السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - الوحدة العضوية

الوحدة العضوية

بين وحدة البيت والوحدة العضوية:

     تثور قضية الوحدة العضوية حين الحديث عن عمر أبو ريشة بأكبر مما تثور عند الحديث عن أي شاعر آخر، ذلك لأن عمر كان يصر كثيراً على أنه «شاعر قصيدة» لا «شاعر بيت»؛ بمعنى أن القصيدة عنده وحدة متكاملة يأخذ بعضها برقاب بعض حتى تنتهي مع البيت الأخير نهاية تثير الدهشة، وهو ما كان يسميه الشاعر «بيت المفاجأة»، وكان هذا المعنى يتكرر في معظم المقابلات التي تجرى معه، مما يدل على أنه كان هاجساً ملحاً عليه.

     ولا بد من الإقرار أن الشعر العربي في جملته لم يكن يحقق هذه الوحدة، ولم يكن يعنى بها، وأن النقد العربي القديم لم يتوقف عندها كثيراً وإن وجدت لدى بعض النقاد العرب القدامى إشارات عاجلة أو متأنية تدعو إليها وتحث عليها لكنها كانت بمثابة إرهاصات رائدة ومبكرة ظلت الاستجابة إليها محدودة، حتى إذا جاء القرن العشرون استيقظت القضية بقوة وعنف على يد مدرسة الديوان التي ركزت عليها تركيزاً واسعاً.

     وحين مضى النقاد القدماء ينظرون في الشعر العربي، ويضعون له القواعد ووجهتهم الأساسية في ذلك هي القصيدة الجاهلية باعتبارها النموذج الذي فرض نفسه على الشعر العربي، تعددت -بطبيعة الحال- وجهات النظر في قضية الوحدة العضوية، واختلفت الآراء بين محبذ ومستنكر، وموسع ومضيق، وإن كان أغلب النقاد يقف مع البيت الواحد المستقل تماماً عما سواه وهو ما كان يسمى «البيت المقلد».

     وقد عد «محمد بن سلام الجمحي» في طبقات الشعراء[1] من مزايا الفرزدق أنه أكثرهم بيتاً مقلداً، والمقلد: البيت المستغني بنفسه، المشهور الذي يضرب به المثل.

     ويقف «ابن رشيق» مع فكرة البيت الواحد بوضوح وصراحة، ويجعل ما سواه عيباً وتقصيراً يمكن قبوله في الشعر القصصي لمكان السرد فيه، وبذلك يكون قد اختار فكرة البيت الواحد للشعر الغنائي، وهو تفريق جميل منه، فالشعر الغنائي أكثر تعبيراً عن العاطفي، والعاطفي أكثر اندفاعاً وأقل ضبطاً، والشعر القصصي أكثر تعبيراً عن الموضوعي، والموضوعي أقل اندفاعاً وأكثر ضبطاً. والتفريق فيه دقة وإنصاف، ومعرفة أوسع إحاطة بالتجربة الشعورية من ناحية، وبالفروق بين أنواع الشعر من ناحية أخرى.

     يقول ابن رشيق: «ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى مابعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد»[2].

     كذلك يقف مع وحدة البيت «ابن الأثير» الذي يقرر في المثل السائر أن «الشعر بني على حدود مقررة، وأوزان مقدرة، وفصلت أبياته، فكان كل بيت منها قائماً بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين وهو عيب»[3]. ويقف أيضاً مع وحدة البيت «المرزوقي» الذي يقرر أن «مبنى الشعر على أن يقوم كل بيت بنفسه غير مفتقر إلى غيره إلا ما يكون مضمناً بأخيه وهو عيب فيه»[4]. وكذلك فعل المؤرخ الشهير «ابن خلدون»؛ فقد وقف في مقدمته إلى جانب البيت المستقل عما سواه، فقال وهو يتحدث عن الشعر: إنه «الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به»[5].

     وفي موطن آخر نجد «ابن خلدون» يتحدث عن القصيدة العربية بما يؤكد انحيازه للبيت المستقل وإقراره للنموذج الذي ترسخت صورته وهو التنقل من غرض إلى آخر، فيقول: «وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعاً قطعاً، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي يتفق معه روياً وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك في البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود بأن يوطىء المقصود الأول ومعانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني. ويبعد الكلام عن التنافر كما يستطرد من التشبيب إلى المدح. ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك...»[6]، بل إنه يعد استقلال كل بيت مظهراً من مظاهر صعوبة الشعر التي لا يقدر عليها إلا ذو ملكة راسخة، فيقول: «والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه، فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه، ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده، ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعضها بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة»[7].

     ويقف «ابن عبد ربه» في العقد الفريد مع وحدة البيت، إذ يقرر أن التضمين وهو حاجة البيت إلى سواه حتى يتم معناه؛ عيب، وأن البيت إنما يحمد إذا كان قائماً بنفسه[8]. بل إن العصر الحديث، ومع كثرة الحديث فيه عن الوحدة المطلوبة في القصيدة لم يخل من أديب وعالم وشاعر مثل علي الجارم، يعتقد أن من مقاييس جودة الشعر، التنقل في القصيدة في فنون شتى من القول[9].

     على أن هناك طائفة من النقاد القدماء تنبهت إلى قضية الوحدة العضوية في القصيدة العربية ودعت إليها، فالجاحظ يقرر أن «أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً وسبك سبكاً واحداً»[10].

     وقد أورد «المرزباني» في الموشح روايتين طريفتين تصبان في الدعوة إلى وحدة القصيدة. في الأولى نجد الشاعر عبيداً الراعي يسأله عمه: أينا أشعر؛ أنا أم أنت؟ فيقول: أنا يا عم، فيغضب العم ويسأل ابن أخيه: بم ذاك؟ فيكون الجواب: بأنك تقول البيت وابن أخيه، وأقول البيت وأخاه[11].

     وفي الثانية نجد عمر بن لجأ يقول لابن عم له: أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وتقول البيت وابن عمه. ثم ينشد قول عمرو بن بحر:

وشعر كبعر الكبش فرق بينـه     لسان دعي في القريض دخيل

     بعد ذلك يورد صاحب الموشح قول محمد بن يزيد معلقاً على ذلك: وبعر الكبش يقع متفرقاً، والمعنى في ذلك أن قائل هذا البيت أراد أن شعر الذي هجاه مختلف المعاني غير جار على نظم ولا مشاكلة[12].

     وواضح من روايتي «المرزباني» هذا التوجه النقدي الذي ينحاز إلى وحدة القصيدة، ونجد ذلك في الرواية الثانية أوضح منه في الأولى، وذلك في تعقيب محمد بن يزيد الذي فسّر ضعف الشعر باختلاف المعاني وغياب النسق والانسجام.

     بل إن «ابن رشيق» نفسه الذي رأيناه من قبل مع البيت الواحد، نجد له نصاً يوافق فيه الجاحظ فيما ذهب إليه، حيث يقول: «وإذا كان الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره الجاحظ لذ سماعه، وخف محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلا في فم سامعه، فإذا كان متنافراً متبايناً عسر حفظه، وثقل على اللسان النطق به، ومجته المسامع، فلم يستقر فيها منه شيء»[13].

     أما «الحاتمي» فقد كان ذا تصور أوضح لقضية الوحدة في القصيدة لأن مثلها عنده: «مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه وتعفي معالمه، وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراساً يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم وكأنه مذهب سهلوا حزنه ونهجوا رسمه، فأما الفحول الأوائل ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين فمذهبهم المتعالم: عد عن كذا إلى كذا»[14].

     ويشيد «عبد القاهر الجرجاني» بالكلام المتصل الممتد الأجزاء فيقول عنه: «وإذ قد عرفت هذا النمط من الكلام. وهو ما تتحد أجزاؤه حتى يوضع وضعاً واحداً، فاعلم أنه النمط العالي والباب الأعظم، والذي لا ترى سلطان المزية يعظم في شيء كعظمه فيه»[15]، ونعثر عند «ابن طباطبا» في كتابه «عيار الشعر» على لمحات تومئ إلى وحدة القصيدة من حيث ضرورة بنائها بناء متكاملاً، تتحقق فيه الصلة بين أجزائها المختلفة، حيث يقول: «وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها...، بل يجب أن تكون القصيدة كلها كلمة واحدة، في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة وجزالة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يضيفه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً، لا تناقض في معانيها، ولا وَهْيَ في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقاً بها، مفتقراً إليها. فإذا كان الشعر على هذا التمثيل سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها راويه، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه اضطراراً يوجبه تأسيس الشعر»[16].

     ويقرر «ابن قتيبة» في «الشعر والشعراء» أن من التكلف في الشعر أن «ترى البيت فيه مقروناً بغير جاره ومضموماً إلى غير إلفه»[17].
❊ ❊ ❊

     واستقراء آراء النقاد العرب القدامى ما بين مؤيد لوحدة البيت، ومؤيد لوحدة القصيدة، ومتوسط بينهما؛ يقف موقفاً توفيقياً، يمكن أن ينتهي إلى أن فكرة وحدة البيت هي الفكرة التي كانت مسيطرة عليهم، وهو الأمر الذي قرره الدكتور «يوسف بكار» حين قال: «وأما وحدة البيت واستقلاله فظاهرة كبرى في النقد القديم»[18]، وهو الأمر الذي قرره أيضاً الدكتور «النعمان القاضي»، حيث قال: «وعلى الرغم من هذا الفهم المتعاطف مع الوحدة العضوية بمفهومنا الحديث كانت وحدة البيت هي المسيطرة على فكرة هؤلاء النقاد حتى من أبدى منهم تفهماً لتلاحم أجزاء القصيدة وبخاصة ابن رشيق الذي قال قولاً آخر في الموضوع ينقض به إلى حد بعيد قوله السابق، مؤداه أنه لا يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض كما يفعل بعض الناس، ولكنه يستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله وإلى ما بعده، وأن ما سوى ذلك يعد لديه تقصيراً إلا في مواضع معروفة مثل الحكايات وما شاكلها»[19].

     وللدكتور النعمان وقفة ذكية حاول خلالها أن يعثر في القصيدة العربية الجاهلية التي فرضت نفسها نموذجاً تقليدياً يحاكيه الشعراء، ويدعوهم إلى السير عليه النقاد على ما سماه «وحدة المشاعر» أو «الوحدة النفسية» التي تربط بين أبيات هذه القصيدة وإن تعددت أغراضها. يبدأ الدكتور النعمان حديثه بمحاولة النقاد الربط بين نهج القصيدة العربية وبين حياتهم في جاهليتهم، لينتهي إلى الإقرار بتعدد الأغراض في القصيدة العربية التقليدية، وبتقديم تفسيره النفسي لهذه الظاهرة فيقول: «وقد حاولوا أن يقيموا علاقة بين هذا النهج وحياة العرب في جاهليتهم مومنين إلى أنه نبع منها وصدر عنها، فجاء شكل القصيدة متوافقاً مع طبيعة تكوينهم الاجتماعي الذي يقوم على وحدات قبلية صغيرة مستقلة لوناً من الاستقلال الذاتي الأمر الذي يتمثل في طبيعة البيت الشعري...، وحقاً تتعدد الأغراض في القصيدة العربية التقليدية، وهي من ثم تفتقر إلى الوحدة العضوية بمفهومها الحديث إلا أنها لا تفتقر في واقع الأمر إلى وحدة المشاعر أو الوحدة النفسية التي تربط بين أبياتها...، وخلال القصيدة العربية التقليدية يمكننا أن نتتبع مظاهر وحدة المشاعر فيها إذا أمسكنا بطرف الخيط النفسي الذي ينتظم حباتها المتعددة منذ مطلع القصيدة إلى نهايتها»[20].

     وفي تعليل الدكتور النعمان إنصاف وتفرد، أما الإنصاف فلأنه وجد لوناً آخر من ألوان الوحدة التي تربط بين أجزاء القصيدة العربية، فإذا كان جانب من الوحدة غائباً فإن ثمة جانباً آخر لم يغب، وأما التفرد فلأنه أعمل ذهنه فانتبه إلى ما لم ينتبه إليه الكثيرون.

     ويتوقف الأستاذ الدكتور «شوقي ضيف» عند هذا الأمر فيوليه عناية واسعة، ليقرر أن القصيدة العربية القديمة لم تكن تعرف الوحدة العضوية إلا نادراً، ويحاول أن يفسر هذه الظاهرة بأن طبيعة الحياة العربية في صحراء الجزيرة هي التي أدت إلى ذلك، إذ إنها كانت تقوم على جزئيات متنوعة لا رابط بينها، فكأن الأمر انتقل لدى العربي من حياته إلى شعره، فيقول: «ومن الحق أن القصيدة العربية لم تكن تعرف هذه الوحدة العضوية معرفة واضحة قبل عصرنا الحديث إلا نادراً...، وما أشبه القصيدة الجاهلية في هذا النمط بالفضاء الواسع الذي كان يترامى تحت عين الشاعر الجاهلي!.. فإنها تجمع مثله أشياء متناثرة غير متلاصقة ولا ملتحمة...، وعلى هذا النحو تألفت القصيدة الجاهلية من أبيات متجاورة متناثرة كأبيات الحي وخيامه، فكل بيت له حياته واستقلاله، وكل بيت وحدة قائمة بنفسها، وقلما ظهرت صلة وثيقة بين سابق ولاحق. وبذلك فقدت تلك القصيدة وحدتها لا من حيث الموضوعات المتباينة التي تنتظم فيها فحسب، بل أيضاً من حيث الأبيات في الموضوع الواحد، فهي تتجاور مستقلاً بعضها عن بعض. ونمضي مع الزمن فإذا المحدثون العباسيون يحتكمون غالباً إلى هذا النموذج القديم في صنع القصيدة، فهم يعددون موضوعاتها، وهم لا يعنون بالربط النفسي بين أبيات الموضوع الواحد، بل يستمر لكل بيت استقلاله وانفصاله، حتى أصبحت مقدرة الشاعر تقاس ببيت واحد جميل يصوغه في قصيدته، وكانوا يسمونه بيت القصيد، فهو كل غايتهم وغاية النقاد من حولهم. وهكذا دار النقد والشعر على وحدة البيت، فلم تعرف وحدة القصيدة إلا في الندرة، وقد عدوا اتصال بيت بما قبله أو بما بعده عيباً يزري بالشعر وصاحبه، وسموه التضمين»[21].

     أما الدكتور «سيد حنفي» فيقرر أن «القصيدة العربية لم تخرج عن كونها مجموعة من المقطوعات متلاحمة تلاحماً غير عضوي، فالشاعر ينتقل انتقالات فجائية من مقطوعة تعبر عن موضوع إلى مقطوعة تعبر عن موضوع آخر دون ربط أو تداخل»[22].

     وعند الدكتور «محمد غنيمي هلال» تبقى القصيدة العربية التقليدية التي تحاكي النموذج الجاهلي دون أي وحدة عضوية، ويبقى ما يمكن أن تتمتع به منها لا يخرج عن كونه وحدة خارجية لا رباط فيها، فليس ثمة صلة فكرية بين أجزائها[23].

     وعند الدكتور «إبراهيم السعافين» أن القصيدة العربية عامة افتقرت إلى «الوحدة العضوية؛ ذلك أننا إذا طالعنا دواوين الشعراء في مختلف العصور لا نجد تماسكاً واضحاً بين أبيات القصيدة المختلفة، وذلك راجع بطبيعة الحال إلى فهم الشعراء لبناء القصيدة، فالقصيدة لا تقوم على وحدات فنية تلتقي معاً على رسم صورة عامة للقصيدة، وإنما تقوم على وحدة البيت، فالبيت يشكل وحدة أساسية في القصيدة، حتى إن البلاغيين والنقاد القدامى عدوا استقلال البيت بمفرده من شروط جودة البيت والقصيدة بعامة، كما يشير هذا الاستقلال إلى تميز الشاعر وعبقريته، ومن هنا عدوا التضمين عيباً من عيوب القصيدة سواء أكان تدويراً معنوياً أم لفظياً، فمن اليسير علينا أن نقدم بيتاً وأن نؤخر آخر دون إخلال بالسياق العام وعلى هذا النحو نرى في تاريخ الشعر العربي الاهتمام في الرواية والنقد بالبيت والبيتين، ولهذا السبب نفسه نرد احتفال النقاد والرواة بأفخر بيت أو أمدح بيت أو أهجى بيت قالته العرب»[24].

     وحين يقف الدكتور «عمر الدقاق» حيال الموضوع نجده هو الآخر يحكم بأن الغلبة في القصيدة العربية كانت للبيت المفرد، وأن الوحدة العضوية كانت غائبة في أكثر الأحيان، ويعزو ذلك إلى الذوق العام الذي كان يحكم نظرة الناقد العربي، وإلى احتذاء الشاعر العربي لنماذج القصيدة العربية الأولى: «والواقع أن القصيدة العربية كانت تفتقر إلى الوحدة العضوية في أكثر الأحيان لأن العرب كانوا يعتبرون البيت المفرد وحدة، بل إنهم يستحسنونه قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده، ولذلك كانت أحكامهم النقدية في الغالب تنصب على البيت دون القصيدة. وما زال هذا المفهوم سائداً في أذهان كثير من الشعراء الذين وضعوا نصب أعينهم القصيدة القديمة، وحرصوا على احتذاء النماذج السالفة، وكأن القصيدة مجموعة من الأحجار تنحت كل منها على انفراد، ثم يضم بعضها إلى بعض لتشكل بناء متكاملاً على نحو يشبه لوحة الفسيفساء»[25].
❊ ❊ ❊

الوحدة العضوية في العصر الحديث:

     ومع بزوغ فجر النهضة الأدبية الحديثة لابد لنا من التوقف عند ريادة مصر لحركة التجديد لأنها النموذج الذي يقلده العالم العربي، والريادة هنا تقتضي التوقف عند علمين مهمين، الأول هو «حسين المرصفي» الذي كان رائداً نقدياً، والثاني هو «محمود سامي البارودي» الذي كان رائداً شعرياً.

     أما المرصفي فهو صاحب كتاب «الوسيلة الأدبية»، وقد توفي عام 1889م، وهو أول أستاذ للأدب في دار العلوم، وهو صديق البارودي وأستاذه، وبوسع الدارس أن يعثر له على إشارات تومئ من بعيد إلى قضية الوحدة العضوية في الشعر، وذلك حين وقف على قصيدة البارودي التي مطلعها[26]:

تلاهيت إلا ما يجن ضميـر     وداريــت إلا ما ينم زفيـــر

     والتي عارض بها رائية أبي نواس الشهيرة، فقد حلل المرصفي القصيدة وأبدى إعجابه بها قائلاً: «انظر -هداك الله- لأبيات هذه القصيدة فأفردها بيتاً بيتاً تجدها ظروف جواهر، أفردت كل جوهرة لنفاستها بظرف، ثم اجمعها وانظر جمال السياق وحسن النسق، فإنك لا تجد بيتاً يصح أن يقدم أو يؤخر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث، وأكِلُك إلى سلامة ذوقك وعلو همتك، إن كنت من أهل الرغبة في الاستكمال لتتبع هذه الطريقة المثلى»[27]، ويدل التأمل في كلام حسين المرصفي، خاصة إذا وضعناه ضمن ظروف عصره، وضمن المفاهيم التراثية النقدية السائدة آنذاك، على أنه كان يمتلك وعياً نقدياً متقدماً، فهو يقرر في معرض ثنائه على أبيات البارودي أنها ذات سياق جميل ونسق حسن بحيث لا يمكن أن يقدم بعضها أو يؤخر عن موقعه. «ولاريب في أن هذا ثناء قيم لأن الشيح حسين المرصفي كان أستاذ عصره في العربية وتذوق آثارها ونماذجها الفنية، وقد شعر بهناءة وفرحة حقيقية، وهو يعرض شعر البارودي»[28].

     أما البارودي فنجد له جملة من القصائد يمكن أن تدرج في باب القصائد التي حققت شرط الوحدة العضوية، وهي مراثيه في ابنته، وفي عبدالله فكري، وفي حبيب مطران، وفي ابنه علي، وفي حاضنته، وفي أخته، وفي صديقه.

     وكما كان حسين المرصفي ناقداً يشكر؛ كان البارودي رائداً يشكر، وكل منهما له أثره المقرر في دفع الحركة الأدبية إلى الأمام وإعادتها إلى الجدة والأصالة والصدق، وربط حبالها مع نماذج الشعر العربي في أزهر عصوره، وتجاوز عصور الضعف بكل ما كان فيها من صنعة وتكلف وأغلال أفسدت الشعر وقعدت به عن مهمته.

     ومن الشخصيات الأدبية التي يجب التوقف عند جهدها في مجال وحدة القصيدة شخصية الشاعر الشهير «خليل مطران» الذي يمكن أن يعد محطة ليس من الموضوعية تجاوزها في أثناء الحديث عن وحدة القصيدة.

     كان «خليل مطران» على اطلاع جيد على الأدب الغربي، وكانت قضية التجديد هاجساً من هواجسه؛ فماذا فعل؟ حاول جاداً أن يتحول بكثير من قصائده صوب الوحدة العضوية بحيث تكون الواحدة منها «تعبيراً تاماً عن نفسه وأحاسيسه الداخلية، تعبيراً متكاملاً، لا ينظر فيه إلى البيت المنفصل، وإنما ينظر إلى التعبير كله أو القصيدة كلها، فهي بناء تترابط عمده وأركانه، وتتلاحم معانيه وأجزاؤه، لا ليعبر عن الموضوعات القديمة أو الأفكار والصور القديمة، وإنما ليعبر عن الشاعر وعالمه النفسي والذهني»[29].

     خاض مطران معركة التجديد عن وعي تام، وإصرار ودأب، وحين فعل ذلك واجه مشكلة القصيدة العربية التي تفقد الوحدة، «وحاول أن يقدم بشعره صورة للوحدة العضوية للقصيدة يمكن العثور على نماذج منها في بعض قصائد الجزء الأول من ديوانه»[30].

     وفي مقدمة الجزء الأول من ديوانه الصادر عام 1908م؛ نجد أن الشاعر واع لما يفعل، مقتنع بأنه ينهج نهجاً جديداً، عارف بما غلب على القصيدة العربية، راسم لها الوجهة التي يريد. يقول واصفاً حال القصيدة العربية: «لا ارتباط بين المعاني التي تتضمنها القصيدة الواحدة، ولا تلاحم بين أجزائها، ولا مقاصد عامة تقام عليها أبنيتها وتوطد أركانها. وربما اجتمع في القصيدة الواحدة من الشعر ما يجتمع في أحد المتاحف من النفائس، ولكن بلا صلة ولا تسلسل. وناهيك عما في الغزل العربي من الأغراض الاتباعية التي لا تجتمع إلا لتتنافر وتتناكب في ذهن القارىء»[31].

     أما الشعر الذي يقدمه لنا مطران باعتباره ممثلاً لمنهجه التجديدي فيصفه بقوله: «هذا شعر عصري، وفخره أنه عصري، وله على سابق الشعر مزية زمانه على سالف الدهر. هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الصحيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكر جاره، وشاتم أخاه، ودابر المطلع، وقاطع المقطع وخالف الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته، وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها، مع ندور التصوير، وغرابة الموضوع، ومطابقة كل ذلك للحقيقة، وشفوفه عن الشعور الحر، وتحري دقة الوصف واستيفائه فيه على قدر»[32].

     ومن الواضح «أن كلام خليل مطران صدى لفكرة الوحدة العضوية النامية في القصيدة الغربية، وإن لم يصرح بذلك تماماً، فشعره عصري يخضع لمقاييس جديدة لا تتحكم فيها موضوعات شعرنا القديم، ولا معانيه، ولا صوره وأخيلته وصياغاته التي تجمدت. وهو أيضاً شعر عصري في تصميم بنائه، فبناؤه وطيد، قد اتسقت فيه أجزاؤه بحيث لا ينظر فيها إلى جزء دون جزء، ولا إلى بيت دون بيت، كما كان الشأن في القصيدة القديمة التي كانوا يطلبون فيها بيت القصيد، والتي لم تكن تتشابك لتعبر عن معنى كلي، إنما هي وحدات مبعثرة لا نسق لها ولا نظام»[33].

     والنظر في ديوان مطران يدل على إحساس هذا الشاعر العميق بفكرة الوحدة العضوية للقصيدة بحيث تكون بناء تعبيرياً وشعورياً واحداً، وهو بناء يتنامى ويتكامل دون استطالات أو استطرادات لا صلة لها بموضوعه، وربما كانت قصيدة «المساء» الشهيرة خير ما يمثل مطران فيما صنع. والقصيدة تصور الشاعر وهو عليل يستشفي في الإسكندرية، وبؤرة الشعور فيها تتفجر لدى الشاعر مع لحظة المساء، ومن هنا جاء اسم القصيدة، ففي هذه اللحظة يشعر أن ما حوله موحش كئيب، وكأنه يشاركه وحشته وكآبته، بل إن الطبيعة من حوله تشكو مثل شكواه ببحرها وصخرها وأفقها وشمسها الغاربة. «والقصيدة بذلك كله تجربة شعرية تامة تنمو فيها وحدة عضوية كاملة، فقد جعلها الشاعر في مقاطع: مقطع يتحدث فيه عن عذابه بالمرض والحب، ومقطع يناجي فيه معشوقته، ومقطع يتحدث فيه عن يأسه من شفائه، وقد تراءت له الطبيعة بالإسكندرية ذات مساء، يغشاها الألم والكدر مثله، ثم مقطع أخير تمتزج فيه دموع حزنه وألمه بدموع الكون. وليس من الممكن أن ينتقل مقطع من موضعه، أو ينتقل بيت من مكانه، فإن القصيدة وحدة تامة، أو نسيج تام، لا يمكن جذب خيط منه دون أن يختل نظامه، بل هي بنية عضوية نامية فأجزاؤها تتتابع متسلسلة متلاحقة، قد تركب بعضها فوق بعض»[34].

     ولمطران قصائد أخرى حققت الوحدة العضوية مثل «مقتل بزر جمهر»، و«فتاة الجبل الأسود»، و«اللبن والدم».

     ومهما يختلف النقاد في قيمة مطران الشعرية، فإنهم متفقون على قيمته التجديدية، وربما كان منظراً ومجدداً أفضل منه شاعراً، وقيمته من هذا الجانب تجعله وثيق الصلة بمدرسة الديوان وما أثارته من زوابع حادة، وجدل واسع عنيف، يقول الدكتور مختار الوكيل: «والمطلعون على الشعر الأوربي يرون أن مطران واقف على أحدث تيارات الشعر العصري، فهو لا ينظر إلى جمال البيت المفرد، وإنما ينظر إلى جملة القصيدة، ويعنى بها كوحدة قائمة بذاتها، لها كيانها ولها تركيبها وترتيبها وتناسق معانيها، فأنت حينما تقرأ قصيدة لهذا الشاعر تحس بانسجام الفكر وتسلسل الخواطر»[35].

     أما الدكتور «محمد مندور» فيقرر أن «الوحدة العضوية للقصيدة مبدأ دعا إليه خليل مطران في مقدمة ديوانه، وأخذ به في طول قصائده القصصية والدراماتيكية بل في سائر قصائده»[36].

     كما يقرر الدكتور «حلمي مرزوق» أن الوحدة لازمة من لوازم النزعة الفنية عند مطران لا محيص له عنها بحال[37].

     وعلى كل حال من السهل أن يرفع الأديب راية له يتبنى بها دعوة تجديدية، لكن العسير حقاً هو أن يكون عطاؤه وفق دعوته، ويصح هذا الأمر على مطران فقد كان داعية تجديد، وكانت بعض نماذج شعره تسير وفق دعوته، لكن معظم شعره «سار على النسق التقليدي، فأكثر من شعر المناسبات، ومن اختيار القوالب الجاهزة، بل نراه أحياناً يبكي الديار بكاء الأقدمين»[38].
❊ ❊ ❊

     ترى كيف يمكن لنا أن نفهم الوحدة العضوية التي كثر عنها الحديث؟ وماذا نقصد بها؟

     للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول: إنها «وحدة الموضوع ووحدة المشاعر التي يثيرها الموضوع وما يستلزم ذلك من ترتيب الصور والأفكار ترتيباً تتقدم به القصيدة شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى خاتمة يستلزمها ترتيب الأفكار والصور، على أن تكون أجزاء القصيدة كالبنية الحية لكل جزء وظيفته فيها، ويؤدي بعضها إلى بعض عن طريق التسلسل في التفكير والمشاعر»[39].

     وعند الدكتور «شوقي ضيف» أن المقصود بالوحدة العضوية للقصيدة «أن تكون بنية حية تامة الخلق والتكوين، فليست القصيدة ضرباً من المهارة في صياغة أبيات من الشعر، وإنما هي بناء بكل ما تحمله كلمة بناء من معنى... بنية نابضة بالحياة، بنية تتجمع فيها إحساسات الشاعر وذكرياته لتكون مزيجاً لم يسبق إليه من الفكر والشعور، وهو مزيج مركب من حقائق كثيرة وجدانية وعقلية، ومهما تكن الحقائق التي تكونه، فإنها لا تتباين، بل تتآلف وتتحد في تيار مغناطيسي يجذبها بعضها إلى بعض... وبذلك تصبح القصيدة عملاً شعرياً تاماً... فتزداد معرفتنا، وتزداد خبرتنا وتكتمل صورتها في نفوسنا اكتمالاً لا يؤديه سوى قصيدة بعينها، قصيدة سوَّاها الشاعر، كما يسوَّى الكائن الحي تسوية عضوية تامة... إن الشاعر إن لم يعش في أثنائها جميعاً، أو قل: في وحداتها معيشة تستغرقه بدا نقصه وعجزه، وأنه مشتت موزع لا يستطيع أن يسوي خلقة تامة أو وحدة عضوية كاملة، فما بالنا إن هو حول قصيدته إلى أحداث مختلفة وموضوعات متباينة، إنها لا تكون خلقاً سوياً، بل تكون مجموعة من المخلوقات الناقصة المشوهة»[40].
❊ ❊ ❊

     وفي مطالع القرن العشرين تبرز مدرسة «الديوان» بقوة، وتثير لغطاً واسعاً يستمر دهراً طويلاً. ويمكن للدارس أن يرد الدعوة التجديدية الهائلة التي تبنتها المدرسة إلى أصلين أساسيين هما: الدعوة إلى بروز شخصية الشاعر فيما ينظم بحيث يدل شعره عليه، والدعوة إلى الوحدة العضوية. ومن المعروف أن مدرسة الديوان قامت على أكتاف ثلاثة من الأعلام جمعوا بين النقد وبين الإبداع وهم عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري.

     وعلى يد هذه المدرسة اندفعت قضية الوحدة العضوية الى الأمام، واحتلت مساحة أكبر، وتولى الأستاذ العقاد العبء الأكبر في هذه الدعوة، فكان مبشراً عنيداً وعنيفاً بها، وهاجم على أساسها أكبر شعراء عصره «أحمد شوقي» بأسلوب عنيف حاد. يقول الأستاذ العقاد مصوراً لنا فهمه للقصيدة كما يريدها: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عملاً فنياً تاماً، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقي بأنغامه؛ بحيث لو اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها»[41]. وواضح أن الأستاذ العقاد يدعو بقوة إلى وحدة القصيدة في مقابل البيت المفرد أو القصيدة ذات المحاور المتعددة، فوحدة القصيدة عنده مطلب فني أعلى، أما البيت المفرد عنده فهو «يفي بمطالب نفوس سواذج تخلو من الخوالج المركبة والنظرات المتعددة والمعارف التي تتناول الإحساس بالتنويع والتحليل، ولكنه لا يفي بمطالب النفوس التي تتجاوب فيها المعرفة والإحساس، وتنظر إلى الدنيا بعين تلمح فيها شيئاً غير هذا النظر الآلي المباح للجميع. فالشرط في المعنى الشعري أن يكون إحساساً وخيالاً، أو فكراً يخامر النفس بإحساس وخيال، ولكن ليس من شروط المعاني الشعرية أن يحجر عليها فلا تترقى أبداً إلى الأشيع إلا نزل من درجات الشعور والإدراك، وما يلام الشاعر أن يصوغ هذه المعاني صياغة تختلف عن صياغة الخواطر المطروقة واللمحات المبعثرة لأنها لابد أن تختلف في أدائها ما اختلفت في طبيعتها، وإنما اللوم على من يجهلونها، إنهم لا يفقهونها بأوضح ما يؤدى به من كلام»[42].

     ويريد العقاد من القصيدة العربية أن تكون متكاملة تكامل الكائن الحي، الذي يتكون من أعضاء متعددة، ولكن لا يغني واحد منها عن آخر، ولا يحتل واحد مكان أخيه، فيقول: «فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يغني عنه غيره في موضعه إلا كما تغني الأذن عن العين، أو القدم عن الكف، أو القلب عن المعدة، أو هي كالبيت المقسم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها، ولا قوام لفن بغير ذلك»[43].

     ويقارن العقاد بين القصيدتين العربية والأوربية ليقول لك: «إنك ترى الارتباط قليلاً بين معاني القصيدة العربية، ولا ترى قصيدة أوربية تخلو من رابطة تجمع أبياتها على موضوع واحد أو موضوعات متناسقة، ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت، وكان وحدته عندهم القصيدة، فالأبيات العربية طفرة طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض، وسبب ذلك هو أن الحس لا يربط بين المعاني، وإنما يربط بينها التصور والتعاطف والملكة الشاعرة»[44].

     وإذ يخشى العقاد أن يتوهم بعض الناس أن وحدة الوزن والقافية في القصيدة سبب لقبولها عملاً فنياً منشوداً، يسارع إلى التأكيد أن وحدة الوزن والقافية في القصيدة ليست «بالوحدة المعنوية الصحيحة، إذ كانت القصائد ذات الأوزان والقوافي المتشابهة أكثر من أن تحصى، فإذا اعتبرنا التشابه في الأعاريض وأحرف القافية وحدة معنوية جاز إذن أن ننقل البيت من قصيدة إلى مثلها، دون أن يخل ذلك بالمعنى أو الموضوع، وهو ما لا يجوز»[45].

     وحين درس الأستاذ العقاد «ابن الرومي» رد مزاياه الفنية إلى خصائص عرقية، فكأنه تفرد عن الشعراء العرب فناً وصنعة، كما تفرد عنهم دماً وأرومة[46]، ولم يفت العقاد أن يتوقف عند وحدة القصيدة عند ابن الرومي، ويشيد بها، وذلك حين يقرر أن «العلامات البارزة في شعر ابن الرومي هي طول نفسه وشدة استقصائه المعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظَّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتاً متفرقة يضمها سمط واحد قلَّ أن يطرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقلَّ أن يتوالى فيه النسق توالياً يستعصي على التقديم والتأخير والتبديل والتحوير، فخالف ابن الرومي هذه السنة، وجعل القصيدة كلاً واحداً لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه، فقصائده «موضوعات كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض، ولا تنتهي حتى ينتهي مؤداها وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو خسر في ذلك اللفظ والفصاحة»[47].

     ومضى العقاد يعلن النكير على شوقي لأن شعره يفتقد الوحدة والخصوصية، وتناول عدداً من قصائده، من بينها مرثيته الشهيرة لمصطفى كامل:

المشرقـــــان عليك ينتحبان     قاصيـــهما في مأتم والداني

     وعاب عليها التفكك، وأخذ يرتب أبياتها ترتيباً آخر، لينتهي من ذلك إلى أن القصيدة ليس لها بناء متماسك يدل على وحدة صاحبها النفسية والشعورية لأن قريحته «التي تنظم هذا النظم ومضات نور متقطعة لا كوكب صامد متصل الأشعة يريك كل جانب، وينير لك كل زاوية وشعبة، أو كأنما هي ميدان قتال فيه ألف عين وألف ذراع وألف جمجمة، ولكن ليس فيه بنية واحدة حية، ولقد كان خيراً من ذلك جمجمة واحدة على أعضاء جسم فرد تسري فيها الحياة»[48].

وبقطع النظر عما في آراء الأستاذ العقاد من خطأ وصواب من حيث الأساس النقدي، وبقطع النظر عما فيها من تجن على شوقي ومبالغة، فيمكن القول: إن العقاد أخفق فيما دعا إليه، أخفق من جانب لأن ما صنعه في رثاء شوقي لمصطفى كامل حيث اتهم القصيدة بأربعة عيوب: هي التفكك والإحالة والتقليد والولوع بالأعراض دون الجواهر، يمكن أن يصنعه ناقد آخر في قصائده هو التي ينبغي أن تكون نموذجاً عملياً لدعوته، وأخفق من جانب آخر حينما رأيناه فيما بعد يبدي إعجابه بالبيت المفرد، بل ويشيد بغناه وتكثيفه وتركيزه، ففي كتابه «عرائس وشياطين»[49]، وهو مجموعة مختارات له، انتقى طائفة من أبيات متفرقة للشريف الرضي وأشاد بها، وقد وضع ما اختاره للشريف تحت عنوان «مفردات الشريف الرضي»[50]، وهي ثلاثة وأربعون بيتاً مفرداً، وأكثرها حكم تشبه حكم أبي الطيب المتنبي، وفعل الشيء نفسه مع أبي فراس حيث اختار له طائفة من الأبيات وضعها تحت عنوان «مفردات أبي فراس»[51]. وعددها عشرة أبيات. كما أنه اختار في كتابه «جميل بثينة»[52]، ستة وعشرين بيتاً مفرداً وضعها تحت عنوان «أبيات مفردة في معان مختلفة»[53].

     بل إن العقاد يقول في وصفه لكتابه «عرائس وشياطين» ما يلي: «والكتاب قصائد من الشعر العربي أو العالمي يكثر فيها الإيجاز ويقل الإسهاب، ويندر فيها المشهور المتكرر على الأسماع، ونجيز فيها لأنفسنا الحذف والتبديل مداراة لإسفاف في العبارة أو إسفاف في الذوق والأدب، وعلينا تبعة القليل الذي طرأ عليها من الحذف والتبديل»[54].

     وفي كتابه الآخر «اللغة الشاعرة»[55]، أشاد بطائفة من الأشعار تنتمي إلى «وحدة البيت» لا إلى «وحدة القصيدة».

     وحين أخذ يقارن بين القصة والشعر، فضل الشعر لأن الشاعر «يبلغ بالبيت الواحد ما لا يبلغه القصاص بالصفحات الطوال»[56].

     ومن الواضح أن الفرق كبير بين إشادة العقاد بهذه النماذج التي يشكل كل منها وحدة مستقلة، وبين وصفه لها بأنها تحقق مطالب «النفوس السواذج التي تخلو من الخوالج المركبة والنظرات المتعددة» كما قال، وهو يحشد أدلته لينصر بها فكرة وحدة القصيدة في مواجهة وحدة البيت، ترى هل هو التغير أم الإنصاف أم المرونة التي تجعل النقد الموضوعي لا يحصر الإبداع في مكان ضيق لا يعدوه!؟.

     وحديث العقاد الملحاح عن الوحدة العضوية في القصيدة العربية، يذكر الدارس بمدرسة الشعر المهجري، حيث تعاصرت المدرستان، مدرسة الديوان ومدرسة المهجر فقد صدر «الديوان في النقد والأدب» للعقاد والمازني عام 1912م، وصدر «الغربال» لميخائيل نعيمة عام 1923م، وبين المدرستين اللتين يمثل الكتابان المذكوران منطلقاتهما النظرية، نقاط التقاء كثيرة أهمها الدعوة إلى الوحدة العضوية في القصيدة العربية، ولكن المهجريين كانوا أكثر تمثيلاً لدعوتهم من الديوانيين، فالملاحظ «أن شعر المهجر كان أكثر تمثلاً لمفهوم الخيال الرومانسي من شعر المازني والعقاد وشكري، ربما لأنهم كانوا أكثر احتكاكاً بالفكر الغربي في موطنه، ولأنهم بحكم طبيعتهم كمهاجرين كانوا أقل تمسكاً بالعادات والتقاليد، كما كانت الهجرة استزادة في نمو إحساسهم الرومانسي. وأياً كان السبب فقد كان الشعر المهجري أكثر تجانساً وتجديداً، وأول ما نلاحظه في هذا تمثل الوحدة العضوية. لقد سيطر الإحساس بهذه الوحدة حتى في اختيارهم لأسماء دواوينهم، التي أصبحت وقد سيطر عليها إحساس واحد يستشف من عنوان الديوان، نرى هذا بوضوح في أسماء تلك الدواوين أمثال: «أوراق الخريف» لندرة حداد، و«الأرواح الحائرة» لنسيب عريضة، و«همس الجفون» لميخائيل نعيمة، و«الأعاصير» للقروي، و«أحلام الراعي» لإلياس فرحات» [57].

     لقد كانت مدرسة الديوان، والعقاد أشهر أعلامها، معلماً مهماً في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد دار بسببها جدل كثير، وكانت لها نتائج محمودة، ولكن يبدو أن طاقة أصحابها النقدية أكبر بكثير من طاقتهم الإبداعية. وقد قرر الدكتور محمد مندور بحق أن العقاد وقع فيما رمى به أحمد شوقي[58]، وأما الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد فقد كان أصرح حين قال: «إن شعر العقاد نفسه إذا قسناه بمقياسه لا يخلو من التفكك والإحالة والمبالغة، وقصيدته الرائية في مدح الملك فاروق، والنونية التي قالها في رثاء سعد زغلول نموذج لهذا النوع من القصائد التي تعاني من العيوب التي يأخذها على أشعار من يسميهم بالمقلدين»[59]، ولم يبرئ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد كلاً من المازني وشكري مما وصف به العقاد فقال: «إن قارئ شعر العقاد خاصة وصاحبيه عامة يكتشف أن أشعارهم لا تخلو من العيوب التي يأخذونها على شوقي أعني التفكك والتقليد والإحالة»[60]، بل إنه يحاول أن يصنع بقصيدة العقاد ما صنعه العقاد بقصيدة شوقي، «فإذا كان العقاد يرى في رثاء شوقي لمصطفى كامل صورة لهذا التفكك فإن قصيدته في رثاء سعد زغلول لا تقل هي الأخرى عن قصيدة شوقي تفككاً، ولنختر منها هذه الأبيات التي أعدنا ترتيبها»[61]. وحين وصف الدكتور محمد مندور المقياس الذي وضعه العقاد وطبقه في نقده لنونية شوقي بأنه مقياس متعسف، حدثنا كيف صنع الأستاذ إبراهيم حمادة وهو شاعر من تلامذته ما صنعه الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد، حيث تناول قصيدة العقاد في رثاء حسين الحكيم، وصنع بها ما صنعه العقاد بنونية شوقي[62].

     وقد وصف الدكتور شكري عياد ما انتهى إليه أمر مدرسة الديوان بأنه انتصار يشبه الهزيمة، فقد «كف المازني عن قول الشعر، واستحال شعر شكري الأخير إلى نثر ميت، وأصبحت معظم قصائد العقاد في دواوينه الأخيرة خطباً أشبه بقصائد الشعر التقليدي التي طالما عابها في شبابه»[63].

     أما الدكتور عبد القادر القط فيقرر: «والحق أن من يدرس شعر هؤلاء الرواد دراسة فنية فاحصة بعيداً عن التأثر بآرائهم النظرية في الشعر يجد تفاوتاً كبيراً لديهم بين النظرية والتطبيق»[64]، وأن القارئ لشعرهم «يشعر بشيء غير قليل من التناقض بين آراء هؤلاء الشعراء في الشعر العصري وقوالبهم وأطرهم الواضحة التقليد»[65]. وينتهي الدكتور طه وادي إلى مثل ما انتهى إليه الدكتور عبد القادر القط حيث يقرر: «يبدو أن طموحهم الشعري كان أكبر من طاقتهم، فقد كانوا ذوي صيحات جريئة في النقد، وقدرات متواضعة في الأدب، ومن الطبيعي أن يقابل شعرهم بفتور لأكثر من سبب، وأهم تلك الأسباب هو ضعف الشعر نفسه الذي قدموه»[66]، وحيث يقرر أيضاً أن كتاب «الديوان في النقد والأدب» الذي قامت عليه مدرسة الديوان وحملت اسمه، كتاب ينقد ويهاجم أكثر من كونه يرسي أسساً فنية أو يضع تقاليد جمالية[67]. وكذلك ينتهي الدكتور أحمد هيكل إلى مثل ما انتهى إليه هؤلاء النقاد[68].

     ويصف الدكتور محمد فتوح أحمد مدرسة الديوان بأن لها فضلاً على الجيل اللاحق لها، لكنها لا ترقى إلى مستوى المذهب الأدبي: «ظلت تلك الحركة في نطاق الاتجاه الفكري أو النزعة التي لا ترقى إلى مستوى المذهب الأدبي، وانحصر فضلها على الجيل اللاحق في لفت الأنظار إلى منابع الثقافة الأجنبية، وبخاصة فيما يتعلق بالشعر ونقده، وتبصير الشعراء بالجانب الوجداني في التجربة الشعرية، وبناء القصيدة بناء عضوياً نامياً، وهو ما كان مطران قد أجمل الإشارة إليه»[69].
❊ ❊ ❊

     وتجد آراء العقاد في وحدة القصيدة صداها وامتدادها في أكثر من اتجاه، فالشاعر التونسي الشهير أبو القاسم الشابي يرى «أن طبيعة العرب الخطابة. والخطابة منشؤها حدة الطبع، ومن كان حاد الطبع فإنه لا صبر له على الإطناب والإسهاب لأن الطبع الحاد متسرع عجول، عجول في حكمه، عجول في فعله، عجول في قوله أيضاً، ولا يلائم هاته السرعة النفسية إلا السرعة في أداء المعاني على أخصر أسلوب، وذلك هذا الإيجاز، وهاته النزعة الخطابية التي تؤثر الإيجاز وتميل إليه هي التي فرضت في الشعر العربي «وحدة البيت»، فكانت القصيدة العربية لا تدور على محور واحد تحيط به من جميع النواحي، وإنما هي كون صغير تحشر فيه الأفكار حشراً، وترص فيه المعاني رصاً»[70].

     وفي موضع آخر من كتابه يصف القصيدة العربية بأنها «كحدائق الحيوان فيها من كل لون وصنف، أو كالأرض المقدسة التي يحشر الناس فيها من كل أوب وصوب ومن كل فئة وقبيل»[71].

     انتشرت هذه الروح النقدية التي تعلي من قيمة وحدة القصيدة، وتنتقص من البيت الواحد، وتلوم القصيدة العربية على تفككها وكثرة محاورها وتنوع اتجاهاتها، وحظيت بقبول كبير، وقد مهدت من حيث أرادت أم لم ترد بدعوتها الملحاح إلى التجديد، وبانتقاصها الدائم من النموذج التقليدي الموروث للقصيدة العربية، وعنفها في عرضها لأفكارها، إلى ظهور الأشكال الجديدة من القصيدة العربية، وهذه الأشكال الجديدة تنوعت وتزاحمت، وكثر فيها الضعيف والتافه حتى وصلنا إلى ما سماه بعضهم بقصيدة النثر.
❊ ❊ ❊

     إن الدعوة إلى الوحدة العضوية من حيث هي عمل فني يراد له أن يكون متكاملاً مترابطاً متين النسج، يقع كل جزء منه في مكانه المناسب، وينجو من الاستطرادات، ويركز على فكرة القصيدة وموضوعها، أمر لا غبار عليه، بل هو جيد، وربما كان أكثر انسجاماً مع روح العصر الذي لا يطيق التنوع والانتقال من خاطرة إلى أخرى، ومن محور إلى آخر، لكن العيب الكبير الذي وقع فيه دعاتها هو آفة التعميم والإصرار على انتقاص أي قصيدة مهما كانت جيدة إذا تعددت محاورها، واتهام النفسية العربية بالسذاجة والسطحية خلافاً للنفسية الغربية مما نجده لدى العقاد والمازني والشابي ومن إليهم.

     وآفة التعميم هذه تنسى نسياناً تاماً طبيعة التجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر، فالتجربة الشعرية من التعقد والتنوع بحيث لا يمكن حصرها في قالب واحد نلزم الشاعر أن يعبر من خلاله في كل الأحوال. فقد تكون التجربة ذات دفقة نفسية وحيدة الاتجاه، فيلجأ الشاعر معها إلى إفراغ شحنتها في محور واحد، فينتهي التعبير بانتهاء الشحنة، وهنا نحصل على قصيدة تحقق الوحدة المطلوبة كما فعل الحطيئة في وصف الضيف الطارق والمضيف الجائع، والبحتري في وصف الذئب، وأبو فراس في وصف الحمامة، والبارودي في رثاء ابنه، وحافظ في رثاء البارودي، وشوقي في رثاء عمر لطفي، ومطران في فتاة الجبل الأسود، والقروي في فتى الهيجاء، وإبراهيم طوقان في الفدائي.

     لكن التجربة الشعورية قد تكون ذات دفقات نفسية متعددة الاتجاهات، مما يجعلها تتحدث في موضوعات شتى تتجافى وفكرة وحدة القصيدة، لكن المتابع للخيط النفسي الدقيق الذي يجمع شتات ذلك، يجد نفسه أمام عمل فني، تتحقق فيه الوحدة النفسية للشاعر فتربط أجزاء القصيدة كلها، مما يجعلنا نتقبل هذا العمل قبولاً حميداً، ويقع منا في أحسن المواقع، وذلك أقصى ما يريده المبدع من المتلقي. وربما كانت قصيدة البارودي الشهيرة في رثاء زوجته:

أيد المنون قدحت أي زنــاد     وأطرت أية شعـــلة بفؤادي

     خير مثال لما نقول، فالقصيدة قالها وهو منفي في سيلان يرثي زوجته التي توفيت في القاهرة، وفي القصيدة رثاء للزوجة المتوفاة، وفيها بكاء الشاعر على نفسه حيث تضاعفت عليه المصيبة بسبب غربته، وفيها بكاء الشاعر على بناته اللواتي تركتهن المرثية حزينات كسيرات، فهن يتيمات من جهتين، من جهة فقدان الأم، ومن جهة نفي الأب، وفيها دعاء الشاعر للمرثية بالرحمة، والتماسه الصبر بالتسليم بحكمة الله عز وجل، والتطلع إلى لقائه بزوجته في الدار الآخرة، وفيها النظر في مصارع الأمم القديمة مما يعين الإنسان على الصبر والسلوى. وهذه المحاور المتعددة في القصيدة جعلتها تفقد الوحدة التي يلح عليها النقاد كثيراً، ويجعلونها شرطاً للجودة، ولقد تحققت الجودة في القصيدة مع تعدد محاورها، فكانت بشهادة النقاد من أروع شعر البارودي، بل من أروع المراثي في الشعر العربي قديماً وحديثاً، والسبب في ذلك صدق الشاعر ومقدرته الفنية. وإذن فإن إلزام الشاعر بوحدة القصيدة دائماً أمر فيه تحكم وتضييق ومصادرة، وفيه مخالفة لطبائع الأشياء، وفيه غفلة عن النفس الإنسانية التي تتعدد شحنتها العاطفية، وحدة وتنوعاً، عمقاً وسطحية، صدقاً وكذباً، ليناً وشدة. إن للناقد أن يدعو إلى وحدة القصيدة وله أن يدافع عن رأيه، ولكن في مقابل ذلك للشاعر أن يختار مايشاء، فيجعل قصيدته متعددة المحاور، أو يجعلها ذات محور واحد، والمهم أن يقدم لنا عملاً فنياً يحقق شرطين اثنين: الصدق أولاً والجودة الفنية ثانياً. ولا عليه بعد ذلك أن يوحد أو يعدد، كما لا عليه أن يكون رومانسياً أو رمزياً أو كلاسيكياً، فساحة الإبداع أوسع من ساحة النقد، والنقد ضوء كاشف يقوم ويبصر ويحلل ويوازن ويقترح، لكنه ليس قيداً يغل الطاقة ويجعل المبدعين نماذج نمطية متكررة.

     وإذا كانت الوحدة العضوية مطلباً نقدياً جيداً، فإن تعدد محاور القصيدة أحياناً مطلب نقدي جيد خاصة في قصائد المناسبات التي تحقق هدفاً ذاتياً أو هدفاً دينياً أو وطنياً، وإذا كانت القصيدة الموحدة تحقق متعة عقلية ونفسية وفنية بوحدة موضوعها، وقوة ترابطها وتوازن أجزائها، فإن الأبيات المفردة تحقق أحياناً متعة عقلية وفنية أعلى حين تختزل الكثير في القليل، وتبدو لمعة آخذة أو حكمة شاردة أو قبساً حياً أو تعبيراً مكثفاً عن حقيقة من حقائق النفس والحياة، وسيد من يفعل ذلك هو المتنبي، وهو من أعظم عوامل خلوده وسيرورة شعره، بل إن هذا اللون من الأبيات المفردة أقرب للفطرة العربية، وأدل في التعبير عن التجربة الشعرية، وأبعد عن روح الصنعة والاحتراف، وأقدر على اصطياد خاطر سانح أو شحنة نفسية تكاد تفر، وإذا كان الروض في الربيع بستاناً ممتداً من العطر والجمال يبهج ويروع، فإن قارورة العطر المركز يمكن أن تصنع لنا ما صنعه البستان كما يقول بدوي الجبل:

وتوجز في قارورة العطر روضة     وتوجز في كــــأس الرحيق كروم

     وقد مر بنا أن الأستاذ العقاد الذي دعا بعنف وشدة إلى وحدة القصيدة ولام أحمد شوقي لوماً شديداً لافتقاد شعره هذه الوحدة، أشاد فيما بعد بطائفة من الأبيات المفردة، وأعلى من قيمتها الأدبية ومحصولها النفسي والعقلي.

     وقد علق الدكتور حلمي مرزوق تعليقاً منصفاً على دعوة الأستاذ العقاد إلى الوحدة العضوية، فقال عنها: «على أن الوحدة بهذا المعنى الصارم الذي أراده لها العقاد مسألة فيها نظر كما يقولون، فهذه الوحدة بتركيبها وتعقيدها إنما تختص بالملاحم والفن القصصي أو المسرحي على وجه الخصوص، سبق إليها أرسطو في الحديث عن المأساة وأجزائها وترابطها ترابطاً منطقياً معيناً، ولا شك أن البناء القصصي أو المسرحي يقوم بالضرورة على مثل هذا البناء الهندسي المحكم الذي يذهب به أدنى خلل أو اضطراب، أما الشعر فلا حاجة به إلى هذه الوحدة الصارمة الدخيلة عليه، فهي ليست من بابه ولا حاجة له بها على هذا النحو المغالى فيه عند العقاد، ولا أظنه اندفع إلى هذه المغالاة إلا بدوافع الخصومة والرغبة في تحطيم شوقي على وجه الخصوص»[72]. بل إنه أشاد ببيت القصيد ورأى أنه لا ينافي الوحدة الفنية، فقال: «والحقيقة التي لا مناص منها أن «بيت القصيد» لا يتعارض بحال مع الوحدة الفنية، لأنه في قصاراه تجلي الموهبة في أقصاها، ولا يمنع بحال أن يقع بيت في القصيدة يكون أجمع للحظات الإشراق، وهو ما نقع عليه في آداب أشد المجددين الذين كانت الوحدة الفنية أو وحدة الرؤية هي آخر دعواهم في التجديد، شأن جبران مثلاً في قوله:

خـلق النـــــاس عبيـــداً     للـذي يـــأبى الخضوع

     وإذا جاوزنا المجددين إلى الآداب الأوروبية التي اقتفوا آثارها نرى «بيت القصيد» هنا وهناك فيما قرأناه من هذا الشعر، وحسبنا قول شكسبير المأثور في هملت[73] (To be or not to be) وما شابه ذلك، وتلك مزية محسوبة في شكسبير توافر النقاد عليها فجمعوا له الكثير منها في كتب بخصوصها صنيع القدماء مع المتنبي في حكمه وأمثاله»[74].

     وعلق كذلك الدكتور محمد مندور على دعوة العقاد تعليقاً وصفها فيه بالتعسف إذا أريد إلزام الشاعر الغنائي بها، نظراً لاختلاف طبيعته عن طبيعة الشعر الموضوعي، فقال: «إن المطالبة بالوحدة العضوية لا تكون إلا في فنون الأدب الموضوعي كفن المسرحية وفن القصة والأقصوصة، وأما في شعر القصائد فلا ينبغي أن يطالب بها إلا في الشعر الموضوعي ذي الطابع الواقعي الذي تبنى القصيدة فيه كما قلنا على قصة قصيرة أو دراما سريعة، وأما الشعر الغنائي الخالص أي شعر الوجدان فمن أكبر التعسف مطالبة الشاعر بمثل تلك الوحدة التي لا تقبل تقديماً أو تأخيراً في نسق أبياتها»[75].

     أما الدكتور جابر قميحة فيعترض على ما يسميه المفهوم الحاد الصارم للوحدة العضوية، ويرى أن هذه الوحدة ضمن هذا المفهوم لا وجود لها في الشعر العربي القديم منه والحديث، ويرى أن مكانها هو الملحمة والقصة الشعرية فقط، ويدعم رأيه بالنظر إلى مسودات قصائد بعض الشعراء وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وإضافة، وبالنظر إلى اختلاف القصيدة الواحدة بين طبعة وأخرى لديوان أحد الشعراء[76].

     وإذ ينفي الدكتور قميحة الوحدة العضوية بمفهومها الحاد الصارم عن الشعر الغنائي، ويجعلها في الملحمة والقصة الشعرية، يقر بوجودها في الشعر العربي بمفهومها السمح المرن الذي تحقق القصيدة فيه كلّاً فنياً منسجماً[77].

     هذا النقد الذي مر بنا، والذي يجعل المكان الطبيعي الإلزامي للوحدة العضوية هو الشعر المسرحي والملحمي دون الغنائي، يمكن أن نجد له مشابهاً في النقد الغربي حيث نجد فيه من يتجه بها صوب المسرحية والقصة فيقول: «لقد اعتبرت الوحدة العضوية في التأليف الأدبي منذ أقدم العصور كشيء أساسي إلى حد أن الأقدمين أرسوا قواعد يقصد بها حفظ الوحدة العضوية، فنجد مثلاً قواعد لحفظ الوحدة في المسرحية تبحث تحت مصطلح «جوانب الوحدة». إن وجود فكرة أساسية في كل الأشكال الأدبية وتحقيق غرض واضح يعطيان القارئ انطباعاً بأن العمل الذي بين يديه هو كل فن، ففي السرد القصصي مثلاً تتحقق الوحدة من خلال حبكة أحسن نسجها Closely kint plot، ويغلب أن يكون محور تجمعها حول شخصية مركزية Central Character تحقق الوحدة»[78].

     ولعل من الطريف هنا أن نورد آراء ثلاثة من كبار شعراء العصر الحديث من العراق ومصر وسورية يدلون بها في شأن وحدة القصيدة لنجمع بذلك ما قاله الناقد إلى ما قاله المبدع. ونبدأ بالعراق لنجد الشاعر الشهير جميل صدقي الزهاوي يهاجم في صراحة حاجة القصيدة إلى أي نوع من أنواع الوحدة موضوعية أو عضوية، ويراها قيداً على فكر الشاعر وإحساسه اللذين لا يأتيان إلا في صورة أمواج هي فورات النفس أو ثورتها، يستقل كل منها عن الآخر، فتكون القصيدة حينئذ أشبه بباقة من مختلف الأزهار[79].

     أما الشاعر المصري علي الجارم وهو أيضاً عالم وكاتب وأديب فقد نص صراحة في مقدمة ديوانه أن من مقاييس جودة الشعر التنقل في فنون شتى من القول[80].

     أما الشاعر السوري بدوي الجبل «محمد سليمان الأحمد»، وهو من جيل بعد جيل الزهاوي والجارم الأمر الذي جعله أكثر اتصالاً بالتيارات النقدية الحديثة، فقد كان يرى أن الذين يعتمدون وحدة القصيدة يغلب عليهم التصنع ويفتقدون العفوية[81]. وكان يقول: «أنا لا أؤمن بوحدة الشعر لأن المعاني هي التي تفرض نفسها، أما الالتزام بوحدة الشعر ففيه نوع من الصنعة، وقد يجافي الإبداع، والصنعة مهما تأنقت لا تكون إلهاماً ولا ضوءاً ولا عطراً»[82].

     وآراء هؤلاء الشعراء الثلاثة تتلاقى مع آراء النقاد الذين سبقت الإشارة إليهم في الاعتراض على إلزام الشاعر دائماً بالوحدة المطلوبة، وهذا التلاقي يؤكد أن ساحة الإبداع أوسع مما تضعه قوانين النقد الذي يتحكم ويتعسف، وقد يجيد الشاعر أو يخفق سواء التزم بالوحدة أم لم يلتزم، فالمعول على القدرة الفنية قبل كل شيء.

     بل إن هناك من أدباء الغرب من لا يرى ضرورة الوحدة في القصيدة، وحجتهم في ذلك أن الحياة نفسها مزيج مضطرب من الأشياء التي لا وحدة لها، فما دام الأمر على هذه الصورة فإن الفن يجب أن يكون هو الآخر مزيجاً مضطرباً من الأشياء[83].

     وثمة قول بديع للشاعر الناقد الأمريكي المغامر أزرا باوند يقرر فيه «أن الصورة هي التي تقدم مركباً ذهنياً ووجدانياً في كل لحظة من الزمن، وهذا التقديم الفوري الخاطف هو ما يتيح لنا في حضور أعظم أعمال الفن ذلك الإحساس بالتحرر المفاجىء، ذلك الإحساس بالتحرر من حدود الزمان والمكان، ذلك الإحساس بالنمو الفجائي. وتقديم صورة واحدة في العمر خير من تقديم مجلدات من الصور»[84]. وقول بديع آخر يقرر فيه أن «من الأفضل للشاعر أن ينجح في تسجيل واقتناص استنارة واحدة حية في سطر أو سطرين خير من كتابة ألف سطر»[85].

     ومن الواضح أن هذه الإبداعات المفاجئة والاستنارات الحية التي يعلي أزرا باوند من شأنها كثيراً لا تأتي إلا في أبيات مفردة ليس بينها وبين وحدة القصيدة سبب أو نسب. ويلتقي ما قاله أزرا باوند مع ما قالته فرجينا ولف: «لم يأت الإلهام العظيم أبداً، وربما لن يأتي الإلهام العظيم أبداً، ولكن عوضاً عنه هناك المعجزات اليومية الصغيرة، استنارات، أعواد ثقاب تشتعل على نحو فجائي في الظلام»[86]، وهل هذه الأعواد الثقابية التي تومض إلا تلك الأبيات المفردة التي تعبر تعبيراً مكثفاً مركزاً عن فكرة أو سانحة أو خاطرة، فتسجلها وكأنها تقتنصها اقتناصاً خوف فواتها لتبقى مثلاً شروداً أو حكمة بالغة أو صورة غنية، يرددها الناس ما وجدت الدواعي المماثلة لها فيكتب لها الخلود والشيوع وتنتقل من الخاص إلى العام لتحيا في ضمير الناس وكأنها تعبر عنهم أجمعين؟.
❊ ❊ ❊

     ويقرر الأستاذ خليفة محمد التليسي أن الشعر الغربي، مثله مثل العربي، فيه الأبيات المفردة الشاردة التي لا تنتمي إلى وحدة القصيدة بحال، ويرد على الشطط الذي رافق الدعوة إلى هذه الوحدة، من مبالغات وغلو، ومقارنات لا أساس لها في خصائص الشعوب تزعم أن للآريين صفات نفسية وعقلية وهبتهم مزايا انعكست على شعرهم فتفوق على الشعر العربي، وذلك بسبب طبيعة بلادهم الملأى بالجمال والأهوال والأشباح والتنوع والضخامة، مما أغنى خيال أهليها خلافاً لطبيعة العربي الجافة الواضحة التي يسودها الإملال والرتابة والنمطية والتكرار مما جعل خيال الشاعر العربي دون خيال الشاعر الغربي[87].

     يقول: «والدعوة إلى الوحدة الموضوعية والعضوية للقصيدة دعوة سليمة في حد ذاتها لا غبار عليها. وربما كان الشعر العربي في المرحلة الماضية في حاجة شديدة إليها حتى يتلاءم مع روح العصر، ويعبر عن الحاجات الجديدة للشاعر الذي لم يعد يطيق القفز أو التنقل من خاطرة إلى أخرى، وبين مختلف اللحظات والانفعالات الشعرية. ولكن عيب هذه الدعوة أو عيب دعاتها على الأصح التورط في أحكام ومقارنات خرجت عن حدود القضية وحجمها إلى مجالات أبعد وأخطر حين عقدت المقارنات بين النفسية العربية والغربية، وبشكل جائر».

     «ومن الواضح أن هذه المقارنات لا تقوم على أساس علمي، فليس هناك خصائص ملازمة للشعوب لا تتحول عنها، ولعل في إعجاب هؤلاء بالنماذج التي أعجبوا بها ما يدل على تجاوب الطبع العربي ولو كان ذلك الطبع ملازماً لمزاج خاص لا يعدوه لرفضها رفضاً قاطعاً...، فالشعر الغربي ليس تصويراً كله كما توهمه الشابي، والشعر الغربي يحفل بصور كثيرة من تركيز التجربة وتعقيلها وتتردد فيه الحكمة المجردة والمثل السائر، بل والنثرية السطحية والمباشرة الساذجة، ويكفي أن نشير هنا إلى أن شعراءهم الكبار لا يعيشون في الذهن إلا بأقوالهم التي اتخذت طابع الحكمة والمثل السائر... ونظرة عابرة إلى ما ينشر حتى اليوم وفي طبعات شعبية رخيصة من مختارات ومجاميع لأحسن الأقوال والأشعار التي يتمثل بها تؤكد التشابه الواضح في هذا النزوع الإنساني إلى هذا الضرب من التجارب والتعابير المكثفة المركزة... إن شاعراً كدانتي لا يعيش في النفس إلا ببعض الكلمات السائرة والومضات الشعرية الخاطفة التي تتألق من حين إلى آخر في عالمه... وشكسبير يعيش في الذهن الغربي بتعابيره الجميلة المقتطعة من مسرحياته ومقطوعاته الشعرية الخالدة المعبرة عن لحظات العاطفة اللاهبة والذهول الشعري، فالتعبير السائر والفقرة الواحدة أو الجملة الواحدة التي تشبه البيت الواحد من الظواهر الواضحة في الشعر الغربي كما هي في الشعر العربي وفي كل شعر إنساني»[88].

     وقيمة هذا الرأي النقدي للأستاذ التليسي أنه يرد موضوعياً على دعوى الخصائص الملازمة للشعوب التي بنى عليها دعاة الوحدة رأيهم الذي يعلي من الخيال الغربي ويزري بالخيال العربي، فالخصائص ليست ثابتة، والذوق يتحول ويتطور، والقول بثباتها يتناقض وطبيعة التجربة الشعرية، بل ويتناقض مع طبيعة النفس الإنسانية التي لا يمكن التعامل مع قوانينها كما نتعامل مع قوانين الأشياء المادية. إن قوانين الأشياء المادية طابعها الثبات المطرد، أما قوانين النفس الإنسانية ففيها ما هو ثابت وفيها ما هو متغير، والذوق مما يقع في دائرة المتغيرات.

     وثمة قيمة أخرى لرأي الأستاذ التليسي، وهي أن وحدة البيت التي طالما عابها من عابها من النقاد على الشعر العربي موجودة في الشعر الغربي، ولدى عدد من أشهر أعلامه ورموزه.

     ويطيب لي جداً أن أشيد بما قرره الأستاذ التليسي من أن التراث العربي ظلم مرتين: مرة حين أنكرت عليه المذاهب التجديدية ذلك التركيز والتكثيف والبيتية الواحدة المقفلة، ومرة أخرى حين وصفته بالثرثرة الشعرية وعدم التركيز والتكثيف[89]. إن فكرته هذه، فكرة مركزة، صحيحة وغنية، وشجاعة وذكية، وضعت إصبعها على توجه نقدي يذم الشعر العربي بما يمدح به الشعر الغربي، ثم يعود إلى النقيض ليكرر الظلم مرة أخرى.

     إنه داء التعميم، والمبالغة، والمجازفة في إصدار الأحكام، والغفلة عن حقيقة النفس الإنسانية، والجهل بطبيعة التجربة الشعورية، ومحاولة صب المبدعين وصب إبداعاتهم في قوالب ثابتة.
***

عمر أبو ريشة والوحدة العضوية:

     ترى أين يقع شعر عمر أبو ريشة من هذه الوحدة العضوية؟ وما مدى التزامه بها وهو الذي كان يؤكد دائماً وباعتزاز أنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت، كما يتوهم الكثير من النقاد، وأن القصيدة عنده وحدة لا تتجزأ؟.

     والنظر في ديوان عمر أبو ريشة يقود الدارس إلى الحكم بأن صاحبه عني بوحدة القصيدة عناية واسعة تبرر اعتزازه المذكور، وبأن هذه الوحدة تمثل معلماً من أهم معالم أمجاده الشعرية. ولقد أشاد النقاد والدارسون كثيراً بهذه الظاهرة الفنية عند عمر أبو ريشة، فوصفه الدكتور ميشال جحا بأنه «شاعر قصيدة وليس شاعر بيت، والقصيدة تدور عنده حول فكرة محورية محددة ترتكز على اللون والنغم والخيال»[90]. ووصف الأستاذ مصطفى عكرمة قصيدة عمر أبو ريشة بأنها «متكاملة ومنسقة يأخذ كل بيت فيها بيد ما قبله ليظل مرتبطاً بما بعده حتى يصل إلى ختام القصيدة التي أحسب أنه كاد أن ينفرد بها في معظم قصائده، فختام القصيدة أو بيت الصدمة كما كان يسميه، هو عنده موظف أمين أحسن اختياره وتوظيفه، فأحسن هذا الموظف خدمته فإذا هو باهر كل الإبهار، ممتع كل المتعة، ومثير وملهم على نحو عجيب أو فريد. لقد حرص كل الحرص على تكامل القصيدة ووحدتها وإقامة بنائها من غير نتوءات ولا ملحقات جانبية أو إضافات، فقد كان يرحمه الله ولوعاً بوحدة القصيدة وتناسق أعضائها، إذ كان كل بيت عنده عضواً في جسد القصيدة، ولكم كان حريصاً على جمال هذا العضو وتآلفه مع بقية إخوته الذين تتشكل منهم قصيدته!»[91].

     وحين وقف الأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي عند إحدى قصائده أحس أنه أمام عمل مكتمل متماسك يمنعه أن يقتطف شيئاً من أبياتها كما فعل مع سواه، فقال: «ولا يمكننا في مثل هذه التجربة أن نقطف منها بعض أبياتها كما فعلنا في قصيدة أبي شادي لتماسك أبياتها تماسكاً يكاد يكون عضوياً»[92].

     أما الأستاذ الشاعر حسن عبد الله القرشي فقد وصفه بأنه كان فرداً في تنسيق القصيدة العربية وهندستها[93] ، ووضعه الأستاذ عبد الله سالم الحميد بأنه اشتهر بوحدة القصيدة[94].

     والحقيقة أن ديوان الشاعر يسعفنا كثيراً بقصائد تتحقق فيها هذه الوحدة العضوية، فمثلاً قصيدته «صلاة» التي تتكون من ثمانية أبيات تحقق هذه الوحدة:

رب طوقــت مغــانينــا؛ جمــالاً وجــــــلالا
ونثـــــرت الخيــــر فيــهن؛ يمينـــاً وشـمالا
وتجليـــت عليـــهن؛ صـليبـــــــــاً وهـــلالا
رب هـــذي جنــة الدنيــا؛ عبيــراً وظــلالا
كيف نمشي في رباها الخضر تيهاً واختيالا
وجــراح الــذل نخفيــها عن العــــز احتيالا
ردهـــا قفــراء إن شــئت، وموِّجْهــا رمالا
نحن نهواها على الجَدْب؛ إذا أعطت رجالا

     تحمل هذه القصيدة اسم «صلاة»، وهو اسم موفق في الدلالة على موضوع القصيدة التي يتجه الشاعر فيها إلى رب العالمين شاكراً له ما منَّ به على بلاده من نعم، متسائلاً بحرقة عن ذل أهليها وهوانهم، مفضلاً أن تعود جديبة قفراء إذا كان ذلك ثمناً لعودة الرجولة والبطولة إلى أهليها، لأن الترف يقود للضعف والعجز، والشدة تقود للقوة والتحدي.

     ومن هذا يتبين أن القصيدة، دينية وطنية، أما جانبها الوطني فيعود إلى حرقة الشاعر على بلده وذويه، واعتزازه بوطنه وخيراته وجناته، ورغبته العارمة أن يمتلك الوطن أسباب القوة ولو على حساب الثراء والنعمة، وأما جانبها الديني فيتضح من العنوان «صلاة» بادئ ذي بدء، ويستمر في نسيج القصيدة كلها، حيث يظل توجه الشاعر إلى الله عز وجل يملأ القصيدة كلها، وهو يشكره على نعمه العظيمة، ثم وهو يشكو إليه هوان ذويه، ثم وهو يدعوه في النهاية ليعيد لوطنه أسباب القوة والغلبة.

     الأبيات الأربعة الأولى إشادة بالنعم والمزايا التي وهبها الله تعالى للوطن، الأمر الذي يجعله عزيزاً على أبنائه، ويجعل واجبهم في نصرته وإعلاء شأنه أمانة كبيرة في أعناقهم، وهنا تكون المفارقة أكبر وأبلغ، حين نعلم من البيتين الخامس والسادس أن أبناء الوطن فرطوا في حقه عليهم، فهان وهانوا، وربما كان السبب غنى هذا الوطن الذي لا يستحقه أبناؤه، لذلك يأتي البيتان السابع والثامن دعاء ضارعاً إلى الله تعالى أن يذهب نعم الوطن، وأن يجعله قفراً جديباً، لعل ذلك ينبت الرجولة في أبنائه، فيعيدوا له عزته وكرامته.

     القصيدة ذات موضوع واحد له جانبان، جانب وطني وآخر ديني، وهي من عنوانها حتى آخر بيت فيها تدور حول موضوعها، تشيد بالوطن، وتبكي حاله، وتدعو له، وليس فيها استطالات أو امتدادات، وليس فيها استطراد هنا أو هناك، كما أن أبياتها تتوالى توالياً منطقياً متسلسلاً، وبهذا تحقق القصيدة شرط الوحدة العضوية أحسن تحقيق، وتترك بذلك لدى المتلقي أثراً واضحاً محدداً يحقق هدف الشاعر، وبهذا يتم التواصل بين المبدع والمتلقي، ويعيش كل مع الآخر في جو حي موصول.

     والأمر نلقاه هو الآخر في قصيدة الشاعر «هؤلاء» التي يقول فيها:

تتســـــاءلين عــــــلام يحـ     ـيـــــا هؤلاء الأشقيـــــــاء
المتـــعبــــون ودربهــــــم     قـفـــر ومرمـــاهم هبــــاء
الــذاهـــــلـون الواجـمــــو     ن أمام نعش الـكبـريــــــاء
الصـــابرون على الجـــرا     ح المطرقون على الحيــاء
أنســــتـهم الأيـــــام مــــــا     ضحك الحياة؟ وما البكاء؟
أزرت بـدنيــــــاهم ولـــــم     تتــرك لهـــم فيــها رجــاء
تتســـاءلين وكـيـــف أعـــ     ــلم ما يــرون على البقــاء
اِمضي لشـــأنك.. اُســكتي     أنــــا واحـــد من هــــؤلاء

     تدور هذه القصيدة حول حالة الذل والخزي التي يعيشها الناس، بما فيهم الشاعر الذي لايبرئ نفسه مما حل بقومه، وهي تقع في ثمانية أبيات تتوالى توالياً مطرداً لا نتوء فيه ولا عوج ولا استطالة من أولها إلى آخرها.

     في البيت الأول نلتقي بالحقيقة المحزنة وجهاً لوجه حين نرى إحداهن تتساءل بسخرية ومرارة عن السبب الذي يدعو الناس إلى البقاء أحياء مع ما هم فيه من شقاء، ثم تتوالى خمسة أبيات نرى فيها ألوان السوء المحيطة بهم، فهم متعبون، ودربهم قفر، وهدفهم سراب، والذل محيط بهم يجعلهم بلا عزة ولا كبرياء، وهم صابرون صبر الذليل الخانع، وهم من هوانهم فقدوا القدرة على العمل وعلى الغضب حتى مات فيهم الأمل وأطبق عليهم اليأس، بعد هذه الأبيات الخمسة يعود التساؤل في البيت السابع: إذن لماذا يعيش هؤلاء مع كل ما بهم؟ ثم يأتي بعده البيت الثامن ليفاجئنا الشاعر ويفاجىء من سألته بأنه أقر بكل ما تقول، وزاد عليها أنه جعل نفسه واحداً من هؤلاء الأشقياء، لم يتنصل، ولم يبرئ نفسه، ولم يجعل منها واعظاً يرى السوء في الآخرين ويغفل أو يتغافل عن حاله هو.

     القصيدة قطعة متصلة مسترسلة، ذات موضوع واحد، صورت حالة معينة أحسن تصوير، ونقلت إحساس الشاعر إلى المتلقي، وأوصلت إليه ما أراد أن يثيره فيه من سخط على واقع بائس وذل مقيم، وتوالت أبياتها توالياً مطرداً حتى وصلت إلى قرارتها في البيت الأخير، فأحدثت الأثر المطلوب، واكتملت الدائرة الكهربائية شعرياً بين شاعر يقول، ومتلق يتفاعل.

     لذلك كله يمكن أن توصف هذه القصيدة بأنها حققت شرط الوحدة العضوية، وصارت نموذجاً من نماذجها الكاملة.

     وفي قصيدة الشاعر «بسمة التحدي» نجد أنفسنا إزاء قطعة تتصف بالوحدة العضوية، وهي قصيدة وطنية تصور شهيداً يموت مبتسماً مع أن الأهوال تحيط به، وإذا كان العنوان دقيق الدلالة على القصيدة، فإن الجملة النثرية الوجيزة التي تجيء بعده بقليل تزيد الأمور وضوحاً وهي «هكذا يمضي شهيدنا» ومن العنوان أولاً، ومن الجملة الملحقة به ثانياً؛ نكون فكرة عامة عن القصيدة لكنها واضحة، وهي أننا أمام شهيد يسير على دربه إلى النهاية وهو مسلح بالعزيمة والتحدي والابتسامة العنيدة:

يبســم من علمه كيف يطـيـب الألم
ســـلاحه على الثرى مبعثر محطم
وصــدره ممزق يسيـــل فوقه الـدم
وحولـــه أعــداؤه تلعنـــه وتشتــــم
تمعـــن في تعذيبه لعـــله يستســـلم
أو ينثني عن زهوه بقوله أستــرحم
أزرى بذل حقدها ومات وهو يبسم

     تتكون هذه القصيدة من سبعة أبيات تدور كلها حول شهيد يعاني الأهوال في ساعاته الأخيرة لكنه يثبت إلى النهاية ليموت بطلاً شجاعاً متحدياً، وإذا كان عنوان القصيدة وما لحق به من جملة توضيحية، يساعدنا على الولوج إلى عالم القصيدة، فإن الأبيات تتوالى من أولها إلى آخرها لتأخذنا خطوة خطوة، كل واحدة تلي أختها بانتظام واتساق وتسلسل، ففي البيت الأول نجد البطل باسماً والآلام تحيط به، ثم يأتي بيتان آخران يصوران حال البطل، فسلاحه مبعثر مفلول مما يجعله غير قادر على القتال، وصدره ممزق من الجراح تسيل منه الدماء مما يجعله في حالة عجز لا يلام عليه، ثم تأتي ثلاثة أبيات تصور أعداءه المحيطين به يريدون أن يستثمروا حالة ضعفه وعجزه، لعلهم يحصلون منه على سر يفشيه، أو كلمة استرحام يشفون بها صدورهم المغيظة المحنقة من عناده وثباته، بل وزهوه وكبريائه، لكنه وهنا نصل إلى البيت الأخير يتعالى عليهم ويزري بأحقادهم، ويموت وهو مبتسم، لم يظفروا منه بشيء مما يؤملون. لقد مات بين أيديهم، لكنه مات منتصراً بطلاً.

     والنظر في الأبيات يكشف عن وحدتها التامة، موضوع واحد، نجد أنفسنا فيه مع البطل منذ العنوان والبيت الأول، ثم نجد أنفسنا مع حالة البطل التي قد تكون مبرراً لضعفه لو بدر منه ضعف، ثم نجد أنفسنا مع عدو حقود محيط به، ثم تجيء الخاتمة ليموت البطل الميتة التي تليق به. تسلسل في الحدث، واختيار للأبيات يجعل كل بيت في مكانه لا يتقدم ولا يتأخر، وغياب لأي استطراد أو شذوذ أو استطالة، وقفلة محكمة في البيت الأخير، تنتهي معها القصيدة، دون أن تشعر أنك بحاجة إلى كلمة أخرى.

     وقصيدة عمر أبو ريشة «هكذا» التي يصور فيها عربياً ثرياً سفيهاً ينفق في ليلة واحدة ستين ألف دولار على عشيقته، في الوقت الذي تحيط فيه الكوارث بالعباد والبلاد دون أن يمنعه عن سفاهته دين أو وطنية أو حياء أو انتماء، قصيدة تحقق الوحدة العضوية وتتسم بها:

صــــاح يا عبــــد فرف الطيــــــب
               واستعر الكأس وضج المضجع[95]
منـــتهى دنيــــاه نهــــــد شــــــرس
               وفــــم ســـمح وخصـــــر طيـــــــع
بـــدوي أورق الصخـــــــــــــر لــه
               وجــــرى بالسـلسـبيــــل البـــــــلقع
فـــــإذا الـنخــــوة والـكبـــــــر على
               تـــــرف الأيـــــام جــرح موجـــــع
هانــــت الخيـــــل على فرســـــانها
               وانطـــوت تـلك السيـــوف القطـــع
والخيـــام الشـــــم مالــت وهــــوت
               وعـــوت فيـــها الريــــــاح الأربــع
قــــال يا حسنــــاء ما شــئت اطلبي
               فـكلانــــــا بالغــــــوالي مولــــــــع
أختـــــك الشقــــــراء مـدّت كـفـــها
               فـــاكتسى من كـــل نجـــم إصبــــع
فــــانتقى أكــــرم ما يهفـــــــو لـــه
                معـصــم غـــض وجيـــــد أتــــــلع
وتــلاشى الطيــــب من مخـــــدعه
                وتـــولاه السبـــــات الممتــــــــــــع
والذلـيــــل العبــــد دون البــــاب لا
               يغـــمض الطرف ولا يضطجــــــع
والـبطـــولات عــــــلى غربتـــــهـا
               في مغـــانينـــا جيــــــاع خشـــــــع
هكــــــذا تقـتحـــــم القــــــدس على
               غـــاصبيهـــا هـكـذا تستـــــــــرجع

     هذه القصيدة قصة اجتماعية وطنية، غاضبة وساخرة معاً، التقط فيها الشاعر حادثة تلفت النظر، وتستجيش الغضب، وتستدعي المرارة والحزن والسخرية، فكان موفقاً منذ البداية في التقاط الحادثة، وفي اختيار العنوان «هكذا» الذي سنجده في البيت الأخير حيث الخاتمة الساخرة الحزينة، وفي الجملة النثرية التي جاءت بعد العنوان لتكون مدخلاً توضيحياً يأخذ بأيدينا إلى جو القصيدة، وهي «في ليلة واحدة أنفق أحد رعايا المحميات البريطانية ستين ألف دولار على عشيقته». ومنذ البيت الأول نجد أنفسنا وجهاً لوجه مع الموقف المخزي بأبعاده: من عبد يؤمر، وطيب ينشر، وكأس محموم، وسرير معد للإثم.

     أما البيت الثاني فهو يتم سابقه، إذ يقدم لنا في تكثيف مركز خلاصة ما يريده هذا الآثم السفيه، وهو الظمأ إلى الرغبة الجنسية نهداً وفماً وخصراً. ثم تتوالى أربعة أبيات نجد فيها مفارقة محزنة تكشف البون الواسع، بين ما كان ينبغي أن يكون عليه بطل القصة من مكارم تفرضها عليه تقاليده وأصالته وتاريخه، وبين ما آل إليه حين تخلى عن ذلك كله وسقط في مستنقع الإثم. بعد ذلك نجد أنفسنا مع ثلاثة أبيات نلقى فيها الحسناء وعاشقها، وهو مستهام بها، خاضع لها، مستجيب لكل ما تريد، ينفق عليها ما تشاء ويدعوها إلى الاختيار، بل والمغالاة في الاختيار.

     أما البيت العاشر فنلتقي فيه بالبطل، وقد تولاه السبات اللذيذ بعد أن قضى وطره، والبيت مركز خاطف، لم يتوقف عند مشهد السقوط لا في قليل ولا في كثير الأمر الذي يحمد للشاعر، يلي ذلك بيت نرى فيه العبد واقفاً كالتمثال حيث أمره سيده وكأنه آلة ميكانيكية لا رأي لها ولا عاطفة ولا موقف. ثم يأتي بعد ذلك البيتان الأخيران ليوظفا كل ما سبق من أبيات توظيفاً وطنياً ساخراً، حيث البطولات العربية غريبة ذليلة، وحيث التساؤل المحزن عما إذا كان هذا العمل الآثم طريقاً لاسترداد القدس واسترجاعها.

     وهكذا يدل التأمل في القصيدة من أول بيت فيها، بل من عنوانها، حتى آخر بيت فيها، أنها قصيدة ذات موضوع واحد تتوالى فيه الأبيات توالياً منطقياً مطرداً، دون أن تكون هناك ثغرات نقص، أو استطالات زيادة. إنها عمل يكاد يكون مرسوماً بدقة، أعان عليه أنه يقوم على قصة لها بدء وذروة وخاتمة.

     والبيت الأخير بالذات بيت غني ساخر، يختم القصيدة بشكل يستثير دواعي الغضب والنقمة على هذا العبث وأصحابه، ويستفيد ببراعة من وضع العبث في مقابل الواجب المنسي الذي يدعونا جميعاً للقيام به إزاء قضية دينية وطنية كبرى.

     هذه القصيدة، قطعة محكمة النسيج متينة البناء مترابطة العرى، تقدم نموذجاً حياً من نماذج الوحدة العضوية في شعر عمر أبو ريشة.

     ولعمر أبو ريشة قصيدة تحمل اسم «لوعة» ذات موضوع واحد وهي تحقق شرط الوحدة العضوية تماماً، لكنها تتميز عن بقية شعر عمر أبو ريشة كله، ما حقق الوحدة العضوية وما لم يحقق، بل تتميز تميزاً متفرداً عن الشعر العربي. وتقع هذه القصيدة في أربعة وعشرين بيتاً نوردها الآن كاملة قبل دراستها، ليتسنى لنا قراءتها جيداً قبل الدخول في عالمها، وقبل محاولة التعرف على مناحي تفردها وتميزها:

خــــط أخـــتي لم أكن أجهــــــله     إن أخـــــــتي دائماً تـكتـــــب لي
حدثتني أمس عن أهــــــلي وعن     مضــض الشـــوق وبعد المنـزل
ما عســـــاها اليوم لي قـــــائــلة     أي شيء يـــا تـــرى لم تقـــــــل
وفضضت الطرس لم أعثر على     غيـــر سطـــر واحد مختــــــزل
وتهجّيـــــت بجـــــهد بعضــــــه     إن أختي كتبـــــت في عجـــــــل
فيــــه شيء عن عليٍّ مبـــــــــهم     ربمـــــا بعــــد قليـــــل ينجــــلي
وتوقفــــت ولم أتــــــــــــمم وبي     رعشــــات الخـــــائف المبتهـــل
وتراءى لي عـــلي كاسيـــــــــــاً     من خيــــوط الفجر أسنى حــــلل
مـرح اللفـتـــــة مزهـــو الخـطى     ســـلـس اللهجة حلو الخجــــــــل
تســــأل الـبســـمة في مرشـــــفه     عن مواعيــــد انسـكاب القبـــــل
وبـنــــات الحي في ملعبــــــــــه     راحــــة تومي وطرف يجتــــلي
طلعــــة أستقبـــــل الدنيـا بهـــــا     نــــاعم البـــال بعيــــد المــــأمل
❊❊❊

كــــم أتى يشرح لي أحـــــــلامه     وأمانيــــه عـــــــلى المســــتقبل
قـــــال لي في كبريــــاء: إنـــــه     يعــــرف الدرب لعيش أفضــــل
إنــه يـكــــــره أغــــــلالي الـتي     أوهنت عزمي وأدمت أرجــــلي
ســـوف يعطي في غد قريتــــــه     خبــــرة العــــلم وجهد العـــــمل
وسيــــبني بيتـــــه في غـــــــابة     تتــــرامى فوق سفــــح الجبــــل
وسأعتــــــز بـــه في غـــــــــده     وأراه مثـــــــــلاً للرجـــــــــــــل
❊ ❊❊

عـــدت للطرس الذي ليـــس بــه     غيـــر ســطر واحد مختـــــــزل
وتجـــــــالدت لعـــــلي واجــــــد     فيــــه ما يبعــــــد عني وجــــلي
وإذا أقـفـــــــل معـنـــــــــاه على     وهمي الضــــــارع كل الســـبـل
غرقـــــت عينــــاي في أحرفــه     وتهــــاوى مزقـــــاً عن أنمـــلي
❊❊❊

قـلــــب أختي لم أكن أجهــــــــله     إن أخــتي دائماً تحســــــــــن لي
ما لهــــا تنحــــرني نحـــراً على     قولهــا: مات ابنها.. مــــات علي

     حملت هذه القصيدة اسم «لوعة» وهو اسم يشي بالحزن، لكنه لا يحدد لنا بالضبط سبب الحزن، فربما كان حزناً لغربة، أو لإخفاق، أو لغدر، أو ليأس، وما إلى ذلك مما يسبب اللوعة لدى الناس، بعد العنوان تأتي جملة نثرية وجيزة تجعلنا هي الأخرى في جو الحزن بدون تحديد، وهذه الجملة هي «سافر الحبيب علي الشهابي مع الفجر» والسفر هنا قد يكون بسبب خلاف، أو بحث عن رزق، أو من أجل الدراسة، أو من جراء مشكلة سياسية، وما إلى ذلك، لكن السبب الحقيقي المحدد لم يتضح بعد، إلا أن السفر مع الفجر يوحي بالظنون السوداء إذ يتم بشيء من السرية والكتمان، ويجعل المرء يتساءل: أهو اعتقال في غلس الليل!؟ أم كارثة تدعو إلى التستر والخفاء!؟ وما إلى ذلك مما جرت العادة أن يقع في غفلة من الناس أثناء نومهم وخلو الشوارع منهم!.. على كل حال نحن لا نزال في جو من اللوعة والتوجس، ولكننا لم نضع أيدينا على حقيقة الأمر بوضوح وجلاء.

     بعد ذلك ندخل في جو القصيدة من بيتها الأول لنعلم أن الشاعر تلقى رسالة من أخته:

خـط أختي لـــم أكـن أجهــــــــله     إن أخـتي دائمــــاً تـكتـــــــب لي

     لكن البيتين التاليين لهذا البيت يجعلاننا في حيرة نتساءل فيها مع الشاعر عن الداعي لمثل هذه الرسالة، وبالأمس كان الشاعر معها يحدثها وتحدثه، ترى ما الجديد الذي لم تقله بعد؟

حدثتـــــني أمس عن أهلي وعن     مضــض الشوق وبعد المنــــزل
ما عســــاها اليوم لي قائــــــــلة     أي شيء يـــــا ترى لم تقـــــل!؟

     إذن فلننتظر كما انتظر الشاعر، ولنقرأ معه الرسالة التي لا تحتوي إلا سطراً واحداً كتب على ما يبدو في عجلة واضطراب مما جعل الشاعر يتهجاه تهجياً حتى يفهمه مع معرفته القديمة بخط أخته:

وفضضت الطرس لم أعثر على     غيـــر سطـــر واحد مختــــــزل
وتهجّيـــــت بجـــــهد بعضــــــه     إن أختي كتبـــــت في عجـــــــل
فيــــه شيء عن عليٍّ مبـــــــــهم     ربمـــــا بعــــد قليـــــل ينجــــلي
وتوقفــــت ولم أتــــــــــــمم وبي     رعشــــات الخـــــائف المبتهـــل

     لقد فضضنا الطرس مع الشاعر وتوقفنا عند السطر الوحيد المكتوب فيه على عجل، لكننا لم نفهم شيئاً بعد، وإن كان جو اللوعة والتوجس والمخاوف السوداء يتزايد بسبب الأشياء المبهمة التي لا بد من الانتظار حتى تنجلي، وبسبب توقف الشاعر عن قراءة الرسالة، وهي سطر واحد لا غير وبسبب ما اعتوره من إشفاق جعله يرتعش خائفاً وجلاً، وحمله على الابتهال إلى الله عز وجل، أن يربط على قلبه، وأن يجعل العاقبة خيراً.

     نحن حتى الآن لم نعرف جلية الأمر، وإن كانت مخاوفنا على عليٍّ تزداد ظلمة، وهنا يبرز لنا علي في خلد الشاعر وفي أحلامه، فتى غض الإهاب يضج بالعافية والمرح والتطلع إلى الآمال المتوقعة من شاب واعد مثله من زواج وآمال وثقة وزهو ومرح وحياء:

وتراءى لي عـــلي كاسيـــــــــــاً     من خيــــوط الفجر أسنى حــــلل
مـرح اللفـتـــــة مزهـــو الخـطى     ســـلـس اللهجة حلو الخجــــــــل
تســــأل الـبســـمة في مرشـــــفه     عن مواعيــــد انسـكاب القبـــــل
وبـنــــات الحي في ملعبــــــــــه     راحــــة تومي وطرف يجتــــلي
طلعــــة أستقبـــــل الدنيـا بهـــــا     نــــاعم البـــال بعيــــد المــــأمل

     ترى ما الذي علمناه عن موضوع الرسالة التي وصلت الشاعر من أخته؟ لم نعلم شيئاً إلا أنها تتصل بعلي الشاب الواعد، وأن في الأمر ما لا يسر. بعد ذلك تأتينا ستة أبيات تنقلنا إلى ما كان حواراً بين علي وبين خاله الذي يؤثره ويعتز به، والجديد الذي تقدمه هذه الأبيات فيما يتصل بشخصية علي أنه ذو عزيمة وكبرياء، وأنه عازم على اقتحام المستقبل لصناعة غد أفضل، وأنه ذو طموح بعيد يجعله يلوم خاله على ما يظنه عجزاً يحيط به، وأنه فوق هذا وذاك ذو أحلام عامة تتجاوز الاهتمامات الشخصية المشروعة، فهو ينوي أن يقوم بواجبه إزاء قريته ويمنحها خبرته وجهده وعلمه، وأنه ذو طبيعة شاعرية تجعله يفكر أن يختار موقع بيته في غابة تمتد فوق الجبل ليجعله مستقراً لحياته وأسرته وأحلامه، هذا كله يجعل الخال يعتز بابن أخته أيما اعتزاز، ويراه نموذجاً للرجل الجدير بالتقدير:

كــــم أتى يشرح لي أحـــــــلامه     وأمانيــــه عـــــــلى المســــتقبل
قـــــال لي في كبريــــاء: إنـــــه     يعــــرف الدرب لعيش أفضــــل
إنــه يـكــــــره أغــــــلالي الـتي     أوهنت عزمي وأدمت أرجــــلي
ســـوف يعطي في غد قريتــــــه     خبــــرة العــــلم وجهد العـــــمل
وسيــــبني بيتـــــه في غـــــــابة     تتــــرامى فوق سفــــح الجبــــل
وسأعتــــــز بـــه في غـــــــــده     وأراه مثـــــــــلاً للرجـــــــــــــل

     يعود الشاعر بعد هذه الأبيات التي استحضر لنا فيها علياً بأحلامه وخططه وحوار خاله معه، وإعجاب الخال بابن الأخت الشاب الواعد، إلى الرسالة التي يحاول قراءة السطر الواحد المختزل فيها، وهو بين وجل الخوف من مفاجأة محزنة وبين الأمل الذي أخذ يتلاشى ويذوب:

عـــدت للطرس الذي ليـــس بــه     غيـــر ســطر واحد مختـــــــزل
وتجـــــــالدت لعـــــلي واجــــــد     فيــــه ما يبعــــــد عني وجــــلي
وإذا أقـفـــــــل معـنـــــــــاه على     وهمي الضــــــارع كل الســـبـل
غرقـــــت عينــــاي في أحرفــه     وتهــــاوى مزقـــــاً عن أنمـــلي

     لم نعلم شيئاً بعد إلا أن كفة المخاوف أخذت ترجح على كفة الآمال التي أغلقت السبل دونها، مما جعل الشاعر يزداد إحساساً بأن ثمة فاجعة ما في هذا السطر الواحد المختزل كلاماً المضطرب خطاً الذي بعثت أخته به إليه.

     يبقى من القصيدة بيتان، الثالث والعشرون والرابع والعشرون، أما الأول منهما فهو إشادة من الشاعر بأخته التي تحسن إليه دائماً الأمر الذي يتوقع معه المرء أنها كتبت له في الرسالة ما يسر، والثاني المفاجأة الكبيرة المحزنة التي تقف على الطرف المضاد للآمال المتوقعة والتي تفسر القصيدة كلها وهي أن أخت الشاعر «تنحره نحراً» على حد تعبيره، إذ تكتب له في كلمات قلائل أن ابنها قد مات، وبهذا تختم القصيدة، ونعلم من بيتها الأخير، بل من الشطر الثاني منه وفاة علي الشهابي، ابن أخت الشاعر:

قـلــــب أختي لم أكن أجهــــــــله     إن أخــتي دائماً تحســــــــــن لي
ما لهــــا تنحــــرني نحـــراً على     قولهــا: مات ابنها.. مــــات علي

     هذه القصيدة، نموذج متفرد، هي قصة مسترسلة، فيها البدء، وفيها الحبكة، وفيها الخاتمة، وهي ذات موضوع واحد تخلو من أي شذوذ أو استطالة أو امتداد، وهي تحقق شرط الوحدة العضوية بالتمام والكمال، فالأبيات نسيج حي متكامل متلاحم، وكأنه ثوب خيط بيد فنان قادر، لذلك من العسير أن تقدم في أبياتها أو تؤخر، ثم هي أشبه بالبناء الدرامي المأساوي الذي يتصاعد، والذي تسير فيه الحركة النفسية مع الحركة المادية معاً حتى نصل إلى قمة المأساة في اللحظة الأخيرة التي ينكشف فيها الستار بعد طول ترقب وتوجس وظنون ومخاوف.

     من جهة أخرى يشكل البيت الأخير، بل الشطر الثاني منه قمة المفاجأة التي تأتينا دفعة واحدة، وكأنها صاعقة نفسية، نوعاً متفرداً من الصنعة الشعرية عرف به أبو ريشة خاصة، وحرص على أن يختم به طائفة من قصائده، وكان يسمي هذا البيت «بيت المفاجأة»، وكان يحرص فيه حرصاً شديداً على أن يصب فيه كل طاقته الفنية، ويحشد له كل قدرته على الصنعة والنظم، ليبهر المتلقي ويتركه مأخوذاً مسحوراً وهو في آخر لحظات التواصل معه.

     وإذا كانت هذه القصيدة قد ختمت ببيت المفاجأة المثير، فإن كثيراً من قصائد الشاعر ختمت بمثل هذا البيت، لذلك لا يأتي تفرد القصيدة من هذه الناحية، بل يأتي من حبكتها واسترسالها وتصويرها الدقيق للمشاعر والحدث معاً، ولكونها قصيدة رثاء لم نعلم موضوعها حتى آخر لحظة، ولأنها على غير السنن المعروف في مراثي الشعراء العرب قديماً وحديثاً بمن فيهم أبو ريشة نفسه الذي نجد مراثيه الأخرى مخالفة لهذه المرثية تماماً. من هنا يحق لنا أن نقول: إن هذه القصيدة متفردة في ديوان أبي ريشة، بل ومتفردة في ديوان الشعر العربي، ومن هنا يمكن وصفها بأنها إحدى الروائع والأعمال التي يظهر فيها الإتقان الشديد والتقنية العالية.

     أذكر أنني سمعت بهذه القصيدة للمرة الأولى عن طريق صديق أديب شاعر، حمل الديوان وقرأ علي القصيدة قراءة متأنية، دون أن يحيطني علماً بموضوعها، فتفاعلت مع القصيدة، وظللت حتى اللحظة الأخيرة وأنا لا أدري شيئاً عن موضوعها حتى استبان لي مع نهايتها. بعد ذلك فعلت الشيء نفسه مع صديق آخر أديب وشاعر، قرأت عليه القصيدة دون أن أحيطه علماً بموضوعها. فكانت حكايته معها مثل حكايتي تماماً.

     هذا الجهد الكبير الذي بذله الشاعر في هذه القصيدة من حيث وحدتها العضوية بادئ ذي بدء، ومن حيث سيطرته عليها سيطرة تامة بحيث بناها هذا البناء المدهش المتقن، ومن حيث اعتماده على الحبكة القصصية وعلى الصراع الدرامي، ومن حيث بيت المفاجأة الذي جاء ختاماً مثيراً يشد المتلقي إلى أقصى درجة، ويبهره ويجعله في أقصى درجات التفاعل والتواصل مع المبدع، ومن حيث الحيرة والرغبة في التطلع التي يثيرها جهل المتلقي بالموضوع وتساؤله عنه ورغبته في اكتشاف جلية الأمر، هذا كله يجعل الدارس يحكم أن قصيدة «لوعة» لعمر أبو ريشة، نموذج متفرد في شعره، بل وفي الشعر العربي. وربما كان السبب أنه كتبه في عام 1962م حين كان في الثانية والخمسين من عمره، أي في قمة نضجه الفني وأوج قدرته على العطاء. وإذا كان عمر أبو ريشة الأستاذ الأول في تنسيق القصيدة العربية وهندستها فإن هذه الأستاذية لا تظهر في قصيدة من قصائده، كما تظهر في هذه القصيدة، ولعل ذلك يشفع لنا في هذه الوقفة الطويلة معها.

     وكما أظهرت هذه القصيدة قدرة عمر أبو ريشة في اختيار لون متفرد من الرثاء أسلوباً وصنعة؛ أظهرت أيضاً مشاعره الجياشة على ابن أخته وحزنه العميق عليه عاطفة ولوعة، وقد استطاع أن يزيد في مساحة التواصل مع المتلقي حين أخر النبأ الفاجع ليداهمه به في آخر لحظة، فكان الحزن مضاعفاً بسبب اللوعة التي تصاحب أي وفاة، وبسبب الإعلان المفاجىء بها دفعة واحدة. من جهة أخرى أظهرت لنا القصيدة خصوصية المرثي، كما أظهرت لنا خصوصية الراثي، فعرفنا سماته وملامحه، ورأينا صورتيه الظاهرية والباطنية، فتمثل في أخلادنا شخصاً نكاد نحسه ونتحدث إليه حديث من يعرفه ويأنس إليه.

     هذا ويحفل ديوان عمر أبو ريشة بقدر طيب من القصائد التي تحقق شرط الوحدة العضوية، والتوقف التحليلي عند كل واحدة منها يقودنا إلى نتائج نمطية مكررة وإن اختلفت التفاصيل. وأهم هذه القصائد: فدائي، وجراحي، عام جديد، في خندق، في طائرة، يا شعب، طلل، إفرست، نسر، جبل، عودي، إيمان، بعض الطيور، دليلة، الطيف، ولا كلمة، ليأت الفجر، مراهقة، لا تندمي، طهر، وداع، كانت، خداع، عزاء.

     بعد هذا التطواف الراصد للوحدة العضوية في ديوان الشاعر يمكن لنا أن نقرر أن القصائد التي تحقق هذه الوحدة فيه كثيرة بحيث يحق للشاعر أن يفخر بذلك، وبه يبدو قوله المليء بالفخر والاعتزاز: «إنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت» قولاً مبرراً منطقياً إلى حد كبير.

     وحين توقفنا بشيء من الأناة والبسط لدى نماذج من هذه القصائد نحللها ونبحث فيها عن الوحدة العضوية وشروطها ظفرنا منها بما يؤكد هذه الوحدة، وبما يؤكد أنها كانت هاجساً ملحاً لدى الشاعر يحرص عليه، ويجعله نصب عينه، ويسخر طاقته الفنية من أجله، بل ظفرنا أكثر من هذا وذاك بنماذج تبدو في غاية القوة والتفرد والإحكام مثل قصيدة «لوعة» التي قالها الشاعر في رثاء ابن أخته علي الشهابي.

     وحين أجرى الأستاذ سيمون عواد مقابلة مع عمر أبو ريشة ركز على موضوع وحدة القصيدة عنده، وجعله بحق الأكثر تفرداً بها من سواه، فقال في أول المقابلة: «أجمع بعض المستشرقين على أنه الشاعر الأكثر فرادة في شعره، إذ استطاع عبر مجموعه الشعري أن يحقق وحدة النفس الشعري في قصيدته، فجاءت معظم أبياته سلالم إلى البيت الأخير، فكلما انقطعنا إلى شعره تملكتنا دهشة المأخوذ حتى نصل إلى البيت الأخير فإذا هو عنوان القصيدة»[96].

     وملاحظة الأستاذ سيمون ملاحظة دقيقة، أشار فيها وأشاد إلى وحدة القصيدة عند عمر أبو ريشة حتى كأن أبياتها درجات سلم متوالية تقودنا إلى النهاية التي ترتبط بالبداية، وهي العنوان مما يدل على إحاطة جيدة له بالشاعر وشعره، ومن قبله وصف الأستاذ مارون عبود، قصائد عمر أبو ريشة وصفاً طريفاً حين قرر أنها تبدو مثل صف من العسكر[97]، لأن الجنود يقف كل منهم في مكانه المحدد له فيبدو النظام جميلاً ودقيقاً.

     لقد أكد عمر أبو ريشة أكثر من مرة أنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت، وكان قوله هذا يأتي في سياق من الاعتزاز والفخار والإحساس بالتفرد، والحقيقة أن ديوانه كما رأينا يشهد بذلك. إنه لم يكن الشاعر المعاصر الوحيد الذي عني بالوحدة، لكنه كان أكثر الشعراء المعاصرين إلحاحاً عليها وعناية بها، وكان بينهم الأكثر تفرداً وخصوصية.

     لقد غلب على قصائده التماسك العضوي من المطلع إلى الخاتمة، وكانت الأبيات فيها تتوالى توالياً منطقياً مطرداً، دون غموض يشينها، أو التواء يذهب برونقها أو فساد يعيبها أو اضطراب في تركيبها أو تنافر بين عناصرها، كل هذه العيوب لم تجد لها مكاناً في قصائده بل على العكس من ذلك سرت فيها روح واحدة هي روح صاحبها المهيمنة عليها من البداية إلى النهاية، الأمر الذي كفل لها وحدة عضوية بإفضاء أجزائها بعضها إلى بعض إفضاءً طبيعياً تلقائياً، كما كفل لها وحدة نفسية بتجانس الدفقة الشعورية وتناميها، كما كفل لها وحدة في الصياغة اللغوية بتماسك السبك ومتانة البناء واطراد الأسلوب.
❊ ❊ ❊

     هذا وإن دراسة هذا الجانب في شعر عمر أبو ريشة تقود إلى مجموعة مهمة من الملاحظات:

١- معظم هذه القصائد قصيرة، يدل على ذلك النظر إلى عدد أبياتها، وهذا أمر منطقي ومتوقع، فالقصيدة إذا طالت، وقع الشاعر من حيث يريد أو لا يريد في الاستطراد الذي يذهب بالوحدة، ويدخل القصيدة في محاور جديدة، وحين درس الدكتور «النعمان القاضي» شعر أبي فراس استوقفه أن الوحدة تظهر في مقطوعات أبي فراس أكثر مما تظهر في قصائده، وتمثل هذه المقطوعات «نسبة عالية من شعر أبي فراس، ولا ريب في أن الوحدة العضوية أكثر ظهوراً ووضوحاً في المقطوعة بأكثر مما تتضح وتظهر في القصيدة بوجه عام. ويذهب كثير من النقاد هذا المذهب؛ إذ يقررون أن الوحدة العضوية والموضوعية تتمثلان في المقطوعة لأنها تمثل أبياتاً قليلة العدد محدودة، يصعب أن تتسع لأكثر من موضوع أو غرض واحد»[98].

٢- معظم هذه القصائد ذات طابع ذاتي، فهي تصور أحلام الشاعر الخاصة وذكرياته وحبه وشكواه وآماله وأحزانه، وقليل جداً منها ذو طابع عام. وهذه الذاتية في الحقيقة عون على اكتساب القصيدة لصفة الوحدة، لأنها تتوقف عند خيط نفسي خاص، أو تجربة شخصية محضة، أو خاطرة عجلى تقتنص بسرعة، أو وثبة ذهنية أو شعورية لا امتداد فيها ولا استطراد، وهذا كله يعين الشاعر على أن يصب قصيدته في قالب من الوحدة العضوية، خلافاً للقصائد ذات الموضوعات الوطنية أو القومية التي يخاطب الشاعر فيها الجماهير، ويعبر فيها عن همومها وهي متنوعة ويتلمس فيها حاجاتها وهي كثيرة. وشتان ما بين هذين اللونين، الذاتي الخاص الذي هو أشبه بالبوح الشخصي الخالص، والموضوعي العام الذي يقف على النقيض منه.

     وهذا الأمر ملحوظ بقوة لدى عمر أبو ريشة، فإذا كانت قصائده الذاتية هي حجر الزاوية في الوحدة العضوية عنده، فإن قصائده العامة ذات الصبغة الوطنية أو الدينية أو السياسية تتعدد فيها المحاور، ويكثر فيها الانتقال من موضوع إلى آخر أياً كانت قوة الداعي أو ضعفه، ويشتد هذا الملحظ ويتضح في تلك القصائد التي كان يلقيها عمر أبو ريشة في المناسبات العامة ويحتشد لها، والأمثلة كثيرة، كقصيدة «حكاية سمار» التي ألقاها في الحفل الذي أقيم في بيروت عام ١٦٩١م لتكريم الأخطل الصغير «بشارة الخوري» ومبايعته أميراً للشعراء، وفي القصيدة يخاطب الشاعر لبنان ويمجده، ويجري حواراً بينه وبين حسناء متخيلة يبثها شكواه، ويثني على المحتفى به، ثم تأخذ القصيدة منحى وطنياً يفخر بالأمة وأمجادها القديمة، ويشيد بنضالها الحديث ضد الاستعمار في القدس والجزائر.

     ومثل ذلك أو قريب منه يقال في قصيدة «الفارس» التي رثى فيها عمر أبو ريشة صديقه إميل البستاني، وقصيدته «بنات الشاعر» التي قالها في رثاء الأخطل الصغير، وقصيدته «فراق» التي رثى فيها صديقه وقريبه جميل مراد، وقصيدته «عرس المجد» التي قالها بمناسبة استقلال سورية، وقصيدته «بلادي» التي قالها في رثاء السياسي السوري الشهير سعد الله الجابري، وقصيدته «مع المعري» التي ألقاها في المهرجان الألفي لأبي العلاء، وقصيدته «يا رمل» التي ألقاها في ذكرى المولد النبوي الشريف، وقصيدته «هذه أمتي» التي ألقاها في مدينته حلب عند خروجه من السجن، وقصيدته «قيود» التي ألقاها في ذكرى المجاهد الوطني إبراهيم هنانو، وقصيدته «شهيد» التي ألقاها في ذكرى استشهاد سعيد العاص في فلسطين، وقصيدته «شاعر وشاعر» التي ألقاها في المهرجان الألفي لأبي الطيب المتنبي، وقصيدته «أنا في مكة» التي ألقاها في أحد مواسم الحج، وقصيدته الأخرى «من ناداني» التي ألقاها في موسم حج آخر.

     وبهذا يتبين لنا أن الشعر الذاتي يتيح الفرصة لظهور الوحدة العضوية أكثر مما يتيحه الشعر الموضوعي العام، ولذلك قرر الدكتور عبد القادر القط أن المقطوعات الشعرية تبدو أشد تماسكاً وأكثر استقصاء للحظة الشعور أو الصورة الشعرية من القصائد الطوال، إذ تعبر عن خاطرة واحدة أو حالة نفسية لها بعض التميز[99].

٣- كان عمر أبو ريشة موفقاً في الجملة في اختياره لأسماء قصائده، والاسم الدال على القصيدة تمهيد للدخول إلى عالمها والتفاعل معها، وغلب على أسماء قصائده المنحى العاطفي ذو الجمل الموحية الوجيزة، أمثال: صلاة، هؤلاء، بسمة التحدي، هكذا، لوعة، فدائي، جراحي، زاروا بلادي، في طائرة، معبد كاجوراو، طلل، كأس، نسر، جبل، عودي، اقرئيها، دليلة، شقية.

     إن العنوان الدال على القصيدة مؤشر من مؤشرات امتلاكها للوحدة العضوية لأنه بمنزلة تلخيص واف يحيط بأبعادها ويمهد لها ويكشف عنها. وحين درس الدكتور النعمان القاضي شعر أبي فراس لاحظ أن مقطوعاته تغلب عليها الوحدة العضوية، وعد من أمارات ذلك أنه «ليس صعباً أن نضع لكل مقطوعة من مقطوعات أبي فراس عنواناً يدل عليها مما يؤكد على وحدتها العضوية ودورانها حول موضوع واحد وفي جو واحد»[100]، فجعل إمكانية اختياره لعنوان دال على القصيدة سبباً من أسباب وحدتها، فإذا كان هذا موقف الناقد من الشاعر، فلا ريب أن موقف الشاعر من قصيدته أكثر دقة ودلالة.

٤- كان عمر أبو ريشة كثير العناية بالبيت الأخير من شعره، وكان يتحدث عن ذلك بافتخار بالغ مقرراً أنه شاعر قصيدة لا شاعر بيت كما يتوهم العديد من النقاد، وأن القصيدة عنده وحدة لا تتجزأ تعود أن يختمها بما سماه «البيت المفاجأة»، وقد تكرر هذا المعنى كثيراً في المقابلات التي أجريت معه في أوقات مختلفة.

     وكان يحرص على أن يحشد في هذا البيت المفاجئ كل طاقته الفنية ليحدث أكبر قدر من التواصل بينه وبين المتلقي، ويتركه وهو في قمة الانفعال والنشوة، وحين نتابع بيت المفاجأة هذا نجده وهو المتوقع في قصائده ذات الوحدة العضوية أكثر مما نجده في بقية شعره، وهو أمر طبيعي، ذلك أن الوحدة تتيح للشاعر أن يجمع كل خيوطها في بيت واحد لأن محور القصيدة واحد، خلافاً للقصائد التي تتعدد محاورها مما يجعل الشاعر في موقف صعب، وهو يبحث عن بيت واحد يلم شتاتها المتناثر.

     وقد ذاع هذا الأمر عن عمر أبو ريشة، واشتهر حتى كاد يصبح سمة تقترن به دون غيره من شعراء العصر لتفرده به وإلحاحه عليه، ولذلك لا غرابة أن نجد النقاد والدارسين يركزون عليه ويشيدون به كمصطفى عكرمة[101]، وحسن عبد الله القرشي[102]، وعبد الله السالم الحميد[103].

     فقصيدته «صلاة» تنتهي بهذا البيت الذي يفضل الشاعر فيه الجدب الذي يلد البطولة والرجولة على النعمة التي تلد الاسترخاء والكسل:

نحن نهـــواها على الجـــد     ب إذا أعطـــــت رجــــالا

     وقصيدته «هؤلاء» تنتهي بهذا البيت الذي يجعل نفسه واحداً من قومه القاعدين الملومين:

امضي لشـــأنك.. اسكتي     أنـــا واحد من هـــــؤلاء

     وقصيدته «بسمة التحدي» تنتهي بهذا البيت الذي يلخص بطولة الشهيد ويعليها:

أزرى بـــذل حقـــــــدها     ومـــات وهو يـبســـــــم

     أما قصيدته «هكذا» فإنها تنتهي بهذا البيت الساخر الموجع الذي يوقظ الغضب على العابث الفاجر الذي يبدو عبثه مضاعف الإثم حين يقارن بالواجب المنسي:

هكـــذا تقتحم القـــدس على     غاصبيــها هكذا تستــرجـع

     وقصيدته «وجراحي» تنتهي بهذا البيت الذي يلخص كل إباء الشاعر وعزة نفسه حيث يتعالى على الأحزان والصعاب، ويظل يبتسم:

بسماتي سخية وجراحي مضمدة

     أما قصيدته «الغربة» فتنتهي بهذا البيت العجيب الذي يخاطب فيه غربته قائلاً لها:

سيري بتابوتي إلى قبره وانتصبي يوماً على القبر

     وتنتهي قصيدته «زاروا بلادي» بهذا البيت الذي يصور فيه خجله من حاضر بلاده، وهو خجل يحمله على التواري من الزوار القادمين من الخارج الذين طالما حدثهم عن بلاده معتزاً بها:

زاروا بـــــلادي فاختبـــــأ     ت خشيت أن يدروا مكاني

     أما قصيدته «في طائرة» فبيت المفاجأة فيها بيت يلخص كل أحزان الشاعر، وعجزه عن مواجهة الإسبانية الحسناء التي تنتمي إلى أصول عربية أندلسية تعتز بها اعتزازاً بالغاً، يجعلها تتحداه أن يذكر نسبه أمامها:

أطرق القلب وغامت أعيني     برؤاها وتجــــاهلت السؤالا

     وقصيدته «طلل» تصور عجز الموت أمام صرح روماني لم يستطع أن يفتك به أكثر مما فعل، فينتحر الموت ويبقى الطلل:

هنا ينفض الوهم أشباحه     وينتحر الموت في يـأسه

     أما قصيدته «نسر» فيختار لها الشاعر بيت مفاجأة مركزاً مثيراً، يفسر لنا جو القصيدة كلها، حين يسأل النسر الذي رفض السفح وأصر أن يموت على القمة:

أيهــا النسر هل أعود كما عد     ت أم السفح قد أمات شعوري

     ويستحق بيت المفاجأة في قصيدة الشاعر «عودي» وقفة متأنية. لقد وقع النزاع بينه وبين محبوبته فعالنته بذلك، مما حمله وهو الأبي على أن يهجر قصرها مع إحاطة الليل والثلج والعزلة والوحشة به، ومع خيوط الحب التي ما زالت تربط بينهما، وحين غلبتها عاطفة الحب على عاطفة الغضب لحقت به فأحس بها وأحس بحاجته إليها، وتفجرت فيه كل نوازع الحنان التي تدعوه إليها، لكن إباءه يظل يغلبه، فيكتفي من الحنان بأن يظهر خشيته عليها فيدعوها إلى العودة للقصر خوف البرد المؤذي، لكنه يصر على عدم العودة، هذا الموقف الذي جسد صراعه النفسي وأهواءه المتناقضة، تكثف في بيت المفاجأة الأخير والرائع معاً:

وصحـت يا فتنتي ما تفعلين هنا     البرد يؤذيك عودي لن أعود أنا

     ومثل ذلك يقال عن البيت الأخير في قصيدته «اقرئيها» وهو بيت يؤدي ويكثف ويلخص:

اقرئيها لا تحجبي الخلد عنها انشريها لا تتركيني أموت

     وتنتهي قصيدة الشاعر «وبقايا ذكرياتي» بهذا البيت المدهش الذي يصور وجوم الذكريات المتعبة والمترددة بين سار يشدها يميناً، وحزين يشدها يساراً:

وبقـــايا ذكريــاتي تعبت     فهي لا تبـكي ولا تبتسم

     وقصيدته «بعض الطيور» التي وضع لها مقدمة نثرية تفسيرية هي «طير الإوز لا يغني إلا ساعة موته» تنتهي بهذا البيت الذي يفسر غناء الشاعر مع مابه من جراحات:

لا تســـأليني ما ترجـــوه أغنيـتي     بعض الطيور تغني وهي تحتضر

     وتنتهي قصيدته «إن ذكرت» بهذا البيت:

أنــا إن ذكرت نشرت عـــــا     ري أو نسيت طويت عمري

     والبيت هو جواب الشاعر على من تسائله عما يريحه إثر صلة بينهما حافلة، وهي صلة ملأى بما يسر وبما يحزن، وما يسر لا يجوز أن ينسى ويطوى، وما يحزن لا يصح أن يذكر، فلم تبق إلا الحيرة التي كثفها البيت الأخير.

     وقصيدة «دليلة» تنتهي باستسلام الشاعر الذي يترك المرأة العابثة تفعل كما تريد. إنه يطمئنها أنه لن ينتقم كما انتقم "شمشوم" فلتعربد إذن كما تشاء.

ليس في هيكلي مجال لشمشو     م جديــــد فعربــــدي يا دليلة

     ويصور البيت الأخير في قصيدته «أشهى من أن يدوم» الوصل بين الشاعر ومحبوبته تصويراً في غاية الطرافة، لقد كان الوصل قصيراً جداً لأن القصر يجعله أشهى وأحلى خلافاً للطول الذي قد يسبب الملل:

لعــــله كان أشــهى     من أن يدوم وأحلى

     وحين أراد أن يصور قيمة الحب جعله هو الحياة، فإذا زال كان الموت، ومن هنا يعجب عمر أبو ريشة من بقائه حياً مع أن حبه قد مات. يقول البيت الأخير في قصيدته «أيام»:

ما كان أغرب كل أخيلتي     الحب مات ولم أزل أحيـا

     وفي قصيدته «لا تندمي» يبرع عمر أبو ريشة في البيت الأخير حين يخبرنا أنه اعتاد على الثبات والمضي مع وجود الآلام:

حسبي فكم أفرغت في وحشتي     كأسي وكم غنــــيت في مأتمي

     وقصيدته «طهر» تنتهي بهذا البيت الطريف والغريب والمحير:

كأنها في طهـــــرها     أطهر من أن تخجلا

     وتنتهي قصيدته «أخاف عليك» بهذا البيت المثير:

دعي ماضي يطـويني فـــإني     أخاف عليك من خوفي عليك

     وتنتهي قصيدته «من أنت» بهذا البيت المكثف:

يكفيك مني أن تكوني     في فمي لحنـــاً شقيــا

     وتصور قصيدته «عاصفة» كيف ذهب الشاعر إلى امرأة ألفت الإثم يريد أن يقتلها، وتعرض القصيدة كل الدواعي التي تجعل هذه المرأة تستحق القتل كما لو كان قصاصاً عادلاً، لكن الأبيات تجعل الشاعر يتراجع عن عزمه.

     أما البيت الأخير فيجعل هذه المرأة مع كل ما فيها أولى بالعيش من الشاعر، وهي مفاجأة تحفل بالإثارة التي يزيد عنفها الانتقال من النقيض إلى النقيض:

أنت أولى بالعيش مني فسيري     واتركيني أطوي الحيـــاة شقيا

     وفي قصيدة «مظاهر» يحكي لنا الشاعر قصة جارة له حسناء، تحيط بها العافية والشباب والنعيم، ويحفها الطيب والطهر، جاد الزمان لها بكل ما تريد، وسمحت لها الدنيا بكل ما تشتهي، ثم تأتي المفاجأة التي تعقل اللسان وتقلب الأمور:

وتوالت الأيـــــام لم أرهـا     فسألت؛ قالوا: عَبَّت السُّمَّا

     يبدو أن حقيقة هذه الحسناء عكس مظهرها، لذلك انتحرت بالسم كما علمنا من البيت الأخير، وهو بيت موفق دال، مثله مثل عنوان القصيدة الدال أيضاً «مظاهر».

     ويحكي لنا الشاعر في قصيدة «ساذج» قصة حب حسي عنيف، يحاور فيها من أحب ويذكرها بما كان، ثم يدعوها إلى طي صفحة الماضي، ترى ماذا يكون ردها؟ لقد تحدث هو طويلاً عما كان من قبل، وعما ينويه من بعد، أما هي فاكتفت بالصمت!.. ترى هل كانت تود استمرار الماضي بعاره، أم وافقته على التحول إلى حياة العفة التي يدعوها إليها!؟، لقد أجابت بالإطراق والصمت، وبالصمت الذي يفضح أحلام الصبا:

أطرقت والشــوق في مقلتها     كاد أن يفضح أحلام صباها

     لم يقل الشاعر عن نوع هذه الأحلام، ولم تقل هي، وبقينا كلنا حيارى مع بيت المفاجأة الذي ختم القصيدة.

     أما قصيدة الشاعر «لوعة» فقد سبق عنها الحديث مفصلاً، وهو حديث عرفنا معه أن القصيدة عمل متفرد في شعر عمر أبو ريشة، بل وفي الشعر العربي، ووجه الاستشهاد بها هنا هو البيت الأخير فيها، بيت المفاجأة المثيرة الذي يجعلنا نقف مشدوهين مع الشاعر، ونحن نعرف خبر الفاجعة من البيت الأخير فقط، بل من الشطر الثاني فيه، بعد أن ظللنا طويلاً أسرى الحيرة، ونحن نكابد فك طلاسم رسالة أخت الشاعر إليه التي تحدثه فيها عن وفاة ابنها:

ما لها تنحرني نحـــــراً على     قولها: مات ابنها.. مات علي

     وفي قصيدته «كبرياء» يعاقب الشاعر من يحب لكنه يتحداها، يتحداها بأنه لا يخضع لها مع كل دواعيه إلى ذلك من حب وفتنة وجمال. إنه يلقى الموت بكل جبروته واقفاً مقبلاً يخفي جراحه، فكيف له أن يستسلم لها:

وقوفاً يرانا الموت نخفي جراحنا     وليس يرانـــا ركعاً في انتظــاره

     أما قصيدته «الثوب الجديد» فهو يتحدث فيها عن خلوته بمن يحب في قصة قصيرة نرى الغرفة وملابس المحبوبة وأدوات الزينة، ونرى المحبوبة تختار ثوبها الجديد وتتزين وتتعطر وتميس، ثم تسأل الشاعر عن رأيه فيه، فيجيب الشاعر هذه الإجابة الطريفة في البيت الأخير، وهو في شطره الأول يثني على الثوب لكنه في الشطر الثاني يتوجه وجهة أخرى:

جميل لبس من أهوى     ولكن عريهــــا أجمل

     ويحكي لنا الشاعر في قصيدته «شقية» قصة امرأة آثمة أسرفت في الحرام، وأخذت تخادع نفسها بأنها فعلت ما فعلت مضطرة غير مختارة، وحين عصف بها الداء صار عملها نوعاً من الانتقام، تريد به أن ينتقل داؤها إلى الآخرين، لعل ذلك يطفئ غيظها فتموت إذ تموت وهي مرتاحة:

كما النحلة الغضبى لدى وخز خصمها
               تموت ولكن وهي مرتـــــاحة النفـــس

     ونجد البيت الأخير مفاجأة طريفة غير متوقعة، في قصيدته «حب الأرض» حيث يموت الشاعر، فيطوف به ملاك الموت في ملكوت الله عز وجل، الواسع العريض، ويخبره أن له أن يختار المأوى الذي يريد، فقد عانى كثيراً في حياته، وآن له أن يستريح. ويتلفت الشاعر فيلوح له نجم رائع بديع متفرد فيختاره مقاماً له، فإذا به الأرض:

فقلت: هناك، فقال بكل رفق:     هو النجـــــم الذي قد مت فيه

     واضطر الشاعر ذات يوم لإجراء عملية في قلبه في أمريكا، وكان من حوله أولاده وزوجته، فقدم لها مظروفاً فيه وصيته، ولم يكن في الوصية شيء قط مما جرت العادة أن تعنى به الوصايا، ولكن كانت فيه هذه الأبيات الأربعة:

رفيقتي لا تخبري إخوتي كيف الردى كيف علي اعتدى
إن يسألوا عني وقد راعهم أن أبصروا هيكلي الموصـدا
لا تجزعي لا تطرقي خشعة لا تسمحي للحزن أن يولدا
قولي لهم: ســـافر، قولي لهم: إن له في كوكب موعــدا

     هذه الأبيات الأربعة تدور حول موضوع واحد، يحاول الشاعر فيه أن يظل متماسكاً وهو في ساعة العسرة، بل هو يريد من زوجته أن تظل هي متماسكة كذلك إن أدركه الموت، فلا تجزع ولا تحزن ولا تخبر ذويه أنه قد مات، فإذا سألوها عنه فلتقل لهم: إن له موعداً في كوكب بعيد، ولذلك سيطول سفره، فلا داعي للانتظار.

     هذه الأبيات نموذج طريف للوصايا، وهي تكشف عن جانب من شخصية الشاعر المعتز بنفسه، الأبي المتعالي، وبيتها الأخير:

قولي لهم: سافر، قولي لهم:     إن له في كوكــــــب موعدا

     بيت مؤدٍّ ومكثف ومثير، وهو ينضم إلى أمثاله من «أبيات المفاجأة» التي عني بها الشاعر عناية كبيرة، لتزيد من قيمة شعره الفنية، وتكشف عن قدرته وإتقانه وصبره.

     وحين قام الأستاذ سيمون عواد بإجراء حوار مع عمر أبو ريشة، لاحظ أن القصائد التي قرأها له، هي من ذلك النوع الذي يختم ببيت المفاجأة، فسأله هذا السؤال الجيد والواضح والصريح: لاحظت من كل ما أوردت من قصائد أن البيت الأخير هو بيت مفاجأة يخلق فكرة لم نتوقعها؛ فهل كان ذلك صدفة أم عن سابق تخطيط؟ فأجاب عمر أبو ريشة: «هذا أسلوبي في الكتابة، القصيدة عندي وحدة متكاملة تحمل فكرة جديدة تعودت أن أختمها ببيت الاستثارة، أو كما تقول: ببيت المفاجأة»[104].

     وهذا يدل على أن الشاعر كان يقصد إلى ذلك قصداً واعياً. ويجعله هدفاً ثابتاً يسعى إليه ويعتز به، مما يؤكد أنه شاعر صانع ينتمي إذا صحت العبارة إلى مدرسة عبيد الشعر، وليس شاعراً يقول ما لديه عفو الخاطر.

     وقد فطن إلى هذا القصد الواعي عند عمر أبو ريشة الدكتور عمر الدقاق حيث قال وهو يتحدث عنه وعن إبراهيم طوقان: «فقد كان الحرص لديهما على هذه الوحدة إرادياً واعياً بفضل ثقافتهما الأدبية الغربية، ويمكن اعتبار هذين الشاعرين وأمثالهما في طرف مقابل لمذهب علي الجارم وزمرته في شأن موضوع وحدة القصيدة»[105].

     وإذا كانت الوحدة العضوية مظنة الصنعة أكثر من سواها، فلا غرابة فيما قررناه من قبل من أن «بيت المفاجأة» يظهر في قصائد عمر أبو ريشة التي تحقق شرط الوحدة بأكثر مما يظهر في سواها.

     ترى هل كان عمر أبو ريشة بدعاً في العناية بأواخر قصائده؟ لا بطبيعة الحال، وإن كانت ميزته أنه ركز عليها كثيراً فاستغرقت حيزاً كبيراً من شعره.

     ولقد عني النقد العربي القديم بنهاية القصيدة، واهتم النقاد بالإشادة بقيمتها الفنية لأنها آخر لحظات التواصل بين المبدع والمتلقي، يقول ابن رشيق: «وخاتمة الكلام أبقى في السمع وألصق بالنفس لقرب العهد بها، فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح؛ إذ الأعمال بخواتيمها كما قال الرسول ﷺ»[106].

     وإذ يقرر الدكتور النعمان القاضي «أن التوفيق في إنهاء العمل الفني لا يقل أهمية عن التوفيق في استهلاله، فهو بمثابة الذروة التي ينبغي للعمل الفني أن يسمو إليها، فضلاً عن أن ثمة إحساساً بالتوقع المتوتر يظل ملازماً المتلقي منذ بداية العمل تائقاً إلى نهايته لتهدأ نفسه وتفرغ شحنة أحاسيسه»[107]، في إحدى دراساته، يعود في دراسة أخرى ليجعل الخاتمة أهم من المطلع فيقول: «ولا شك في أن افتتاح القصيدة بمطلع مناسب أمر سهل وميسور يستطيع الشاعر أن يبلغه إذا اهتم به واحتشد له، ولكن إنهاءها النهاية المناسبة أمر يحتاج إلى براعة ودربة حتى لا تبدو القصيدة مبتورة أو مبتسرة أو مشوهة أو ناقصة في نموها العضوي المفترض لها أن تبلغه لتتم استواء ونضجاً، وترفض أن يزاد بعد بلوغها هذا المبلغ في تخلقها كلمة واحدة أخرى، ومن ثم كانت الخواتيم بحاجة إلى عناية تفوق العناية بالمطالع»[108].

     وأياً كان الأمر فإن خاتمة القصيدة عند عمر أبو ريشة خاتمة مؤدية جداً تبهر المتلقي، وتتركه في ذروة درجات التواصل بحيث يمكن لنا أن نقول: إنه لم يكن فيها الوحيد لكنه كان فيها السابق والمبرز والمتفرد.

٥- لا يعني الثناء على شعر عمر أبو ريشة الذي حقق شرط الوحدة العضوية، أن شعره الآخر أقل جودة، لأن ساحة الإبداع واسعة، والشاعر القادر بوسعه أن يتألق في شتى جوانبها، والنظر في بعض مطولاته التي تعددت فيها الموضوعات والمحاور يدل على ذلك.

     ونتوقف للتدليل على ذلك عند قصيدته «بنات الشاعر»، وهي تقع في أربعة وخمسين بيتاً ألقاها في حفل تأبين الأخطل الصغير في بيروت عام 1969م، وفي القصيدة يشيد بالفقيد المحتفى به وبالقصائد اليتامى اللواتي لا يعلمن بموت الشاعر، ثم ينتقل إلى الإشادة بلبنان الذي أنجب الأخطل، ثم يشكو للأخطل أحواله، ثم يجد عزاءه في فجر قادم يصنعه للأمة المنكوبة فتيان أبطال، ثم يسخر سخرية مرة من الطواغيت الذين كانوا سبباً في هزيمة 1967م، وكان جرحها لايزال غضاً يوم المهرجان، وبهذا يتبين أن القصيدة ذاتية من جانب، موضوعية من جانب، فيها رثاء، وفيها تقريع، وفيها روح وطنية حية.

     تبدأ القصيدة بتصوير بنات الشاعر «القصائد» اللواتي يرفلن بالنعيم وهن لا يعلمن ماذا حل بهن؟:

نديـــك الســـمح لم يخنـــق له وتر     ولم يغـــب عن حواشي ليـله سمر
بنــــات وحيـك في أرجـــائه زمر     يهـــزها المترفـــان الزهو والخفر
تيتـــمت وهي لا تـدري ونشـوتها     من كل عنقود ذكرى كنت تعتصر
رواقص تحمل الســـلوى وتسكبها     وليس تعـــلم ما الدنيـــا وما القـدر
لم يبـــلغ الخبر الناعي مســامعها     عن مثــل هذي اليتامى يكتم الخبر

     ويشيد الشاعر بلبنان الذي أطلع الأخطل شاعراً كبيراً:

طلعت من حرم التاريخ في جبل     تزينـــت بسنـــا آلائه العصـــــر
وفي ضـــمائرها من خيره سيـر     وفي حنـــاجرها من هديه سـور
مؤثل شــــامخ بالنجم معتصــب     بالمجد متشــــح بالعز مؤتـــزر
إزميل مبـــــدعه أدى رســـالتـه     إلى العـــوالم فانطق أيها الحجـر

     ويشكو عمر أبو ريشة حاله لصديقه الأخطل:

يا راقداً في حمى النعمى ومضجعـه
               ما زال يندى عليه العشــب والزهـر
نجيـــك اليوم من أزرى الزمــان به
               ورده عن مـــــدى آفـاقـــــه الكبــــر
يمشي الهوينى على صحراء رحلته
               وصحبه الليل والأشبـــاح والســـهر
وبيـــن جنبيـــه آمـــــال مبعثـــــرة
               تكـــاد لولا بقـــــايــا الصبــر تنتحر
كانت له في هضـــاب الشرق ألوية
               نســـج الكرامة معقـــود بها الظفـــر
يســـائل القـــدر المحموم في خجــل
               عنها فيغضي على استحيــــائه القدر

     لكن للشاعر أملاً قوياً في فتيان أبطال يصنعون للأمة نصرها في الغد:

عــزاؤه أن مــلء الســـاح فتيــــــته
               إلى الردى والفـــدا أرواحهم نـذروا
كتـــائب الفتـح في إعصار عاصفـة
               بالحقـــد والغضب العلوي تنفجــــر
من كـــل أمرد ما أدمى مراشفـــــه
               في رعشة الشوق إلا الوحل والمدر
وكل حسنـــاء ما بـــاعت أسـاورها
               إلا لـتشـــري به ما الموت يـدخــــر

     أما الطواغيت العاجزون، الذين صنعوا الهزيمة بجرائمهم، وظلوا مع ذلك في أماكنهم يرفضون المساءلة والمحاسبة، ويخافون على عارهم فيجتمعون لتثبيته ودعمه، فيقول فيهم الشاعر هذه الأبيات الساخرة اللاذعة المركزة:

إن خوطبــوا كذبوا أو طولبوا غضبوا
               أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
خافوا على العار أن يمحى فكــان لهم
               على الربـــاط لدعـــم العــــار مؤتمـر
على أرائـكهم سبحــــان خــالقـــــــهم
               عاشـوا وما شعـــروا ماتوا وما قبروا

     والقصيدة إحدى درر الشاعر قالها وهو في الستين من عمره، وعبر بها عن الأمة خير تعبير، حزناً وتمرداً وأملاً، ورفضاً للهزيمة واستشرافاً لنصر قادم، وسخرية من صانعي الهزيمة وعارها، لذلك لم يكن غريباً أن يحتفي الجمهور احتفاء بالغاً بالشاعر في المهرجان، وتقف القاعة كاملة وعلى رأسها رئيس لبنان يومذاك شارل الحلو، لتصفق للشاعر أكثر من عشر دقائق، وكأنها ترى في رفضه رفضها، وفي إبائه إباءها، وفي أمله أملها.

     لقد تعددت محاور هذه القصيدة، وتنقل الشاعر فيها من موضوع إلى آخر، مما جعلها تفتقد شرط الوحدة العضوية، وتقع في التعدد، لكن ذلك لم يضعف من قيمتها الفنية في قليل أو كثير.

     ويمكن لنا أن نلقى أخوات لهذه القصيدة عند الشاعر لا تحقق شرط الوحدة العضوية، لكنها تظل عالية القيمة تحفل بالإبداع والتفوق كقصائده «فراق» التي رثى فيها صديقه وقريبه جميل مراد، ومطلعها:

كيف تطوي برد الصبا الريان     وليـــاليـك أكــــؤس وأغـــاني

     و«عرس المجد» وهي من أشهر قصائده الوطنية ومطلعها:

يا عروس المجد تيهي واسحبي     في مغـانينـــا ذيـــول الشــــهب

     و«بلادي» وقد قالها في حفل تأبين السياسي السوري سعد الله الجابري ومطلعها:

هيكل الخلد لا عدتك الغوادي     أنت إرث الأمجـاد للأمجـــاد

     و«يا رمل» وهي قصيدة سياسية دينية وطنية تاريخية، ومطلعها:

يا رمل ما تعب الحـادي ولا سئما     ولا شكا في غوايات السراب ظما

     و«هذه أمتي» وهي كسابقتها دينية سياسية وطنية تاريخية فضلاً عن فخار الشاعر بنفسه وشعره، ومطلعها:

ما صحا بعد من خمار زمانه     فليــرفه بالشدو عن أشجـــانه

     و«قيود» التي ألقاها في حفل أقيم في ذكرى المجاهد الوطني إبراهيم هنانو، ومطلعها:

وطن عليه من الزمان وقار     النور ملء شعـــابه والنــار

     و«شهيد» التي ألقاها في الحفل الذي أقيم في ذكرى المجاهد الشهيد سعيد العاص وهو مجاهد سوري استشهد في فلسطين ومطلعها:

نام في غيهب الزمان الماحي     جبل المجد والندى والســماح

     و«أنا في مكة» التي ألقاها في أحد مواسم الحج بمكة المكرمة ومطلعها:

لم تــزالي على ممر الليـــالي     موئل الحق يا عروس الرمال

     و«من ناداني» التي ألقاها في موسم حج آخر ومطلعها:

رد لي ما استرد مني زماني     فأراني ما الحــلم كان أراني

     وهذه القصائد التي تتعدد فيها الموضوعات، وتغيب عنها الوحدة العضوية، قصائد رائعة تشهد بالتفوق الفني للشاعر، وتؤكد أن الجودة ليست حبيسة قالب أو أسلوب أو مدرسة.
❊ ❊ ❊

     لقد كان عمر أبو ريشة شاعراً صانعاً، وكانت الوحدة العضوية عنده هاجساً ملحاً وقصداً واعياً، والهاجس الملح والقصد الواعي من لوازم الصنعة خلافاً للطبع، ومن هنا كثرت في شعره القصائد التي تتصف بالوحدة العضوية، ومن هنا أيضاً يمكن للدارس أن يعد هذه الوحدة أحد معالم شعره البارزة من ناحية، وإحدى نقاط تفرده وخصوصيته من ناحية أخرى.

     وبطبيعة الحال أدت هذه الوحدة العضوية عند عمر أبو ريشة إلى تماسك شعره، وتوالي أبياته توالياً لا شذوذ فيه ولا التواء، وهيمنة روح واحد عليه، وتجانس الدفقة الشعورية فيه، واتساق الصياغة والتئام بنائها وانسجامه.

     وكما أعان الشاعر في هذا المجال قصده الواعي وصنعته الدائبة، أعانه قصر قصائده في الغالب، وذاتيتها، وعنوانها، وبيتها الأخير.

     لقد كان عمر أبو ريشة من أوائل المجددين في الشعر العربي الحديث، ورائداً كبيراً نقله نقلة واسعة، وله فضل كبير على الأجيال اللاحقة[109]، ولا شك أن هذا التجديد والريادة والفضل والنقلة كان لها حظها البارز الموفور في مجال الوحدة العضوية وهو مجال كان للشاعر فيه حضور وتميز وخصوصية.

-------------------
[1] طبقات فحول الشعراء، شرح محمود محمد شاكر، القاهرة، دار المعارف، 1952م، ص305، وما بعدها.
[2] العمدة في صناعة الشعر ونقده، ط1، القاهرة، مطبعة هندية، 1344ه/ 1925م، 1/175.
[3] المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، البابي الحلبي، 1939م، 2/414.
[4] مقدمة شرح ديوان الحماسة، تحقيق أحمد أمين، وعبد السلام هارون، ط2، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م، 1/18.
[5] مقدمة ابن خلدون، القاهرة، دار الشعب، ص538.
[6] مقدمة ابن خلدون، ص534-535.
[7] المرجع السابق، 535.
[8] العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الأبياري، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1967م، 5/378.
[9] ديوان علي الجارم، ط2، القاهرة، دار الشروق، ص14.
[10] البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، ط3، القاهرة، مؤسسة الخانجي، 1/67.
[11] الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، طبعة محب الدين الخطيب، القاهرة، ط2، المطبعة السلفية ومكتبتها، 1385هـ، ص143.
[12] المرجع السابق، ص324-325.
[13] العمدة في صناعة الشعر ونقده، 1/172.
[14] الحصري، زهر الآداب، تحقيق علي محمد البجاوي، ط1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1953م، 2/597-598.
[15] دلائل الإعجاز، طبعة محمود محمد شاكر، ط3، جدة، دار المدني، 1413هـ/ 1992م، ص95.
[16] كتاب عيار الشعر، تحقيق الدكتور عبد العزيز المانع، الرياض، دار العلوم، 1405هـ/1985م، ص209، و213-214.
[17] الشعر والشعراء، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، ط2، القاهرة، دار المعارف، 1966م، ص90.
[18] بناء القصيدة العربية، القاهرة، دار الثقافة، 1979م، ص488.
[19] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1982م، ص521-522.
[20] المرجع السابق، ص523-525.
[21] في النقد الأدبي، ط7، القاهرة، دار المعارف، 1988م، ص154-155.
[22] الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971م، ص28.
[23] النقد الأدبي الحديث، بيروت، دار العودة، 1987م، ص396-397.
[24] مدرسة الإحياء والتراث، بيروت دار الأندلس، 1401ه/1981م، ص104.
[25] نقد الشعر القومي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، دار الأنوار للطباعة، 1987م، ص197.
[26] يلاحظ أن هذا هو ما جاء في الوسيلة الأدبية، أما في الديوان فقد عدله البارودي إلى: أبى الشوق إلَّا أن يحن ضمير = وكل مشوق بالحنين جدير
[27] الوسيلة الأدبية، القاهرة، مطبعة المدارس الملكية، 1874م، 2/479.
[28] شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، ط2، القاهرة، دار المعارف، ص274.
[29] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ص158.
[30] خليفة محمد التليسي، قصيدة البيت الواحد، القاهرة، دار الشروق، 1411ه/1991م، ص14.
[31] ديوان الخليل، القاهرة، دار الهلال، 1949م، 1/5.
[32] ديوان الخليل، القاهرة، دار الهلال، 1949م، 1/5.
[33] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ص158.
[34] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ص159.
[35] رواد الشعر الحديث في مصر، ط2، القاهرة، دار المعارف، ص19-20.
[36] الشعر المصري بعد شوقي، القاهرة، دار نهضة مصر، 1/22.
[37] تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين، بيروت، دار النهضة العربية، 1983م، ص160.
[38] السعيد الورقي، لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، ط3، بيروت، دار النهضة العربية، 1984م، ص43.
[39] محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، ص394.
[40] في النقد الأدبي، ص153-154.
[41] الديوان في النقد والأدب، ط3، القاهرة، دار الشعب، ص130.
[42] فصول من النقد عند العقاد، تقديم محمد خليفة التونسي، مكتبة الخانجي بمصر، والمثنى ببغداد، ص194.
[43] الديوان في النقد والأدب، ص130.
[44] ساعات بين الكتب، ط3، مطبعة السعادة، 1950م، ص106.
[45] الديوان في النقد والأدب، ص130.
[46] ابن الرومي حياته من شعره، ط5، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1383هـ/1963م، فصل "عبقرية ابن الرومي"، ص277-321.
[47] المرجع السابق، ص324.
[48] الديوان في النقد والأدب، ص131-132.
[49] عرائس وشياطين، (ضمن مجموعة أعلام الشعر)، بيروت، دار الكتاب العربي، 1970م.
[50] المرجع السابق، ص626.
[51] المرجع السابق، ص711.
[52] الكتاب مطبوع ضمن المجموعة نفسها.
[53] المرجع السابق، ص218.
[54] عرائس وشياطين، ص592.
[55] اللغة الشاعرة، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1960م، ص86، وما بعدها.
[56] في بيتي، القاهرة، دار المعارف، سلسلة "اقرأ"، 1945م، ص27.
[57] السعيد الورقي، لغة الشعر العربي الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، ص112-113.
[58] النقد والنقاد المعاصرون، القاهرة، دار نهضة مصر، ص112.
[59] بين القديم والجديد دراسات في الأدب والنقد، ط2، القاهرة، مكتبة الشباب، 1987م، ص350.
[60] المرجع السابق، ص360.
[61] المرجع السابق، ص360.
[62] النقد والنقاد المعاصرون، ص106.
[63] الرؤيا المقيدة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م، ص70.
[64] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ط2، بيروت، دار النهضة العربية، 1401ه/1981م، ص136.
[65] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ط2، بيروت، دار النهضة العربية، 1401ه/1981م، ص157.
[66] جماليات القصيدة المعاصرة، ط2، القاهرة، دار المعارف، 1989م، ص189.
[67] شعر ناجي الموقف والأداة، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1990م، ص29.
[68] تطور الأدب الحديث في مصر من أوائل القرن التاسع عشر إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، ط5، القاهرة، دار المعارف، 1987م، ص164.
[69] الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط3، القاهرة، دار المعارف، 1984م، ص153-154.
[70] الخيال الشعري عند العرب، تونس، الشركة القومية للنشر والتوزيع، 1961م، ص128.
[71] المرجع السابق، ص114.
[72] تطور النقد والتفكير الأدبي الحديث في الربع الأول من القرن العشرين، ص447-448.
[73] العبارة الإنكليزية كاملة كما وردت في المسرحية: (To be or not to be, that is the question)، ومعنى العبارة: أن تكون أو لا تكون، تلك هي المسألة.
[74] المرجع السابق، ص449.
[75] النقد والنقاد المعاصرون، ص109.
[76] الأدب الحديث بين عدالة الموضوع وجناية التطرف، ط1، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 1412ه/1992م، ص283.
[77] المرجع السابق، ص284-285.
[78] H. L. Yelland, S. C. Jones and K.S.W. Easton; A Handbook of Literary Terms Angus & Robertson Publishers, Sydney, Australia, 1983, P; 197.
[79] عبد الحميد الرشودي، الزهاوي دراسات ونصوص، بيروت، مكتبة الحياة، 1966م، ص181-182، وهلال ناجي، الزهاوي وديوانه المفقود، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، ص169.
[80] ديوان علي الجارم، ص14.
[81] أكرم زعيتر، بدوي الجبل وإخاء أربعين سنة، بيروت، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987م، ص17.
[82] المرجع السابق، ص174.
[83] يوسف بكار، بناء القصيدة العربية، ص386.
[84] علي شلش، في عالم الشعر، القاهرة، دار المعارف، 1980م، ص52.
[85] خليفة محمد التليسي، قصيدة البيت الواحد، ص27.
[86] المرجع السابق، ص27.
[87] خليفة محمد التليسي، قصيدة البيت الواحد، ص23-27.
[88] المرجع السابق، ص23-27.
[89] المرجع السابق، ص39.

[90] جريدة المدينة، جدة، 27/ 2/ 1411هـ.
[91] عمر أبو ريشة في مرآة الشعر، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[92] الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث، ط2، جدة، مطبوعات تهامة، ص27.
[93] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 16/ 9/ 1990م.
[94] المجلة العربية، الرياض، ربيع الثاني، 1402هـ/ فبراير 1982م.
[95] هكذا جاء البيت في القصيدة، وفي وزنه خطأ ظاهر.
[96] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية، 1398هـ/ مايو 1978م.
[97] مجددون ومجترون، ط5، بيروت، دار مارون عبود، ودار الثقافة، 1979م، ص205.
[98] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص531-532.
[99] في الشعر الإسلامي والأموي، بيروت، دار النهضة العربية، 1979م، ص136.
[100] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص531-532.
[101] عمر أبو ريشة في مرآة الشعر، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[102] الشرق الأوسط، لندن، 16/ 9/ 1990م.
[103] المجلة العربية، الرياض، ربيع الثاني 1402هـ/ فبراير 1982م.
[104] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ/ مايو 1978م.
[105] نقد الشعر القومي، ص200.
[106] العمدة في صناعة الشعر ونقده، 1/145.
[107] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص543-544.
[108] كافوريات أبي الطيب دراسة نصية، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط ومكتبتها، 1975م، ص381-382.
[109] جزء من إجابة الشاعر سليمان العيسى عن أسئلتي إياه حين لقيته في الرياض عام 1414هـ/ 1994م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة