‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب أفراح الروح. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كتاب أفراح الروح. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 13 يوليو 2022

كتاب أفراح الرُّوح في ظلال الدوح - المقدمة والمحتويات

كتاب أفراح الرُّوح في ظلال الدوح

مقــدمة:
     هذه مجموعة من المقالات كتبها الدكتور حدير الغدير بعنوان (أفراح الروح)، ورأيت أن أجعل العنوان "أفراح الروح في ظلال الدَّوح"، وهي دوح الإيمان والإسلام. وهل للروح أن تفرح فرحاً حقيقياً إلا في ظلال هذا الدوح الوارف الآمن.

     ذلك أن القلب المؤمن يطمئن بذكر الله سبحانه كما أخبرنا خالقها وبارئها، قال تعالى: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ} (الرعد:28).

     وقد لمست هذه المقالات شغاف القلوب في الحديث عن النبي المصطفى، والرسول المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم، في مولده ومعانيه، إذ يتجدد ذكراه عند المسلمين في كل عام، فيخوضون في جدل ومراء يكدر صفو المعاني، وجلال الدلالات لذلك المولد العظيم، الذي قال فيه أمير الشعراءهمزيته الشهيرة:

وُلِـدَ الـهُـــــدى فَـالكائِناتُ ضِيــــاءُ     وَفَــــمُ الـزَّمـانِ تَـبَـسُّــــــمٌ وَثَـنـــاءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِـــكُ حَــــولَهُ     لِلــديـنِ وَالـدُّنـيــــــــا بِهِ بُشَـــــراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَـزدَهي     وَالـمُـنــــتَـهى وَالسِّدرَةُ العَصـــماءُ
وَحَـديـقَـــةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُّبـــا     بِـالـتُّـرجُــــــمـانِ شَـذِيَّــــــةٌ غَنّـــاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَـــلاً مِن سَـلسَلٍ     وَالـلَّـوحُ وَالـقَــــــلَـمُ البَــديــعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي الرُّسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ     فـي الـلَّـوحِ وَاسمُ مُحَـــــمَّدٍ طُغَـراءُ

     فقد كانت ولادته صلى الله عليه وسلم ولادة أمة، وتناول د.حيدر بداية الدعوة إلى الإسلام، والمجتمع الإسلامي الأول، وعدل النبي وتواضعه، وحكمته في المواقف الحرجة الصعبة كغزوة حمراء الأسد، وتناول بالحديث الهجرة النبوية وبعض أحداثها، ودلالات الهجرة في الترايخ الإسلامي، وعقد مقارنة بين هجرة المسمين إلى يثرب التي طابت بالرسول وأصحابه، وبين هجرة اليهود إلى فلسطين التي فسدت بفسادهم، وتحدث عن غزوة بدر الكبرى ودلالاتها، وعن الفتح الأعظم فتح مكة المكرمة، وختم هذه المقالات بمقال: "إن الله معنا"، التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها في الغار ليلة الهجرة العصيبة، فنصره الله إذ أخرجه الذين كفروا، وأيده الله إذ حاربه الذين أشركوا، وأمنه الله إذ مكروا به وأخافوه. إن الله معنا.. كلمة الأمان والاطمئنان، تجد فيها الروح أنسها، والنفس أمانها، والقلب سكينته.

     وفي الفصل الأخير يطل بنا الدكتور حيدر على بعض معاني الصلاة والصبر مستلهماً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وجوانب من أحكام التشريع في آيات التوجيه.

     وإذا كان من حقي أن آمل أو أتمنى، فقد تمنيت بعد قراءة هذه المقالات أن يكون الدكتور حيدر الغدير أفاض في هذا المجال، فتعمق في خوض لجج المعاني في أركان الإسلام وفرائضه بأسلوبه الشاعري، لنقرأ له شعره النثري، كما نقرأ له شعره الحقيقي في دواوينه المتألقة، ولكن "سبق السيف العذل" كما يقول المثل!.

أ. شمس الدين درمش
----------------------------

المحتويات

(روابط تنقلك للمقالات)

- المقدمة ............................................................... 3
- الفصل الأول: مولد الرسول ﷺ وعظيم خلقه.. تأملات في بعض المعاني .. 5
- الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس ................. 42
- الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم بشائر النصر ونفحات الإيمان .. 71
- الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي ................................ 87

*****

أضرار أكل لحم الخنزير

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

أضرار أكل لحم الخنزير

     قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].

     نقلاً عن صحيفة (بي. تي) الصادرة في كوبنهاجن بتاريخ أول نوفمبر ۱۹۷۷م في مقال نشرته الجريدة تحت عنوان: "المخاوف الطبية من أضرار الخنزير" يسرّنا أن نقدم الآن أحدث ما ظهر عن أضرار الخنزير، علماً بأن الدانمرك من أولى بلاد العالم في تربية وتصدير لحوم الخنزير، التي تعد من أهم مصادر الثروة القومية...

     اكتشف مؤخراً بعد دراسة مستفيضة استمرت عدة سنوات نوع جديد من الأمراض التي يسببها أكل لحم الخنزير، وهو الروماتيزم المزمن... والتي ينتقل بالعدوى إلى الآخرين عن طريق المعاشرة والاختلاط، وقد ثبت أن عدد الحالات المصابة بهذا النوع من الروماتيزم الذي تسببه البكتيريا "الياسينية" يبلغ (۲۰۰) ألف حالة أو أكثر، وهذه المعلومات أعطيت عن طريق كبير الأطباء في معهد تحاليل الروماتيزم القومي، واتضح أن هذا النوع من البكتيريا يكمن في أغشية فم الخنزير، وما زال العلماء حیاری في كيفية انتقال هذه البكتيريا من شخص إلى آخر...

     أعراض المرض: إسهال مفاجئ، يعقبه حُمَّی (إنفلونزا)، وتشبه أعراضه النزلة المعوية الحادة، وتستمر هذه الحالة من يومين إلى أسبوع أو أكثر، وفي حالة إهمال العلاج تتحول الحالة إلى روماتيزم مزمن يصعب الشفاء منه ...

     يقول الدكتور يورن هانوفر لارسن: إن من بين حالات الإصابة بالروماتيزم المزمن نجد ۲۳ حالة منها تبدأ بالإصابة بالبكتيريا (الياسينية)...

     ومن أسباب عدم اكتشاف هذا المرض بسهولة هو أن أعراضه تشبه أعراض الإنفلونزا العادية، فيصعب على الطبيب غير المتخصص اكتشافه...

     وأضاف الدكتور لارسن: إنه يمكن معالجة هذا المرض إذا اكتُشِف في مهده وذلك بمادة الأنتيبيوتيك...

     الإهمال: كثير من الأطباء لا يعتقدون فيما أقول، ولكن السؤال الآن: كيف ننقذ هذه الحالات الخطيرة؟... وأنا أضع أمامكم بحثي واضحاً جلياً بعد أن قمت بفحص 25,585 حالة عن طريق تحليل الدم، وذلك من مارس ۱۹۷۱ حتى مارس 1976م...، وتم ذلك في معهد الفحوص الدانماركي، وأنا على يقين أن السبب الرئيسي في هذا المرض هو البكتيريا الياسينية... وقد قمت بنشر بحثي هذا في مجلة (الطبيب)، حتى يكون الأمر واضحاً للجميع، وإبراءً لذمتي أمام الله وتحقيقاً لأمانة البحث العلمي...

     وقد صرح الدكتور لارسن لمندوب جريدة (بي. تي) قائلاً: إن الباكتيريا الياسينية لم تفحص بهذه الدقة إلا بعد انعقاد المؤتمر الدولي لأبحاث البكتيريا الياسينية المنعقد في مونتريال بكندا... وأضاف الدكتور لارسن قائلاً: إن الإصابة بهذه البكتيريا لا يتوقف عند حد الإصابة بالروماتيزم المزمن فقط، بل يصل إلى إصابة الكلى والكبد والدورة الدموية... إذا لم يتم معالجة المصاب في الوقت المناسب...

     وقد سأل مندوب الجريدة: لماذا يحمل الخنزير هذه البكتيريا دون غيره من الحيوانات؟ فقال الدكتور لارسن: إن أحد الأطباء المتخصصين في الطب البيطري ذكر له أنه عندما تناول عينات من حيوانات مختلفة وجد أن نسبة 30% من الخنزير مصابة بهذا النوع من البكتيريا، وكان يأمل أن تكون محصورة في عدد أقل.

     وقد سأل مندوب الجريدة: ما الذي تنصح به المصابين بهذه الأعراض؟ فقال الدكتور لارسن: إنه قد تعرض شخصياً للإصابة بهذا المرض، وقام على الفور بالذهاب لتحليل الدم، وهذا ما ينصح به الآخرين.

*****

أحكام التشريع في آيات التوجيه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

أحكام التشريع في آيات التوجيه

     يحرص الإسلام حرصاً شديداً على الترابط والتوحد بين مختلف توجيهاته وحقائقه سواءً في ميدان العقيدة، أو في ميدان الشريعة. إنه في هذين الميدانين شامل كامل، لم يدع جانباً من جوانب الحياة إلا وعُني به أحسن العناية، لكنه مع شموله وكماله، يربط بين أموره المختلفة، ويوحّد بينها توحيداً يجعلها متينة الصلات والأواصر، وليس من الصدفة في شيء. والإسلام لا يعترف بالصدفة في قليل أو كثير، في أن يربط بين أنظمته الشاملة الكاملة، بفكرته الكلية الكبرى، وتصوره العام للكون والحياة والإنسان، ووظيفة هذا الإنسان في الوجود.

     وليس من الصدفة أيضاً أن يورد القرآن الكريم، قواعد التشريع ومبادئ الحكم والاقتصاد والاجتماع في طي آيات التوجيه والأخلاق، ولعل قوله تعالى في سورة الشورى يوضح ذلك بجلاء: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 37-40]، فآية الشورى التي تحدد قاعدة الحكم الأساسية للإسلام، وتضع خطوطه الكبرى، تأتي مرتبطة بالتوجيه، ويأتي التوجيه مترابطاً مع التشريع.

     فالسياسة والصلاة، والعفو والإنفاق، والعفة والإصلاح، ذلك كله، يأتي مترابطاً، ذلك أن الإسلام لا يتعامل مع الإنسان على أنه أجزاء مقطعة، يعطي كل جزء نصيبه، في معزل عن الأجزاء الأخرى، بل يتعامل معه، على أنه كلٌّ مترابطٌ متوحّد، لذلك كان هذا الدين بالإضافة إلى كونه شاملاً متكاملاً، كان مترابطاً متوحداً أيضاً، وبذلك تأتي توجيهات الإسلام لتملأ شعاب الإنسان العقلية والروحية والنفسية والسلوكية من كل جانب، وبذلك لا تهمل جانباً من جوانبه قط، كما أنها إذ تقدم ذلك له، تقدمه بناءً عضوياً مترابطاً يصوغ إنساناً حياً مترابطاً.

     ولعل هذا الأمر بجانبيه، يكشف بجلاء لماذا كانت الشخصية المسلمة، شخصيةَ التكامل والترابط، والتوحد والانسجام، والتوازن والشمول، بينما غير المسلمة، هي شخصية التمزق والفصام، والتقطع والازدواجية وما إلى ذلك.

     وهذا يؤكد حقيقة كبيرة، كثيراً ما غفل عنها الناس، وهي الوحدة العميقة في الإسلام بين التوجيه والتشريع وعدم الفصام بينهما، ولا ريب أن رسوخ هذه الوحدة، يجعل تطبيق الإسلام العملي أيسر وأسلم وأقرب إلى الصدق، إذ التوجيه عون كبير للقانون، يجعل الناس يطيعونه بذاتهم، ويجعلهم كذلك يسعون بأنفسهم إلى العقاب حين يخالفونه، ولو أدّى بالمرء إلى فقد حياته كما حدث مع الصحابي "ماعز" مثلاً.

     ومما لا شك فيه أن غياب هذه الوحدة بين التوجيه والتشريع، وهما مَعْمَلان كبيران في حياة الناس، كان نتيجةً لظروف سيئة مرت بالبشرية المعذبة وما تزال، ولا يزال حتى ساعتنا الحاضرة مَصْدَرَ كثير من متاعبها ومآسيها الكثيرة المتنوعة.

     إن تلاحم الأنظمة بالفكرة المطلقة الكبرى عن الوجود والحياة والإنسان، يوجِد بين الإنسان وما حولَه انسجاماً وتفاهماً، ويدفعه إلى ممارسة دوره الإيجابي الكبير، دور الخلافة عن الله عز وجل، وعمارة الأرض والسيطرة عليها بالحق والعدل والمعروف، بعمق وقوة وبصيرة، لذلك تنشأ الحضارة الإنسانية في ظلال هذا المنهج الكريم، حيّةً ربانية، تحقق الارتباط بين الإنسان والحياة، وتمنحه السكينة والسعادة، والخُطا المتوازنة الرشيدة، وتحمي مسيرته في الحياة، من الخلل والتمزق، والتناقض والاضطراب، كما أنها فوق ذلك كله، تجعل النشاط البشري كله، عبادة لله عز وجل يتقرب بها المرء إليه.

     إن الإسلام دين الشمول الكامل، والترابط المتوحد، في كل مناحي الحياة الصغير منها والكبير على السواء، وهو صالح لكل زمان ومكان، لم يترك مرفقاً من مرافق النشاط البشري إلّا سَنَّ له قاعدة، أو أعطاه حكماً، أو أفرد له أدباً أو توجيهاً، وهو حين يطالب الناس أن يلتزموه تماماً ويتقيدوا بجميع أحكامه وآدابه وتوجيهاته، ويحتكموا في كل أمورهم إليه، ولا يطلبوا من غيره أي أمر، ولا يلتمسوا في سواه أي حل، إنما يرسم لهم طريق الهداية والفلاح، ويأخذ بأيديهم إلى درب السعادتين في الدنيا والآخرة، وهو المنهج الرباني الصحيح، وهو الحق وحده، وكل الذي سواه باطل: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]. كيف لا.. وقد نزل قرآنه الكريم، تبياناً لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يوقنون، يهدي للأقوم والأكمل في كل شؤونه!؟

     وإذن فللإسلام، من حيث إنه سبيل الإنقاذ الوحيد لا للمسلمين فحسب!.. بل لكل الناس، أن يطالب بَنيه خاصة، والناس عامة بالعودة إليه، والعيش في رحابه، لأنه كلمة الله الأخيرة إلى الأرض، أكملها وأتمها وارتضاها، وجعلها الدرب الوحيد للفوز حتى يوم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

*****

الصبر في القرآن الكريم

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

الصبر في القرآن الكريم

     في القرآن الكريم يتكررُ ذكرُ الصبرِ كثيراً، وتتكرر مكانة الصابرين عند الله عز وجل، والوعدُ بأن ينالوا الثوابَ الجزيل والعطاء الوافر. وهذا التكرار يجعل المرء يقلبُ أوجهَ النظر، ويتفكر ويتفحص عن الحكمة في ذلك ظهرت أم غابت.

     والمرء بفكرِه المحدود، وبنظره القاصر، يستطيع أن يلمحَ الكثيرَ من أسرارِ الحكمة في منزلة الصبر حثاً عليه وثواباً من طرف، ومنزلةً ضخمة بالغة الخطورة في حياة الفرد المسلم وحياة الجماعة المسلمة من طرف آخر.

     إنه لَجهدٌ ضخم كبير ذلك الذي تحتاجه الاستقامة على درب الله تعالى بينَ شتّى النوازعِ والدوافع، والشهوات والأهواء، والمنزلقات الكثيرة التي تزيّن الانحراف. والقيامُ على دعوةِ الله في الأرض وعياً صادقاً، وسلوكاً أميناً، والتزاماً تاماً في الأداءِ والبلاغ هو بحاجة كذلك إلى جهدٍ كبيرٍ جداً.

     إن في الحياة صراعات وعقبات، ومتاعبَ وتحديات، والمسلمُ مطلوبٌ منه في ذلك كلِّه أن يبقى يَقِظَ النفس، مشدودَ الأعصاب، مجند القوى، بالغ الحذر والانتباه، وإن ذلك لأمرٌ صعب جداً، نحتاج فيه إلى زادٍ قويٍّ عميق، وهذا الزاد هو الصبر، لا بد للمسلم من جرعات قوية من الصبر الوثيق، ليكون بمقدوره أن يستمرَّ في دربه على الاستقامةِ الطاهرة، بينَ المنزلقات الكثيرة، ودواعي الهبوط والسقوط التي تتكاثر هنا وهناك.

     إنه بحاجة إلى الصبرِ على الطاعات، والصبرِ عن المعاصي، والصبر على جهاد أعداء الله، والصبر على كيد الخصوم، والصبر في ارتقاب النصر الذي يبدو بعيدَ المنال، والصبر على بُعْدِ الطريق وامتداد الأيام، والصبر على الباطل الذي ينتفش ويطغى، والصبر على قلةِ الناصر والمعين، وضآلةِ العَدَدِ والعُدَد، والطريق الذي يطول ويزدحم بالأشواك، والنفوس التي تجادل وتلتوي، والقلوب التي تضل وتفسد، والعناد الذي يَرْكَبُ رؤوسَ الحمقى والمستكبِرين.

     إنه بحاجة إلى مثل هذه الأنواع من الصبر، وإلى غيرها كذلك؛ بحيث يبدو المقدار الذي يحتاجُه المسلم في الحياة من جرعات الصبر كبيراً بحق. وإذا طال الأمد، وشق الجهد، وكثرت الجراحات، وعظم البلاء، ربما ضعُف الصبر أو نفد. وإذن؛.. فلا بد للصبر من مَعِينٍ ثَرِّ دفّاق، لا ينفد ولا ينضب، ليجدد العطاء تلو العطاء، فيظل يمنح المسلم الوقود الذي هو بأمسّ الحاجة إليه ليتابع مسيرَته في الحياة متشبثاً بدرب الاستقامة أيّاً كانت الصعاب.

     ترى ما هذا المَعين الذي يستطيع تقديم وقود الصبر باستمرار؟ إنه الصلاة!.. ولذلك يَرِدُ في القرآن الكريم اقترانُ الصلاةِ بالصبر، يقول جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. فالصلاة هي المعينُ الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد، والعطاء الذي لا يَبْلى، والطاقة المتجددة خمسَ مراتٍ في اليوم.

     إنها المعين الذي يجدد العزم، والزاد الذي يوقد الهمة، والعطاء الذي يزوِّدُ القلب، والطاقة التي تمنح النشاط والفاعلية، وهذا من شأنه أن يجعل حبل الصبر يمتد فلا ينقطع، ويطول فلا يتوقف، ويتوالى عطاؤه الخيِّرُ المبارك، فلا يكون شحٌّ أو عجزٌ أو نضوب. وإذا امتد حبل صبر المؤمن، فَخُذْ ما شئت من خيراتٍ حسان، وعطايا كريمة من ثقةٍ ورضى، وجودٍ وسماحة، وبِشرٍ وبشاشة، وأملٍ ورجاء، ويقينٍ وطمأنينة، وعزمٍ يتجدد، وهمة وقّادة طموح.

     إن الإنسان القاصر العاجز، الضعيف المحدود، الخاطئ الفاني، بحاجة أن يتصلَ بالقوةِ الكبرى، قوةِ الله عز وجل، يستمد منها العون والقوة على مواصلة طريقه في الحياة بينَ الصوارف الكثيرة عن الحق، التزاماً بالاستقامة، ونأياً عن الباطل، وإعذاراً في الدعوة إلى الله، ما كان فيه نَفَسٌ يتردد.

     وإن حاجته لتقوية الصلة بالله عز وجل، لتكبر وتتعاظم إذا ما تجاوز الجهدُ قوتَه المحدودة، وطاقته الضعيفة، وتدبيره الواهن، وذلك حين تواجهه قوى الشر ما بطن منها وما ظهر، ويثقل عليه جهد الاستقامة على الحق، بين الشهوات والمطامع والإغراءات، والمخاوف والمخاطر والصعاب، وإنها لصوارفُ ما أشدَّها وما أشقَّها! ما لم يكن للمسلم من الله عز وجل عونٌ ومدد.

     حين تثقل على المسلم محاربة الطاغوت، ومجاهدة الفساد، وحين يطول به الطريق، ويتعاقب الجديدان، ثم ينظر فيشعر أنه لم يبلغ غايتَه بعد، والأيام قد تطاولت، وشمس العمر آذنت بمغيب، وحين يجد الشر قد انتفش، والباطل قد تضخم، والحق قد انعزل، والخير قد انحسر، وليس في الأفق علامة، وليس في الطريق شعاع، حينذاك تكونُ حاجته للصبر أعظمَ وأعظم.

     وهنا تبدو قيمةُ الصلاة، وواحدٌ من أسرارها العظيمة، فهو ينبوع كريم، عظيم العطاء، مُخْصِبٌ دفّاق، يقدم للمسلم الجرعةَ إثرَ الجرعة، والشحنةَ تلوَ الشحنة، من وقود الصبر؛ إذ تكبر الحاجة إليه وتتعاظم، وبذلك يشعر المسلم بنسائمِ القوة والأمل تتدفق في حناياه وهو يردد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

*****

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

     الصلاةُ هي الصلةُ المباشرة بين الإنسان الفاني والخالق الباقي، بين المخلوق الضعيف والخالق القوي، بين القوة المحدودة العاجزة، والقوة الربانية التي لا حدود لها ولا قيود، بين الذي يزول ويَمَّحي، ويخطئ ويجهل، ويلاحقه القصور والعجز، وبين مَنْ يبقى فلا يزول، ويعلمُ فلا يجهل، ويصيب فلا يخطئ، ويَخْلُدُ فلا يمَّحي.

     إنها الموعد الذي اختارته العناية الإلهية لتسمو الفطرة فيه وتطهر، وتصدُق النفس فيه وتزكو، ويطيب فيه الوجدان ويصفو، ويعلو الإنسان فيه على حطام الدنيا ومتاعها، وما فيها ممّا يبعث على الطمع والجشع، أو الخوف والإشفاق، كيف لا وهو يردّد إبّانَ الصلاة هذه العبارةَ الوجيزةَ جداً، الغنيةَ جداً: الله أكبر!؟

     إن كلَّ ما يَؤوده ويتعبه، ويشقُّ عليه ويُضْنيه، ويُسبِّبُ له المتاعب والأحزان، ويبعث فيه القلق والتوجس، ليغيبُ عن ناظريه، وعن ساحة إحساسه وشعوره، كيف لا وهو يردد إذ يصلّي: الله أكبر!؟

     إنّ مشاقَّ الدنيا جميعاً، وطغيانَ الباطلِ جميعاً، وانتشار الشر والفساد، وتكالب الأعداء والمجرمين، إن ذلك كلَّه لَيتضاءل ويتضاءل، حتى يتلاشى أو يكاد، كيف لا وهو يردد: الله أكبر!؟

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- مفتاحُ الكنز، كنزِ الثقةِ والقوة، والاستعلاءِ واليقين، والبشاشةِ والرضى، والسكينةِ والطمأنينة، والأملِ الحي المتجدد، والزاد الكريم النبيل، الكنزِ الذي يُغْني النفس ويزكّيها، ويسمو بها ويطهّرها، فتفيض بالعطاء المبارك، وتجود بالخير العميم.

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- موعد الإنسان لينطلقَ من حدودِ الواقع الأرضي الصغير، والحيّزِ الترابي المحدود، والاهتمامات القريبة المُسِفَّة، وحمأةِ الطين المسنون، وجَذْبَةِ الصَلْصال إلى أسفل، إلى مجال الواقع الكوني الكبير، والصلةِ بقدرة الله عز وجل، الباقيةِ العظيمة، الخالدة أبداً، المستعصيةِ على البِلى والفَناء.

     إنها الواحة المُخضرَّة الفينانة في صحراءِ التعب والمشقة، والسعي الموصول وراءَ مطالبِ العيش التي لا تنتهي. وإنها الندى المخضل، والظلالُ الوارفة في الهجيرِ اللافح.

     إنها اللمسةُ الحانية الودود للفؤاد المكدود، والنفسِ المتعبة، والصدر المرهق الثقيل. وإنها النهر الذي يسارع إليه الإنسان خمسَ مراتٍ في اليوم ليتطهرَ فيه من كلِّ الشوائب التي تحل به، والأدران التي تعلق بجسدِه ونفسِه، عقلهِ وروحِه، لسانِه وخواطره، فيكون التجددُ والطهر، ويكونُ الصفاءُ والنقاء.

     إن مثل هذا العطاء الكبير الذي تقدمه الصلاة، وسواه مما يضيق عنه المجال، وسواه مما لا تحيط به عقولُنا المحدودة القاصرة، يفسر لنا لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من الصلاة إذا حَزَبَهُ أمر، واشتدت به حال؟! ويفسر لنا كذلك لماذا كان يقول لبلال رضي الله عنه وأرضاه: "أَرِحْنا بها يا بلال"؟!

     إن العبادة في الإسلام -والصلاةُ في المقدمة منها- زادٌ للطريق، وجلاءٌ للروح، ومددٌ للقلب، وتجديدٌ للعزيمة، وتوكيدٌ للعهد، ونفضٌ للغبار والران، والكسل والإخلاد، والشوائب والأدران.

     إنها استعلاءٌ على كل ما يعوِّقُ المرء عن الوفاء بعهد الله عز وجل، واستمساكٌ بكل ما يحقق له القربَ الدائم منه، نأياً عن الشرور، وحرصاً على الخيرات، واستمراراً في الدعوة إلى منهج الله الصحيح الكريم.

     وفي العبادة عامة، والصلاة خاصة؛ تدريبٌ للمسلم على احتمال التكاليف، والقيام بأمر الواجبات، ولذلك نجد في سورة المزمل أن الله عز وجل حين أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس، وهي أمر شاق طويل، قال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل:1-5). إن قيامَ الليل بالصلاة والتضرع، والترتيل والذكر؛ إعدادٌ للقولِ الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم.

     إنَّ مهمةً خطيرةً جداً كُلِّفَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهِي مهمةٌ عظيمة جداً، فلا بد له من إعدادٍ خاصٍّ جداً، عظيمٍ جداً، ولا عجب فإن العظائمَ كفؤها العظماء، وهل ثمةَ رسالةٌ أعظمُ من رسالة الإسلام؟! وهل ثمةَ رسولٌ أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم؟!

     إن العبادةَ عامةً، والصلاةَ خاصةً، تفتحان القلب للإشراقات الربانية، والعطاءِ الروحي، وتوثّقان الصلةَ بالله عز وجل، فيكون من ذلك ما ييسرُ الأمر بإذن الله، ويجدد العزم والأمل، ويُشْرِقُ بالنور، ويَفِيضُ بالعزاء والصبر، والسلوى والاحتمال، والراحة والاطمئنان.

     من أجل ذلك يَجْدُرُ بالمؤمنين -وهم على أبواب مشقات كبيرة، وإزاءَ مطالب خطيرة- أن يفزعوا إلى الصبر، وأن يفزعوا إلى الصلاة، ففيهما كلُّ خيرٍ وبركة، وقوةٍ وغوث، وزادٍ يساعد على استمرار المسيرة وِفْقَ مرضاةِ الله عز وجل حتى نهايةِ الحياةِ الدنيا، على أمل اكتسابِ الفوز والرضوان، والفوزِ بالجنة يومَ القيامة، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلّا مّنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

*****

فتح مكة المكرمة .. الفتح الأعظم

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

فتح مكة المكرمة.. الفتح الأعظم

     ما مرّ على المسلمين شهر رمضان المبارك، إلا مرت عليهم في أفيائه الطهور ذكريات غالية أثيرة، ففي رمضان كان يوم بدر، وفي رمضان أيضاً كان فتح مكة المكرمة.

     خرج المصطفى ﷺ إلى مكة مع جنوده الأوفياء حين عدا رجال من بني بكر وهم حلفاء قريش؛ على أناس من بني خزاعة وهم حلفاء المسلمين، فغدروا بهم وقتلوهم، فرحل عمرو بن سالم إلى المدينة المنورة، وأنشد بين يدي رسول الله ﷺ قوله:

يــا ربِّ إني ناشــــــدٌ محمدا     حِلـــــفَ أبينا وأبيهِ الأتــــلدا
إنَّ قريشاً أخلفوكَ الموعـــدا     ونقضوا ميثــــاقكَ المُؤكـــدا
هُم بيّـــــتونا بالوتيرِ هُجَّـــداً     وقتـــــلونا رُكَّعاً وسُجَّــــــدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحداً     وهُـــمْ أذلُّ وأقــــــلُّ عـــددا
فانصرْ هداكَ الله نصراً أيِّدا     وادعُ عبـادَ اللهِ يــــأتوا مـددا

     وأجاب رسول الله ﷺ عمرواً بقوله: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم!.. ثم كان الخروج إلى مكة المكرمة.

     وأحسَّ بنو بكر بعِظم الجناية، وشعرت قريش بفداحة ما فعله حلفاؤها، فحاولت أن تتدارك الموقف، وكان لأبي سفيان جهد متصل وحركة ناشطة، لكنه عاد بالخذلان.

بني بــــكرٍ وما يُغْـــني المَــــلامُ     تَلَظَّى البأسُ وانتفضَ الحسامُ[1]
ذِمامٌ صــــادقٌ ودمٌ حــــــــــرامٌ     وعِـــــزٌّ من خــــزاعةَ لا يُــرامُ
يقــــومُ عليهِ حـــامٍ لا ينـــــــــامُ

أعانـــــــكمُ الأُلى نبذوا الوفــــاءَ     وراحَ القــــومُ يمشونَ الضَّــراءَ
وما تَخـــفى جريـرةُ مَنْ أســــاءَ     سيــــوفُ محمدٍ جُعِــــلَتْ جَزاءَ
فـــما البَغْيُ الذميمُ وما العُـــرامُ

قَتــــلتُمْ من خزاعــةَ بالوَتيـــــرِ     رجــــالاً ما أتــــاهمْ منْ نذيــــرِ
لبئسَ الغـــــدرُ من خــــلقٍ نكيرِ     ويــــا لَلناسِ للحــدثِ الكبيــــــرِ
أكــــانَ محــــمدٌ مِمّـن يُضــــامُ

أَتَــــوْهُ يَنْشــــدونَ الحِلْفَ وفــدا     تَهُــــدُّ شَـــكاتُهُ الأحــــرارَ هَـدَّا
فأيَّــــدَهُمْ وســـــارعَ واستـــعدّا     وراحَ يســـوقُهُ للحربِ جنـــــدا
تُظَلِّـــــلُهُ الملائكــــــةُ الـكــرامُ

     وحينَ جاء أبو سفيان إلى المدينة المنورة ليجدد العهد ويزيدَ في المدة لم يُوَفَّق لشيءٍ قط، وانطلق محزوناً مهموماً تتقاذفهُ شوارعُ المدينةِ الكريمة، فالرسول الكريم ﷺ لم يَرُدَّ عليه بشيءٍ قط، والصحابةُ الكرام الذين لجأ إليهم ليساعدوه فيما يؤمل أخلفوا ظَنَّه الواهم، فهو حائرٌ مرهق، مضطربُ الخُطا، زائغُ النظر، أنَّى لكَ النجاةُ أبا سفيان مما أنتَ غارقٌ فيه وقد عزمَ رسول الله ﷺ وصمّم!؟

أبـــا سفيـــــانَ ذلك ما تـــراهُ     هو البـــأسُ المصمِّمُ لا سـواهُ
أليسَ الحِلفُ قد وهنــتْ عُراهُ     فكيـــفَ تشُدُّ بعـــــدئذٍ قُــــواهُ
أبـــا سفيــــانَ ليسَ لكم ذِمــامُ

كتمتَ الحقَّ تطمعُ في المُحالِ     فما بالُ الثِّقاتِ من الرجـــــالِ
فتحتُـــــمْ بالأذى بابَ القتـــالِ     فما دونَ اللقــــاءِ سوى ليــالِ
ويَفْتَحُ مكةَ الجيـــــشُ اللُّهــامُ

دعِ الأرحـامَ ليسَ لكمْ شفيـــعُ     لقد حـــــاولتَ ما لا تستطيـعُ
رُويــدَكَ إنه الرأيُ الجميــــعُ     وإنَّ اللهَ ليسَ لـــــــــهُ قريــعُ
تعــــالى جَـدُّهُ وسما المقــــامُ

     عاد أبو سفيان من رحلته إلى المدينة المنورة، وطيفُ الإخفاقِ بادٍ على وجهه المُتْعَبِ المكدود، وهو بفطنته ومعرفته يعلمُ جيداً أن رسول الله ﷺ لا بد صانعٌ شيئاً، لكن ما هو هذا الشيءُ يا ترى؟ أين وِجْهَتُه؟ ما هي أبعادهُ وأمداؤُه؟ متى يكون توقيتُه؟ إنَّ شيئاً من هذا لم يكن يعرفه أبو سفيان قط، وأنَّى له أن يعرفَه والرسول الكريم ﷺ كَتومٌ حازم، بعيدُ النظر، شديدُ الحَيْطَة، بالغُ الدقةِ فيما يفعل!؟

     إذن؛.. فقد عُدْتَ يا أبا سفيان خاويَ الوِفاض، ليس في كِنانتِكَ إلا ما تتوقعه من خطوبٍ جسام، عدتَ مُتعَباً مُزعَجاً لا تدري كيف تقودُ قريشاً وأنتَ سيُّدها، ذلك أنك ترى صولَتها تَذْبُلُ يوماً بعدَ يوم، وشجرتَها تجفُّ وتُصوِّح، أما دولةُ الإسلام فهي تنمو وتَعْظُم، وأما شجرةُ الإيمان فهي تسمو وتَخْضَوْضِر:

رجعتَ وأسْكتتكَ الحادثـاتُ     فسِرْتَ تقولُ هل قَدِمَ الغُزاةُ
نعـــمْ قَدِمَ الميــــامينُ الهُداةُ     وتلكَ جيـــادُهمْ والمُرهَفاتُ
فدعْ دِينَ الغُـــواةِ وقلْ سلامُ

     وفي مَرِّ الظهرانِ ذُهِلَ أبو سفيان حينَ شاهدَ نيرانَ الجيشِ المسلم يقوده رسول الله ﷺ متجهاً لفتح مكة. كانت هناك عشرةُ آلافِ نارٍ أمرَ النبيُّ الكريم عليه الصلاة والسلام بإيقادِها لتعلمَ قريشٌ قوة المسلمين وبأسَهم فتنهدَّ عزائمها وتستكينَ وتستخذي:

أبا سفيانَ هل أبصرتَ نــــارا     كنارِ القومِ إذ باتوا سُهــــارى
أَبَتْ وأَبوْا فما تَــــأْلو استعارا     ولا تُحصى وإن عُدَّتْ مِرارا
هو الفزعُ المؤجَّجُ لا الضِرامُ

لقد أنذرتَ قومَكَ فاستــطاروا     وراحـــوا ما يَقِـــرُّ لهم قــرارُ
نَبَتْ بهمُ المنــــازلُ والديـــارُ     وضاقَ سبيلُهمْ فيها فحـــاروا
وقالَ سَراتُهم: خَطْبٌ جِســامُ

     ودخل الجيش المسلم مكة المكرمة فاتحاً منصوراً، ولم تكن لقريشٍ إلا مقاومةٌ بائسةٌ يائسة ما أسرعَ ما انتهت!.. وعفا المصطفى ﷺ عنها وهي التي آذته وحاربته، عفا عنها أكرمَ عفوٍ وأشرفَه وأنبلَه، عفا عفوَ القادرِ المتمكن، الغالبِ المنتصر، عفا وهو ينظر إلى البيتِ الحرام وقد تمَّ تطهيرُه من أدناسِ الشركِ والوثنية، عفا حينَ قالَ لأهلِ مكة المكرمة وهم مأخوذون مذهولون: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.

وأرســـلَ الصرخـةَ الزهراءَ فانطـــلقت
               كتــــائبُ اللهِ ترعى البيــــتَ والحرَمــــا
فمـــــا هــوى صــــارمٌ إلّا رمى عُـنُقــاً
               ولا هـــوى مِعْــوَلٌ إلّا رمى صَــــــنَـما
ولا بَــــــــــــدَتْ سِـــــدَّةٌ إلا تَسَــــنَّمهــا
               مُؤَذِّنٌ لم يَـــدعْ في مَسْــــــمَعٍ صَـــــمَما
فتـــــــابَ مَنْ لم يـــكنْ باللهِ معتـقـــــــداً
               وثــــــابَ منْ لـــم يـكنْ باللهِ معتصِــــما
وأقبـــــلت سَــــرواتُ العُرْبِ خـاشعـــةً
               تجـــــلو بإيمـــــانِها عن دينِـــــها الـتُهما
وتحــــملُ الشُّهْبَ في راحـاتِها قُضُــبـــاً
               والخيـــــلُ تَعْــــــلِكُ في أشداقِها اللُّجُــما
وأحـمــــــدٌ يـتـــلقّـاهـــــــا وبَسْــــــــمَتُهُ
               تَـــــرُدُّ كـــــلَّ فــــــمٍ للمجــــدِ مُبْتَسِـــما
والفتـــــحُ يغمِــــزُها حتى إذا وثبَـــــــت
               لم تُبْقِ في الشرك لا عُرْباً ولا عجما[2]

     تم الفتح وانهارت دولة الشرك والوثنية، وصارت مكة المكرمة حصناً للإسلام، فَعَلا فيه الأذان، وتُلِيَ فيها القرآن، وتَمكَّن من أعماقها الإيمان.

     يا ذكرى الفتح الأعظم!.. مرحباً بأنسامك الندية العاطرة، مرحباً بريّاك التي يُضمِّخها الشذى والطيب والعرار، مرحباً بك اليوم وأمتنا تخوض جهادها المتصل ضد أعداء الله من اليهود وتلاميذ اليهود، ومن الصليبيين والملاحدة.

     أنتَ قَبَسٌ يضيء في الحوالك، وعزيمةٌ تتقدُ في القلوب، وتيارٌ يسري في الضمائرِ والأخلاد، فيشدّ عليها، ويقوّي أزرها، ويبشرها بيوم النصر القريب.

----------------------
[1] للشاعر أحمد محرم، في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] للشاعر عمر أبو ريشة.

ملحمة بدر الكبرى

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

ملحمة بدر الكبرى

     كانت بدر ولا تزال وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها ملحمةً ضخمة هائلة من معارك الإيمان وملاحمه، بل أولى هذه المعارك والملاحم، وأكثرها أهمية وأعظمها أثراً، ولا غرابة في ذلك فهي أول معركة وقعت بين كتيبة الإيمان وكتيبة الجاهلية.

     إذا حلت بالمسلمين الهزائم طفقوا يتلفتون صوب تاريخهم يبحثون فيه عمّا يشد أزرهم، ويقوّي همتهم، ويعدهم بالأمل، وحين يفعلون ذلك يجدون معركة بدر في طليعة المعارك التي تقدم لهم ذلك الزاد كله، وتهيئ لهم كل الذي يرجون من فاعلية.

     وإذا حققوا النصر، وفازوا بالغلبة، سرى منهم تاريخهم البطل مسرى الدم في العروق يملؤهم بالمجد، ويمدهم باليقين، ويحدوهم لمزيد من النصر والفوز والغلبة، وفي مقدمة تاريخهم البطل تقف معركة بدر ترسم لهم معالم الطريق، وتهتف بهم أن يحققوا مزيداً من التفوق الإيماني، وتهيب بهم أن يكونوا بالإسلام -ومن أجل الحق وحده- السادة الكرام، والقادة الأمجاد الميامين.

     لقد كانت مواقف الصحابة الكرام في بدر، وهم رأس حَرْبَةِ البطولة في التاريخ الإسلامي كله، مواقف أندى من قطرات الماء في يوم الصيف اللاهب، وأعبق من شذا الريحان والمسك والعنبر، ولا غرابة فهي موصولة الأسباب بالحق المبين، وثيقة العرى بهدي السماء.

     في بدر سال دمان مختلفان، دمٌ مؤمن يسعى للخير وينشر النور والحق، ودمٌ كافر يعمل للشر ويحالف الظلام والباطل. وإذا سال هذان الدمان جفّت جذور الجاهلية، وصوّح نبتُها، أما شجرة الإيمان فقد نمت واخضوضرت وأزهرت:

جفّت جـذورُ الجـــاهليةِ وارتــوى     هذا النباتُ النــاضرُ المستـــرشحُ
طفق الثرى من حولها لمّا ارتوى     من ذَوْبِ مهجتـــها يجفُّ ويَبْـــلَحُ
ومن الدم المســفوك رِجْسٌ موبقٌ     ومطهِّرٌ يلـــدُ الحيـــــاةَ ويلقحُ[1]

     أيتها الذكرى العظيمة الكبيرة!.. يا ذكرى بدر التي سمت وعظمت!.. ما أروع أن نستظل ببستانك الوارف الفينان!.. ونحن اليوم تنوشنا ذئاب اليهودية والصليبية والشيوعية والوثنية، ليكون لنا من ذلك غوث نفسي، ومدد روحي، وهمّة وعزيمة، وجهاد صادق لا يهدأ، حتى يكون لنا النصر بإذن الله، يصنعه قدر الله الغالب بأيدٍ مؤمنة متوضئة، لرجال كرام عظام، يصوغون مواقف كريمة عظيمة.

     إن الرجال القلائل الذين وقفوا يوم بدر جياعاً عراةً مهازيل، هم أول كتيبة من جند الإسلام بدأت بتفوقها الإيماني الكاسح تصوغ مواقف الجيل القرآني العملاق الذي أحدث أكبر تغيير للأحسن في تاريخ البشرية:

هم في حِمى الإيمانِ أولُ صخرةٍ     فَسَــلِ الصخورَ أمَا عَرَفْنَ قواهـا
حملتْ جبالَ الحقِّ في دنيا الهدى     بيضـــاً شواهقَ ما تُنــالُ ذراهــا
شهـــداءَ بــدرٍ أنتــمُ المثــلُ الذي     بـــلغ المدى بعد المدى فـتنــاهى
علّمتـــمُ الناسَ الكفـــاحَ فأقبـــلوا     ملءَ الحوادثِ يدفعونَ أذاهـا[2]

     يا أهل بدر!.. ما أكرمكم من رجال!.. وما أعظمكم من أبطال!.. وما أحرانا أن نتأسّى بكم!.. ونحن اليوم نرجو أن نجاهد كما كنتم تجاهدون، نقتبس من بطولتكم، ونستضيء بمواقفكم، عسى أن يُكتب لنا النصر المبين.

     لقد غلبتم كتيبة الجاهلية يوم غلبتم في أنفسكم دواعي القعود، واستعليتم على متاع الدنيا. هزمتم مشركي قريش يوم هزمتم في أعماقكم كل خوف وطمع وضعف:

ما أكرمَ الأبطــــــالَ حينَ تفيّـــــؤوا     ظُلَلَ المنـــايا يبتغــــــــون جنــــاها
راحوا من الدم في مطارفَ أشرقت     حُمْرُ الجراح بها فــكُنَّ حِــــــــلاها
لو أنهم نُشِــــروا رأيتَ كـــــلومَهـم     تـدمى كأنـــــــك في القتــــال تراها
هم عنــدَ ربـــكَ يُرزقونَ فحيِّــــــهم     وصِــفِ الحيــــاة لأنفــسٍ تهـــواها
اللهُ بــــاركهــا ببـــــدرٍ وقعـــــــــةً     كــلُّ الفتــــوحِ الغُـــرِّ من جــدواها
منعــتْ ذمارَ الحقِّ حيــنَ أثــــارها     وحمـــتْ لواءَ اللهِ حيـــنَ دعـــــاها

-----------
[1] للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] للشاعر أحمد محرم، في دوانه: مجد الإسلام.

كتاب أفراح الرُّوح - الفصل 3 - ذكرى معركة بدر

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

ذكرى معركة بدر

     تظلُّ ذكرى بدر يوماً خالداً في التاريخ مهما طال الزمانُ وتباعدت الأيام، فهي أعظمُ معاركِ التاريخ على الإطلاق بنتائجِها الضخمةِ الكبيرةِ الممتدة حتى يوم الدين. إنها أكبرُ وأولُ معركةٍ فاصلة في سجلِّ الصِّدامِ بين الكفر والإسلام.

     لقد التقت يومَ بدرٍ كتيبةُ الإيمان يقودُها الرسول ﷺ بكتيبةِ الوثنية يقودها أبو جهلٍ والمخدوعون من قادةِ الضلال والفساد والطغيان، وما هي إلّا ساعةٌ من نهار حتى كانت السيوفُ المؤمنة تحصدُ المشركين حصداً، وتسوقهم إلى الموتِ الزؤام.

     ما أعظمَ أن تمرَّ بنا ذكرى هذه المعركة العظيمة!.. وأمَّتُنا تجاهدُ بصدقٍ وبلاءٍ جيشَ الفسادِ والضلالِ والبغي، جيشَ يهود، الذين سرقوا منا انتصارات وهمية. فلمّا أن بدت في الأمة المسلمة بشائرُ صحوةٍ كريمة، نبيلةٍ مظفّرة بإذن الله، كانت هذه الحربُ الشريفةُ المقدسة، تخوضها أمتُنا الوفيةُ المعطاء، لا بَغْياً ولا ظلماً، ولا علوّاً ولا فساداً، ولا كِبراً ولا بطراً، بل دفاعاً عن كرامةٍ أُهينت، وأرضٍ سُرِقت، ومساجدَ دنَّسها الأنذال، ونساءٍ فتكَ بهنَّ الغادرون، وأطفالٍ عدا عليهم اللصوصُ والجبناء.

     إننا اليوم ونحن نتفيَّأُ ظلالَ هذه الغزوة الكريمة، في هذا الشهر الكريم، ونحن نجاهدُ في سبيل الله لإنقاذِ بلادِنا وأمّتِنا، لَنَرْفَعُ إلى الله عز وجل أكُفَّ الضراعة قائلين: اللهم بدراً كبدر، وإيماناً كإيمان أهل بدر، وانتصاراً كانتصار مجاهدي بدر، ومواقفَ شجاعةً عظيمةً عملاقة كمواقفِ مسلمي بدر.

     إنَّ يومَ بدرٍ ذكرى في التاريخ، لكنها ليست ذكرى محفوظةً مسجَّلةً بين دفّاتِ الكتب، بل هي ذكرى حيّةٌ تعيش في أفئدةِ المجاهدين المؤمنين فتحملُهم على البطولةِ والتضحية، والشجاعةِ والإقدام، ولِمَ لا!؟ ولهم في مجاهدي بدر أُسْوَةٌ عظيمة مشرِّفة.

     اضربْ بعينيكَ هنا وهناك، تنقَّلْ في ذاكرتك بينَ صحائف التاريخ، انطلقْ حيثُ تشاءُ في أسفارهِ وأخباره، قَلِّبْ أوراقَه واحدةً واحدة، اقرأ كلَّ سِيَرِ البطولةِ والتضحية، وكلَّ كتبِ الشجاعةِ والفداء، وكلَّ أنباءِ الرجولةِ والإقدام، تنقَّلْ كما يحلو لك في الزمانِ والمكانِ والموضوع، ارتحلْ حيثُ تشاء، حتى إذا استوعبتَ من ذلك ما استأثرَ بلُبِّكَ، وامتلكَ فؤادكَ، وسيطرَ على اهتمامك، فتعالَ معي!.. تعالَ معي نَجُبْ معاً معركةَ بدر، نستوعبُ أخبارَها، ونستروِحُ ذكراها، ونستظِلُّ بأفيائِها، ونَعْبَقُ نَشْرَها وشَذاها، فإن فعلتَ ذلك فإني سائِلُك:

     هل وجدتَ في كل ما عرفتَ شرقاً وغرباً، حاضراً وماضياً، يوماً كيوم بدر في جلالِ قدره، وارتفاعِ خطره، وعِظَمِ نتائجه!؟ أواجدٌ أنتَ مثلَ هذا اليوم!؟ أواجدٌ يوماً قريباً منه!؟ لا يا صاحبي، إنك لن تجدَ مثلَ ذلك قط، فيومُ بدرٍ هو اليومُ الأغرُّ الضاحي في خوالدِ الأيام.

     سيظلُّ الخيرُ في العالمِ عِيالاً على المسلمين، وسيظلُّ المسلمون عِيالاً على الشهداءِ منهم، وسيظلُّ الشهداءُ منهم عِيالاً على شهداءِ بدر، فقد كانوا أولَ موكبٍ باعَ نفسَه لله عز وجل.

     فصلُ الربيعِ عطرُ الزمانِ وابتسامتُه، ومعركةُ بدرٍ في التاريخ الإسلامي هي العطرُ العاطر، والإيمانُ الواثق والبسمةُ الزاهية، والنصرُ المبين.

     إذا كان للخيرِ خُلاصةٌ في الحادثات فواقعةُ بدرٍ خُلاصتُه، وإذا كان للعدلِ فخرٌ على الأيام فبِبَدْرٍ فَخارُهُ واعتزازُه، وإذا كان للإقدامِ والجراءةِ صورةٌ مُثْلى يُؤْتَسى بها فالصورةُ هي يومُ بدر، ما كان فيه من مواقف.

     إنّ يومَ بدرٍ للمؤمن مَعينٌ يرتوي منه العزّةَ والشجاعة، والبطولةَ والجسارة، ولذةَ الاستشهادِ في سبيل الله، وهو مَعينٌ ثَرٌّ غني، عذبٌ دفّاق، سائغٌ حلوٌ فرات.

     إنّ مواقفَ العُصبةِ المؤمنةِ يومَ بدر تكشفُ عن إيمانٍ نادر، ووفاءٍ خالص، وصدقٍ وإيثار، وحبٍّ لله ورسولهِ صافٍ عميق. مواقفُ تُبِينُ عن ارتفاعٍ لا مثيلَ له على شهواتِ النفسِ والجسد، وسفاسفِ الدنيا وزينتِها وبهرجِها، وحُطامِ الحياةِ وزهرتِها ...

     ستظلُّ الإنسانيةُ تَفْغَرُ فاها من الدهشةِ والإعجاب، والإكبارِ والاستغراب، تُرى: أفي البشر مَنْ يملكُ هذه المقدرةَ الهائلةَ على الانتصارِ على ذاتِه وبيعها بيعاً خالصاً لله عز وجل لا رجعةَ فيه!؟ أفي البشر مَنْ يقتل أباه ذَبّاً عن دين الله؟ أفي الناس مَنْ يبكي لأن رسول الله ﷺ قد ردَّهُ لصغرِه!؟

     أجل.. إنّ ذلك لكائن، فالإسلام العظيم يملكُ القدرةَ دائماً على رفعِ أتباعه إلى آفاقٍ كريمةٍ سامية إذا صدقت منهم النوايا، وصحَّت منهم العزائم. وحين كانت نوايا البدريين صادقة، وعزائمُهم صحيحة، كانت لهم تلك المواقفُ التي لا نزالُ حتى اليوم نعيشُ في امتدادِها الضخمِ الهائلِ الكبير.

     وتمضي السنون إثر السنين، وبدرٌ فخارٌ باذخ، واعتزازٌ هائل، ومجدٌ في ذرى الجوزاء. لقد بقي وسيبقى مفخرةَ الدهر، ومُلهِمَ الكُتّاب، ومَعينَ البطولة والمجد والعطاء:

إيهِ يا بدرُ أنتِ مفخـــرةُ الدهــ     ــر ووحيُ الكُتّــابِ والشعراءِ
أنتِ بدرُ الزمان يسطعُ بالنُّـــو     ر ويقضي على دُجى الظلماءِ
أنتِ ألهمتِني القريضَ وكم فتْـ     تَقتِ قبـــــلي قـــرائحَ البُلغــاءِ
وأَسَلْتِ القصيـــدَ مني غنـــاءً     عبقريَّ الإيقاعِ عَـــذْبَ الأداءِ
كـلّما عــــــــادني تَذَكُّرُ بَـــدْرٍ     طاولـتْ عَزْمَتي ذرا الجوزاءِ

*****

وقفة مع غزوة بدر

الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان

وقفة مع غزوة بدر

على ذِكْـــرِها فــليَعــــرفِ الحقَّ جاهـــلُهْ
               ويؤمنْ بــــأنَّ الـبـــغيَ شــــتّى غوائلُــــهْ
هيَ الغزوةُ الكبرى هوى الشركُ إذْ رَمَتْ
               جحــافِلُها العُظْــــمى ووَلَّـتْ جحــــــافـلُهْ
وأصبـــــحَ ديــنُ اللهِ قد قــــــام ركنُــــــهُ
               فَأَقْصَـــرَ من أعدائِــــــــهِ مَنْ يُطـــــاولُهْ
بَنَتْهُ سيـــــوفُ اللهِ بـالـعـــــــــــزمِ إنَّــــهُ
               لَأَصْـــلَبُ من صُمِّ الجلاميـدِ ســـائلُهْ[1]

     تلكم هي غزوة بدر التي نعيشُ سعداء في ذكراها الكريمة الخالدة، وأنعمْ بها من غزوة!.. وأنعمْ بذكراها من ذكرى!.. فهي أول لقاءٍ بين الإسلام والجاهلية ارتفعت فيه كلمةُ الحق، وانطلقت بشائرُ الهدى والنور، وخسئت فيه كلمةُ الباطل وانخذلت، وعادت يُجلِّلُها الخزي والعار.

     لقد مضت السيوفُ المؤمنةُ تُطِيحُ بالرؤوسِ الكافرةِ العفنة التي لم تكتفِ أنْ حادت عن الحق، بل أسرعت، يحدوها العنادُ والكبرياء، تحاولُ صدَّ الآخرين عن المنهلِ العذب، وتسومُ مخالفيها سوءَ العذاب.

     في يوم بدر التقت القلةُ المؤمنة بالكثرةِ الباغية ليكونَ لقاءٌ ضخمٌ كبير، فتكَ بالحاقدين الأفَّاكين، وحفر مجرىً جديداً في تاريخِ الحياة، وتحوُّلاً في مسيرةِ الدنيا صَوْبَ كلِّ ما هو صادقٌ وعاطر، ونافعٌ وشريف.

     أهابَ المصطفى ﷺ بالمؤمنين أن يُقْدِموا دون خوف، وأن يجاهدوا بصدقٍ وعزيمةٍ ومضاء، فاللهُ ناصرٌ للحق، خاذلٌ للطاغوت، رافعٌ كلمتَه، مُهْلِكٌ أعداءه:

أهــــابَ رسولُ اللهِ بالجُنـــدِ أَقْدِموا
               ولا ترهبـــوا الطاغوتَ فاللهُ خاذلُهْ
أَمَا تنظـرونَ الأرضَ كيــفَ أظلَّها
               من الشركِ دِينٌ أهلكَ الناسَ باطلُهْ؟
خذوه ببــــأسٍ ما تَطِيشُ سهــــامُهُ
               فـأنتـــمْ منايــــاهُ وهذي مقــــاتلُــهْ

     ونشبَ القتالُ حاراً عنيفاً متقداً، وطفق المؤمنون يَصْدُقونَ اللهَ ما عاهدوه عليه، وارتفع دعاءُ المصطفى ﷺ، يدعو خالقَه ألّا تَهْلِكَ هذه العُصْبَةُ المؤمنة، وتنزَّلت رحمةُ الله على المسلمين، وكان لهم نصرٌ عزيز كريم:

مضى البأسُ بَدْرِيَّ المشاهدِ ترتمي
               أعاصيرُهُ نــــاراً وتغلي مراجــــلُهْ
وراحَ رســــولُ اللهِ يدعـــــو إلهَــهُ
               فيا لَكَ من جندٍ طوى الجوَّ جافِـــلُهْ
تنــزَّلَ نصرُ اللهِ تنســــابُ من عَلٍ
               شـــآبِيبُهُ نوراً ويَنْهَــــلُّ وابــــلُـــهْ
هـــوَ اللهُ يحــــــمي دينَهُ ويُعِــــزُّهُ
               فمنْ ذا ينــــــاويهِ ومَنْ ذا يصاولُهْ

     لقد صدق المؤمنون جهادَهم، وثبتوا ثباتَ الجبال الشمّ، وأحدقوا بالعدو الكافر يُصْلونه نيرانَ بأسِهم العارمِ الصارم حتى تمزقَ شرَّ ممزَّق، وانهار شرَّ انهيار:

تمزَّقَ جيشُ الكفرِ وانحلَّ عِقْدُهْ فخابتْ أمانيه وأَعْيَتْ وسائلُهْ

     إن التاريخ كلَّه عِيالٌ على الإسلام، وإن تاريخَ الإسلام كلَّه عيالٌ على بدرٍ وما كان في يوم بدرٍ من مواقفَ للشرفِ والصدق، والجهادِ والبطولة، والفداءِ والإيمان، والتفاني والإيثارْ، صاغها رجالٌ كرامٌ عظام، سادةٌ نُجُب، أوفياءُ شرفاء.

     فهذا عُمَيْرُ بن الحمام بيده تمراتٌ يأكلهن، حين سمع رسول الله ﷺ يقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يقاتلهم اليومَ رجلٌ فيُقْتَلُ صابراً محتسباً، مقبلاً غيرَ مدبر إلّا أدخلهُ اللهُ الجنة))؛ عندها يقول عمير: "بَخٍ بَخٍ!.. أفما بيني وبين أن أدخلَ الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء!؟"، ثم قذف التمراتِ من يده وأخذ سيفه فقاتلَ الرومَ وهو يُنشِد:

ركضـــاً إلى اللهِ بغيـــرِ زادِ     إلّا التُقى وعمــــلِ المعــــادِ
والصبرِ في اللهِ على الجهادِ     وكلُّ زادٍ عُرْضَـــةُ النفــــادِ
غيرَ التُقى والبرِّ والرشــــاد

     وما زال كذلك حتى استشهد.

     وهذا أبو عبيدةَ بن الجراح رضي الله عنه يرى أباه في الصفِّ المشرك فينأى عنه إلى جهةٍ أخرى من المعركة، فيلحقه الأبُ مرةً بعد مرة يريد قتلَه، حتى إذا لم يكن من الصدام بُدٌّ التقى الأب الكافر، بولده المؤمن، وما مضى سوى قليلٍ من الوقت، حتى أطاحَ أبو عبيدة برأسِ والدهِ فسقط على الأرض مُجَلَّلاً بالخزيِ والعار، مَسُوقاً إلى عذاب النار.

     وهذا عُمَيْرُ بنُ أبي وقاص يختفي وراءَ أخيه سعدٍ حتى لا يراه رسولُ الله ﷺ فيمنعَه من الخروج لأنه صغير، لكنَّ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام رآه منفرداً فردَّه، فبكى عمير، فأجازه عند ذاك، وفاز بالشهادة التي خرجَ يرجوها.

     وهذان فَتيانِ من الأنصار هما مُعاذ بن عفراء، ومُعاذ بن عَمْرو بن الجَمُوح يقفان في الصف المسلم يوم بدر يبحثان عن أبي جهل، حتى إذا عرفاه شَدَّا نحوه كالصقرين لا يباليان مَنْ كان يحيط به من فرسان قريش، وأخذا يضربانه حتى أَثْبَتَتْهُ الجراح، ثم أجهز عليه عبدالله بن مسعود.

     إنها مواقفُ رجالٍ لا كالرجال، فهم تلاميذُ أذكياءُ أوفياءُ لإسلامهم العظيم الذي آمنوا به، وهم يعلمون أن التضحيةَ بالدنيا طلباً لرضوانِ الله تعالى وجنته من الدروسِ الأساسية التي على المسلم أن يَعِيَها فهماً وإدراكاً، ويلتزم بها عملاً وسلوكاً، وكذلك كانت كتيبة الإيمانِ يومَ بدر، فقد ضمَّت أولئك الرجال:

ضَمَّت حُماةَ الحقِّ ما عرفَ امرؤٌ     عِــزاً لهم من دونِــــهِ أو جـــــاها
الطـــــالعينَ بــه على أعدائِـــــــهِ     موتــــاً إذا نشروا الجنودَ طواهــا
الخائضينَ من الخطوبِ غمارَهــا     المُصطليــــن من الحروبِ لظاها
البـــــاذلينَ لدى الفــداءِ نفوسَـــهمْ     يبغـــونَ عندَ إلهِهِــــمْ مَحْيــــــاها
ما آثـــروا في الأرضِ إلّا دينَــــهُ     دِينـــاً ولا عبـــدوا ســــــواهُ إلهــا
سلـــكوا السبيلَ مُسَدَّدينَ تُضِيـــئُهُ     آيُ المُفصَّـــلِ يَتْبَــــعون هـــداهـا
قــــومٌ همُ اتخذوا الشـهادةَ بُغْيَــــةً     لا يبتـغونَ لدى الجهادِ سواها[2]

     ودخل يومُ بدرٍ التاريخ، معركة فاصلة من كبرى معاركه، بالرغم من كل حاقدٍ أو حاسدٍ أو شانئ.

     لقد عادت قريش بعد المعركة مهزومة جريحة، وطفقت تُعِدُّ ليوم الثأر.. لكن اليوم الماجد الأغر ظلّ يواصل أنواره في دفع مسيرة الهداية نحو نصرٍ تلو نصر، وامتدادٍ تلو امتداد، ذلك أن الراية المسلمة التي رَكَزها الحق في بدرٍ لم تمتْ، وليس لها أن تموت:

قُضِيَ الأمرُ يا قريشُ فسيــــري     للحمى واندبي على الأشـــــلاءِ
واحذري الطيبَ أن يَمَسَّ غلاماً     في نَـــدِيٍّ أو غـــادةً في خبـــاءِ
وأعِدّي للثــــأرِ حُمْرَ السرايــــا     واحشــــــديها للوثبةِ الرعنــــاءِ
يومُ بدرٍ يومٌ أغـــرُّ على الأيــــْ     يَــام باقٍ إنْ شئـــتِ أو لم تشائي
رَكَــــزَ اللهُ فيــــه أسمى لــــواءٍ     وجثا الخلدُ تحت ذاك اللواءِ[3]

----------------------------
[1] الأبيات وما بعدها من القصيدة نفسها للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] الأبيات للشاعر أحمد محرم في ديوانه: مجد الإسلام.
[3] للشاعر عمر أبو ريشة، من مقدمة ديوانه: ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم.

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".. عبارة وجيزة جداً، قليلة الكلمات، لكنها حافلة بالمعاني الكبار، والمشاعر السامية، والدلالات العميقة على حقيقة قائلها، وإيمانه الراسخ الضخم، ويقينه العميق المكين.

     هذه العبارة الوجيزة جداً، الغنية جداً، هي التي قالها الرسول الكريم ﷺ، لأبي بكر الصِّدِّيق، الذي عبّر عن حزنه وإشفاقه أن يصل المشركون إليهما، وفي وصولهم القتل لا ريب.

     لقد كان المشركون على فم غار ثور الذي اختفى فيه المهاجران الكريمان، وليس بين المشركين، والمهاجرَيْن الكريمَيْن إلا اقتحامُ الغار، لكن الله عز وجل خذل عدوه، وأيّد وليّه، فآب المشركون بالخيبة والخسران على الرغم من كثرتهم، وآب المهاجران الكريمان بالنجاة الكريمة، على الرغم من أنهما كانا في الغار وحيدَين مجرّدَين من أسباب القوة المادية.

     وإذن؛.. فلعله طبيعي ومنطقي ومتوقع، أن يعبّر الصِّدِّيق العظيم عن مخاوفه، فلو أن واحداً من المشركين نظر إلى موضع قدميه لرآهما، وخوفه ليس على نفسه، فهو في التضحية والشجاعة لا يُشَقُّ له غبار، لكنه خائف على الرسول الكريم ﷺ أن تقتله عصبة الغدر والوثنية والضلال، والتي آلت على نفسها محاربة الإسلام، وإطفاء شعلته المباركة النيّرة، ولكنْ كما كان موقف الصِّدِّيق هو المتوقع، فإن موقف رسول الله ﷺ هو المتوقع كذلك، حيث لم يَهِنْ، ولم يلِنْ، ولم يخشَ، ولم يضعُفْ، بل قال للصِّدِّيق قولته الرائعة تلك: "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" ما أروعها من قولة كريمة!.. في ذلك الوقت الرهيب العصيب، حيث الكفر يقف في مدخل الغار باحثاً عن الرسول الكريم ﷺ ليسارع إلى قتله. ما أروعها من قولة!.. تصدر عن فم النبوة الطهور، وبين النجاة والقتل خطوات، وبين الحياة والموت لحظات، أنياب الموت حادة قاطعة، ومخالبه كالسيوف مشرئبة، لكنَّ عناية الله أعظم، ورعايته أقوى، فإليها التفويض، وعليها الاعتماد، هي الملجأ والملاذ والمعتصم، وهي الباب الذي لا يوصد، والقوة التي لا تنفد، وهي العون السريع، والغوث المبادر.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" قولة أدخلت في قلب الصِّدِّيق العظيم، الطمأنينة والسكينة، والهدوء القوي المستيقن، وكانت بشرى خير وصدق، وأمارة فوز كبير مرتقب، وعلامة نصر قادم قريب، وذلك هو الذي كان.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعار كبير ضخم، ينبغي أن نرفعه اليوم، والهجرة تمرّ بنا ذكراها الطهور، ونحن نتلمس في نورها المبارك عِبَرها ودروسها، محاولين أن نجد مواضع أمينة لأقدامنا، ومعالم هادية لمسيرتنا، شعارٌ يجب أن نرفعه ونتمسك بحقيقته، ونعض عليه بالنواجذ، منارةَ صدقٍ وخير، نهتدي بضيائها، ونستمد منها العزيمة المؤمنة، والإيمان الصادق، واليقين الشجاع، والثقة الراسخة.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب أن نعلن تمسكنا به، والهجرة تمر بنا طيوفها، وأعداؤنا علينا يتكالبون، والصعاب تظهر في طريقنا هنا وهناك، والمثبِّطون والمُخَذِّلون، والمُعَوِّقون والمُرجِفون يتعالى صياحهم المنكر، زاعمين أَنْ ليس لنا طاقة بقتال الأعداء وانتزاع الظفر عليهم من بين براثن التحديات الصعبة المسعورة. شعار علينا أن نرفعه ليكون لنا معينَ قوة ومدد، وذخراً يمدنا بطاقة من التفوق الروحي ليس لها حدود.

     "إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" شعارٌ يجب علينا أن نرفعه اليوم، على أن نلتزمه حق الالتزام، ونعيه حق الوعي، وننهض بشدة وقوة وبطولة؛ بكل تبعاته ومسؤولياته ولوازمه، ونكون متوكِّلين لا متواكلين، عاملين لا قاعدين، مبادرين لا خائفين، ونؤدي كل الذي علينا من إعداد إعذاراً إلى الله عز وجل، وإبراءً لذمتنا من أن يشوبها النقص أو التقصير، ونفعل كل الذي من شأنه أن يجعلنا مع الله عز وجل حقاً وصدقاً، قولاً وعملاً، ليكون الله جل شأنه معنا.

     وحين نتعامل مع هذا الشعار، هذا التعامل الجاد المؤمن، سيبطل كيد الأعداء، ونخرج من التحديات التي نلاقيها اليوم فائزين منصورين، بإذن الله ومشيئته، تماماً، كما بطل كيد مشركي قريش، وهم على فم الغار، فخرج المصطفى ﷺ من ذلك الموقف العصيب، فائزاً ظافراً، لينتقل بالدعوة الإسلامية من نصرٍ إلى آخر، ومن ظفرٍ سابق إلى فوز لاحق، حتى علت الراية الإسلامية، وهُزِمت راية الوثنية والبغي والعدوان.

     ما من ريب في أن التحدياتِ الكبيرةَ حولنا كبيرةٌ، لكنه ما من ريب أننا بالإيمان أقوى منها وأكبر، وما من ريبٍ في أن خصومنا مسعورون باغون عادون، غرقوا في الأذى، وبيّتوا الشر، وأحكموا المكيدة، وخلوا من شرف الخصومة، لكننا بإذن الله تعالى نحن الغالبون.

     أليس لنا إذن أن نرى في عبرة الهجرة الشريفة، بشائر خير لنا نحن -المسلمين- في أيامنا الراهنة، إذا رفعنا بحق، وتمسكنا بصدق، وأعلنَّا بوعي ومسؤولية، شعارنا الخالد العظيم: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا؟

*****

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

علاقة التاريخ الهجري بالعهدين المكي والمدني

     لقد كان الخليفة العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، موفقاً تمام التوفيق، حين جعل من الهجرة المشرفة بداية للتاريخ الإسلامي، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل الركيزة الأولى التي انطلق منها هذا التاريخ في مكة المكرمة، حيث الرسول العظيم ﷺ يبلّغ رسالة الإسلام محتملاً شتى المشاق والعقبات والصعاب، وحيث صحابته الكرام الأوفياء يصرون على التمسك بإسلامهم بالرغم من المحن الثقيلة، فثمة مَنْ تشوي جلودَهم شمسُ مكة المكرمة في لهب الصيف، وثمّة مَنْ شردوا عن بلدهم الحبيب وعاشوا في الحبشة، وهم ينتظرون الفرج والخلاص ويوم النصر المأمول، مستمعين آيات الله عز وجل تتنزل بين الحين والآخر لتواجه أوضاعهم في مكة المكرمة، وأوضاع المسلمين المشابهة لها طيلة العصور، ممن يتمردون على ما في مجتمعاتهم من فساد وانحراف، ويكافحون من أجل استئناف حياة إسلامية خالصة.

     حركة التاريخ الإسلامي إذن؛ تبدأ من مكة المكرمة نفسها، تبدأ منذ هاتيك الدقائق الغالية التي شرف بها الزمان واعتز، وهي الدقائق التي شهدت وحي السماء يتنزل على الرسول الكريم ﷺ ليقول له وهو في غار حراء: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1).

     وبذلك بدأت حركة التاريخ الإسلامي في مكة المكرمة، عقيدة ودعوة، وقيماً ومثلاً، ومبادئ أساسية كبرى، ثم اكتملت في المدينة المنورة دولة وحكومة، ونظاماً وسلطاناً، وبناءً اجتماعياً عملياً، يقدم الصورة الحية التطبيقية للإسلام وشريعته الخالدة.

     أما إنسان الإسلام الذي كان لبنة هذا التاريخ، ومادته الحية، وخليته التي تتحرك به وتحمله وتدعو إليه، فهو ذلك المسلم الذي آمن بهذه الرسالة الربانية، ووعى حقيقة مسؤوليتها، وعزم على النهوض بأعباء هذه المسؤولية والوفاء بها، وطفق يحاول أن يوجد الرصيد العملي الواقعي لرسالة الإسلام تنفيذاً صادقاً لها، وتطبيقاً جاداً لمبادئها ومثلها وأخلاقياتها.

     هذا الإنسان وجد في كل العصور والأماكن منذ بزغت شمس الرسالة الكريمة، وسيظل يؤدي دوره في الحياة ما كان كونٌ، وما كانت حياةٌ حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها. قد يكون فرداً في مجتمع مظلم ناءٍ عن منهج الله تعالى وشرعه، وقد يكون انتماؤه الجغرافي الترابي لبلد غير إسلامي، وربما كان داعية إلى الله تعالى في مناطق متباعدة، في أدغال أفريقيا وصحاريها، أو في عواصم الحضارة الغربية الغارقة في المادة وعبادتها، لكنه حيث كان ويكون.. هو الخلية الحية المتحركة في مسيرة الإسلام، ما دام صادق الولاء له، وحسن الفهم لحقيقته، عاملاً على نشره وتطبيقه والدعوة إليه.

     وإنسان هذا التاريخ، رجل لا علاقة له بالأرض والجنسية، واللغة واللون، والقومية والتراب، والوظيفة والحدود، والسحنة والشكل، والعادات والأزياء، وما إلى ذلك من مقاييس وحواجز متخلِّفة محدودة كابية، بل هو رجلٌ.. الإسلام وحده جنسيته وهويته، وحقيقته ووطنه. فالمعوّل في تحديد: من هو؟ وما هي حقيقته؟.. على ولائه للإسلام ومحاولة تطبيقه بشكل عملي.

     ولعبرة بالغة، وحكمة جليلة، كان من صناع التاريخ الإسلامي أو ظهوره، نفر من غير العرب، كان لهم دور كبير مشكور، وكأن كل واحد منهم ممثل لأمة من أمم الأرض الأخرى، فكان بلال الحبشي ممثلاً للأحباش، وصهيب الرومي ممثلاً للروم، وسلمان الفارسي ممثلاً للفرس، فكان وجودهم مع بقية المسلمين العرب وعلى رأسهم الرسول الكريم ﷺ، إعلاناً حضارياً ضخماً، على صعيد القيم والمثل والمبادئ النظرية، وعلى صعيد التطبيق العملي، والواقع التنفيذي، بأن رسالة الإسلام للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض، وأنها فوق الحواجز الزائفة الكاذبة المتخلفة، التي تفرق الناس أقساماً شتى، ومزقاً متناحرة بسبب اللون والجنس واللغة والزي، وما إلى ذلك من جاهليات.

     إذن؛ ليس امتيازاً لأحد في الإسلام أن يكون قد ولد على أرض ما ولو كانت عزيزة غالية، كما أنه ليس نقصاً في أحد أن يكون قد ولد على أرض أخرى ولو كانت بعيدة أو كريهة أو فقيرة وما إلى ذلك.

     وما قيل عن الأرض يقال عن أصل الإنسان ونسبه، ولونه وشكله، ولغته وملبسه، وكل ما يمتُّ إلى ذلك بسبب. وينطبق هذا على العرب كما ينطبق على غيرهم من الشعوب المسلمة، وما أجمل ما عبّر به د. عبد الحليم عويس عن ذلك! حين قال: "ولئن كانت المحاولات التي تعطي العرب أفضلية مجانية لمجرد الأرض أو الجنس، محاولات متناقضة مع الإسلام نفسه، فإنها كذلك متناقضة مع سنة الله في الكون، لأنه سبحانه رفض دعوى اليهود الأفضلية، ورفض دعواهم ودعوى النصارى معهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وردّ على هؤلاء وأولئك بالرد القرآني الحاسم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة18).

*****

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

مكانة العهد المكي في الهجرة النبوية

     ظهر الإسلام أول ما ظهر في مكة المكرمة، فقد كُلِّفَ الرسول الكريم ﷺ أن يبدأ بعشيرته الأقربين، وهم قومه في مكة المكرمة التي ولِد ونشأ وترعرع، وهكذا انطلقت بداية حركة التاريخ الإسلامي من مكة المكرمة، مهبط الوحي أولاً، وموطن رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.

     وجاءت الهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاثة عشر عاماً عانى فيها المسلمون في مكة المكرمة شتى أنواع الأذى والمحن، وفي المدينة المنورة وجد الإسلام الأرض الخصيبة، ووجد النفوس الصافية، والفطرة النقية، والمعادن الكريمة التي سرعان ما آمنت بالإسلام، ومنحته صادق الولاء.

     وفي المدينة المنورة برز الواقع الإسلامي في صورة حية عملية لم يظهر فيها من قبل في مكة المكرمة، هذه الصورة الحية، هي الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم ﷺ عقب الهجرة، نموذجاً عملياً للإسلام يستقي ملامحه من التوجيهات والقيم القرآنية الكريمة، ومن تطبيق الرسول الكريم ﷺ لهذه القيم والتوجيهات.

     وقبل الهجرة الشريفة لم يكن الإسلام في واقعه العملي التطبيقي سوى أفراد يعيشون مشتتين مضطهدين يعانون من وطأة المقاطعة المادية أحياناً، والنفسية والاجتماعية في أكثر الأحيان، أو مشردين في الحبشة، لاجئين سياسيين؛ كما نعبّر نحن اليوم.

     وعلى الرغم من أن الانطلاق التطبيقي للإسلام بدأ في المدينة المنورة، إلا أن حركة التاريخ الإسلامي لا يمكن أن يَغْفُلَ المرء فيها عن العهد المكي. ذلك أن هذه الحركة بدأت في مكة المكرمة بناء عقدياً، ورسالة سماوية، وقيماً ومُثلاً ومبادئ، حيث ظل الوحي يتنزل بذلك طيلة ثلاثة عشر عاماً تحقق فيها أمران، الأول: عقدي حيث تكاملت الأسس الكبرى، والمعالم الأساسية لرسالة الإسلام، والثاني: عملي حيث تم بناء القاعدة المؤمنة الصلبة، وطليعة الجهاد الأولى، وهي أولئك النفر الكرام من المهاجرين الذين منحوا صادق ولائهم للإسلام في ظروف قاسية شاقة، وكانوا رأس الحربة في حركة التاريخ الإسلامي، روّاداً لزحفه المظفر الميمون، تمحّضوا لهذا الدين.

     أما المدينة المنورة فقد شهدت الإسلام بناءً عملياً تطبيقياً، ونظاماً مادياً متكاملاً، يظهر شامخاً للعيان في دنيا الناس الواقعية التطبيقية، وهكذا يتكامل الأمران معاً، ويتساوقان ليصوغا التاريخ الإسلامي صياغة نظرية وتنفيذية على السواء.

     وعندما بدأت الرسالة الإسلامية مسيرتها في مكة المكرمة حوصرت وحوربت، وانصب العذاب والتنكيل على المؤمنين بها، وحينَها لم يجد المسلمون أي حرج في أن يتركوا مكة المكرمة وينطلقوا في الأرض، ذلك أن الهدف لم يكن أرضاً بذاتها، بل الهدف هو غايات محدودة معينة، وهي عبارة عن مجموعة من القيم والمثل والمبادئ.

     لم يكن هدف الإسلام أن تعلو أرض معيّنة، أو ترتفع راياتها، أو يسود ذووها، أو يشمخ مجدها الوطني، أو عزها القومي، وما إلى ذلك من صغار المبادئ، وتوافه الأهداف، بل كان هدف الإسلام من سعيه وكفاحه أن يفوز بأي أرض وأي قوم. يجد المسلمون عندهم وعلى ترابهم الفرصة كي تحيا القيم التي جاء من أجلها، وتطبق المثل التي دعا إليها، وتسود المبادئ التي أعلنها على الناس، لأن هذه الفرصة تهيئ لهم السبيل ليرى الناس جميعاً الصورة الحية الحقيقية للإسلام؛ إذ يُطبق عملياً، ويُنفَّذُ واقعياً في دنيا الناس.

     وهذه الصورة الحية أكثر أثراً في الناس، وأبعد في إقناعهم وهدايتهم، إلى الطريق الصحيح من مجرد الدعوة النظرية فحسب!,, ومن هنا يأتي حرص الإسلام الشديد، وحرص دعاته الدائم على ضرورة تمثُّل هذا الدين واقعاً حياً، في دولة إسلامية تصاغ وفق هديه المبارك، وتشاد وفق مبادئه الكريمة الخالدة.

     من أجل ذلك لم يكن غريباً قط، بل كان طبيعياً ومنطقياً وبديهياً، أنه حين وجد الرسول الكريم ﷺ، ووجد المسلمون أن هناك أرضاً أخرى، هي أكثر تمهيداً وأغنى وأخصب، وأكثر مواءمةً وملاءمة لتحقيق هدفهم الربّاني الكريم لم يترددوا في أن يتركوا مكة المكرمة، وأن يضحوا فيها بكل أملاكهم، وأحياناً بأهلهم وأبنائهم، وبكل ما هو عزيز ونفيس وثمين، مسارعين بالهجرة إلى الأرض التي لاح لهم أن شمس الإسلام سوف تسطع منها، وتنتشر في كل الأرض، لأن عقيدتهم أغلى من كل ما تركوا وأنفس من كل ما ضحّوا وأثمن من كل الذي يودّعون.

     إنها مهمة كبيرة حقاً تلك التي كان على المهاجرين أن يؤدوها، ولا يستطيع الوفاء بها إلا عظماء الرجال.

     ولقد شهد التاريخ فعلاً؛ أن المهاجرين الكرام كانوا عظماء حقاً، وكانوا على مستوى المسؤولية التي نيطت بهم، فنهضوا بها أحسن نهوض وأكرمه وأبلغه، فكانت حركتهم الشجاعة بداية المسيرة في حركة التاريخ الإسلامي في كل عصوره على الإطلاق، الذي ظل وسيظل مديناً لموقفهم المؤمن الجريء العملاق.

*****

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

الفصل الثاني: الهجرة النبوية الشريفة تأملات ودروس

ذكريات الهجرة والصراع مع اليهود

     حين يفد إلينا شهر محرم من مطلع كل عام، يحمل إلينا ذكريات الهجرة الغالية الكريمة، وما فيها من عبر ودروس ودلالات، جرت عادة الكُتّاب أن يتوقفوا عندها دارسين محللين مذكّرين.

     وينفرد جيلنا نحن من بين أجيال الأمة المسلمة، أنه دخل في صراع عنيف مرير مع اليهود، صراع يحاول أعداؤنا فيه أن يدمروا وجودنا برمّته على كل مستوى وصعيد، لنكون من بعده لا سمح الله، حِمىً مستباحاً، وسوائم ضائعة، يضع اليهود نشاطاتها حيث يريدون، ويوظفونه لصالح مخططاتهم الشريرة المجرمة التي ترمي إلى السيطرة على العالم كله.

     ولما كان الإسلام هو العقبة الكأداء التي تواجههم وتقف في طريق حماقتهم وجنونهم؛ فإنهم يبذلون اليوم معظم جهدهم لمحاربة هذا الإسلام بكل ما يقدرون عليه من شتى الوسائل والأساليب.

     التحدّي اليهودي لنا اليوم، هو أخطر التحديات التي نواجهها دون ريب، لذلك فمن البديهي ومن المتوقع أن تنصرف الأقلام الشريفة الجادة المؤمنة إلى كشف مخاطر هذا التحدي الأكبر، وتسليط الضوء عليه، ولعل قائلاً يقول في استفهام منكر: وما صلة هذا بالهجرة التي يبدو أنها موضوع هذا الحديث؟

     إن الصلة لتظهر بجلاء على الأقل في أمرين أساسيين، الأول: محاولتنا أن نستفيد من دروس الهجرة الشريفة فيما نواجهه اليوم من صعاب ومشكلات وعقبات، والثاني: أن اليهود يهاجرون اليوم -ومنذ حوالي قرن من الزمان- من شتى ديار العالم إلى أرض الإسلام في فلسطين. وبين الهجرتين: هجرة محمد بن عبد الله ﷺ وصحبه الكرام الأوفياء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وبين هجرة اليهود القائمة حتى يومنا هذا كثير من الفروق التي ينبغي ألا تغيب عنا بحال.

     من هذه الفروق أن الهجرة المسلمة كانت برضى أهل المدينة المنورة، وإيثارهم وحبّهم، وعلى العكس من هجرة اليهود التي تمت على الرغم من أهل البلاد الأصليين وإنكارهم وكراهيتهم.

     فالهجرة المسلمة سبقها تخطيط دقيق، كان أهل المدينة المنورة من الأنصار على علم ببواعثه وأهدافه، وكانوا على علم بمسؤولياته القريبة منها والبعيدة كذلك. وبالرغم من هذا كله كانوا فرحين أشد الفرح بهذه الهجرة مستبشرين بها أيّما استبشار، وحين وصل الرسول الكريم ﷺ إليهم كانت الدنيا لا تسعهم من الفرحة، وطفقوا يرددون نشيدهم الجميل المؤثر: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع!.

     ودَعْكَ من تسابقهم لإكرام الرسول ﷺ ودعوته ليكون ضيفاً عليهم، لأنه أمر متوقع، فهو نبيهم وقائدهم وهاديهم، وأحب إلى أنفسهم من كل شيء، وانظر كيف استبقوا لإكرام إخوانهم المهاجرين الذين تركوا كل شيء في مكة المكرمة، وهاجروا خفافاً فقراء من متاع الدنيا؛.. أغنياء بالعقيدة والتفوق الروحي والنفسي.

     لقد تسابق الأنصار لإكرام إخوانهم هؤلاء، وأحلوهم موضع الحب والولاء والإيثار، واستقبلوهم أصدق استقبال وأجمله وأكرمه، وقاسموهم في المسكن والمال وهم في غاية الرضى والسرور والبهجة، ذلك أنهم يعلمون جيداً ضخامة التضحية الإيمانية التي بادر إليها إخوانهم المهاجرون، حين تركوا كل شيء استجابة لداعي الإيمان، ويعلمون كذلك ما احتمله إخوتهم هؤلاء من المتاعب والمحن والمشاق على أيدي قادة الشرك وعتاة الوثنية في مكة المكرمة طوال ثلاثة عشر عاماً هي عمر الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، ويعلمون كذلك أنهم بما يفعلون من كرم وجود وإيثار.. إنما يتحملون تبعة الإيمان الحق، وينهضون بمسؤولياتهم رجاءً لما عند الله تعالى من أجر عظيم لا نفاد له.

     ما من ريب في أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وما جرى بينهم من إيثار وحب وجود وتسابق على البذل والعطاء، صفحة نادرة في سفر الحياة البشرية ليس لها مثيل قط، وهي من ثمار هجرة الإسلام الهادية المباركة.

     قارن هذا بهجرة اليهود إلى فلسطين.. إن هجرتهم كانت وما تزال تتم على الرغم من كراهية أهل فلسطين، وإنكارهم وتصدّيهم لمواجهتها، فاليهود يهاجرون إلى فلسطين ليسلبوا أهلها المسلمين دُورهم ومزارعهم وأموالهم، بل وحياتهم كذلك، وليقيموا على أنقاض وجودِهم فيها.. وجودَهم الغادر المقتحم، الذي يسلب الناس كل ما أقرّت الأديان والشرائع والقوانين والأعراف أنه حقٌّ للإنسان فطريٌّ وأصيلٌ، ومقدسٌ ليس لأحد أن يعدو عليه ويغتصبه.

     وربما لا يحسن التفصيل ها هنا في غدر اليهود وظلمهم وبطشهم بأهل الديار الأصليين، لأن ذلك أمر يعيه جيلنا بدقة وإحاطة بسبب تكرره الدائم حتى لكأنه جزء من خبزنا اليومي الذي نعيش عليه.

     إن هجرة الإسلام قامت على إثرها أروع أخوة شهدها التاريخ، وهجرة اليهود قامت على إثرها عداوة لا تنتهي، وصراع حاد مرير بين صاحب البيت وسارقها لا ينتهي إلا بهلاك واحد منهما.

*****

الأكثر مشاهدة