الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي
الصبر في القرآن الكريم
في القرآن الكريم يتكررُ ذكرُ الصبرِ كثيراً، وتتكرر مكانة الصابرين عند الله عز وجل، والوعدُ بأن ينالوا الثوابَ الجزيل والعطاء الوافر. وهذا التكرار يجعل المرء يقلبُ أوجهَ النظر، ويتفكر ويتفحص عن الحكمة في ذلك ظهرت أم غابت.
والمرء بفكرِه المحدود، وبنظره القاصر، يستطيع أن يلمحَ الكثيرَ من أسرارِ الحكمة في منزلة الصبر حثاً عليه وثواباً من طرف، ومنزلةً ضخمة بالغة الخطورة في حياة الفرد المسلم وحياة الجماعة المسلمة من طرف آخر.
إنه لَجهدٌ ضخم كبير ذلك الذي تحتاجه الاستقامة على درب الله تعالى بينَ شتّى النوازعِ والدوافع، والشهوات والأهواء، والمنزلقات الكثيرة التي تزيّن الانحراف. والقيامُ على دعوةِ الله في الأرض وعياً صادقاً، وسلوكاً أميناً، والتزاماً تاماً في الأداءِ والبلاغ هو بحاجة كذلك إلى جهدٍ كبيرٍ جداً.
إن في الحياة صراعات وعقبات، ومتاعبَ وتحديات، والمسلمُ مطلوبٌ منه في ذلك كلِّه أن يبقى يَقِظَ النفس، مشدودَ الأعصاب، مجند القوى، بالغ الحذر والانتباه، وإن ذلك لأمرٌ صعب جداً، نحتاج فيه إلى زادٍ قويٍّ عميق، وهذا الزاد هو الصبر، لا بد للمسلم من جرعات قوية من الصبر الوثيق، ليكون بمقدوره أن يستمرَّ في دربه على الاستقامةِ الطاهرة، بينَ المنزلقات الكثيرة، ودواعي الهبوط والسقوط التي تتكاثر هنا وهناك.
إنه بحاجة إلى الصبرِ على الطاعات، والصبرِ عن المعاصي، والصبر على جهاد أعداء الله، والصبر على كيد الخصوم، والصبر في ارتقاب النصر الذي يبدو بعيدَ المنال، والصبر على بُعْدِ الطريق وامتداد الأيام، والصبر على الباطل الذي ينتفش ويطغى، والصبر على قلةِ الناصر والمعين، وضآلةِ العَدَدِ والعُدَد، والطريق الذي يطول ويزدحم بالأشواك، والنفوس التي تجادل وتلتوي، والقلوب التي تضل وتفسد، والعناد الذي يَرْكَبُ رؤوسَ الحمقى والمستكبِرين.
إنه بحاجة إلى مثل هذه الأنواع من الصبر، وإلى غيرها كذلك؛ بحيث يبدو المقدار الذي يحتاجُه المسلم في الحياة من جرعات الصبر كبيراً بحق. وإذا طال الأمد، وشق الجهد، وكثرت الجراحات، وعظم البلاء، ربما ضعُف الصبر أو نفد. وإذن؛.. فلا بد للصبر من مَعِينٍ ثَرِّ دفّاق، لا ينفد ولا ينضب، ليجدد العطاء تلو العطاء، فيظل يمنح المسلم الوقود الذي هو بأمسّ الحاجة إليه ليتابع مسيرَته في الحياة متشبثاً بدرب الاستقامة أيّاً كانت الصعاب.
ترى ما هذا المَعين الذي يستطيع تقديم وقود الصبر باستمرار؟ إنه الصلاة!.. ولذلك يَرِدُ في القرآن الكريم اقترانُ الصلاةِ بالصبر، يقول جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. فالصلاة هي المعينُ الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد، والعطاء الذي لا يَبْلى، والطاقة المتجددة خمسَ مراتٍ في اليوم.
إنها المعين الذي يجدد العزم، والزاد الذي يوقد الهمة، والعطاء الذي يزوِّدُ القلب، والطاقة التي تمنح النشاط والفاعلية، وهذا من شأنه أن يجعل حبل الصبر يمتد فلا ينقطع، ويطول فلا يتوقف، ويتوالى عطاؤه الخيِّرُ المبارك، فلا يكون شحٌّ أو عجزٌ أو نضوب. وإذا امتد حبل صبر المؤمن، فَخُذْ ما شئت من خيراتٍ حسان، وعطايا كريمة من ثقةٍ ورضى، وجودٍ وسماحة، وبِشرٍ وبشاشة، وأملٍ ورجاء، ويقينٍ وطمأنينة، وعزمٍ يتجدد، وهمة وقّادة طموح.
إن الإنسان القاصر العاجز، الضعيف المحدود، الخاطئ الفاني، بحاجة أن يتصلَ بالقوةِ الكبرى، قوةِ الله عز وجل، يستمد منها العون والقوة على مواصلة طريقه في الحياة بينَ الصوارف الكثيرة عن الحق، التزاماً بالاستقامة، ونأياً عن الباطل، وإعذاراً في الدعوة إلى الله، ما كان فيه نَفَسٌ يتردد.
وإن حاجته لتقوية الصلة بالله عز وجل، لتكبر وتتعاظم إذا ما تجاوز الجهدُ قوتَه المحدودة، وطاقته الضعيفة، وتدبيره الواهن، وذلك حين تواجهه قوى الشر ما بطن منها وما ظهر، ويثقل عليه جهد الاستقامة على الحق، بين الشهوات والمطامع والإغراءات، والمخاوف والمخاطر والصعاب، وإنها لصوارفُ ما أشدَّها وما أشقَّها! ما لم يكن للمسلم من الله عز وجل عونٌ ومدد.
حين تثقل على المسلم محاربة الطاغوت، ومجاهدة الفساد، وحين يطول به الطريق، ويتعاقب الجديدان، ثم ينظر فيشعر أنه لم يبلغ غايتَه بعد، والأيام قد تطاولت، وشمس العمر آذنت بمغيب، وحين يجد الشر قد انتفش، والباطل قد تضخم، والحق قد انعزل، والخير قد انحسر، وليس في الأفق علامة، وليس في الطريق شعاع، حينذاك تكونُ حاجته للصبر أعظمَ وأعظم.
وهنا تبدو قيمةُ الصلاة، وواحدٌ من أسرارها العظيمة، فهو ينبوع كريم، عظيم العطاء، مُخْصِبٌ دفّاق، يقدم للمسلم الجرعةَ إثرَ الجرعة، والشحنةَ تلوَ الشحنة، من وقود الصبر؛ إذ تكبر الحاجة إليه وتتعاظم، وبذلك يشعر المسلم بنسائمِ القوة والأمل تتدفق في حناياه وهو يردد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق