الأربعاء، 13 يوليو 2022

أحكام التشريع في آيات التوجيه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

أحكام التشريع في آيات التوجيه

     يحرص الإسلام حرصاً شديداً على الترابط والتوحد بين مختلف توجيهاته وحقائقه سواءً في ميدان العقيدة، أو في ميدان الشريعة. إنه في هذين الميدانين شامل كامل، لم يدع جانباً من جوانب الحياة إلا وعُني به أحسن العناية، لكنه مع شموله وكماله، يربط بين أموره المختلفة، ويوحّد بينها توحيداً يجعلها متينة الصلات والأواصر، وليس من الصدفة في شيء. والإسلام لا يعترف بالصدفة في قليل أو كثير، في أن يربط بين أنظمته الشاملة الكاملة، بفكرته الكلية الكبرى، وتصوره العام للكون والحياة والإنسان، ووظيفة هذا الإنسان في الوجود.

     وليس من الصدفة أيضاً أن يورد القرآن الكريم، قواعد التشريع ومبادئ الحكم والاقتصاد والاجتماع في طي آيات التوجيه والأخلاق، ولعل قوله تعالى في سورة الشورى يوضح ذلك بجلاء: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ* وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 37-40]، فآية الشورى التي تحدد قاعدة الحكم الأساسية للإسلام، وتضع خطوطه الكبرى، تأتي مرتبطة بالتوجيه، ويأتي التوجيه مترابطاً مع التشريع.

     فالسياسة والصلاة، والعفو والإنفاق، والعفة والإصلاح، ذلك كله، يأتي مترابطاً، ذلك أن الإسلام لا يتعامل مع الإنسان على أنه أجزاء مقطعة، يعطي كل جزء نصيبه، في معزل عن الأجزاء الأخرى، بل يتعامل معه، على أنه كلٌّ مترابطٌ متوحّد، لذلك كان هذا الدين بالإضافة إلى كونه شاملاً متكاملاً، كان مترابطاً متوحداً أيضاً، وبذلك تأتي توجيهات الإسلام لتملأ شعاب الإنسان العقلية والروحية والنفسية والسلوكية من كل جانب، وبذلك لا تهمل جانباً من جوانبه قط، كما أنها إذ تقدم ذلك له، تقدمه بناءً عضوياً مترابطاً يصوغ إنساناً حياً مترابطاً.

     ولعل هذا الأمر بجانبيه، يكشف بجلاء لماذا كانت الشخصية المسلمة، شخصيةَ التكامل والترابط، والتوحد والانسجام، والتوازن والشمول، بينما غير المسلمة، هي شخصية التمزق والفصام، والتقطع والازدواجية وما إلى ذلك.

     وهذا يؤكد حقيقة كبيرة، كثيراً ما غفل عنها الناس، وهي الوحدة العميقة في الإسلام بين التوجيه والتشريع وعدم الفصام بينهما، ولا ريب أن رسوخ هذه الوحدة، يجعل تطبيق الإسلام العملي أيسر وأسلم وأقرب إلى الصدق، إذ التوجيه عون كبير للقانون، يجعل الناس يطيعونه بذاتهم، ويجعلهم كذلك يسعون بأنفسهم إلى العقاب حين يخالفونه، ولو أدّى بالمرء إلى فقد حياته كما حدث مع الصحابي "ماعز" مثلاً.

     ومما لا شك فيه أن غياب هذه الوحدة بين التوجيه والتشريع، وهما مَعْمَلان كبيران في حياة الناس، كان نتيجةً لظروف سيئة مرت بالبشرية المعذبة وما تزال، ولا يزال حتى ساعتنا الحاضرة مَصْدَرَ كثير من متاعبها ومآسيها الكثيرة المتنوعة.

     إن تلاحم الأنظمة بالفكرة المطلقة الكبرى عن الوجود والحياة والإنسان، يوجِد بين الإنسان وما حولَه انسجاماً وتفاهماً، ويدفعه إلى ممارسة دوره الإيجابي الكبير، دور الخلافة عن الله عز وجل، وعمارة الأرض والسيطرة عليها بالحق والعدل والمعروف، بعمق وقوة وبصيرة، لذلك تنشأ الحضارة الإنسانية في ظلال هذا المنهج الكريم، حيّةً ربانية، تحقق الارتباط بين الإنسان والحياة، وتمنحه السكينة والسعادة، والخُطا المتوازنة الرشيدة، وتحمي مسيرته في الحياة، من الخلل والتمزق، والتناقض والاضطراب، كما أنها فوق ذلك كله، تجعل النشاط البشري كله، عبادة لله عز وجل يتقرب بها المرء إليه.

     إن الإسلام دين الشمول الكامل، والترابط المتوحد، في كل مناحي الحياة الصغير منها والكبير على السواء، وهو صالح لكل زمان ومكان، لم يترك مرفقاً من مرافق النشاط البشري إلّا سَنَّ له قاعدة، أو أعطاه حكماً، أو أفرد له أدباً أو توجيهاً، وهو حين يطالب الناس أن يلتزموه تماماً ويتقيدوا بجميع أحكامه وآدابه وتوجيهاته، ويحتكموا في كل أمورهم إليه، ولا يطلبوا من غيره أي أمر، ولا يلتمسوا في سواه أي حل، إنما يرسم لهم طريق الهداية والفلاح، ويأخذ بأيديهم إلى درب السعادتين في الدنيا والآخرة، وهو المنهج الرباني الصحيح، وهو الحق وحده، وكل الذي سواه باطل: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]. كيف لا.. وقد نزل قرآنه الكريم، تبياناً لكل شيء، وهدى ورحمة لقوم يوقنون، يهدي للأقوم والأكمل في كل شؤونه!؟

     وإذن فللإسلام، من حيث إنه سبيل الإنقاذ الوحيد لا للمسلمين فحسب!.. بل لكل الناس، أن يطالب بَنيه خاصة، والناس عامة بالعودة إليه، والعيش في رحابه، لأنه كلمة الله الأخيرة إلى الأرض، أكملها وأتمها وارتضاها، وجعلها الدرب الوحيد للفوز حتى يوم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة