الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي)
07- إشارات تاريخية:
كان البارودي واسع الاطلاع على التراث الشعري العربي القديم، وكان اطلاعه هذا إلى جانب قوة طبعه وموهبته، إلى جانب أنه اتصل بالشعر القديم اتصالاً مباشراً متجاوزاً الطريقة التقليدية التي كانت سائدة يومذاك، أهم أسباب عبقريته وريادته للشعر الحديث. وقد أعانه على هذا الاطلاع أولاً والاستيعاب ثانياً أنه كان ذا ذاكرة قوية توصف كأنها آلة من آلات التصوير، لذلك تمثل عناصر الشعر العربي في أحسن فتراته تمثلاً قوياً وظهر هذا التمثل في شعره أحسن ظهور.
ومن المجالات التي يظهر فيها هذا التمثل إشاراته التاريخية إلى أيام العرب القديمة وغير القديمة وإلى أبطالهم ووقائعهم، بطريقة تدل على حضور هذه العناصر في ذاكرته حضوراً قوياً، ثم في شعره.
وحين ننظر في مراثي البارودي نجد هذه العناصر بين الحين والآخر، تضفي على الموقف روعة تاريخية، أو تحسن الانتفاع من رمز أو واقعة أو إشارة بما يزيد الشحنة النفسية أو الطاقة الفكرية التي يحفل بها الموقف.
لما أراد أن يبين مقدار وفائه لزوجته في داليته الشهيرة في رثائها، أوضح لنا كيف كان مستعداً للفداء لو أن الدهر يقبل ذلك، وأنه كان مستعداً أن يصاول ويحارب كما فعل الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة في الجاهلية، لو أن الدهر يخاف صولة فاتك أو مغامر:
لو كان هذا الدهر يقبـــــل فـدية بالنفس عنك لكنت أول فـــــادي
أو كان يرهب صولة من فاتــك لفعلت فعل الحارث بن عباد[1]
ويستدعي البارودي قصة لبيد مع ابنتيه حين حضرته الوفاة ليوظفها توظيفاً يظهر به وفاءه لزوجته الراحلة. لقد طلب لبيد من ابنتيه أن تبكيا عليه حولاً كاملاً، لأن البكاء لمدة سنة كاملة يدل على وفائهما فلا تتهمان بالتقصير:
وقـــولا هو المرء الذي لا خليـله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السـلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتــذر
أما البارودي فرأى أن البكاء عاماً واحداً على زوجته لا يكفي لاختلاف حالها عن حال لبيد، فلبيد عاش عمراً طويلاً لبس فيه الزمان على اختلاف صروفه، بخلاف زوجته التي ماتت شابة لم تبلغ من أوطار الحياة ما بلغه لبيد، ولذلك يقرر البارودي أنه سوف يخالف وصاة لبيد في البكاء لمدة عام واحد:
فلئــن لبيــــد قضى بحـــــول كامل في الحزن فهو قضـــاء غير جـواد
لبس الزمان على اختلاف صروفه دولاً وفــــــــل عرائـــــك الآبــــاد
كم بيـــن عـــــادي تمـــــلى عمره حقبــــاً وبين حديثـــــة الميـــــــلاد
هـذا قضى وطر الحيـــــاة وتلك لم تبــــلغ شبيــــبة عمرهــا المعتـــاد
فـعــــلام أتبـــــع ما يقول وحــكمه لا يستـــوي لتبـــــاين الأضــــــداد
وحين أراد أن يلتمس العبرة والعزاء من خلال النظر إلى مصارع الماضين، أخذ يتحدث عن الدهر الذي أفنى ملوك حمير في اليمن، وسادة ثمود في مدائن صالح، وقادة عاد في الأحقاف، وقبيلة قضاعة في شمالي الجزيرة العربية، وقبيلة إياد في سواد العراق، ومدائن كسرى، والهرمين، وأبا الهول، مشيراً إلى أن الصمت هو الذي سوف يتولى الجواب، حيث إن هذه الأمم الخالية قد بادت أخبارها كما بادت هي من قبل:
فلينظــــر الإنسان نظرة عاقــــــــل لمصـــــارع الآبـــــاء والأجــــــداد
عصف الزمـــان بهم فبــــدد شملهم في الأرض بين تهــــــائم ونجـــــاد
دهر كأنـــــا من جرائــــر ســـــلمه في حــــر يوم كريهــــة وجـــــــلاد
أفنى الجبــــــابر من مقاول حميـــر وأولي الزعــــامة من ثمود وعــــاد
ورمى قضـــاعة فاستبـــاح ديـارها بالسخـط من ســــابور ذي الأجنــاد
وأصـاب عن عرض إياد فأصبحت منـــــكوسة الأعــــلام في سنـــــداد
فـســــل المدائـــن فهي منجم عبـرة عمـــا رأت من حـــاضر أوبـــــــاد
كـرت عليــها الحادثــــــات فلم تدع إلا بقــــــايـا أرســــــــــــم وعمـــاد
واعكف على الهرمين واسأل عنهما بلهيـــب فهو خطيــــب ذاك الوادي
تنبئك ألسنـــة الصموت بما جـــرى في الدهر من عـــدم ومن إيجــــــاد
أمم خـــلت فاستعجــــمت أخبــارها حتى غدت مجهـــــولة الإسنـــــــاد
فعـــلام يخشى المرء صرعة يومه أو لـيـــــس أن حيـــــــاته لنفـــــــاد
وفي رثائه لوالدته يصور لنا الغفلة التي تعتري الإنسان فينسى مصيره ويغفل عن ذكر مصارع من سبقه ممن شادوا ثم بادوا، ومضوا، وفنيت آثارهم، وانقرضت أخبارهم فلم يبق منها إلا أحاديث هي إلى الظن أقرب منها إلى اليقين:
أرى كل حي غافلاً عن مصيـره ولو رام عرفان الحقيقة لانــتمى
فأيـن الألى شادوا وبادوا ألم نكن نحــل كما حلوا ونرحل مثــــلما
مضـوا وعفت آثارهم غير ذكرة تشيـد لنا منهم حديثاً مرجما[2]
وللدهر سنته المطرودة في الإفناء، فأنى له أن يصون أحداً أو يحفظ عهداً، وقد أهلك من قبل عاداً وجرهماً:
وكيف يصون الـدهر مهجة عاقل وقد أهلك الحييـــن عاداً وجرهما
هو الأزلـم الخداع يخفر إن رعى ويغدر إن أوفى ويصمي إذا رمى
وفي رثائه لعلي الطهطاوي يقرر أننا ننخدع بالدنيا، فنلهو وننسى أن الموت حتم على الجميع ورده آدم عليه السلام، أبو البشر الأول فكيف لا يرده من بعده من الأحفاد:
تخـادعنــا الدنيا فنلهو ولم نخـــل بـــأن الردى حتم على الحيـــوان
إذا ما الأب الأعلى مضى لسبيله فما لبنـــيه بالبقــــاء يـــــدان[3]
إن التاريخ في هذه المراثي يدل على ثقافة الشاعر من ناحية، كما يدل من ناحية أخرى على توظيفه له في التماس العبرة من خلال النظر في فناء الأمم والأفراد والدول، وهو ما يهون وقع المصيبة على من تحل به حيث يتأسى بما جرى للآخرين من قبله، والملاحظ أن الرموز والإشارات التاريخية التي وردت في مراثيه، هي رموز عربية أو من الرموز التي اتصلت بالعروبة بسبب أو بآخر، فلا نلحظ فيها رموزاً غربية، وهو ما يدل على ولاء البارودي للتراث العربي، وعمق أثر هذا التراث عليه.
--------------
[1] الديوان 1/237 .
[2] الديوان 3/394.
[3] الديوان 4/99.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق