الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي)
04- رثاء النفس:
عاش البارودي حياته كلها عزيز النفس قوي الشخصية رابط الجأش، تحمله على ذلك نشأته العسكرية وطموحه الكبير وأخلاق الفروسية التي أشرب حبها، وقد ظل على هذا الشأن حتى في أيام محنته في السجن والمنفى. من أجل ذلك نراه يفتخر بين الحين والآخر حتى وهو ينظم في الرثاء، ومن أجل ذلك أيضاً نجده دائماً صابراً ثابتاً قادراً على الاحتمال ومغالبة الأحزان والكوارث.
على أن تطاول أمد النفي، وموت الأحباب، جعله يأسى لنفسه ويحزن لما أصابه فإذا به بين الحين والآخر يرثي نفسه خلال رثائه الآخرين.
يقول في رثائه لصديقيه عبدالله فكري وحسين المرصفي:
أيـن أيــــــام لـذتي وشـبـــــــــــابي أتـراهــــا تعــــــود بعــد الذهـــاب
ذاك عهـــد مضى وأبعـــــــد شيء أن يـرد الزمــــان عهد التصــــابي
فــأديــــــــــرا علي ذكـــــــراه إني منـــذ فـارقتـــــه شديــــد المصـاب
كـل شيء يســــلوه ذو اللــــــب إلا ماضي اللهـــو في زمــان الشبــاب
يــا نــديمي من سرنديــــب كـفـــــا عن ملامي وخـليــــاني لمــــــا بي
كيــف لا أندب الشباب وقد أصـــــ ـبحت كهلاً في محنة واغتراب[1]
وهذه الأبيات تفيض بالحزن واللوعة التي تملأ قلب الشاعر، بكاء على شبابه الذاهب، وهو شباب كان يملأ أوقاته بالبهجة والسعادة فليس له أن ينساه، ولذلك يطلب من صديقيه في المنفى ألا يلوماه، وألا يستغربا ما يفعله خاصة أنه اجتمعت عليه الكهولة مع محنة الغربة والنفي.
وينتقل بعد ذلك ليقدم لنا صورة رائعة تمتد لتصير مشهداً كاملاً يظهر لنا فيه ما حل بجسده بسبب السن والمرض والنفي:
أخـــلق الشيب جدتي وكســاني خلعـــة منــه رثـــة الجلبـــــاب
ولـوى شعر حـــاجبي على عيـ ـــني حــتى أطــل كالهـــــــداب
لا أرى الشيء حيـــن يسنـح إلا كخيــــــال كـأنني في ضبــــاب
وإذا ما دعيـــــت حـرت كــأني أسمع الصوت من وراء حجاب
كـلمـــا رمت نهضــة أقعـــدتني ونيــة لا تقـــلهـا أعصــــــــابي
لم تدع صولــــة الحـوادث مني غيــر أشــــلاء همة في ثيــــاب
فجعـتـــني بـوالــــدي وأهــــلي ثـم أنحــــت تـــكـر في أتـرابي
وهذه الأبيات تصور تصويراً دقيقاً أثر الكوارث والأمراض والسن على الشاعر، في الشيب وشعر الحاجب وضعف البصر ووهن السمع وعجز الأعصاب، والأبيات لوحة مفصلة لأثر النكبات التي فجعته بذويه ثم مضت تفجعه بأترابه، فما أبقت منه إلا أشلاء همة في ثياب.
وتتخلل رثاءه لزوجته، الإشارة إلى سوء حاله، نجد ذلك منذ البداية:
أيـد المنــــون قدحت أي زنـــــاد وأطـرت أية شعـــــلة بفــــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فـيـــلق وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بســــــاحتي فأنـــاخ أم سهم أصــــاب سوادي
ما كنت أحسبـــني أراع لحــادث حتى منيـــت بــه فـــــــأوهن آدي
أبلـتــني الحسرات حتى لم يكـــد جسمي يلوح لأعين العــــواد[2]
وواضح في هذه الأبيات أن الشاعر يبكي نفسه خلال رثائه لزوجته، فعزمه الذي كان كحملة جيش وهن، وجسمه الذي كان رمح طراد انحطم، حتى رأى نفسه ضعيفاً متحسراً بالياً، بعد أن كان يحسب نفسه لا يراع لأمر، أما جسمه وهو الضابط السابق الذي كان ملء السمع والبصر، فتوة وقوة وقامة، فقد أبلته الحسرة حتى صار إلى تضاؤل وانكماش، بحيث لا يكاد عواده الزائرون يبصرونه.
ويجعل البارودي من نفسه عبرة لكل من يصاب بكارثة، فهو ضعيف يمشي مستخفياً حذر صولة مفاجئة من أعدائه، والحزن الباطن أكل أعماقه، والسقم الظاهر جعل منظره يثير الشفقة، ويبرع في تصوير حاله أول مفاجأة النبأ له، إذ سقط كالملدوغ، واشتعلت بقلبه النار، وسالت مدامعه كأنما وخزت عينه بالشوك، وزاد من سوء حاله شماتة الحساد به:
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى في يــوم كل مصيبـــة وحـــــداد
متخشعـاً أمشي الضـــراء كأنني أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشــــا بلهيــــــب سورته وسقم بــــادي
ورد البريــد بغيـــر ما أملتــــــه تعس البريد وشاه وجه الحـــادي
فسقطـــت مغشيـــاً علي كأنــــما نهشـت صميم القـــلب حية وادي
ويـلمه رزءاً أطـــــار نعيـــــــــه بالقـلــــب شعـــــلة مارج وقـــاد
قــد أظلمت منه العيــــون كأنـما كحـل البكــــاء جفــــونها بقتـــاد
عظمت مصيـــبته علي بقدر مـا عظمت لـدي شمــــاتة الحســـاد
وفي رثائه لوالده نجده يقول:
مضى وخلفـــني في ســــن سـابعة لا يرهب الخصم إبراقي وإرعادي
إذا تـلفـــت لم ألمح أخــــا ثـقـــــــة يـــأوي إلي ولا يسعى لإنجـــــادي
فالشاعر حزين على نفسه لأن أباه مات وهو في السابعة من عمره، وهي سن صغيرة لا تجعل خصمه يخاف سطوته، وإذا تلفت لم يجد أخاً موثوقاً يعينه وينجده، لذا فهو دامع العين محزون القلب، إن الحزن في هذه الأبيات حزن على النفس التي تتطلع من صغرها إلى امتلاك السطوة والنفوذ، وتأسى لحالها لأنها فقدت ذلك بفقدانها الأب الذي يمكن له أن يحققها لها.
وإذا كان فخر البارودي في مراثيه فخر الأبي المغالب للأحداث الممتلك حقاً لصفات نفسية عالية وهو ما جعله غير مستغرب، فإن بكاءه نفسه فيها يمكن أن يعد هو الآخر أمراً مقبولاً غير مستغرب، فالفخر اعتزاز بصفات موجودة، والرثاء بكاء على أمور مفقودة، والموجود يحمل الشاعر على الاعتزاز به لشعوره بنفاسته، والمفقود يحمله على الأسى عليه لشعوره أنه أضعف من قدرته على التفوق والقوة والسيادة، ومن هنا يتلاقى الفرح بالموجود مع البكاء على المفقود ليصلا بين فخار البارودي بنفسه وبكائه عليها في مراثيه.
ويوضح هذا المعنى أكبر توضيح أنه بكى نفسه خلال بكائه لوالده وهو بكاء نفس نزاعة إلى القوة منذ صغرها، ففقدانه للأب فقدان لسند القوة وسببها. أما بكاؤه نفسه خلال مراثيه التي قالها في المنفى فيما بعد، فهو بكاء يتداخل فيه هذا المعنى بمعنى آخر هو أنه كان يسير إلى ضعف بسبب غربته ومرضه وسنه وإحساسه بالظلم والإحباط، خلافاً لما كان عليه الحال حين رثى أباه وهو في أول العمر والدنيا عليه مقبلة والأيام واعدة.
------------
[1] الديوان 1/104.
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 1/250.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق