ـعــــدل ما شادها والحق ما دعمـــا

     تصوير حي للبعثة النبوية الشريفة يفيض بالاعتزاز بها وبصاحبها عليه الصلاة والسلام هداية ونوراً وجهاداً وفتوحات، يجعل الأبيات من جوهر الشعر الإسلامي وخالصه.
❊❊❊

     وقد ظلت صورة الفارس العربي الذي أنجبته الصحراء ودفعته للدنيا بطلاً يتشح بالمروءة والنبل والإباء، ثم جاء الإسلام فإذا به يؤمن به أعمق الإيمان وينطلق من أجله مجاهداً يفتح القلوب قبل البلدان، تأسر عمر، وتستبد به، وتملك عليه أقطار نفسه، فمجدها كثيراً، وصورها كثيراً، وبحث عمن يتمثلها الآن ليخرج الأمة من عارها وعجزها، ويعيد لها مكانتها اللائقة بها أمة رسالة وغلبة، وفي شعره الكثير مما يتصل بهذا المعنى ويعبر عنه.

     في قصيدته «هذه أمتي» وهي قصيدة وطنية مجلجلة نجده يتذكر سيف الدولة الحمداني أمير حلب في زمانه، وقد مثل صورة الفارس العربي المسلم الذي أفنى عمره يجاهد الروم، ويذب عن ثغور المسلمين الذين ينظرون إليه بإكبار، ويرددون أناشيد الفخار التي قالها فيه أبو الطيب المتنبي، فيقدمه لنا في هذا المشهد الحي بطلاً مجاهداً شجاعاً يجمع غبار الحروب ليجعل منها وسادة له في قبره تشهد له عند الله عز وجل:

تــلك فتيانها أبـــاح لها المجد؛ ركوب الخطــوب في ميدانه
وأبو الطيـــب التفـــاتة إدلال؛ إلى الصيـد من بني حمــدانه
يخـــلع المجـــد زأرة وهديلاً من مزامير زهــوه وافتتـــانه
وعلى السرج سيف دولته الندب؛ يموج الجهاد في طيلسانه
وغبـــار الحروب تجبله الأيدي؛ وســــاداً يلف في أكفـــانه
هكذا العليـــة الرجـــال فلا صَفق؛ في موطن فؤاد جبــــانه

     ويطوي الشاعر القرون القهقرى، إذ يتذكر بسيف الدولة سلفه العظيم، الفاتح العربي الأول الذي بنى للأمة مجدها أيام الفتوح الأولى حاملاً رسالة القرآن الكريم للناس:

ما انتـهى إرثنا الرفيع ولا سلْ لَت؛ طيوف النبي من قرآنه
يــــا لذكرى تلفت المجـــد ما بين؛ يديها إلى ربيـــع زمانه
يوم هز البَـــدْوي معوله الصــلْدَ؛ وأهوى به على أوثـــانه
والمروءات وهج جبهته السمراء؛ والأمنيات فيض بنــانه
فتهـــاوت على عباءته الدنيا؛ ورفت على صهيل حصـانه
فإذا الشـــرق للعروبة طود تتشظى النجوم فوق رعـــــانه
كل صرح للحق في الأرض باق نحتته العلياء من صوانه

     وفي حرقة محزنة ينظر عمر إلى حال الأمة اليوم، فلا يجد لها من مجدها القديم شيئاً، ويحزن أشد الحزن، إذ ينظر فلا يرى في ساحتها أولئك الفرسان الأبطال بخيولهم وراياتهم وانتصاراتهم يصنعون لها مجدها كما كان يفعل أسلافهم، فيقول في أواخر قصيدته في المتنبي «شاعر وشاعر»:

أين ملك في ظله ترقص النعمى، وتشدو شبـــابة العلياء
أين لمع المنى وحمحمة الخيل، ووهج القنا وخفق اللواء

     وإذ يجد تساؤله الحزين يعود بالخيبة يدركه حزن مقيم، فيعتذر للمتنبي عن ذلك في هذين البيتين اللذين جعلهما ختام قصيدته:

فاعذرَنْ إن سرَتْ خلال نشيـــدي بحة من تفجع وعنـــــاء
كيف أهدي إليك بيض الأغاني وجراح الأيام خلف ردائي

     والحقيقة أن حديث عمر عن الفتح وما يتصل به من بطولة وفروسية ونجدة ووفاء، وعن ارتباط هذا الفتح بالإسلام الذي وهب الفاتحين هويتهم ورسالتهم ووهبوه ولاءهم وحياتهم، حديث كثير يشيع في شعره شيوعاً واسعاً منه هذا النموذج الذي اخترناه له من قصيدته «هذه أمتي»، وهو نموذج بديع من نماذج الشعر الإسلامي عنده وعند سواه.

     وإذا كنا نجد في وطنيات عمر أقباساً من الشعر الإسلامي، فإننا نجد في إسلامياته أقباساً من الشعر الوطني، ولا غرابة في ذلك، فالدين والوطنية يتداخلان ويتواصلان، والدين هو الذي منح الوطن مجده، والوطن هو الأرض التي بنى فيها الدين دولته، لقد قال عمر وصدق فيما قال:

أي فلسطين ما العروبة لولا     قبس من سنـــا النبوة هــــاد

     والأمثلة كثيرة في شعر عمر على هذا التداخل والتواصل.

     في قصيدته «هكذا» التي يصور فيها سفاهة مترف عربي أنفق على عشيقته الأجنبية مبلغاً كبيراً من المال في ليلة واحدة، يضعنا في البيت الأخير أمام هذه المفارقة الساخرة:

هكذا تقتـحم القدس على     غاصبيها هكذا تسترجع

     إن القصيدة من لب الشعر الوطني وجوهره، وهي إذ تصور حكاية السفيه المترف الذي يخالف كل ما يدعوه إليه وطنه تنتهي نهاية ذات طابع إسلامي واضح، فما عمله السفيه لن يؤدي بحال إلى تحرير القدس من غاصبيها، والقدس عند الشاعر قضية إسلامية قبل كل شيء.

     وجلاء الاستعمار الفرنسي عن سورية عمل وطني مجده الشاعر في قصيدته الذائعة «عرس المجد»، والوطن الذي تحرر جدير بكل تمجيد لأنه جزء من الأرض المباركة التي أشرقت فيها أنوار الهداية، وانطلقت مواكب الفاتحين:

من هنا شق الهدى أكمامه وتهادى موكباً في موكب
وأتى الدنيـا فرفت طرباً وانتشت من عبقه المنسكب
وتغنـت بالمروءات التي عرفتها في فتـــاها العربي
أصيد ضــــاقت به صحراؤه فأعـــدته لأفق أرحب
هب للفتح فأدمى تحته حــــافر المهر جبين الكوكب

     والبطل السوري سعيد العاص حين يهب للجهاد في فلسطين ويستشهد فيها، إنما يحمله على ذلك حب للدين وحب للوطن على السواء، لذلك يبصر ساعة استشهاده كتائب الفتح الأول التي حررتها من الرومان، ومنحتها هويتها الإسلامية. ويبصر بالذات كلاً من الفاتحين العظيمين خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، وهما من أبطال تلك الكتائب في فلسطين عامة وفي اليرموك خاصة، ويسمع هتاف الأجيال تدعو للجهاد، ويبصر المناديل التي احمرت من دماء الشهداء تلوح وتنادي، فينطلق كالعاصفة حتى يفوز بالشهادة:

وكـــأني أراك في زحــمة الهــــو     ل؛ على ســرج ضـــــامر طواح
وأخوك الجسور في القــــمم السو     د؛ مطل على الروابي الـفســــاح
لوحت كفه بمنــــديـله الأحـــــــــ     ـمر؛ شوقـــاً إلى اللقـــاء المتــاح
فحسبـــت الأجيــال تهتف يا خــا     لــد؛ جـــاهد في فيـــــلق الجراح
فتــرنحت واندفعــــت وهيــــــها     ت؛ يليــن الجواد بعد جـمـــــــاح
واقتحمت اللظى فكنت مع الصيـ     ـد، فراشـــاً على فـم المصبـــــاح

     والأبيات مشهد متكامل تشيع فيه الروح الإسلامية والروح الوطنية، وتعبقان في انسجام وتلاحم، وتمجدان الفروسية التي انتظمت صفات النبل والمروءة والبطولة والوفاء والإقدام، وهي الصفات التي يحتاجها كل غيور على دينه ووطنه، فهي ذخره وزاده، وكما كانت أخلاق الفرسان وراء بطولات الفاتح بالأمس فإنها وراء بطولات المجاهد اليوم.
❊❊❊

     ويفيض شعر عمر بالبكاء على الأمة والحزن عليها فيأسى أشد الأسى لما آلت إليه أحوالها بعد أن هجرت الإسلام، يقول في مطولته الثالثة:

أنـــا يا رب من بقايا سيوف ثلمتها مضــــارب الحدثـــان
أنـــا من أمة تجوس حمــــاها جاهليـــــاتها بلا استئـــذان
أسقطت مشعل النــــبوة في الليل؛ وأرخت للتيه كل عنان
لو مشت في سنا هداه لكانَ النجْـــمُ في ركبها من الندمان
مزقت شملها شعــــائر شتى وقيــــــادات طغمة عبـــدان
تلك أوثـــانها تعــــود ولكن ليس فيهــا بــــراءة الأوثــان
مرنتها على الهزيمة والجبن؛ وبعض الحياة بعض مران
فاستــكانت لا بارك الله في صب رِ ذليلٍ ولا بكاء جبــان

     لقد هجرت الأمة الإسلام الذي به عزت وسادت، فدفعت الثمن الباهظ لهذا الهجران، عصفت بها الحوادث، وجاست فيها الجاهليات، وسار الناس يضربون في التيه، مزقتهم الشعارات المتناقضة، وساد هم العبيد الأذلاء، وعادت الأوثان من جديد بسخفها وضلالها.

     وإذ استبد ذلك بالأمة كان لابد لها أن تهزم، وكان لابد لها أن تألف الجبن حتى مات فيها الشعور بالكرامة، وكان صبرها صبر الذليل الخانع لاصبر الحر الذي ينتظر الفرصة للثأر.

     وللأبيات قيمة فنية باهرة تليق بقيمتها الفكرية الغنية بالمضامين العالية.
❊❊❊

     ولما كانت العبادة في الإسلام ينبغي أن تترك آثارها الإيجابية على صاحبها من تطهر داخلي من أدران النفس يحرره من حبائل الشيطان، ومن عون خارجي يحرره من قيود الشح والأثرة فيساعد من يحتاجه من إخوانه المسلمين، فإن الشاعر يدرك هذه المعاني النبيلة فيتساءل عن نصيبه منها في مطولته الثالثة قائلاً:

أسأل النفس خاشعـــاً أترى طهرت بردي من لوثة الأدران
كم صلاةٍ صليـــت لم يتجاوز قدس آيــــاتها حدود لســـاني
كم صيـــامٍ عانيت جوعيَ فيه ونسيت الجيــاع من إخواني
كم رجمت الشيطان والقلب مني مرهق في حبائل الشيطان
ربِّ عفواً إن عشت ديني ألفا ظاً عجافاً ولم أعشه معــــاني

     والأبيات قطعة جميلة من الشعر الإسلامي الذي يواجه فيه الشاعر ذاته، ويستبطنها ويطلب منها أن تستشرف الآفاق الوضاء التي تليق بالمؤمن الحق حيث يكون عمله ترجمة صادقة لعبادته وظاهره صورة أمينة لباطنه.

     وهو إذ يلوم نفسه يندرج تحت ذلك المسمى الجميل «النفس اللوامة» الذي يشيع لدى المعنيين بأمور التزكية الروحية والأخلاقية، والنفس اللوامة منزلة محمودة عند المربين يصل إليها صاحبها بعد عناء ومكابدة في مواجهة النقائص وطلب الكمالات، فإذا تمكن منها طلبوا إليه أن يسعى إلى المنزلة الأعلى وهي منزلة «النفس المطمئنة». والأبيات تشي بروح إيمانية كريمة عند الشاعر، وتذكر بقصائد كثيرة مماثلة نجدها في شعر الخوارج، وشعر المتصوفة؛ تنحو هذا المنحى التربوي الإيجابي المحمود.

     وبعد:

     فلا يمكن أن يصنف عمر أبو ريشة في دائرة الشعراء الإسلاميين الذين جعلوا الإسلام همهم الأكبر في الحياة، ووظفوا شعرهم أو معظمه من أجله، كمحمد إقبال، ومحمد عاكف، وأحمد محرم، وعمر الأميري، ووليد الأعظمي، ويوسف العظم، ولكنه يمكن أن يصنف في دائرة أولئك الشعراء الذين كان الإسلام أحد همومهم وأخلصوا له وأحبوه كأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومحمد عبدالمطلب، ومحمود حسن إسماعيل، وأنور العطار.

     ويحمد لعمر أنه كان في شعره الإسلامي صاحب عاطفة صادقة وصنعة فنية متقنة، واعتزاز بالغ، وأمل متجدد.

     ومما يحمد له أيضاً أن شعره خلا من الرموز الوثنية اليونانية تماماً، وخلا من الرموز الوثنية المسيحية إلا واحداً منها هو «الصلب» كان يطل على قلة.

     كما يحمد له أيضاً أنه لم يفتن بالمذاهب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية والثقافية المعادية للإسلام، بل رفضها وعاداها وأدرك -كما قال مراراً- أنها جزء من مؤامرة عالمية كبرى ينبغي التصدي لها، ولا ريب أن روحه الإسلامية من أهم أسباب هذا الموقف المحمود إن لم يكن أهمها على الإطلاق.
❊❊❊

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة