الأربعاء، 13 يوليو 2022

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

الفصل الرابع: من حكم التشريع الإلهي

الصلاة صلة مباشرة بين العبد وربه

     الصلاةُ هي الصلةُ المباشرة بين الإنسان الفاني والخالق الباقي، بين المخلوق الضعيف والخالق القوي، بين القوة المحدودة العاجزة، والقوة الربانية التي لا حدود لها ولا قيود، بين الذي يزول ويَمَّحي، ويخطئ ويجهل، ويلاحقه القصور والعجز، وبين مَنْ يبقى فلا يزول، ويعلمُ فلا يجهل، ويصيب فلا يخطئ، ويَخْلُدُ فلا يمَّحي.

     إنها الموعد الذي اختارته العناية الإلهية لتسمو الفطرة فيه وتطهر، وتصدُق النفس فيه وتزكو، ويطيب فيه الوجدان ويصفو، ويعلو الإنسان فيه على حطام الدنيا ومتاعها، وما فيها ممّا يبعث على الطمع والجشع، أو الخوف والإشفاق، كيف لا وهو يردّد إبّانَ الصلاة هذه العبارةَ الوجيزةَ جداً، الغنيةَ جداً: الله أكبر!؟

     إن كلَّ ما يَؤوده ويتعبه، ويشقُّ عليه ويُضْنيه، ويُسبِّبُ له المتاعب والأحزان، ويبعث فيه القلق والتوجس، ليغيبُ عن ناظريه، وعن ساحة إحساسه وشعوره، كيف لا وهو يردد إذ يصلّي: الله أكبر!؟

     إنّ مشاقَّ الدنيا جميعاً، وطغيانَ الباطلِ جميعاً، وانتشار الشر والفساد، وتكالب الأعداء والمجرمين، إن ذلك كلَّه لَيتضاءل ويتضاءل، حتى يتلاشى أو يكاد، كيف لا وهو يردد: الله أكبر!؟

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- مفتاحُ الكنز، كنزِ الثقةِ والقوة، والاستعلاءِ واليقين، والبشاشةِ والرضى، والسكينةِ والطمأنينة، والأملِ الحي المتجدد، والزاد الكريم النبيل، الكنزِ الذي يُغْني النفس ويزكّيها، ويسمو بها ويطهّرها، فتفيض بالعطاء المبارك، وتجود بالخير العميم.

     إن الصلاة -والتكبيرةُ من أعظم وأروع ما فيها- موعد الإنسان لينطلقَ من حدودِ الواقع الأرضي الصغير، والحيّزِ الترابي المحدود، والاهتمامات القريبة المُسِفَّة، وحمأةِ الطين المسنون، وجَذْبَةِ الصَلْصال إلى أسفل، إلى مجال الواقع الكوني الكبير، والصلةِ بقدرة الله عز وجل، الباقيةِ العظيمة، الخالدة أبداً، المستعصيةِ على البِلى والفَناء.

     إنها الواحة المُخضرَّة الفينانة في صحراءِ التعب والمشقة، والسعي الموصول وراءَ مطالبِ العيش التي لا تنتهي. وإنها الندى المخضل، والظلالُ الوارفة في الهجيرِ اللافح.

     إنها اللمسةُ الحانية الودود للفؤاد المكدود، والنفسِ المتعبة، والصدر المرهق الثقيل. وإنها النهر الذي يسارع إليه الإنسان خمسَ مراتٍ في اليوم ليتطهرَ فيه من كلِّ الشوائب التي تحل به، والأدران التي تعلق بجسدِه ونفسِه، عقلهِ وروحِه، لسانِه وخواطره، فيكون التجددُ والطهر، ويكونُ الصفاءُ والنقاء.

     إن مثل هذا العطاء الكبير الذي تقدمه الصلاة، وسواه مما يضيق عنه المجال، وسواه مما لا تحيط به عقولُنا المحدودة القاصرة، يفسر لنا لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ من الصلاة إذا حَزَبَهُ أمر، واشتدت به حال؟! ويفسر لنا كذلك لماذا كان يقول لبلال رضي الله عنه وأرضاه: "أَرِحْنا بها يا بلال"؟!

     إن العبادة في الإسلام -والصلاةُ في المقدمة منها- زادٌ للطريق، وجلاءٌ للروح، ومددٌ للقلب، وتجديدٌ للعزيمة، وتوكيدٌ للعهد، ونفضٌ للغبار والران، والكسل والإخلاد، والشوائب والأدران.

     إنها استعلاءٌ على كل ما يعوِّقُ المرء عن الوفاء بعهد الله عز وجل، واستمساكٌ بكل ما يحقق له القربَ الدائم منه، نأياً عن الشرور، وحرصاً على الخيرات، واستمراراً في الدعوة إلى منهج الله الصحيح الكريم.

     وفي العبادة عامة، والصلاة خاصة؛ تدريبٌ للمسلم على احتمال التكاليف، والقيام بأمر الواجبات، ولذلك نجد في سورة المزمل أن الله عز وجل حين أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس، وهي أمر شاق طويل، قال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل:1-5). إن قيامَ الليل بالصلاة والتضرع، والترتيل والذكر؛ إعدادٌ للقولِ الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم.

     إنَّ مهمةً خطيرةً جداً كُلِّفَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهِي مهمةٌ عظيمة جداً، فلا بد له من إعدادٍ خاصٍّ جداً، عظيمٍ جداً، ولا عجب فإن العظائمَ كفؤها العظماء، وهل ثمةَ رسالةٌ أعظمُ من رسالة الإسلام؟! وهل ثمةَ رسولٌ أعظم من محمد صلى الله عليه وسلم؟!

     إن العبادةَ عامةً، والصلاةَ خاصةً، تفتحان القلب للإشراقات الربانية، والعطاءِ الروحي، وتوثّقان الصلةَ بالله عز وجل، فيكون من ذلك ما ييسرُ الأمر بإذن الله، ويجدد العزم والأمل، ويُشْرِقُ بالنور، ويَفِيضُ بالعزاء والصبر، والسلوى والاحتمال، والراحة والاطمئنان.

     من أجل ذلك يَجْدُرُ بالمؤمنين -وهم على أبواب مشقات كبيرة، وإزاءَ مطالب خطيرة- أن يفزعوا إلى الصبر، وأن يفزعوا إلى الصلاة، ففيهما كلُّ خيرٍ وبركة، وقوةٍ وغوث، وزادٍ يساعد على استمرار المسيرة وِفْقَ مرضاةِ الله عز وجل حتى نهايةِ الحياةِ الدنيا، على أمل اكتسابِ الفوز والرضوان، والفوزِ بالجنة يومَ القيامة، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلّا مّنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليم.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة