الفصل الثالث: بدر الكبرى والفتح الأعظم .. بشائر النصر ونفحات الإيمان
فتح مكة المكرمة.. الفتح الأعظم
ما مرّ على المسلمين شهر رمضان المبارك، إلا مرت عليهم في أفيائه الطهور ذكريات غالية أثيرة، ففي رمضان كان يوم بدر، وفي رمضان أيضاً كان فتح مكة المكرمة.
خرج المصطفى ﷺ إلى مكة مع جنوده الأوفياء حين عدا رجال من بني بكر وهم حلفاء قريش؛ على أناس من بني خزاعة وهم حلفاء المسلمين، فغدروا بهم وقتلوهم، فرحل عمرو بن سالم إلى المدينة المنورة، وأنشد بين يدي رسول الله ﷺ قوله:
يــا ربِّ إني ناشــــــدٌ محمدا حِلـــــفَ أبينا وأبيهِ الأتــــلدا
إنَّ قريشاً أخلفوكَ الموعـــدا ونقضوا ميثــــاقكَ المُؤكـــدا
هُم بيّـــــتونا بالوتيرِ هُجَّـــداً وقتـــــلونا رُكَّعاً وسُجَّــــــدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحداً وهُـــمْ أذلُّ وأقــــــلُّ عـــددا
فانصرْ هداكَ الله نصراً أيِّدا وادعُ عبـادَ اللهِ يــــأتوا مـددا
وأجاب رسول الله ﷺ عمرواً بقوله: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم!.. ثم كان الخروج إلى مكة المكرمة.
وأحسَّ بنو بكر بعِظم الجناية، وشعرت قريش بفداحة ما فعله حلفاؤها، فحاولت أن تتدارك الموقف، وكان لأبي سفيان جهد متصل وحركة ناشطة، لكنه عاد بالخذلان.
بني بــــكرٍ وما يُغْـــني المَــــلامُ تَلَظَّى البأسُ وانتفضَ الحسامُ[1]
ذِمامٌ صــــادقٌ ودمٌ حــــــــــرامٌ وعِـــــزٌّ من خــــزاعةَ لا يُــرامُ
يقــــومُ عليهِ حـــامٍ لا ينـــــــــامُ
أعانـــــــكمُ الأُلى نبذوا الوفــــاءَ وراحَ القــــومُ يمشونَ الضَّــراءَ
وما تَخـــفى جريـرةُ مَنْ أســــاءَ سيــــوفُ محمدٍ جُعِــــلَتْ جَزاءَ
فـــما البَغْيُ الذميمُ وما العُـــرامُ
قَتــــلتُمْ من خزاعــةَ بالوَتيـــــرِ رجــــالاً ما أتــــاهمْ منْ نذيــــرِ
لبئسَ الغـــــدرُ من خــــلقٍ نكيرِ ويــــا لَلناسِ للحــدثِ الكبيــــــرِ
أكــــانَ محــــمدٌ مِمّـن يُضــــامُ
أَتَــــوْهُ يَنْشــــدونَ الحِلْفَ وفــدا تَهُــــدُّ شَـــكاتُهُ الأحــــرارَ هَـدَّا
فأيَّــــدَهُمْ وســـــارعَ واستـــعدّا وراحَ يســـوقُهُ للحربِ جنـــــدا
تُظَلِّـــــلُهُ الملائكــــــةُ الـكــرامُ
وحينَ جاء أبو سفيان إلى المدينة المنورة ليجدد العهد ويزيدَ في المدة لم يُوَفَّق لشيءٍ قط، وانطلق محزوناً مهموماً تتقاذفهُ شوارعُ المدينةِ الكريمة، فالرسول الكريم ﷺ لم يَرُدَّ عليه بشيءٍ قط، والصحابةُ الكرام الذين لجأ إليهم ليساعدوه فيما يؤمل أخلفوا ظَنَّه الواهم، فهو حائرٌ مرهق، مضطربُ الخُطا، زائغُ النظر، أنَّى لكَ النجاةُ أبا سفيان مما أنتَ غارقٌ فيه وقد عزمَ رسول الله ﷺ وصمّم!؟
أبـــا سفيـــــانَ ذلك ما تـــراهُ هو البـــأسُ المصمِّمُ لا سـواهُ
أليسَ الحِلفُ قد وهنــتْ عُراهُ فكيـــفَ تشُدُّ بعـــــدئذٍ قُــــواهُ
أبـــا سفيــــانَ ليسَ لكم ذِمــامُ
كتمتَ الحقَّ تطمعُ في المُحالِ فما بالُ الثِّقاتِ من الرجـــــالِ
فتحتُـــــمْ بالأذى بابَ القتـــالِ فما دونَ اللقــــاءِ سوى ليــالِ
ويَفْتَحُ مكةَ الجيـــــشُ اللُّهــامُ
دعِ الأرحـامَ ليسَ لكمْ شفيـــعُ لقد حـــــاولتَ ما لا تستطيـعُ
رُويــدَكَ إنه الرأيُ الجميــــعُ وإنَّ اللهَ ليسَ لـــــــــهُ قريــعُ
تعــــالى جَـدُّهُ وسما المقــــامُ
عاد أبو سفيان من رحلته إلى المدينة المنورة، وطيفُ الإخفاقِ بادٍ على وجهه المُتْعَبِ المكدود، وهو بفطنته ومعرفته يعلمُ جيداً أن رسول الله ﷺ لا بد صانعٌ شيئاً، لكن ما هو هذا الشيءُ يا ترى؟ أين وِجْهَتُه؟ ما هي أبعادهُ وأمداؤُه؟ متى يكون توقيتُه؟ إنَّ شيئاً من هذا لم يكن يعرفه أبو سفيان قط، وأنَّى له أن يعرفَه والرسول الكريم ﷺ كَتومٌ حازم، بعيدُ النظر، شديدُ الحَيْطَة، بالغُ الدقةِ فيما يفعل!؟
إذن؛.. فقد عُدْتَ يا أبا سفيان خاويَ الوِفاض، ليس في كِنانتِكَ إلا ما تتوقعه من خطوبٍ جسام، عدتَ مُتعَباً مُزعَجاً لا تدري كيف تقودُ قريشاً وأنتَ سيُّدها، ذلك أنك ترى صولَتها تَذْبُلُ يوماً بعدَ يوم، وشجرتَها تجفُّ وتُصوِّح، أما دولةُ الإسلام فهي تنمو وتَعْظُم، وأما شجرةُ الإيمان فهي تسمو وتَخْضَوْضِر:
رجعتَ وأسْكتتكَ الحادثـاتُ فسِرْتَ تقولُ هل قَدِمَ الغُزاةُ
نعـــمْ قَدِمَ الميــــامينُ الهُداةُ وتلكَ جيـــادُهمْ والمُرهَفاتُ
فدعْ دِينَ الغُـــواةِ وقلْ سلامُ
وفي مَرِّ الظهرانِ ذُهِلَ أبو سفيان حينَ شاهدَ نيرانَ الجيشِ المسلم يقوده رسول الله ﷺ متجهاً لفتح مكة. كانت هناك عشرةُ آلافِ نارٍ أمرَ النبيُّ الكريم عليه الصلاة والسلام بإيقادِها لتعلمَ قريشٌ قوة المسلمين وبأسَهم فتنهدَّ عزائمها وتستكينَ وتستخذي:
أبا سفيانَ هل أبصرتَ نــــارا كنارِ القومِ إذ باتوا سُهــــارى
أَبَتْ وأَبوْا فما تَــــأْلو استعارا ولا تُحصى وإن عُدَّتْ مِرارا
هو الفزعُ المؤجَّجُ لا الضِرامُ
لقد أنذرتَ قومَكَ فاستــطاروا وراحـــوا ما يَقِـــرُّ لهم قــرارُ
نَبَتْ بهمُ المنــــازلُ والديـــارُ وضاقَ سبيلُهمْ فيها فحـــاروا
وقالَ سَراتُهم: خَطْبٌ جِســامُ
ودخل الجيش المسلم مكة المكرمة فاتحاً منصوراً، ولم تكن لقريشٍ إلا مقاومةٌ بائسةٌ يائسة ما أسرعَ ما انتهت!.. وعفا المصطفى ﷺ عنها وهي التي آذته وحاربته، عفا عنها أكرمَ عفوٍ وأشرفَه وأنبلَه، عفا عفوَ القادرِ المتمكن، الغالبِ المنتصر، عفا وهو ينظر إلى البيتِ الحرام وقد تمَّ تطهيرُه من أدناسِ الشركِ والوثنية، عفا حينَ قالَ لأهلِ مكة المكرمة وهم مأخوذون مذهولون: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.
وأرســـلَ الصرخـةَ الزهراءَ فانطـــلقت
كتــــائبُ اللهِ ترعى البيــــتَ والحرَمــــا
فمـــــا هــوى صــــارمٌ إلّا رمى عُـنُقــاً
ولا هـــوى مِعْــوَلٌ إلّا رمى صَــــــنَـما
ولا بَــــــــــــدَتْ سِـــــدَّةٌ إلا تَسَــــنَّمهــا
مُؤَذِّنٌ لم يَـــدعْ في مَسْــــــمَعٍ صَـــــمَما
فتـــــــابَ مَنْ لم يـــكنْ باللهِ معتـقـــــــداً
وثــــــابَ منْ لـــم يـكنْ باللهِ معتصِــــما
وأقبـــــلت سَــــرواتُ العُرْبِ خـاشعـــةً
تجـــــلو بإيمـــــانِها عن دينِـــــها الـتُهما
وتحــــملُ الشُّهْبَ في راحـاتِها قُضُــبـــاً
والخيـــــلُ تَعْــــــلِكُ في أشداقِها اللُّجُــما
وأحـمــــــدٌ يـتـــلقّـاهـــــــا وبَسْــــــــمَتُهُ
تَـــــرُدُّ كـــــلَّ فــــــمٍ للمجــــدِ مُبْتَسِـــما
والفتـــــحُ يغمِــــزُها حتى إذا وثبَـــــــت
لم تُبْقِ في الشرك لا عُرْباً ولا عجما[2]
تم الفتح وانهارت دولة الشرك والوثنية، وصارت مكة المكرمة حصناً للإسلام، فَعَلا فيه الأذان، وتُلِيَ فيها القرآن، وتَمكَّن من أعماقها الإيمان.
يا ذكرى الفتح الأعظم!.. مرحباً بأنسامك الندية العاطرة، مرحباً بريّاك التي يُضمِّخها الشذى والطيب والعرار، مرحباً بك اليوم وأمتنا تخوض جهادها المتصل ضد أعداء الله من اليهود وتلاميذ اليهود، ومن الصليبيين والملاحدة.
أنتَ قَبَسٌ يضيء في الحوالك، وعزيمةٌ تتقدُ في القلوب، وتيارٌ يسري في الضمائرِ والأخلاد، فيشدّ عليها، ويقوّي أزرها، ويبشرها بيوم النصر القريب.
----------------------
[1] للشاعر أحمد محرم، في ديوانه: مجد الإسلام.
[2] للشاعر عمر أبو ريشة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق