الخميس، 24 أغسطس 2023

روجيه غارودي ونقد الحضارة الغربية

روجيه غارودي ونقد الحضارة الغربية

     "روجيه غارودي" واحد من أبرز المفكرين الشيوعيين في فرنسا. وقد كان حتى عام 1970م الرأس المفكر للحزب الشيوعي الفرنسي، لكنه طُرِدَ من الحزب لانتقاده موقف الاتحاد السوفييتي من أحداث تشيكوسلوفاكيا. من أهم كتبه "ماركسية القرن العشرين"، و"ما هي المادية؟" الذي تُرجِم إلى العربية، وكتابه "من أجل حوار مع الحضارات" له قيمة خاصة تجعلنا نتوقف عنده بعض الشيء لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

     وإذا كانت للرجل أعمال علمية هادئة ودقيقة، ينتقد فيها بأسلوب موضوعي محض النموذج الاشتراكي في الدولة الشيوعية الأمّ، ويتحدث عن وجهة نظره الخاصة في الماركسية الخالية من القوالب الفكرية الجامدة، فإنه في كتابه "من أجل حوار مع الحضارات" لا ينتقد أيديولوجية خاصة، بل يوجه اتهامه إلى قارة بأكملها.

     إنه يوجه في كتابه هذا نقداً لاذعاً للحضارة الغربية التي انبهر بها الكثيرون، وتبلغ به نقمته على هذه الحضارة أن يصفها بأنّ سيادتها "أخطر كارثة في تاريخ الإنسانية".

     وعن عصر النهضة الأوروبية يقول: إنّ هذا العصر "لم يكن كما يصوره الأوروبيون قمة الحضارة التي أعطت أرقى القيم الإنسانية، بل إنها بداية أحلك فترة في تاريخ الإنسانية، إذ بدأت معها فترة الاستعمار الاقتصادي والسياسي في العالم، عندما بدأ الرجل الأبيض في نهب الموارد البشرية والمواد الأولية من القارات الأخرى، ليشيد بناءه الاقتصادي، ثم استمر إلى اليوم في عملية الاستنزاف الاقتصادي".

     وينتقد الرجل الحضارة الغربية بعد ذلك لتحطيمها القيم الإنسانية فيقول: إنّ الحضارة الأوروبية التي بُنِيت على فلسفة "فاوست"، والتي جعلت من الإنسان الغربي مجرد آلة للإنتاج والاستهلاك تسير بدون هدف.

     ويعلن روجيه غارودي رأيه في مستقبل الإنسانية تحت ظل الحضارة الغربية التي تقودها اليوم، فيقول: إنّ الحضارة الغربية ستقود الإنسانية إلى هلاك محتّم إلا إذا خرج الرجل الأبيض من جهله ومن غروره وغطرسته وتفتّحَ على الحضارات العريقة.
***

     ويقول روجيه غارودي في كتابه "من أجل حوار مع الحضارات"، عن الإنسان في ظل الحضارة الغربية، وكيف غلبت عليه الآلة، ووقع تحت سيطرة النهم الاقتصادي الذي لا ينتهي، والتزايد في الإنتاج الذي ينبغي أن يظل في نمو لا يتوقف:

     "الإنسان الغربي يسير بلا هدف، كالآلة في إنتاجه واستهلاكه، وهدفه الوحيد هو أن يُنتج أكثر فأكثر، ويطلق على ذلك "النمو الاقتصادي"، ويجعل من كمية هذا النمو الاقتصادي المقياس الوحيد الذي يفرق بين دولة متحضّرة ودولة متأخرة".

     ثم يؤكد على ضرورة الإسراع في وضع حد لسيطرة الثقافة الغربية، وعلى ضرورة إيجاد تغيير جذري للنموذج الغربي، وخاصة في علاقة الإنسان مع الطبيعة، ويقرر بأنّ هذا لا يتأتّى إلا بمساعدة ما قدّمه المفكرون المسلمون من آسيا وأفريقيا.

     ولا يجد غارودي في التراث الفكري المادي الأوروبي، وما تمخّض عنه من مدارس اقتصادية واجتماعية أي أمل في إنقاذ الإنسانية المعذّبة اليوم، بل يعتبر أن هذا التراث هو سبب المأساة.

     وإذا كان هذا من غارودي شجاعة فكرية، فإنها شجاعة فكرية منه أكبر وأذكى أن يعلن أنّ الحل إنما يوجد بين ظهراني المسلمين في آسيا وأفريقيا.

     والذي يدرس تراث غارودي، ويقوم بعملية تقويم لفكره، وتطور هذا الفكر، يمكن له أن يقرر أنّ طريقة دراسة العلوم بذهنية مملوءة بتفسيرات مسبقة هي طريقة فاشلة جداً، وقد استخدمها غارودي في العهد الستاليني، ثم تراجع عنها اليوم نادماً على كل ما كتب.

     لقد أدرك هذا المفكر الماركسي المعروف طبيعة الزوبعة الإلحادية التي أثيرت في القرن الثامن عشر، وهو قرن صدور الكتابين الذين كان لهما صدى كبير، "رأس المال" لكارل ماركس، و"أصل الأنواع" لدارون، وذلك حين قال في كتابه: ماركسية القرن العشرين: "إنّ إلحاد القرن الثامن عشر كان في جوهره سياسياً".

     ومهما تحاول قوى الشر إضافة صفة العلمية على الإلحاد؛ فإنّ الحقيقة خلاف ذلك، لأن مسألة ما وراء المادة من الأمور التي لا يتعرض لها البحث العلمي التجريبي السليم الذي يعرف حدوده بالفعل.
*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة