الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 03 - ظاهرة الفخر


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

03- ظاهرة الفخر:

     كان البارودي واحداً من الشعراء الفرسان الذين تفوقوا على من حولهم في الشعر وفي السياسة في آن واحد، وقد نشأ معجباً بأخلاق الفروسية العربية عبر تاريخها القديم، وتمثلها أحسن تمثل وأعمقه، وكان يرى نفسه واحداً من الفرسان الذين يشار إليهم بالبنان، لشجاعته ومكانته وعراقته ومواقفه ولشعره أيضاً. وقد لازم البارودي هذا الإحساس الكبير بالتفوق والأهمية طيلة عمره، حتى في ساعة العسرة والشدة، وكانت تصرفاته تنسجم مع هذا الإحساس انسجاماً تاماً، وظهر هذا في أيام نفيه كما ظهر في أيام عزته ومجده.

     والناظر في مراثي البارودي يجد معالم هذا الإحساس واضحة جلية، بكل ما تستدعيه من عزة نفس وترفع وفخر. نجد ذلك في رثائه لزوجته عديلة يكن الذي يبدأ بقوله:

أيــد المنـــــون قدحـــــت أي زنــــاد
               وأطــرت أيــة شعـــــلة بفــــــــؤادي
أوهنـــت عزمي وهو حمـــلة فيـــلق
               وحطمت عودي وهو رمح طراد[1]

     فهو يصف نفسه بأنه ذو عزم كبير، وقدرة على الاحتمال، ومع ذلك هده موت زوجته، فإذا كان الشاعر محزوناً من جانب فهو يعلي من قدراته التي فتك بها المصاب من جانب آخر ليجعل المصيبة أكثر هولاً، وفي هذا من الفخر وعزة النفس ما فيه.

     ويجد البارودي في نفسه شبهاً بفارس عربي شهير هو الحارث بن عباد، كانت له مواقف بطولية كثيرة، فيود أن يصنع صنيعه لمواجهة الدهر وكفه عن زوجته، لو كان ذلك يجدي:

لو كان هذا الدهر يقبـــــل فدية     بالنفس عنك لكنت أول فـــادي
أو كان يرهب صولة من فاتـك     لفعلت فعل الحارث بن عبـــاد
لكنـــها الأقـــدار ليس بنـــاجع     فيها سوى التسليم والإخـــــلاد

     وفي رثائه لولده علي الذي مات أيام المنفى، يعتصم بالحلم والصبر بدل الجنون على فقده، محمولاً على ذلك بالحياء والإباء، لذلك يبكي عليه قلبه لاعينه:

لولا اتقاء الحياء لاعتضت بالحـ     ــــلم هيـــــاماً يحيـــق بالجـــــلد
لـكن أبــت نفسي الـكـــــريمة أن     أثــــلـم حــد العـــــزاء بالكمــــد
فليبــــك قـلبي عليـــك فالعيـن لا     تبـــلغ بالدمع رتبــــة الخــلد[2]

     وفي رثائه لوالده يأسى البارودي على نفسه لأن موته تركه صغيراً في السابعة من عمره لا يأبه أحد لتهديده ووعيده، وهو شعور مبكر بشخصيته وأهميته:

مضى وخلفـــني في ســـــن ســــــابعة
               لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي[3]

     وإذا كان البارودي قد عاش فرداً بين أقربائه ليتمه المبكر، فإنه في شبابه فرد بين أنداده متفوق عليهم بالمجد والرفعة، وهو قد بلغ بفضل ربه عليه ما يستغني به عن الناس فما يمد يده إلا للعطاء، ولا تسير به قدمه إلا للعون، وهو في ذلك يسير على طريق والده الذي له فضل السبق والريادة في هذه المكارم:

فإن أكن عشت فرداً بين آصـرتي     فها أنـــا اليوم فرد بين أنـــــدادي
بلغت من فضل ربي ما غنيـت به     عن كل قار من الأملاك أو بـادي
فـــما مددت يـــدي إلا لمنـــح يــد     ولا سعــــــت قدمي إلا لإسعــــاد
تبعـــت نهـج أبي فضلاً ومحميــة     حتى برعت وكان الفضل للبـادي

     ويختم البارودي رثاءه لأحمد فارس الشدياق بثلاثة أبيات يعزي في الأول منها ابن الفقيد وفي البيتين الآخرين يقدم له قصيدة الرثاء التي حمله عليها الوفاء ودعاه إليها الود:

فلا تعطيــن الحزن قلبك واستعـــن     عليه بصبر فهو في الحزن أنجـــع
وهــاك على بعــد المزار قريبـــــة     إلى النفس يدعـــوها الوفاء فتتـــبع
رعيت بها حق الوداد على النـــوى     وللحق في حكم البصيرة مقطع[4]

     وفي رثائه لأمه تلقانا هذه الأبيات التي يقترن فيها الحزن بالفخر والإحجام بالإقدام، وحركة النفس بحركة الجسد:

فيـــا خبـــراً شف الفـــــؤاد فأوشكت
               سويـــداؤه أن تستحيـــــل فتســـــجما
إلـيـــك فقـــد ثـلمت عرشــاً ممنـــعـاً
               وفـللــت صمصــاماً وذللت ضيغــما
أشـــاد به الـنــاعي وكنت محاربــــاً
               فـألقيـــت من كفي الحسام المصــمما
وطــارت بقـــلبي لوعة لو أطعتـــها
               لأوشـــك ركن المجــــد أن يتهـــدما
ولكنـــني راجعــــت حلمي لأنثــــني
               عن الحرب محمود اللقاء مكرما[5]

     إن خبر وفاة الوالدة فاجأ البارودي وهو في الحرب فأحزنه حزناً شديداً وأضناه، وثلم عرش مجده، وفل سيفه، وأذله وهو الأسد، فما كان منه إلا أن ألقى السلاح من كفه لأنه كاد يطيع أحزانه التي تدعوه للقعود، ولو فعل ذلك لتهدم ركن مجده، لكن إباءه غلب حزنه فعاد إلى القتال ليؤوب منه آخر المطاف وهو محمود السيرة بما أبدى فيه من الشجاعة. وواضح ما في هذه الأبيات من عزة وإباء، فالحزن الشديد الذي اعتصر قلب الشاعر لم ينسه واجباته القتالية التي تحدوه إليها رغبته في العزة والسيادة والمجد. ويلاحظ أن البارودي اختار في قصيدته هذه – من حيث يدري أو لا يدري – ما اختاره المتنبي من قبل، حين رثى جدته بحراً وقافية، لأن المتنبي وهو شاعر الفخر الأكبر ساكن في أعماقه.

     إن ما نجده في مراثي البارودي من فخر وعزة وإباء، أمر منطقي ينسجم مع البارودي سيرة وإحساساً ومواقف، لقد كان شاعراً، وكان فارساً، وكان رائداً، وكان مقاتلاً، وكانت روحه روح الفارس العربي الذي أشرب خلاصة الفروسية وأخلاقها العالية نبلاً وإقداماً ووفاء وترفعاً.

     هذه الروح إلى جانب عراقة أصوله، إلى ما رزق من ثراء وجاه، إلى طموحه الكبير للمجد، إلى ما تسنمه من عليا المناصب، تجعله جديراً بأن يفخر بنفسه وبشعره وبمواقفه، وفخره هذا فخر صادق ومقبول، صادق لانسجامه مع روحه ونفسه ومواقفه، ومقبول لأنه ينسجم مع مسيرة حياته كلها فلا نشعر إزاءه بالتكلف والافتعال والادعاء. إنه فخر رجل جليل القدر يعرف قدره ويصف نفسه بما هو فيها حقاً.

     ويذكرنا هذا الجانب في مراثي البارودي، بجانب مماثل نجده لدى المتنبي. لقد كان إحساس المتنبي بنفسه إحساساً قوياً حاداً، لذلك لم تكن شخصيته تذوب أمام ممدوحيه، وهو أمر اتسق مع حياته كلها التي انتهت نهايتها المأساوية المعروفة، ولهذا لم يكن فخره بنفسه نشازاً ولا مستنكراً.

     والأمر يتكرر لدى البارودي، فشخصيته حاضرة في مراثيه، وإحساسه الحاد بها بارز تماماً. فكان هذا الشعور الذاتي منه بنفسه ملازماً له في رثاء أقربائه كأمه وأبيه وابنه، وكان ملازماً له في رثاء أصدقائه الآخرين.

     لكأن البارودي كان يستحضر باستمرار صورة الفارس العربي النبيل، وماتوجبه هذه الصورة من التخلي عن صفات هابطة حتى لو جرت نفعاً، والتحلي بأخرى عالية حتى لو سببت أذى، وكأنه كان يستحضر باستمرار أنه واحد من الفرسان الذين ينبغي لهم أن يكونوا على ما تلزمهم به تلك الصورة.

     من أجل ذلك كان للفخر حيز واضح في مراثيه، وكانت لوازم الفروسية واضحة فيها، وكان الثناء على الميت يقترن بالثناء على النفس، وكان أعلام الفرسان العرب حاضرين في حسه.

     ومن هنا لنا أن نفسر أسف الشاعر على أبيه، وعلى نفسه حين رثاه، لأنه مات وهو في سن السابعة حيث لا يأبه به أحد، ولا يخاف الناس وعيده ولا يرجون وعده. ومن هنا لنا أن نفسر اعتزاز الشاعر بنفسه وفخره بها وهو يرثي زوجته، وحياءه وإباءه وهو يرثي ابنه، واستشعاره معنى الوفاء وهو يرثي الشدياق، وخوف الاتهام بما لا يليق وهو يرثي أمه. وحين يفعل البارودي ذلك، لا يقدح صنيعه في صدق عاطفته إزاء من يرثيهم، فعاطفتا الصدق والفخر هنا عاطفتان لا تقفان موقف التضاد والتناقض، بل موقف التكامل والتلاحم، فهو يرثي لأنه وفي، وهو وفي لتشبعه بأخلاق الفرسان وهي أخلاق يحق لصاحبها أن يفخر بها.

-------------
[1] الديوان 1/237.
[2] الديوان 1/248.
[3] الديوان 1/250.
[4] الديوان 1/242.
[5] الديوان 2/394.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة