ويمكن لنا أن نجد هذه الذات الحاضرة في مواقع أخرى من مراثي البارودي، كرثائه للشدياق
[51]، وولده علي
[52]، وزوجته عديلة يكن
[53].
أما حافظ فإننا لا نجد له من حضور الذات الشاعرة إلا الفخر بوفائه الذي يحمله على رثاء من يحب، وهو في ذلك محق كل الحق، فلقد كان فعلاً رجلاً غاية في الوفاء والطيبة، كقوله في رثاء مصطفى كامل:
مدحتــــك لما كنت حيـــــاً فلم أجد وأني أجيد اليوم فيك المراثيا
[54]
وقوله في رثاء جرجي زيدان:
أراني قد قصرت في حق صحبــتي وتقصيـــر أمثــــالي جناية جــــاني
وفي ذمتي للـيـــــــازجي وديعـــــة وأخــرى لزيـــــدان وقد سبقـــــاني
أيجـــــمل بي هــذا العقـــــوق وإنما على غيــــر هذا العهد قد عرفـــاني
دعــــاني وفــــائي يوم ذاك فـلم أكن ضنيناً ولكن القريض عصاني
[55]
ووفاء حافظ هو الذي جعله يكثر من الرثاء، وهو ما جعله يصف هذا اللون من شعره بأنه قد احتل نصف ديوانه وذلك في قوله المشهور:
إذا تصفحــــت ديـــــواني لـتـقـــــــــرأني
وجدت شعر المراثي نصف ديواني
[56]
أما بعد الوفاء، فليس ثمة شيء يكاد يذكر لحافظ في حضور الذات وإلحاحها، ذلك أنه لم يكن له طموح البارودي وأمجاده العسكرية والسياسية وريادته الفنية، وليست له مكانة شوقي الاجتماعية والسياسية والفنية، فليس له أن يفخر فخرهما وهذا الذي كان.
6- مع البيت العلوي:
مراثي الشعراء الثلاثة في البيت العلوي انعكاس أمين لموقفهم منه قرباً أو بعداً أو عداوة، شوقي - وحده - بين الثلاثة كان المقرب من البيت العلوي، بل كان واحداً من صنائعه، الأمر الذي لم يكن شوقي ليكتمه، بل كان يعلنه، وكان يفخر أنه ولد بباب إسماعيل، ولذلك نجد لشوقي مراثي كثيرة في هذا البيت، نجد له رثاء لمحمد علي
[57]، وللخديوي إسماعيل
[58]، وللخديوي توفيق
[59]، ولأم المحسنين
[60]، وللأمير عبدالقادر
[61]، والأمير حسن باشا
[62]، وللأميرة فاطمة إسماعيل
[63].
ومن آثار ولاء شوقي للبيت العلوي في مراثيه موقفه من البارودي ومحمد عبده ومصطفى كامل، أما البارودي فلا نعثر لشوقي إلا على بيت واحد في رثائه
[64] وهو من هو مكانة وأثراً والسبب هو موقف البارودي الشهير من الخديوي توفيق والأسرة العلوية، وأما محمد عبده فلا نجد لشوقي إلا ثلاثة أبيات باردة في رثائه
[65] مع أهميته الكبرى والسبب كراهية الخديوي عباس سيد شوقي وممدوحه له، وأما مصطفى كامل
[66] فقد رثاه شوقي ولكن بعد شيء من التلكؤ والتريث والسبب هو ما انتهى إليه الأمر بين الخديوي عباس وبين مصطفى كامل من قطيعة حين بدل الخديوي سياسته مع غورست إلى الوفاق عكس ما كانت عليه أيام كرومر من خصومة.
أما حافظ فلا نجد له إلا قصيدة واحدة في هذا المجال، هي رثاؤه للسلطان حسين كامل
[67] وهي قصيدة مجاملة لاغير. وسبب ذلك واضح وهو قرب حافظ من الشعب من ناحية، وإحساسه أنه لم ينل من البيت العلوي حظوة لائقة من ناحية أخرى، مع أنه حاول ذلك.
أما البارودي فليس لديه أي رثاء في البيت العلوي، وهو أمر طبيعي ينسجم مع حياة البارودي التي ثارت ضد هذا البيت، واحتملت العقوبة التي أوقعها به بعد أن هزم سجناً ونفياً ومصادرة.
حياة البارودي مع البيت العلوي حياة إباء جعلته لا يرثي أحداً من أعلامه حتى قبل أن يتمرد عليه، فكيف له أن يرثي منهم أحداً بعد التمرد؟ وحياة حافظ لم تتصل أسبابها بالبيت العلوي مع محاولته ذلك، أما شوقي فقد أكثر في البيت العلوي في الرثاء وفي غير الرثاء، ولا غرابة في ذلك عندنا ولا عنده، وهو القائل:
أأخون إســــماعيل في أبنـــــائه ولقد ولدت بباب إسماعيلا
[68]
7- الحس التاريخي:
تفاوت الحس التاريخي لدى الشعراء الثلاثة تفاوتاً بيناً، بحيث نجده لدى البارودي بمقدار محدود، ولدى حافظ بمقدار أقل، ولدى شوقي نجده واسعاً رحباً غزيراً.
أما البارودي فنجد حسه التاريخي في الإشارة إلى وقائع وأسماء قديمة مما يتصل بالثقافة العربية المتصلة بالبادية كأيام العرب، وقبائلها التي عصف بها الزمان، وثمود وعاد من العرب البائدة، وتأتي أحياناً الإشارة إلى كسرى والأهرام وأبي الهول. وهو في كل ذلك يسرد الأحداث ويأتي بالإشارات والأسماء طلباً للعبرة مما جرى في سالف الدهر حتى يتذكر الجديد مصرع القديم فيجد في ذلك عزاء. ويظل البارودي في حدود هذا التوظيف من ناحية، وفي حدود تلك الإشارات العربية البدوية من ناحية أخرى، فلا نجد له حديثاً عن يونان أو رومان ولا رثاء لدول زائلة ولا نجد له نفساً فلسفياً يحاول تفسير الأحداث في حركة التاريخ، ولا يستغرب هذا من البارودي فقد كانت ثقافته العربية هي الثقافة الطاغية عليه، وكانت تملاً عليه أقطار نفسه، وكان نظره في دواوين القدماء شغله الشاغل، وكان إعجابه بالفروسية العربية ومنبتها في البادية أمراً يستحوذ على نفسه، ولذلك ظلت قضية التاريخ لديه في هذه الحدود.
يقول في رثائه لزوجته مشيراً إلى الحارث بن عباد:
لو كـــان هذا الدهر يقبـــــــل فدية بالنفس عنــــك لكنت أول فـــــادي
أو كان يرهب صولـــــة من فاتـك لفعلت فعل الحارث بن عباد
[69]
ويشير إلى العرب البائدة في رثائه لأمه وهو يتحدث عن سطوة الدهر:
وكيــف يصـــون الدهر مهجة عاقــل وقد أهلك الحيين عاداً وجرهما
[70]
وما بقي من إشاراته التاريخية في مراثيه مماثل لهذين الشاهدين، وبذلك يظل التاريخ عند البارودي في حدود متواضعة تحوم حول العبرة والتماس الصبر.
أما حافظ فلا نكاد نظفر له بشيء من الرموز والإشارات والوقائع التاريخية التي يحسن استدعاؤها التماساً للعبرة، أو المقارنة، أو إضافة وقع مؤثر أو لحن حزين. وهو أمر مستغرب من حافظ الذي إن فاتته ثقافة غربية توسع مداه وترتقي بآفاقه، فإن له ثقافة واسعة جداً فيما يتصل بالعرب وتراثهم وأساطيرهم وأبطالهم وقبائلهم وأيامهم. ولذلك تخلو مراثيه من نظرة تأملية في حركة التاريخ، وسنن الكون والحضارة، وقيام الدول وسقوطها.
أما شوقي فله في هذا الأمر السبق الكبير، فالتاريخ لديه كثير ومتنوع وحاضر، فضلاً عن الروح الفلسفي التأملي فيه، ولا غرابة في ذلك فهو قد جعل الشعر ابناً لأبوين هما التاريخ والطبيعة
[71].
في إطار الجاهلية نجد التاريخ عند شوقي في استدعائه - مثلاً - لقس بن ساعدة
[72]، والكاهنين سطيح وأفعى الجرهمي
[73]، والنعمان ويومي بؤسه ونعيمه
[74].
وفي الإطار العربي الإسلامي نجد التاريخ في إشاراته - مثلاً - إلى صلاح الدين الأيوبي
[75]، وإلى البرامكة
[76]، وإلى بني أمية
[77]، وإلى الأندلس
[78]، وإلى الخلافة
[79].
وفي الإطار الفرعوني نجد التاريخ في إشارة شوقي - مثلاً - إلى النكبات السبع
[80] وخوفو ومينا
[81].
وفي الإطار اليهودي نجد التاريخ في إشارة شوقي – مثلاً – إلى موسى عليه السلام والسامري
[82]، ويوشع بن نون
[83].
وفي الإطار المسيحي نجد التاريخ - مثلاً - في الإشارة إلى عيسى عليه السلام
[84]، والإنجيل
[85]، والحواريين
[86] ولازار
[87].
وفي الإطار الروماني نجد التاريخ – مثلاً – في إشارته إلى نيرون[88] وروما[89] وقيصر[90].
وفي الإطار اليوناني نجد التاريخ – مثلاً – في إشارته إلى سقراط[91] وبقراط[92] وأثينا[93].
وكل هذه الإشارات والإسقاطات التاريخية توضح مدى ثقافة شوقي من ناحية، وتكشف من ناحية أخرى مدى قدرته الفنية على توظيف هذه الرموز والأخبار والوقائع والأسماء توظيفاً فنياً في مراثيه، في سياق جميل رائع، يضيف إلى الموقف جلالاً، أو يستنبط عبرة، أو يحقق إيحاء، أو يغني من الموقف فكرياً وفنياً، الأمر الذي يمكن لنا القول معه: إن التاريخ محور بارز في شعر شوقي في الرثاء وغير الرثاء يظل يتكئ عليه ويحيل إليه ويبني عليه باستمرار.
ولعل هذا الحس التاريخي اليقظ لدى شوقي هو الذي جعله يكثر من الإشارة إلى أحداث جرت أيام من يرثيهم، تتصل بهم بسبب أو بآخر كأنه يريد أن يكون شاهد العصر ومؤرخه وراوي أخباره، ولعله أيضاً - وهذا هو الأهم والأخطر الذي يتفرد به ويسبق فيه - جعله يظهر لا مجرد إنسان يسجل الأحداث، بل حكيماً فيلسوفاً ينظر في سنن الحياة ونواميس الكون ومصائر الدول وسقوط الحضارات وتعاقب الأديان، وجعل بعض قصائده تأخذ نفساً ملحمياً حزيناً، وهو ما يمكن أن نراه بوضوح في قصيدته ((الأندلس الجديدة)) التي مطلعها:
يا أخت أندلس عليـــــك ســـــــلام هوت الخلافة عنك والإسلام
[94]
فهو في هذه القصيدة يظهر لنا فيلسوفاً متأملاً حكيماً يرقب الدنيا من منظار تاريخي بعيد وعميق، كما يمكن أن نراه في بكائه بني أمية في السينية التي مطلعها:
اختــــلاف النهـــار والليل ينـسي اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
[95]
فهو في هذه القصيدة حكيم وفيلسوف، وراصد ناقد، ومستوعب عميق للتاريخ، كما يمكن أن نراه في النونية التي مطلعها:
قم نــــاج جلق وانشد رسم من بــــــانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
[96]
فهو في هذه القصيدة كذلك، يبدع ويتألق ويبدو فيلسوفاً حكيماً، كما يمكن أن نراه في رثاء الخلافة العثمانية رثاء حاراً حزيناً في عدة قصائد أشهرها قصيدته التي مطلعها:
عادت أغاني العرس رجع نواح ونعيت بين معالم الأفـراح
[97]
ومعنى هذا أن التاريخ كماً ونوعاً وفلسفة، ووعياً بسننه وقوانينه، وإحاطة بأخباره ومقدماته ونتائجه، هو لدى شوقي أوسع بكثير جداً مما هو لدى صاحبيه وأغنى وأروع، بحيث تعليه المقارنة عليهما وترفعه مكاناً لا يبلغان بعضه.
8- الحكمة:
أما التفاوت في شيوع الحكمة بين الشعراء الثلاثة فهو تفاوت كبير جداً، فنحن نجدها قليلة جداً وساذجة لدى حافظ، وفي حجم عادي لدى البارودي، لكننا نجدها تكثر إلى حد المبالغة لدى شوقي، وهو ما يكاد يجعل المقارنة بين الشعراء الثلاثة في هذا المجال أمراً غير وارد.
أما الحكمة في مراثي حافظ فهي قليلة جداً إلى حد الندرة، ثم هي قريبة ساذجة لا عمق فيها، ومرد ذلك إلى صدق حافظ من جانب، وإلى شخصيته الواضحة السهلة القريبة من جانب آخر، أما الصدق فيحمله على تناول المرثي تناولاً حزيناً يعبر فيه عن حزنه عليه بدون تكلف أو تعسف، وأما شخصية حافظ فهي شخصية قريبة محببة سهلة لا توغل في التعمق والتأمل.
أما الحكمة عند البارودي فإنها تأتي عفو الخاطر وفي تناول قريب وحجم لا مبالغة فيه، حيث لم يكن الشاعر يتكلف الفلسفة ويجهد نفسه في التفكير أو يرهقها في التعمق فكان بذلك أقرب إلى طبعه وسليقته، الأمر الذي ينسجم مع الصدق الذي عرف به البارودي في حياته وفي شعره على السواء.
أما شوقي فتشيع الحكمة في مراثيه شيوعاً كبيراً بحيث لا تكاد تخلو منها قصيدة، وهو ينوع فيها ويستقصي ويقول أفكاراً جيدة في صياغة جيدة، وترد هذه الكثرة إلى أن شوقي كان معجباً بأستاذه المتنبي، والمتنبي شاعر حكمة ضخم فلا غرابة أن يجاريه شوقي في هذا المضمار مجاراة التلميذ للأستاذ، ثم إن شوقي كان معجباً بشعره ويرى أنه جدير بالخلود، والحكمة باب واسع من أبواب الخلود إذ تظل الأبيات المأثورة منها متداولة متناقلة فاقتحم شوقي باب الحكمة وأكثر منه. يضاف إلى ذلك أن الحكمة عند شوقي، هي أحد المسارب الجانبية التي يهرب إليها هروباً واعياً أو غير واع للتعويض عن عاطفته الباردة.
من أجل ذلك يمكن أن يقال: إن حكمة شوقي وإن صحت أفكارها، وارتقت لغتها، يشيع فيها البرود الذي يجعلها بمثابة صنع جميل يعجبك منظره ولكنك لا تجد فيه حياة، ذلك أنها لم تصدر عن معاناة محترقة كما صدرت حكمة المتنبي، ولذلك كان البون بينهما واسعاً.
من جهة أخرى تفقد حكمة شوقي نسقاً فلسفياً عاماً، وروحاً واحدة مشتركة، لذلك تظل شذرات جميلة متناثرة، لكنها تفتقر إلى ناظم فكري يجمعها كلها.
الحكمة في مراثي شوقي كثيرة وصحيحة وجميلة، من حيث معانيها ومن حيث صياغتها، لكنها بمثابة تماثيل جميلة باردة بلا حياة، وهي ثمرة الفكر المتأمل، والتفلسف والتكلف، والهروب، والبرود، والرغبة في الخلود، وهي عند البارودي وحافظ، سهلة قريبة محدودة.
وحجم الحكمة لدى الشعراء الثلاثة ينسجم مع مكوناتهم وبواعثهم فكراً وكمية ودلالة، على أن المهم الذي ينبغي أن يشار إليه هنا، هو أنه ليس فيهم من تصل الحكمة عنده إلى موقف عام من الكون والحياة والإنسان، في فلسفة عامة واحدة، أو نسق فكري شامل. وكان بوسع شوقي أن يحقق ذلك لو كانت له في حياته، وبالتالي في شعره، شخصية ذات تصور عام واحد وطابع غالب بارز، نظراً لقدرته الكبيرة على النظم، وثقافته الواسعة.
9- بين المؤرخ والخطيب:
وفي مراثي شوقي يظهر لنا عمل العقل المتأمل، والثقافة الواسعة، والصنعة المحترفة بأوضح مما يظهر لنا عمل الطبع والسجية والفطرة والسهولة، والأمر عند حافظ بالعكس، إذ إن عمل الطبع والسجية والفطرة والسهولة في مراثيه أوضح من عمل العقل المتأمل والثقافة الواسعة والصنعة المحترفة.
وليس في هذا الأمر غرابة قط، فشوقي عميق الغور واسع الثقافة متقن لصنعته متفرغ لها، وهو أيضاً – لمجموعة متراكبة من طبيعته وظروفه – يغلب عليه البرود، ويصعب على الحدث أن يحرك أعماقه، لذلك نجد مراثيه يغلب عليها هذا ((البرود المثقف)) إذا جاز التعبير، الأمر الذي يعكس قدرته وثقافته وصناعته وقلة تفاعله مع الحدث أيضاً.
وكما سبقت الإشارة يمكن اعتبار بعض الامتدادات العقلية في مراثيه، نقاط هروب واعية أو غير واعية يلجأ إليها الشاعر مدفوعاً بأمرين الأول: أن يستر عاطفته الباردة التي لا تكاد تجيش، والثاني: رغبته الملحة في المجد والخلود بسبب إعجابه بنفسه وشعره.
أما حافظ فهو - هنا - على عكس شوقي، إنه رجل سهل قريب، أقرب إلى الفطرة والعفوية واليسر، تتحرك عاطفته مع الأحداث بيسر وتجيش بسهولة، فهو ينفعل فيرثي دون تعمق وافتعال، فيأتي رثاؤه تعبيراً صادقاً عن نفسه القريبة الطيبة المحزونة بأسلوب سهل وتناول قريب.
لذلك يمكن أن يقال: إن مراثي شوقي تلذ لمن يروم اللذة العقلية والصنعة المتقنة وربما كان الأفضل فيها أن يقرأها الإنسان لنفسه، على العكس من مراثي حافظ التي تلذ لطالب الصدق والقرب واليسر الراغب في سماعها شعراً يلقى أو يتلى.
وربما كانت قصائد الشاعرين في الإمام محمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل خير ما يمثل ذلك. ومطلع قصيدة حافظ في الإمام هو:
سلام على الإســــــلام بعد محمد سلام على أيامه النضرات
[98]
ومطلع قصيدة شوقي فيه هو:
مفســــر آي الله بالأمـــس بيـننــــــــا
قم اليوم فسر للورى آية الموت
[99]
وقصيدة حافظ في سعد زغلول مطلعها:
إيه يــا ليـــــل هل شهدت المصــــــابـــا
كيف ينصب في النفوس انصبابا
[100]
وقصيدة شوقي في سعد زغلول مطلعها:
شيعــــوا الشـــمس ومالوا بضحاها
وانحنى الشرق عليها فبكاها
[101]
وقصيدة حافظ في مصطفى كامل مطلعها:
أيا قبـــــر هذا الضيف آمـــــــال أمة
فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا
[102]
وقصيدة شوقي في مصطفى كامل مطلعها:
المشرقـــــان عـليــك ينتحبـــــان قاصيهما في مأتم والداني
[103]
والنظر في مراثي الشاعرين الكبيرين لهؤلاء الأعلام الثلاثة يدل بوضوح كامل على عقل كل منهما، وثقافته، وصنعته، وخصائصه النفسية، ويكشف تماماً عن أهم المكونات المؤثرة فيه.
ومما يتصل بهذا الأمر موقف الشاعرين من الجمهور من حيث الاهتمام به ومن حيث إلقاء الشعر عليه، أما شوقي فالمعروف أنه لم يقف على منبر قط، وأنه كان رجلاً تغلب عليه طبيعة المؤرخ المتأمل، الذي يفكر في المرثي لكنه لا يلبث أن يتجاوزه ليتحدث عن تأملاته وخواطره ومخاوفه، وعن عصر الفقيد وما ارتبط به من أحداث ووقائع، ولا يلبث – أيضاً – أن ينظر إلى التاريخ فتأتي الاستدعاءات التاريخية برموزها وأبطالها ووقائعها وعبرها، فكأن المرثي عنده مدخل لما يريد قوله، ولا ريب أن ثقافة شوقي التاريخية الجيدة، ورغبته الملحة في الشهرة والخلود مما ساعد على تأصيل هذا التوجه وتعميقه لديه.
أما حافظ فقد كان شاعر جمهور بكل معنى الكلمة، يعد قصيدته، ويسمعها لنفسه أولاً، ثم يسمعها لرجل من أوساط الناس ثانياً اختاره اختياراً مقصوداً ليرى أثرها فيه ويجري تعديلاته فيها حسب هذا الأثر، ثم يلقيها ثالثاً بطريقته المؤثرة التي كان يحتشد لها أيما احتشاد فينال من إعجاب الجمهور ما ينال.
ولهذا غلبت على شوقي طبيعة المؤرخ المتأمل وغلبت على حافظ طبيعة الخطيب الشعبي.
أما البارودي فموقعه هنا بين صاحبيه، ذلك أنه لم يكن بعمق شوقي واحترافه وصنعته وبروده، ولم يكن أيضاً بقرب حافظ ويسره وعفويته.
10- المبالغة:
وفي مراثي حافظ مبالغات كثيرة، يستحيل بعضها إلى عجائب مستغربة، والغريب أننا نجدها حتى في قصائده التي نظمها في أواخر عمره، وعلى كل حال لا يمكن أن تعد هذه المبالغة دليلاً على كذب عاطفته، ذلك أننا نجدها حتى في رثائه لمن يحبهم، ومرد الأمر شخصيته، وجماهيريته، وإحساسه الحاد بالحزن، وثقافته.
أما شوقي فالأمر عنده على العكس، فالمبالغة عنده قليلة من ناحية، مستساغة من ناحية أخرى في غالب الأحيان، وهي من أثر ثقافته التراثية الواسعة أكثر مما هي من أثر طبعه وشخصيته، فهو كان بعيداً عن المبالغة في حياته ومواقفه، بل كانت الأمور كلها عنده بحساب دقيق لسببين، الأول: تركيبه النفسي، والثاني: عمله فترة طويلة موظفاً مهماً لدى أهم رجل في مصر يومذاك، وهو ما جعل حياته وعواطفه ومواقفه تسير وفق حساب دقيق، وتبتعد عن التصرفات الانفعالية وردود الفعل الحادة والسريعة، فالتقى هذا العمل الوظيفي مع الطبع المتأمل لينأى بشوقي عن المبالغة في كل شيء، الأمر الذي ظهر في شعره جلياً واضحاً.
11- البعد الوطني:
أما البعد الوطني في مراثي الشعراء الثلاثة فهو يستحق وقفة متأنية، وبادئ ذي بدء يحمد لحافظ وشوقي أن في مراثيهما إعجاباً بالبطولة، وحثاً على العلم، ودعوة إلى الجد والابتكار وعلو الهمة، ومناداة بالوحدة الوطنية، ورغبة في خدمة الوطن والبذل له والذب عنه، وإشادة بمكارم الأخلاق من وفاء وتضحية وعطاء وإيثار وشجاعة، وإيقاداً للعزائم والهمم، وبثاً للأمل، وتحذيراً من الفرقة، وهجوماً على المحتل، ومطالبة بجلائه عن البلاد لتحقيق الاستقلال.
وهذا كله يضفي على مراثيهما بعداً وطنياً جيداً، الأمر الذي لا نجده في مراثي البارودي، وهو في هذا ليس موضع لوم، إذ إن الأمر يتصل بطبيعة التطور بين جيل البارودي وجيل حافظ وشوقي، وحسب البارودي فخراً أنه البادئ في تجديد موضوعات الشعر العربي كما أنه البادئ في تجديد صياغته، فكأنه بذلك فتح الباب ورفع الراية وبدأ المسيرة التي زادها شوقي وحافظ اتساعاً ونمواً، وهذا التقدم الإيجابي في مضامين الشعر العربي وموضوعاته كسب حقيقي لحركة الشعر، ورقي بآفاقه واهتماماته.
من أجل ذلك يظهر لنا شوقي وحافظ في مراثيهما شاعرين وطنيين لهما أثر محمود، حيث يحسنان توظيف الموقف توظيفاً إيجابياً لنصرة الوطن ورفعة شأنه وإعزاز رايته.
فحافظ حين يرثي مصطفى كامل لا يكتفي بمجرد البكاء والتحسر ولكنه يوظف الموقف توظيفاً محموداً لصالح الوطن، نرى فيه الفقيد يحذر الناس من الخلاف الذي يعصف بالوطن، ونرى فيه الناس يستجيبون له فيقولون له:
أجـــل أيهــــا الداعي إلى الخيـــر إننــا
على العهد مادمنا فنم أنت هانيا
[104]
وفي رثاء حافظ الآخر لمصطفى كامل يطلب من الناس أن يسيروا على مبادئه، وهي التفاتة وطنية مشكورة:
وأقســـــــموا أن تذودوا عن مبــــادئه
فنحن في موقف يحلو به القسم
[105]
ويبشر محمد فريد بأن مصر من بعده على طريق الجهاد الذي بدأه، لذلك له أن ينام هانئاً لأن الشعب يحصد الآن ما زرعه الفقيد من قبل:
إن مصــــراً لا تــــني عن قصــــــدها رغـــم ما تـلــــقى وإن طــــال الأمـــد
جئـــــت عنـــها أحــــمل الـبشـرى إلى أول البــــانين في هــــذا الـبـــــــــــــلد
فاستـــــرح واهنـــــأ ونــم في غبـــطة قد بذرت الحب والشعب حصد
[106]
وموت سعد زغلول لن يوقف المسيرة الوطنية التي بدأها الفقيد، فالأمة من بعده ماضية في الكفاح:
حيـــن قـــال انتهيـــت قـلنــا بـدأنــــا
نحمل العبء وحدنا والصعابا
[107]
ومقتل الطلبة المصريين في قطار في أوربا لن يوقف أبناء الوطن عن الإقدام، لأن دواعي المعالي كفيلة بذلك.
إن من يعـشـــــق أسبــــــاب العــلا يطــــرح الإحجــــام عنـه والحـــذر
فــاطلبـــــوا العــــلم ولو جشــــمكم فوق ما تحمل أطواق البشر
[108]
وشوقي يعمد هو الآخر إلى توظيف مراثيه توظيفاً وطنياً، وهذا التوظيف أوسع مما هو لدى حافظ وأغزر لكثرة مراثيه وقدرته على النظم وسعة ثقافته. والأمثلة على ذلك كثيرة في مراثيه. فعمر المختار بعد موته يؤدي مهمة وطنية لأنه:
جرح يصيح على المدى وضحية تتـــلمس الحرية الحمراء
[109]
ومرثية شوقي في رثاء رياض باشا تنتهي بثلاثة أبيات يدعو فيها إلى الجد، ويحذر من الكسل ويقارن بين عمل المستعدين وتفريط الغافلين:
بني الأوطـــان هبـــوا ثم هبـــوا فبعــــض الموت يجلبه السبــات
مشى للمجـــد خــلف البرق قوم ونحــن إذا مشينــــا الســــلحفـاة
يعــــدون الـقــــوى براً وبحــراً وعدتنا الأماني الكاذبات
[110]
والتصريح الذي حصل عليه عبدالخالق ثروت إنما هو خطوة أولى على طريق التحرير الكامل، سوف تتلوها خطوات أخرى:
تصريحك الخطوة الكبرى ومرحلة يدنو على مثلها أو يبعد الأمد
[111]
ويختم شوقي قصيدته في رثاء فوزي الغزي بتحذير السوريين من الفرقة والنزاع، ويبصرهم بآثارهما الخطيرة:
من مبـــلغ عني شبـــــولة جــــلق قــولاً يبـــر على الزمان ويصدق
قد تفســــد المرعى على أخواتـها شـاة تند من القطيع وتمرق
[112]
وفي قصيدته في ذكرى مصطفى كامل يلوم المصريين لوماً عنيفاً ومشكوراً على النزاع والكيد والتناحر:
إلام الخــــلف بيــــــــــــنـكم إلاما وهــذي الضجـــة الـكبرى علاما
وفيــم يكيــــد بعضــــكم لبعـــض وتبدون العداوة والخصاما
[113]
واليوم الذي دفن فيه سعد زغلول هو يوم وفاة له، لكنه من جهة أخرى يوم بعث ونشور للأمة:
ما درت مصـــر بدفـــــن صبحـــــت
أم على البعث أفاقت من كراها
[114]
ويطلب شوقي من شبان مصر أن يكونوا أبطالاً يتحملون المسؤولية فيقول لهم في رثاء الطلبة المصريين الذي قتلوا في حادثة قطار في أوربا:
عليـــكم لواء العلم فالفوز تحتـــــه وليــس إذا الأعلام خانت بخـــذال
إذا مال صف فـاخلفـــــوه بآخــــر وصـــول مســـاع لا ملول ولا آل
إذا جزع الفتيــــان في وقع حادث فمن لجليل الأمر أو معضل الحال
فغنـــوا بهاتيك المصارع بيـــــنكم ترنــم أبطـال بأيــام أبطال
[115]
وإذا كنا نجد هذا البعد الوطني المحمود لدى حافظ وشوقي ولا نجده لدى البارودي فإننا في مقابل ذلك نجد في مراثيهما ما يمكن أن يكون موضع لوم ومؤاخذة خلافاً للبارودي الذي لا نجد في مراثيه ما يلام عليه، ذلك لأن رثاءه ــ في الجملة ــ كان رثاء خاصاً بعيداً عن مزالق السياسة وملابساتها ومجاملاتها.
أما حافظ فقد زل حين رثى الملكة فكتوريا
[116]، ملكة بريطانيا حين ماتت عام 1901م، وبالغ فيما قاله عنها وأشاد بدولتها وقوة سلطانها، وحين بلغه ذات مرة أن الملك جورج الخامس ملك بريطانيا قد مات أخذ ينظم قصيدة في رثائه
[117]، والقصيدتان سقطتان لحافظ بكل المعايير الوطنية. وقصيدة حافظ في دنشواي
[118] زلة وطنية منه كان فيها ضعيفاً خائراً مستخذياً ولا يمكن التماس العذر له بأنه كان يعمد إلى الهزء والسخرية فالموقف لا يطيق ذلك أبداً. وقصيدة حافظ في السلطان عبد الحميد يوم عزله ((الانقلاب العثماني))
[119] لا تليق به لما عرف به من وفاء، وهي دليل على عدم تثبته تثبتاً دقيقاً ينتهي به إلى رأي يثبت عليه. ولشوقي في مراثيه زلتان مستنكرتان، الأولى إشادته بالإنجليز في قصيدته عن شكسبير
[120]، والثانية إشادته باللورد كتشنر
[121] وبقومه الإنجليز، ولا يمكن قبول عذر لشوقي في هذا أبداً خاصة أن القصيدتين تعودان إلى عام 1916م، حيث كان الوطن عامة، وشوقي خاصة، في ظلم الإنجليز وحيفهم.
أما قصيدة شوقي في دنشواي
[122]، فهو فيها موضع اللوم، إذ إنها جاءت متأخرة من ناحية، باردة من ناحية أخرى، لكن موقفه يوم توديع اللورد كرومر
[123]كان موقفاً محموداً وطنياً ودينياً، فكأنه مسح بموقفه الثاني إساءته في الموقف الأول.
ولقائل أن يقول: إن بريطانيا كانت دولة عظمى، وكان نفوذها في العالم كبيراً جداً، وهيمنتها على مصر كبيرة، وهو ما جعل الشاعرين يضطران إلى مجاملتها ومداراتها، لكن هذا الرأي لا يقبل، لأن الذي لا يستطيع أن يأخذ بالعزيمة، له أن يأخذ بالرخصة، لكن ليس له أن يأخذ بالدنية. وعلى كل حال فإذا كنا نجد لشوقي وحافظ ما يؤاخذان عليه، فعلينا أن نتذكر أن الشاعر ليس بالضرورة مثلاً يحتذى في الجهاد والوطنية يأخذ نفسه بالعزيمة، ويدعو للبطولة، ويتقدم الصفوف، فتلك مواقف قلة نادرة من الرواد العظام الذين هم أشبه بالقديسين منهم بأي نوع آخر من الناس. وشوقي وحافظ ليسا من هذا الصنف، لكنهما مع ذلك يبقيان في مراثيهما شاعرين وطنيين محمودين.