الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي)
06- الحكمة:
تشيع الحكمة في مراثي البارودي شيوعاً لا مبالغة فيه ولا تكلف، فهي تأتي في موقعها الطبيعي وحجمها المقبول، منبعثة من قلب الشاعر وعقله، انبعاث مراثيه بشكل عفوي لا تشعر فيه أن البارودي تعسف فيها وتمحل. والسبب واضح سهل وهو أن شعر البارودي، مرآة صادقة لنفسه ولحياته، لقد عاش البارودي ومات وكان منسجماً مع نفسه، ومع قناعاته، صادقاً مع الناس في فعله وقوله، وهذا الأمر كما يظهر في حياته، يظهر في شعره، وفي مراثيه، وفي حكمته، ومن هنا نجد في حكمته اليسر والسهولة والصدق، وعدم التكلف والافتعال، ومن هنا أيضاً نجدها لا تكثر كثرة تدل على رغبة قسرية في إيرادها.
يقول في رثائه لصديقه عبدالله فكري وشيخه حسين المرصفي:
ليــس يخـــفى علي شيء ولكـــن أتغــابى والحزم إلف التغــــــابي
وكفى بالمشيـــب وهو أخو الحـز م دليــــلاً إلى طريق الصــــواب
إنما المرء صورة سوف تبـــــلى وانتهاء العمران بدء الخراب[1]
وواضح ما في هذه الأبيات من سهولة المعنى، ومناسبته للموقف الذي هو فيه، حيث كان يشكو من رفاق المنفى، وهو ما يدعوه إلى التجاهل والتغابي، خاصة أن الشيب يعين على الحزم ويساعد على الصواب.
وحين يعزي خليل مطران بوفاة عمه حبيب مطران، يسوق عزاءه في إطار من الحكمة القريبة:
فيــــا صاحبي صبراً فـلست بواجـــــد
ســـوى حاضر يبكي فجيعة غـــــائب
وصبـــراً فإن الصبر أكرم صـــاحب
لمن بــــان عن مثواه أكرم صـــاحب
ولا تأس من وقع الخطوب وإن جفت
عليــك فــــإن النــاس مرعى النوائب
إذا ما الــــردى أودى بــــآدم قبــــلنـا
فهــــل أحـد من نسـله غير ذاهب[2]
وهذه الأبيات حكم سهلة ومناسبة، تعين على التصبر بما تنبه إليه من الكوارث التي تصيب الناس فما ينجو منها أحد، والموت قدر لا مفر منه منذ آدم عليه السلام.
وفي رثائه لزوجته يلتمس لنفسه الصبر بأن يتذكر أن جميع الناس إلى فناء، وأن لكل واحد منهم أجلاً لا يعدوه، وأن النذر المتوالية كفيلة بإيقاظ الغافلين:
كــل امرئ يوماً ملاق ربـــــه والناس في الدنيـــا على ميعاد
وكفى بعــادية الحوادث منذراً للغافلين لو اكتـفوا بعوادي[3]
والإنسان الحي أسير للموت ينشب فيه أظفاره إذا جاء أجله، وأيام الدنيا منازل ومحطات يسكنها أقوام ويتركها آخرون، والمرء ليس بخالد، إنما هو ساع مدة عمره. يقول:
لعمرك ما حي وإن طال سيــره يعـــد طليقـــاً والمنــون له أسر
وما هذه الأيـــــام إلا منـــــازل يحل بها سفر ويتركها سفر[4]
ويحاول في رثائه لابنه علي أن يجد في الصبر ما يعينه على احتمال الرزء، ويقرر أن الإنسان العاقل يسبق بصبره سلوته، فكأنه بذلك يختصر مدى الأحزان:
لم أصطبـــر بعدك من سلوة لكـن تصبـــرت على جمـــر
وشيــــمة العاقل في رزئـــه أن يسبق السلوة بالصبر[5]
وفي رثائه لأحمد فارس الشدياق يجعل الإقامة في الدنيا عجيبة، إذ يميل الإنسان إلى التمتع بها وسيف المنية يلمع فوق رأسه، فاليسر يجاور العسر والسعادة تجاور الشقاء:
نميــــل من الدنيا إلى ظل مزنــة لهـــا بــــارق فيه المنــــية تــلمع
وكيف يطيب العيش والمرء قائم على حذر من هول ما يتوقع[6]
وإساءة الدنيا للناس لا تحملهم على كرهها:
ومن عجب أنا نساء ونرتضي وندرك أسباب الفنـــاء ونطمع
ولو أن الإنسان استحضر دائماً نهاية أمره لهانت عليه أحزانه وأفراحه:
ولو علم الإنسان عقبان أمره لهـــــان عليه ما يسر ويفجع
وحركة الأيام دائمة، أرحام تدفع، وأرض تبلع:
تسير بنا الأيــام والموت موعد وتدفعنا الأرحام والأرض تبلع
والدنيا خادعة غادرة لا وفاء لمواعيدها، ولا لذة للعيش فيها:
عفاء على الدنيا فما لعداتها وفاء ولا في عيشها متمتـع
وفي رثائه لأمه يصور طمع الإنسان الذي لا ينتهي، فله كل حين حاجة يسعى إليها ويجعلها همه، حتى إذا فاز بها عنت له حاجات أخرى:
يــود الفــتى في كل يـــوم لبـــــــانة
فإن نالها أنحى لأخرى وصمما[7]
وإذا زاد عمر الإنسان قل ما بقي له من الحياة، والنقصان آفة الاكتمال:
إذا زاد عمر المرء قــــل نصيبه
من العيش والنقصان آفة من نما
والدهر يظل على سنته المطردة في إفناء الناس كما أفنى الأمم السائدة من قبل:
وكيف يصون الدهر مهجة عاقل وقد أهلك الحيين عــاداً وجرهما
والإنسان لا يستطيع إنقاذ أحد من الموت:
وهل يستطيع المرء فدية راحل تخرمه المقـــــدار فيمن تخرما
ويقول في رثائه لعلي رفاعة الطهطاوي:
وأي امرئ يبــقى ودون بقـــــائه نهــــار وليـــل بالردى يفـــــــدان
ألا قـاتــل الله الحيـــــاة فـإنهــــــا إلى الموت أدنى من فــم لـبنــــان
تخــادعنــا الدنيا فنلهو ولم نخــل بــأن الردى حتم على الحيـــــوان
إذا ما الأب الأعلى مضى لسبيله فمـــــا لبنيـــه بـالبقـــاء يـدان[8]
والحكمة شائعة في هذه الأبيات الأربعة، نرى الشاعر فيها يتحدث عن الفناء الذي يحكم مصير كل إنسان، وعن قرب الموت الشديد منه، وعن مخادعة الدنيا للناس فيلهون وينسون المنايا، وعن موت أبي البشر جميعاً ليكون مصير الناس جميعاً مثل مصيره.
ونلقى لدى البارودي ما يمكن أن يسمى بتساوي الأضداد، حيث يهون الموت الأشياء على الشاعر، فيرى السرور كالحزن، والإساءة كالإحسان، والضحك كالبكاء، كما كان الحال لدى المعري في داليته الخالدة الشهيرة. يقول البارودي في رثائه لوالدته:
ومن عرف الدنيــــــا رأى ما يسره من العيش هماً يتـــرك الشهد علقما
إذا كــــــان عقـــبى كل حي منــــية فسيان من حل الوهاد ومن سما[9]
إن خبرة الشاعر في الحياة تجعله يقرر أن السرور هم، وأن الشهد علقم، وأن الصعود والهبوط سيان كما أن هذه الخبرة تجعله يقرر في بيت آخر من القصيدة أن النقصان قرين النماء:
إذا زاد عمر المرء قل نصيبــــه من العيش والنقصان آفة من نما
والدهر يهدم إذ يبني، لأن الهدم والبناء عنده مقترنان، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، فكأنه تكملة له ولازم من لوازمه:
إذا ما بنانا الدهر ظلت صروفه تهدمنا والدهر أغدر باني[10]
ومن الواضح أن البارودي لا يتكلف الحكمة، ولا يتكلف التفلسف، فلا يجهد نفسه في التفكير، ولا يرهقها في التعمق والتأمل، فتأتي الحكمة في مراثيه عفو الخاطر، في حجم معقول، وتناول قريب، لذلك لاحظ الأستاذ عمر الدسوقي أن البارودي ((لم يلجأ إلى الوقوف على سر الحياة الأخرى، وأن يستشف ما بعد الموت كما كان يفعل شوقي))[11]. وتظهر في حكمة البارودي إلى جانب شخصيته الواضحة، شخصيته المؤمنة التي تظل على الدوام موصولة بالسماء، وإدراكه الفطري السليم لطبائع النفس الإنسانية ورغباتها، الأمر الذي نستشفه بوضوح من خلال شعره في الرثاء.
--------------------
[1] الديوان 1/ 104
[2] الديوان 1/133.
[3] الديوان 1/237.
[4] الديوان 2/39.
[5] الديوان 2/112.
[6] الديوان 2/242.
[7] الديوان 3/394.
[8] الديوان 4/99.
[9] الديوان 3/394.
[10] الديوان 4/99.
[11] محمود سامي البارودي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1958م، ص 42.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق