الموسيقى الشعرية
تعد الموسيقى أهم عناصر الشعر على الإطلاق بحيث إذا خسرته قصيدة معينة تحولت إلى نثر، خلافاً لبقية العناصر الأخرى من عاطفة وخيال وأسلوب، ذلك أن غياب هذه العناصر عن قصيدة ما يزري بها، ويقلل من شأنها ويقربها من النثر ولكنه لا ينقلها إليه. ولذلك فالجرس الموسيقي في النثر أمر غير إلزامي، أما في الشعر فهو أمر إلزامي لا بد منه[1]. ومعنى ذلك أن الموسيقى هي العنصر الضروري اللازم الذي لا بد منه ليكون الشعر شعراً. أما العناصر الأخرى فهي عناصر تكميلية تحسينية يرتفع الشعر معها كلما كان حظه منها أكبر.
وكلما كان الشاعر مستوعباً للموسيقى ممتلكاً لأدواتها، محيطاً بالجانب الخارجي الذي يضبطه العروض والقافية والجانب الداخلي الذي لا يضبطه علم مكتوب وإنما هو متروك لأذن الشاعر الباطنية التي تدرك ما وراء العروض والقافية من ذبذبات موسيقية، طولاً وقصراً، غلظاً ورقة، نبراً وهمساً، والتي تتكون من العلاقات بين الألفاظ والجمل من حيث الاختيار، ومن حيث السبك؛ كان أوغل في الإبداع، وأقدر على التأثير، وأبرع في كسب الأسماع واستمالة القلوب.
والشعر والموسيقى فنّانِ سمعيانِ مادتهما الصوت، كما أن مادة النحت الحجارة، ومادة الرسم الألوان. وتقوم الموسيقى كما هو معلوم على الصوت، ويقوم الشعر كما هو معلوم أيضاً على الألفاظ، والألفاظ في النهاية صوت. والفارق بين الموسيقى والشعر بعد اتحادهما في الاعتماد على الصوت أن الموسيقى يشيع فيها الإبهام والإيحاء كثيراً لأنها لا تقول شيئاً خلافاً للشعر الذي يعتمد على ألفاظ ذات دلالات محددة، ومن هنا كانت القدرة على فهمه أكبر، ومن هنا أيضاً كان أخلد من الموسيقى لأن دائرة التواصل معه أوسع حيث بإمكان المتلقي أن يتعامل معه بسهولة ويسر وعفوية ومرونة، على عكس الموسيقى التي تحتاج إلى أجهزة وأمكنة وعازفين.
إن الموسيقى هي «وعاء الشعر الذي يتخلَّق في حناياه، وهو تخلُّق قديم قدم الحياة الإنسانية، وقدم تلك الآماد التي سبقت نشأة اللغات حين كان الإنسان يصيح بأصوات مبهمة يودع فيها حاجاته وإحساساته، مستعيناً بمحاكاته لأصوات الطبيعة، وببعض إشاراته وحركاته الجسدية، عله يحل عقدة من عقد لسانه المتجمد»[2]. ومن أقدم الأزمان «يتغنى الشعراء بأشعارهم، وكأنهم يريدون أن يستكملوا بالغناء نقص التعبير الموسيقي في أشعارهم بما يضيفون إليه من ذبذبات التغني ورناته المنتظمة وهو إحساس دقيق بأن الموسيقى لب الشعر وعماده الذي لا تقوم له قائمة بدونه»[3]. والصلة بين الشعر والموسيقى صلة وثيقة جداً، «ولا شك أن هناك منابع مشتركة بين الشعر والموسيقى تجعل منهما فنين متداخلين وإن اختلفت أدوات التعبير وطريقته في كل منهما، ولعل أهم تلك المنابع المشتركة الإيقاع والإيحاء، وعن طريق هذين العنصرين يستطيع الشعر أن يتسرب فينا، ويستطيع أن يتغلغل في نفوسنا إلى نقاط عميقة لا تتوصل إليها الكلمات مجردة من صفتها الموسيقية أو الإيحائية»[4].
وكان أزرا باوند يعلي كثيراً من قيمة الموسيقى في الشعر، ويزري كثيراً به إذا افتقدها، ويصف الشعراء الذين لا يهتمون بالموسيقى بالتفاهة، فالشعر عنده «هو تأليف الكلمات على الموسيقى، أما معظم التعريفات الأخرى له فهي مما يتعذر تبريره أو مما يتصف بالميتافيزيقية. وقد تختلف درجة الموسيقى أو قيمتها، بل هي تختلف، ولكن الشعر يذوي ويجف إذا هجر الموسيقى، أو على الأقل الموسيقى المتخيلة...، والشعراء الذين لا يهتمون بالموسيقى يكونون أو يصبحون شعراء تافهين، وأكاد أقول: إن الشعراء يجب ألا يكفوا على الإطلاق عن الاتصال بالموسيقى، أما الشعراء الذين لا يدرسون الموسيقى فهم شعراء معيبون...، لقد فات أوان منع الشعر الحر، ولكن من المفهوم أنه يمكن تحسينه، ويمكن على الأقل إيقاف القليل من المناقشات البلهاء والضيقة التي تقوم على الجهل بالموسيقى»[5]، ويعلق الأستاذ علي شلش على رأي باوند هذا قائلاً: «وهكذا يتضح حرص باوند الشديد على الموسيقى في الشعر باعتبارها ركيزة هامة من ركائزه، ولأن الشعر الحر في الإنجليزية بدأ بالتخفف التام تقريباً من الموسيقى، فقد عارضه كثيرون وقتها، وكان على رأسهم باوند وإليوت، ولكن باوند كان أكثر تحرراً وسعة صدر، فقد رفض في الشعر الحر تحرره من الموسيقى، ولكن اعترف به كأسلوب من أساليب كتابة الشعر»[6].
❊ ❊ ❊
ويبدو أن الشعر نشأ مع الغناء في عصور موغلة في التاريخ، «وأغلب الظن أنهما كانا مترابطين في أول نشأتهما ترابطاً وثيقاً، ثم انفصلا بمضي الزمن، ورقي كل منهما، وأصبحت له طبيعته الخاصة، ولا تزال طوابع هذه النشأة بارزة في الشعر، فلا يوجد شعر بدون موسيقى، وهي فيه تقوم مقام الألوان في الصورة، فكما أنه لا توجد صورة بدون ألوان؛ كذلك لا يوجد شعر بدون موسيقى وأوزان وأنغام»[7].
ويخبرنا تاريخ الأدب اليوناني أن الشعر اليوناني القديم نشأ في ظل الطقوس الدينية، فلقد «ظهر في عصور سحيقة من القسم الشمالي من بلاد اليونان بعض طقوس دينية تشتمل على قطع غنائية مقدسة، وهذا النوع من الغناء كان من أقدم المنتجات الأدبية اليونانية»[8].
وأقدم نماذج الشعر العربي التي وصلتنا جاءت موزونة مقفاة، ويبدو أن هذا الأمر ليس خاصاً بالشعر العربي، فهو عام يشمل الشعر العالمي كله الذي «لا يزال في جل الأمم موزوناً مقفى نرى موسيقاه في أشعار البدائيين وأهل الحضارة، ويستمتع بها هؤلاء وهؤلاء، ويحافظ عليه هؤلاء وهؤلاء»[9]. «وقد أكدت تجربة الإنسانية في كل العصور وكل اللغات أنه لا شعر بلا موسيقى»[10].
وحين أقام ابن رشيق الشعر على أربعة أركان هي: اللفظ والوزن والمعنى والقافية؛ قرر أن الوزن أعظم أركان الشعر وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة[11].
إن أهمية الموسيقى في الشعر أمر مقرر تصير به «أبرز الأدوات البنائية للشعر وأكثرها جوهرية لأنها هي التي تفرقه عن سواه من فنون القول إن لم تكن هي الفارق الوحيد...، فهي ليست زينة أو حلية خارجية تضاف إلى الشعر، ولكنها جزء من بنيته، ووسيلة من أقوى وسائل الإيحاء، وأقدرها على التعبير عن خفايا النفس الإنسانية ودفائنها»[12]. وقد رفع الأستاذ صالح جودت من قيمة أحمد شوقي لغنى موسيقاه، وجعله بهذا الغنى سيد القدامى والمحدثين، انطلاقاً من اقتناعه بأن الموسيقى أهم عناصر الشعر فقال: «إن شوقي هو سيد القدامى والمحدثين بموسيقاه الفنية، وأنا ممن يرون أن الموسيقى هي المادة الأولى في ملاط الشعر»[13].
إن حب الإنسان للموسيقى حباً فطرياً عميقاً، أمر مؤكد، كثير الشواهد مما يدل على أنها ساكنة في أعمق أعماقه، معجونة مع خلاياه وروحه وذوقه، لذلك يأنس الناس لحفيف الشجر، وخرير المياه، وأصوات البلابل، وزقزقة العصافير، ولذلك أيضاً وهذا هو الأهم نجد الطفل الرضيع الذي لم يتأثر بعد بالعالم الخارجي يحب الموسيقى ويطرب لها فينام على أهازيج أمه وأناشيدها. ولا يجهل أحد عرف شأن الأذان مع بلال رضي الله عنه أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اختاره من بين الصحابة ليكون المؤذن الأول لأنه أندى صوتاً من سواه.
ومن التفسيرات الطريفة لحب الإنسان للموسيقى ما قاله ابن عبد ربه: «وزعمت الفلاسفة أن النغم فضل بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه الروح»[14].
على أنه ينبغي لنا أن نتذكر أنه إذا كانت للموسيقى هذه القيمة في النفس الإنسانية عامة وفي الشعر خاصة بحيث لا يكون شعراً بدونها، فإن هذا الوجود اللازم لها في قصيدة ما لا يجعلها شعراً ذا قيمة إلا إذا امتلك الشاعر معها أدواته الفنية الأخرى من لغة وأسلوب وخيال، فإذا فقد ذلك تحولت قصيدته إلى نظم يشبه المتون العلمية التي ينظمها أصحابها شعراً ليسهل على طلبة العلم حفظها.
ومن أقوى الأمارات الدالة على الصلة اللازمة بين الشعر والموسيقى؛ أن الشعر العربي كان ينشد إنشاداً، ذلك أن الإنشاد يزيد من ثراء موسيقاه خلافاً لقراءته قراءة عادية، ولقد «أجمعت الروايات على أن الشعر العربي كان ينشد في أسواق الجاهليين فيهز قلوب السامعين هزاً، ويطرب القوم لموسيقى الإنشاد، وكان ينشد أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حضرة الخلفاء فيطربون له»[15].
إن «الإنشاد عنصر من عناصر الجمال في الشعر لا يقل أهمية عن ألفاظه ومعانيه، وحسن الإنشاد قد يسمو بالشعر من أحط الدرجات إلى أرقاها، كما أن سوء الإنشاد قد يخفض من قدر الشعر الجيد ويلقي على ألفاظه العذبة ومعانيه السامية ظلالاً تخفي ما فيه من جمال وحسن»[16].
❊ ❊ ❊
إن موسيقى الشعر العربي موسيقى غنية، وقد صار لها مع الزمن أثر ضخم جداً لا يمكن زحزحتها عن مكانتها فيه بسبب ثقله، وهو ثقل يستمد من بحور الشعر وهي كثيرة، خاصة إذا أضفنا إليها التنوع الذي يسمح به العروض داخلها، كما يستمد من ضخامة الكم الشعري الذي أبدعه شعراء العربية منذ أقدم العصور حتى الآن، ومن البعد الزمني الذي يمتد إلى ألف وخمس مئة عام على الأقل، لذلك كله سكنت هذه الموسيقى في وجدان العربي بحيث صار تفاعله معها كبيراً جداً واستجابته لها حية، ومن أجل هذا نجد بعض الشعراء الذين اشتهروا بالشعر الحر يلجؤون في القصائد التي تلقى في احتفالات عامة إلى الأوزان الخليلية لإحساسهم بأنها أدعى إلى كسب الجمهور والتفاعل معه.
وإن من أهم الشواهد الدالة على غنى موسيقى الشعر العربي أن أمماً عريقة في التاريخ اختارت لنفسها أوزان العرب، «فقد اختار شعراء اللغات الفارسية والعبرية والأوردية أن ينظموا بلغاتهم في أوزان العروض العربية، وفضلوها على أوزانهم القديمة، لأنها أسهل منها، وأجمل في موقعها من الأسماع والنفوس»[17].
صحيح أن الشاعر العربي أحس بثقل القيود العروضية، وطمح إلى التجديد، وقام بمحاولات يتفاوت نجاحها وإخفاقها منذ أبدع الأندلسيون شعر الموشحات إلى يومنا الحاضر حيث نعيش معركة الشعر الحر، ولكن بحور الشعر العربي ظلت قوة هائلة لا يمكن لأحد أن يهدمها، وظلت محاولات التجديد في أحسن حالاتها جدولاً صغيراً إزاء نهر عظيم، والجدول مهدد بالجفاف، أما النهر فدائم الجريان. ومن أصدق الأقوال في هذا المجال، قول الشاعر السوري سليمان العيسى، وهو من الذين نظموا كثيراً في الشعر الحر: «إني لأرى -ويشاركني في هذا الرأي كثيرون- أن منابع النهر ما تزال أقوى وأغنى من مصبه حتى الآن، وأن شعرنا الجاهلي ما يزال النموذج الجدير بأن نعود إليه ونغترف منه ونتتلمذ عليه إذا أردنا حقاً أن نكون كتاباً وشعراء مجيدين»[18]. ويزيد من قيمة هذه الشهادة أن صاحبها شاعر كبير سناً ومكانة وثقافة، وأنه شاعر مجيد في الشعر الحر، وفي الشعر الذي يلتزم قواعد الخليل العروضية على السواء.
وحين قرر الدكتور عز الدين إسماعيل أن للشعراء العذر في رغبتهم من التخفف من قوالب الموسيقى القديمة، لم يفته أن يقرر أيضاً أن استقرار هذه الموسيقى عميق في وجداناتهم وضمائرهم، الأمر الذي يدل على إحساسه العميق بقوة موسيقى الشعر العربي وامتدادها الزماني لأكثر من ألف عام، وامتدادها النفسي في أعمق خلايا الذوق العربي ومكوناته، يقول: «إن الشعراء أحسوا بوطأة الموسيقى الشعرية على أنفسهم، وأحسوا أن مشاعرهم ووجداناتهم لا يمكن حصرها في تلك البحور العروضية المرصودة وكل مشتقاتها، وأنهم في حاجة، كيما يعبروا عن الموسيقى التي تنغمها مشاعرهم المختلفة إلى شيء من التخفف أو إن شئنا الدقة إلى شيء من التعديل في الفلسفة الجمالية التي تسند تلك القوالب الموسيقية القديمة، غير أن استقرار تلك الفلسفة الجمالية في ضمائر الشعراء لكثرة ما قرؤوا من الشعر التقليدي وما نظموا على نسقه حالت دون الخروج الحقيقي على تلك القوالب، الخروج الذي يفلسف موسيقى الشعر فلسفة تأخذ في الاعتبار الأول قيمة الإيقاع النفسي للنسق الكلامي لا صورة الوزن العروضي للبيت الشعري»[19].
والدكتور يوسف عز الدين ينتهي إلى رأي مطابق لرأي الدكتور عز الدين إسماعيل يقرر فيه قوة الموسيقى في الشعر العربي، وتغلغلها في ذوق العربي وكيانه، خلافاً للشعر الغربي الذي يرتبط بحضارة ذويه، ويختلف عن الفن العربي، فيقول: «إن الموسيقى التي جمع قواعدها الفراهيدي، تمثل ذوق الأمة العربية وموسيقاها الداخلية العميقة، وقد ارتبطت بالكيان الداخلي لها، وشعر الغرب مرتبط ارتباطاً جذرياً بحضارته ومشكلاته، فهو في فنه يختلف جذرياً عن الفن العربي الذي وصل مرحلة عالية في الخط والعمارة والشعر والموسيقى»[20].
إن للشعراء أن يجددوا في الموسيقى، وفي سواها، ولكنهم مطالبون بأن يأتوا ببديل تأنس إليه الأذن العربية، وسواء أتيح لهم ذلك أم لم يتح؛ ستظل أوزان الخليل قوة هائلة ضاربة الجذور في التراث العربي، وستظل الأذن العربية تأنس إليها وتطرب لها لرصيدها الهائل من ناحية، ولغناها وتنوعها من ناحية أخرى.
❊ ❊ ❊
إن التجديد سنة الحياة، لكن التجديد الباقي هو الذي يتحرك من خلال أفضل عناصر القديم محاولاً أن يضيف إليه قيمة جديدة جديرة بالتقدير، ومن هنا فلا معنى للدعوات التي تدعو إلى إلغاء الأوزان والقوافي، لأنها ثابتة ثباتاً هائلاً أشار إليه الدكتور عز الدين إسماعيل والدكتور يوسف عز الدين، ولأنها تمتلك ثروة موسيقية غنية ومتنوعة، جعلت الأستاذ العقاد يقرر «أن أوزان العروض العربية على إحكامها وإتقانها سهلة الأداء قابلة للتوسع والتنويع إلى الغاية المطلوبة في كل موضوع يتناوله الشعراء»[21]، كما جعلت نازك الملائكة وهي شاعرة وناقدة تقول: «ولعل في تسمية الأوزان بالبحور ما يوحي لنا بالسطح الواسع، والعمق الهائل لمن يدرك كيف يعوم فيستخرج منه الجديد والغريب فضلاً عن المعنى المعروف. وآية ما ندعيه من مرونة الأسس النقدية في أدب العرب، وخصب الذهنية العربية، وقابليتها التطورية، ما عرفناه من تجديدات في المضمون والشكل طرأت على الشعر العربي بعد تاريخه المسجل بفترة وجيزة»[22].
ولذلك لا يتردد الأستاذ العقاد في وصف الدعوة إلى إلغاء الأوزان والقوافي بأنها دعوة هدامة تلحق بالدعوات المماثلة لها التي تسعى إلى اقتلاع التراث وإشاعة الفوضى في الآداب والعقائد والأخلاق، فيقول: «فإذا تجددت الدعوة إلى النظر في القوافي والأعاريض فالذين يطلبون إلغاءها يثبتون بذلك عجزهم عن موازنة النظم الذي يستطيعه العامة والأميون، ولا خير للآداب العربية في عمل فني يتصدى له من لا يقدرون عليه، ومن لم يخلقوا له، ومن ليس عندهم فيه استعداد فطري يضارع استعداد شعراء الربابة وناظمي القصص الهلالية وما إليها. فإن لم يكن طالب القضاء على فن العروض العربي عاجزاً هذا العجز المعيب في مقاصده الفنية فهو طالب هدم صريح لغرض غير صريح، ولكنه كذلك غير مجهول، لأنه يلحق في هذا العصر بمن يهدمون كل تراث، ويقتلعون كل أساس، ولا يقنعون بشيء دون فوضى الآداب والعقائد والأخلاق»[23]. كما لا يتردد بدوي الجبل وهو شاعر كبير في أن يقرر «أن الوزن في الشعر العربي قطعة لا تتجزأ منه، وكل عبث بالأوزان هو عبث بالشعر وعبقريته وإلهامه»[24].
أما الدكتور شوقي ضيف فإنه يشيد كثيراً بموسيقى القصيدة العربية الموروثة وغنى ألحانها، ويقرر أن المعول عليه في الأمر هو العثور على الشاعر القادر على الانتفاع منها، فيقول: «إن موسيقى القصيدة الموروثة زاخرة بإيقاعات وأنغام لا تكاد تحصى، وإن كل ما في الأمر أنها تحتاج إلى عازفين مهرة يجيدون العزف على أوتارها عزفاً تفيض فيه أنغامها بنفس مسافات الزمن وذبذبات الصوت ورناته التي طالما راعتنا عند شعرائنا المشهورين في القديم والحديث»[25]، ويرفع الدكتور شوقي من موسيقى الشعر العربي كثيراً بحيث يجعلها تتفوق على موسيقى أي شعر آخر فيقول: «ولعل موسيقى شعر لم تنتظم نسبها وتتكامل كما تكاملت وانتظمت في شعرنا العربي منذ أقدم عصوره، إذ تتساوى الحركات والسكنات في كل بيت من القصيدة ملتقية دائماً عند قافية توثق وحدة النغم، وتتيح الفرصة للوقوف على أي بيت وترديده على السمع»[26].
ويقدم الدكتور شوقي ضيف شواهد تاريخية على قوة الموسيقى في الشعر العربي وغناها ودقتها بحيث انبهر بها كثير من الشعوب التي أظلتها راية الفتح الإسلامي واللغة العربية وشعرها، فيقول: «ولم تعرف لغة من اللغات القديمة كل هذا النظام الدقيق للشعر وإيقاعاته واختتام هذه الإيقاعات بالقوافي، ولعل ذلك كان أهم سبب في أن الشعر العربي ظفر بكل شعر لقيه بعد الفتوح الإسلامية، فلم يثبت له الشعر الفارسي ولا غير الشعر الفارسي مما اصطدم به في طريقه الطويل من الهند والصين إلى جبال البرانس في إسبانيا، بل كان كل شعر يلقي له عن يد، إذ هو بحر متلاطم من النغم كل من يقف على شطآنه يأخذه الانبهار والعجب. وبمجرد أن تعرب الفرس وغيرهم من الأمم الإسلامية أخذوا يخوضون عبابه، وكل منهم يحمل نفس القيثارة العربية البدوية يلحن عليها خوالجه وشجونه، غائصاً في ذلك التيار الموسيقي البهيج، شاعراً بروح منه تسري في أعطافه، وسرعان ما اندمجوا في التيار، فضبطوا نغمهم على نغمه، وأدوا به حركات نفوسهم وخوالجها أداء رائعاً»[27].
وإذا كانت بحور الشعر العربي غنية بموسيقاها، فإن القوافي تزيدها غنى وثراء ووقعاً حيث تحتل في الشعر العربي قديمه وحديثه مكانة مهمة، وهي قرينة الوزن وأخته وقرارته في البيت الواحد. ومن قديم قرر ابن رشيق أن القافية شريكة الوزن في الاختصاص بالشعر الذي لا يسمى شعراً حتى يكون له وزن وقافية[28]، ومع كل ما تعرض له الوزن والقافية من نقد بحق وبغير حق فإنهما «يظلان الأساس الأصيل الذي لا يقوم بناء القصيدة العربية التقليدية إلا عليه»[29]، ولذلك «ظل للقافية والوزن سلطانهما في الشعر العربي لدى الكثرة الغالبة من الشعراء حتى العصر الحديث، وفي هذا العصر لا يزال بعض المجددين من الشعراء يلتزمهما»[30]. وهذا الثقل الكبير للقافية والوزن جعل الدكتور يوسف خليف وهو أكاديمي عريق وناقد ذواقة وشاعر أيضاً يقرر في مقدمة ديوان «نداء القمم» أن «الوزن والقافية ركنان أساسان من أركان القصيدة العربية أو قاعدتان لا يمكن أن يقوم بناؤها إلا عليهما»[31].
والقافية «ترنيمة إيقاعية خارجية، تضيف إلى الرصيد الوزني طاقة جديدة، وتعطيه نبراً وقوة جرس، يصب الشاعر فيها دفقه، حتى إذا استعاد قوة نفسه بدأ من جديد كمن يجري إلى شوط محدد حتى إذا بلغه استراح لينطلق من جديد، وقد نسبت قصائد بأكملها إلى روي القافية وهو «الحرف الأخير»؛ فقيل: «لامية العرب، وبائية النابغة، وميمية زهير، وسينية البحتري، وميمية البوصيري، وهمزية شوقي»[32].
وقدم القافية في الشعر العربي مماثل لقدم الوزن، والنماذج الأولى للشعر العربي جاءتنا موزونة ومقفاة، يضبط البحر وزن البيت، وتضبط القافية آخره، وربما كانت متطورة عن نهايات الأسجاع في النثر.
ويمكن أن نجد للقافية جملة فوائد موسيقية، فهي تحقق إيقاعاً خارجياً منتظماً تستسيغه الأذن وتألفه وتتوقعه، وهي تشكل الحد الذي ينتهي معه بيت الشعر ويستقل كوحدة شعرية متكاملة، وهي تكمل الإيقاع الخارجي للوزن وتضيف إليه وتنوع فيه، وهي تعين الشاعر على الموالاة والتدفق وصب الانفعال في قالب محدد، وهي تعين المتلقي أيضاً على ذلك خاصة إذا كان ممن يتفاعلون مع الشعر ويعرفون خصائصه الموسيقية، وهي أخيراً قرارة الموجة الموسيقية المتحكمة في ذبذبات النغم المتتابع، والمحطة الأخيرة التي تختم موسيقى كل بيت وتقفله.
ويعرف كل من عايش الشعر العربي وتفاعل معه وتذوقه أن تكرار القافية في آخر كل بيت من أبيات القصيدة يبني مركزاً صوتياً يحقق اتساق النغم وانسجامه ووحدته، وينم عن حدوثه مكرراً في نهاية كل بيت بطريقة تجعل الإنسان يتوقعه ويأنس إليه، ولذلك يمكن أن يعد البيت الأول من القصيدة العربية بمثابة المفتاح الموسيقي لكل القصيدة، تعرف به الأذن كلاً من الوزن والقافية، وتتهيأ لاستقبالهما والتناغم معهما، وكأنه المرشد الذي يتبعه مَنْ وراءَه على نفس الخطا والطريق.
ومن قديم عُنِي النقاد بالقافية واعتدوا بها، ولم يسموا الشعر شعراً حتى يمتلكها مع الوزن[33]. ونبه ابن طباطبا على أن الشاعر عليه أن يختار القوافي التي توافقه[34]، واشترط قدامة أن تكون القوافي عذبة الحرف، سلسة المخرج[35]. ونصح أبو هلال العسكري من يريد عمل الشعر أن يختار قافية تحتمل معانيه[36]. واشترط المرزوقي على الشاعر شدة اقتضاء المعنى واللفظ للقافية، وأنها يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوفها المعنى بحقه، واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقة في مكانها، مجتلبة لمستغن عنها[37].
كما قسم النقاد القوافي إلى قوافٍ مطلقة، وأخرى مقيدة[38]. وقد سميت القافية باسمها لأن بعضها يقفو بعضاً أخذاً من قولك: قفوت فلاناً إذا تبعته[39].
«وللقافية تعاريف مختلفة أشهرها اثنان: الأول أنها حرف الروي، أي الحرف الذي يتكرر في آخر كل بيت من أبيات القصيدة، وهذا التعريف قاله ثعلب، ولم يأخذ به علماء العروض بعده، ولكنه لا يزال هو المفهوم الشائع للقافية، ومعظم الدواوين القديمة مرتبة أبواباً على حسب حروف الروي، وهي تسمي ذلك القافية. أما التعريف الثاني الثابت في كتب العروض فهو أنها من آخر حرف في البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبله وهو تعريف الخليل. ولنا أن ندهش لأن الخليل حين صاغ هذا التعريف المعقد لم يلتفت إلى فكرة المقطع، فلو قد التفت إليها لأصبح تعريف القافية عنده أنها المقطع الشديد الطول في آخر البيت أو المقطعان الطويلان في آخره مع ما قد يكون بينهما من مقاطع صغيرة»[40].
ومع التسليم بأن تعريف الخليل للقافية هو التعريف الذي اعتمدته كتب العروض، فلعل الأصوب أن يكون حرف الروي هو القافية، ذلك أن تعريف الخليل تعريف معقد كما ذكر الدكتور شكري عياد، وأن معظم الدواوين القديمة مرتبة أبواباً على حسب حرف الروي، وهي تسمي ذلك القافية كما ذكر الدكتور عياد أيضاً، ومن قديم رأى ابن عبد ربه أن القافية هي حرف الروي الذي يبنى عليه الشعر، ولا بد من تكريره فيكون في كل بيت[41].
فإذا جمعنا ما قاله ثعلب، إلى ما قاله ابن عبد ربه، إلى ترتيب الدواوين القديمة وفق حروف الروي، إلى تعقيد التعريف الذي جاء به الخليل واعتمده علماء العروض جاز لنا أن نقول: إن التعريف المقرر للقافية في كتب العروض، هو بمثابة تعريف «رسمي» له صبغته القانونية التي يحتل بها مكانه في المقررات المدرسية، أما القول بأن القافية هي حرف الروي فهو الأمر الشائع من الناحية العملية.
ومن المعروف أن القافية تعرضت في العصر الحديث لهجوم شديد وصل بعضه إلى المطالبة بإلغائها بحجة أنها قيد يغل حركة الشاعر ويضعفها، وإذا صح قبول الدعوة إلى التنويع في القوافي دون حجر على من يصر على وحدة القافية، فإنه لا يصح أبداً أن نقبل الدعوة إلى إلغاء القافية، أولاً بسبب امتلاكها لثروة موسيقية يحسن بنا أن نحافظ عليها، وثانياً لاستحالة ذلك لأنه يقوم على مصادرة أذواق الآخرين والإصرار على صبها في قالب واحد، وثالثاً لأن للقافية بعداً عميقاً في وجدان العربي يمتد أكثر من خمسة عشر قرناً.
يرى الأستاذ عباس محمود العقاد في سياق دعوته للحفاظ على القافية والرد على القائلين بإلغائها أن دعوة النظر في تعديل أوزان الشعر العربي والاستغناء عن القافية نشأت بعد اطلاع قراء العربية على تاريخ الأدب المقارن بين اللغات، وابتداء حركة الترجمة من اللغات الأوربية، عند منتصف القرن التاسع عشر، وأن خطأ هذه الدعوة ظاهر لمن يكلف نفسه قليلاً من البحث في حقيقة الصعوبة التي يتوهمونها للأوزان العربية، ويحسبونها حائلاً دون الشاعر وما يختاره من موضوعات النظم، على اختلافها بين آدابنا وآداب الأمم الغربية، ذلك أن شعراء العامة لم يتعذر عليهم أن ينظموا الملاحم أو يتخللوها بالقصائد الموزونة المقفاة في القصص المطولة من قبيل قصص الزير سالم، والغزوات الهلالية، وأخبار النبي أيوب عليه السلام، وحكايات البطولة والغرام في اللهجات الدارجة، وكلها تنظم في بحور العروض وتلتزم فيها القافية، ويقدر عليها شعراء أميون لم يدرسوا الأدب، ولم يتعلموا وزن الشعر، ولم يرجعوا في منظوماتهم وموضوعاتهم إلى غير السليقة والسماع. وقد نظمت المسرحيات وترجمت الإلياذة وغيرها من أشعار الملاحم فاتسع لها الشعر العربي بعروضه وقوافيه. والثابت من تجربة الناظرين في تعديل الأوزان منذ ستين سنة أن إلغاء القافية كل الإلغاء يفسد الشعر العربي ولا تدعو إليه الحاجة. ويذكر العقاد ثلاثة من أعلام الأدب العربي الحديث اشتركوا في تجربة إلغاء القافية وهم توفيق البكري من القاهرة، وعبد الرحمن شكري من الإسكندرية، وجميل صدقي الزهاوي من بغداد، ولم يكتب لتجربتهم النجاح[42].
❊ ❊ ❊
وتتكون موسيقى الشعر العربي من نوعين، الأول وهو الموسيقى الخارجية التي يحكمها العروض والقافية، والثانية وهو الموسيقى الداخلية، وهذه الموسيقى لا يحكمها علم لذلك يصعب تعريفها تعريفاً دقيقاً، ويمكن أن يقال عنها: إنها الموسيقى التي تتأتى من الحروف والألفاظ والجمل، وما فيها من اختيار وتلاؤم وتقابل وعلاقات تحدث قيماً صوتية إضافية تزيد موسيقى القصيدة وتغنيها وتنوع فيها. وإذا كانت هذه الموسيقى غير منضبطة ضبطاً دقيقاً فإنها متروكة للشاعر تماماً، يظهر فيها ذوقه واختياره، وتظهر فيها براعته وقدرته، لذلك كان مجال التمايز فيها بين الشعراء كبيراً لأن لهم آذاناً أقدر على الإحاطة بالموسيقى من سواهم، ذلك «أن موسيقى الشعر لم يضبط منها إلا ظاهرها وهو ما تضبطه قواعد علمي العروض والقوافي. ووراء هذه الموسيقى الظاهرة موسيقى خفية تنبع من اختيار الشاعر لكلماته، وما بينها من تلاؤم في الحروف والحركات، وكأن للشاعر أذناً داخلية وراء أذنه الظاهرة تسمع كل شكلة وكل حرف وحركة بوضوح تام. وبهذه الموسيقى الخفية يتفاضل الشعراء. ولعل شاعراً عربياً لم يستوف منها ما استوفاه البحتري، ولذلك كان القدماء يقولون: إن بشعره صنعة خفية، فشعره أصوات جميلة وغناء مطرب، وقلما وجدنا عنده تجديداً في المعاني، ولكن دائماً نجد عنده الأصوات المعجبة والألفاظ الجميلة، فهو بلبل الشعر العربي يصدح دائماً بأنغامه»[43].
هذه الصنعة الخفية التي أشار إليها الدكتور شوقي ضيف هي ثمرة الموسيقى الداخلية التي ظهرت فيها قدرة البحتري، وإلا فإن البحور التي نظم فيها البحتري هي نفسها التي نظم فيها الآخرون.
ويرى الدكتور محمد فتوح أحمد أن الموسيقى الداخلية أرحب من الوزن والنظم المجردين[44]، ويستمد رأيه قيمته من أن الموسيقى الخارجية مضبوطة بقواعد مقررة خلافاً للموسيقى الداخلية التي تقوم كلياً على ذوق الشاعر وخبرته.
ويرى الدكتور النعمان القاضي أن الموسيقى الداخلية «تتجلى في مقومات إيقاعية في بنية الشعر تشمل البحر والوحدة العضوية، سواء كانت جملة أو كلمة أو مجموعة مؤتلفة من الحروف ذات الجرس المميز»[45]، وأن هناك «عدة مصادر تنبع منها الموسيقى الداخلية، وهذه المصادر بتآلفها وانسجامها مع الموسيقى الخارجية تكون التشكيل الموسيقي الذي هو جوهر الشعر»[46]، وأن الإطارين الموسيقيين للقصيدة، الإطار الخارجي والإطار الداخلي «لا يعملان كلٌّ على حدة، ولكنهما يتفاعلان ويتآزران في تكامل بنائي ينتج عنه إيحاء شعوري مؤثر، وهكذا لا يمكن الفصل بينهما إلا لمجرد الدرس...، وهكذا فإن الشعر لا يمكن أن يكون شعراً إلا بوجودهما مجتمعين»[47]. ويحاول أن يحدد أهم مصادر الموسيقى الداخلية فيقول: «ولعل أهم تلك المصادر ألوان البديع الصوتي كالتكرار والجناس، ورد العجز على الصدر، وحسن التقسيم والتصريع والتنوين، وإشباع حركات الإعراب، وغير ذلك من ألوان التآلف النغمي التي تشكل الموسيقى الداخلية للشعر، وهذه العناصر قد تجتمع كلها أو بعضها في النص فيكون لحسن التأليف بينها أثر واضح في حلاوة وقعه، وحسن استقبال الآذان له، ويفيد التكرار النغم قوة وعمقاً سواء أكان ذلك خاصاً بالحروف أو بالكلمات أو بالعبارة، وهو ما يعرف برد العجز على الصدر، والجناس شعبة من شعبه، والتكرار أصلاً عنصر موسيقي ووسيلة من وسائل الموسيقى يقصد به إلى التأثير والتعميق»[48].
ويعلي الدكتور الطاهر أحمد مكي من قيمة الموسيقى الداخلية التي لا يستطيع الناقد العادي معرفتها فيقرر «أن بعض ألوان الموسيقى تستعصي على علم العروض، فقد يتفق البيتان وزناً ويختلفان إيقاعاً، لأسباب ترجع إلى بناء الجملة، أو طبيعة الحروف المتجاورة، وهو ما اصطلح على تسميته بالموسيقى الداخلية، وإدراك أسرارها يعز إلا على الناقد المتمكن»[49].
❊ ❊ ❊
ترى هل من علاقة ثابتة بين الأغراض والأوزان تجعل الشاعر يلجأ بالضرورة إلى اختيار بحر معين ليصب فيه تجربته، بسبب إحساسه أن هذا البحر أقدر على إيصالها من سواه؟
هذه القضية جديدة قديمة شغلت النقاد القدامى والمحدثين.
ذكر ابن طباطبا أن الشاعر إذا أراد بناء قصيدة محَّص المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه[50].
واشترط أبو هلال العسكري لعمل الشعر أن تطلب لمعانيه وزناً يتأتى فيه إيرادها[51].
وأكد المرزوقي -وهو يتحدث عن عمود الشعر- ضرورة التحام أجزاء الشعر والتئامها على لذيذ الوزن[52].
وكما شغلت هذه القضية القدماء، شغلت المحدثين، فوجدنا منهم من يربط أغراض الشعر بأوزانه، مثل سليمان البستاني[53]، وجورج غريب[54]، وأحمد الشايب[55]، وأحمد أمين[56]، وعلي الجندي[57]، وعبد الله الطيب المجذوب[58]، وزكي المحاسني[59].
وخلاصة ما تنتهي إليه آراء النقاد الذين اختاروا هذه الوجهة هي «تحديد طابع نفسي لكل وزن أو مجموعة من الأوزان الشعرية، فبعض الأوزان يتفق وحالة الحزن، وبعضها يتفق وحالة البهجة؛ وما إلى ذلك من أحوال النفس، وعلى هذا فالشاعر حين يعبر عن نفسه خلال الوزن المعين إنما يختار لنفسه أكثر الأشكال الطبيعية تناسباً مع حالته الشعورية، وعندئذ يمكن أن يقال: إن الوزن رغم أنه صورة مجردة، يحمل دلالة شعورية عامة مبهمة، ويترك للكلمات بعد ذلك تحديد هذه الدلالة»[60].
ولكن هذه الأحكام النقدية على الرغم مما فيها من منطق مقبول وحجج مبررة، يعسر على الدارس أن يتلقاها ويعممها تعميماً مطرداً، فذلك ما يأباه الشعر العربي، وذلك ما يأباه تنوع الشعراء. وقد أحسن الدكتور النعمان القاضي إذ رأى أنها تنحو نحواً متعسفاً، وربطها بالحالات لا بالأغراض، يقول في صدد تقويمه لهذه الأحكام: «وعلى الرغم مما يبدو في هذه الأفكار من منطقية ووجاهة إلا أنها تنحو نحواً متعسفاً إلى حدٍّ ما؛ إذا ما قرنت وزناً بعينه بمعنى خاص أو بعاطفة بعينها، ولكن الأقرب إلى المنطق والطبع أن تختص ألوان المعاني والحالات النفسية بألوان بعينها من الإيقاع، فلا يمتنع آنذاك أن يفرغ الرثاء في البحور القصيرة والغزل في البحور المديدة النغم، ويزكي هذه الفكرة أن كل المحاولات القديمة والحديثة لم تصل إلى نتائج يقينية موثوقة، ولا تزال فرضية قابلة للمناقشة، كما يزكيها أيضاً أن شعراءنا القدامى على مر العصور قد طوعوا أوزان الشعر المختلفة لتحمل أغراضه وفنونه العديدة»[61].
ويعود الدكتور النعمان القاضي مجدداً ليؤكد أنه «ليس ثمة ارتباط بين الموضوع الشعري ووزنه، وإنما الرباط الحقيقي هو بين الموضوع والإيقاع الذي يمثل حركة النفس وحالاتها، ومناسبة الإيقاع لقدر المشاعر التي تعتلج في شعور الشاعر لدى تصديه لبناء قصيدته، فالموضوع يختار إيقاعه ودرجة تدفق نغماته ليستكمل بذلك تشكيله الذي لا تنهض به اللغة وحدها في التأثير على متلقيه فتأثير الإيقاع الموسيقي للشعر إذن لا يرد في النهاية إلى إدراكنا لنغمات خارجية تؤثر في أجسادنا تأثيراً مادياً، وإنما يرد إلى أن نفوسنا هي التي يحدث فيها هذا التنغيم، فكل نغمة في تجربة فنية ما تؤثر في إدراكنا، وترتفع معها نغمات عاطفية في قلوبنا سالكة نفس الطريق الذي صدرت خلاله عن نفس الشاعر»[62].
والدكتور عز الدين إسماعيل يتحفظ إزاء هذه الأحكام لأن «عملية استقراء لمجموعة من القصائد تدلنا في وضوح على أن الشعراء قد عبروا في الوزن الواحد عن حالات انفعال مختلفة، بل لقد عبروا عن حالات الحزن والبهجة في الوزن نفسه، وأذكر هنا على سبيل المثال مرثية شوقي التي مطلعها:
الضــــلوع تتقـــدْ والدموع تطـــردْ
أيها الشجي أفــقْ من عناء ما تجــدْ
وفيها تتضح النغمة الحزينة، ثم أذكر قصيدته المشهورة في وصف مرقص ومطلعها:
حف كأسها الحبب فهي فضــــة ذهب
وهي قصيدة تشيع منها البهجة، والقصيدتان مع ذلك من وزن واحد، وفي هذا تأكيد على أن الوزن المجرد نفسه لا يحمل أي دلالة خاصة، وإنما تحدد دلالته فيما بعد عناصر موسيقية أخرى ترتبط بنوع الإيقاع ودرجته»[63].
ويقوم الدكتور عز الدين إسماعيل بعملية استقراء خاص ينتهي منه إلى القول: «وأستطيع أن أقرر من استقرائي الخاص أن هذه الأوزان جميعاً وغيرها مما لم أذكر تشترك في خاصة واحدة هي أنها ليست لها خصائص، ولا تتحدد لها خصائص إلا بعد أن يخرج فيها الشعر، وهذه الخصائص ليست ثابتة، وإنما هي تتغير مع كل شعر جديد يوضع فيها»[64].
ويعود الدكتور عز الدين إسماعيل ليؤكد النتيجة السابقة، مع إضافة جديدة، وهي ربط الأوزان بالحال النفسية للشاعر ملتقياً في ذلك مع ما انتهى إليه الدكتور النعمان القاضي؛ «ولو أجرينا عمليات تحليل مماثلة على الأوزان الأخرى لخرجنا في كل مرة بنفس الحقيقة، ومن ثم تكون لكل قصيدة نغمتها الخاصة التي تتفق وحالة الشاعر النفسية»[65].
ويربط الدكتور إبراهيم أنيس بين الأغراض والأوزان فيقول: «وفي الحق أن النظم حين يتم في ساعة الانفعال النفساني يميل عادة إلى تخير البحور القصيرة وإلى التقليل من الأبيات»[66]، ويتحدث مرة ثانية بشيء من التعليل رابطاً بين الحالات النفسية والأوزان: «على أننا نستطيع -ونحن مطمئنون- أن نقرر أن الشاعر في حالة اليأس والجزع يتخير عادة وزناً طويلاً كثير المقاطع يصب فيه من أشجانه ما ينفس عنه حزنه وجزعه، فإذا قيل الشعر وقت المصيبة والهلع تأثر بالانفعال النفسي، وتطلب بحراً قصيراً يتلاءم وسرعة التنفس وازدياد النبضات القلبية، ومثل هذا الرثاء الذي قد ينظم ساعة الهلع والفزع لا يكون عادة إلا في صورة مقطوعة قصيرة لا تكاد تزيد أبياتها على عشرة. أما تلك المراثي الطويلة فأغلب الظن أنها نظمت بعد أن هدأت ثورة الفزع، واستكانت النفوس باليأس والهم المستمر»([67].
على أن الرأي الذي ينتهي إليه الدكتور إبراهيم أنيس من استعراضه الشعر العربي القديم هو رفض الفكرة التي تربط الأوزان بالموضوعات فيقول: «هل اتخذ القدماء لكل موضوع من الموضوعات وزناً خاصاً أو بحراً خاصاً من بحور الشعر التي رويت لنا؟ إن استعراض القصائد القديمة وموضوعاتها لا يكاد يشعرنا بمثل هذا التحيز أو الربط بين موضوع الشعر ووزنه، فهم كانوا يمدحون ويفاخرون ويتغزلون في كل بحور الشعر التي شاعت عندهم»[68].
وأما الدكتور شوقي ضيف فله في القضية رأيان قديمٌ وجديدٌ، أما الرأي القديم فإنه يربط فيه بين الموضوعات والأوزان حيث يرى «أن الحركات القصيرة تجعل البحر سريعاً بخلاف الطويلة فتجعله بطيئاً، وتلائم الأولى الموضوعات العنيفة، بينما تلائم الأخرى الهدوء والحزن وما إليهما»[69].
وأما رأيه الجديد فهو ينقض فكرة ربط الموضوعات بالأوزان من أساسها فيقول: «ولا بد أن نشير هنا إلى أننا لا نؤمن بما ذهب إليه بعض المعاصرين من محاولة الربط بين موضوع القصيدة والوزن الذي تنظم فيه، فحقائق شعرنا تنقض ذلك نقضاً تاماً، إذ القصيدة تشتمل على موضوعات عدة، ولم يحاول الشعراء أن يخصصوا الموضوعات بأوزان لها، لا تنظم إلا فيها، فكل موضوع نظم في أوزان مختلفة، وكل وزن نظمت فيه موضوعات مختلفة»[70].
ويمكن للدارس أن يقرر أن الرأي الجديد للدكتور شوقي ضيف هو رأيه الذي اعتمده لسببين، الأول: أن الجديد ينسخ القديم، والثاني: أنه يمثل نضوجه الذي تأتى له من معرفته العميقة بالشعر العربي، وقضاياه وأعلامه ورموزه ومدارسه وأغراضه وهو ما بدا واضحاً في تأريخه الموسوعي للأدب العربي، إذ الرأي القديم رأيه في مرحلة الشباب ورأيه الجديد رأيه في مرحلة الاكتمال.
أما الدكتور السعيد الورقي فإنه ينتهي إلى أن استقراء الشعر العربي يؤدي إلى رفض الفكرة التي تربط أوزاناً معينة بموضوعات معينة، فيقول: «ولكن إخضاع الشعر العربي لأبسط عملية استقراء سوف تثبت لنا أن الشاعر العربي كان يعبر عن عواطف شتى متباينة في قصائد عديدة مستخدماً في ذلك بحراً واحداً دون أن يحدث خلل في تعبيره نتيجة استخدامه أحد البحور التي لا تصلح لهذا الغرض كما تريد أن تقول وجهة النظر السالفة[71].
ويرفض الدكتور إبراهيم السعافين الفكرة التي تربط الأوزان بالموضوعات لأنها تقوم على التعميم رغم الجهد الذي يبذله أصحابها في الدراسة والرصد والاستقصاء[72].
كما يرفض هذه الفكرة الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد الذي انتهى إلى أن «نظرة يسيرة في تراث الجاهلية الشعري تكفي لأن تكشف لنا عن زيف هذه الصلة بين الأوزان والمعاني»[73].
كما يرفضها الدكتور محمد فتوح أحمد الذي يرى «أن محاولة الربط بين وزن خاص وموضوع شعري بعينه محاولة لا تخلو من عنت ومصادرة»[74].
بعد هذا التطواف في آراء النقاد حيال الصلة بين الموضوعات والأوزان، بين مؤيد ومخالف، يمكن للدارس أن ينتهي إلى رفض الصلة التي تربط بين الموضوعات والأوزان، وهو ما انتهى إليه كل من الدكتور النعمان القاضي، والدكتور السعيد الورقي، والدكتور إبراهيم السعافين، والدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد، والدكتور محمد فتوح أحمد، والدكتور عز الدين إسماعيل، والدكتور إبراهيم أنيس في رأيه الذي انتهى إليه بعد استعراضه للشعر العربي القديم، والدكتور شوقي ضيف في رأيه الثاني الذي يمكن أن يعد ناسخاً لرأيه الأول.
ولعل الأقرب إلى الصحة والإنصاف هو ربط الأوزان بالحالات النفسية للشعراء حين نظمهم لقصائدهم، وهو ما انتهى إليه الدكتور النعمان القاضي، والدكتور عز الدين إسماعيل، والدكتور إبراهيم أنيس، وهذا الرأي ينسجم مع استقراء الشعر العربي، مما يجعله أكثر موضوعية، كما أنه ينسجم مع طبيعة التجربة الشعورية التي يستحيل صبها في قالب واحد صارم كما لو كانت أنماطاً متكررة من بضاعة يخرجها مصنع واحد وفق مواصفات محددة ثابتة.
❊ ❊ ❊
اشتركت مجموعة من العوامل لتثري من موسيقى عمر أبو ريشة، فهو بادئ ذي بدء شاعر مطبوع بفطرته، لذلك أسعفته هذه الفطرة على النظم دون أن يحتاج إلى تعلم العروض. ولقد ذكر للأستاذ سيمون عواد في مقابلة أجراها معه أنه لا يزال يجهل أوزان الشعر وأسماءها وتفاعيلها حتى اليوم[75]، فقد بلغ الرجل ما بلغ ونظم على مدى أكثر من ستين عاماً دون أن يجد نفسه محتاجاً للعروض الذي أغنته عنه ملكته الفطرية، مثله في ذلك مثل الرائد العظيم محمود سامي البارودي الذي لم يتعلم العروض ولم يدرس علوم اللغة، إذ أغنته الملكة والطبع عن تعلم العروض، وأغنته القراءة في دواوين فحول شعراء العربية عن دراسة علومها.
وقد نبه ابن رشيق إلى أهمية الطبع للشاعر، فقال: «وقد ذكرت ما يليق ذكره بهذا الموضع ليعرفه المتعلم إن شاء غير متكلف به شعراً، إلا ما ساعده عليه الطبع، وصح له فيه الذوق، لأني وجدت تكلف العمل بالعلم في كل أمر من أمور الدين أوفق إلا في الشعر خاصة، فإن عمله بالطبع دون العروض أجود، لما في العروض من المسامحة في الزحاف، وهو مما يهجن الشعر، ويذهب برونقه»[76].
كما نبه إليه القاضي الجرجاني في كلام جيد محكم جمعه فيه إلى الرواية والذكاء والدربة، فقال: «أنا أقول أيدك الله إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان، ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم، والأعرابي والمولد»[77].
كما نبه إليه الأستاذ علي الجندي ونصح من لا يملك الطبع المواتي للشعر بالانصراف إلى سواه، فقال: «إن أساس الشعر الطبع، ولا ينفع مصنوع ما لم يكن مطبوعاً، وإذا عدم الإنسان هذه المنحة العلوية، فمن الحزم له أن يتجه إلى غيرها من الصناعات، فإن النفوس لا تحمل بالقوة على ما تكره، ولا تستجيب إلى غير دواعي الفطرة، وذلك كالزناد الخالي من النار، لا يوري مهما ألححت عليه بالقدح، وكالسيف الباتر لا يعمل إلا في يدي بطل!!»[78].
إن الطبع المواتي هو الخطوة الأولى التي يصبح بها الإنسان شاعراً، وهذا ما امتلكه عمر أبو ريشة قبل كل شيء، وكان زاده الأصيل الفطري في صناعة الشعر.
وهناك عامل آخر، هو انتماء الشاعر إلى أسرة للشعر فيها مكانة كبرى، ومعنى ذلك أنه أشرب حب الشعر، وأشرب أنغامه من وقت مبكر جداً. لقد كان أبوه شاعراً، وجده كان شاعراً، وأخوه كان شاعراً، وأخته كانت شاعرة، أما أمه فقد كانت تتذوق الشعر وتحفظ عشرات القصائد لأكابر الشعراء الصوفيين وتكثر من إنشادها، «فإذا كان للوراثة أثرها في نشأة الإنسان؛ ففي وسعنا أن نقول: إن الملكة الشعرية قد انتقلت إليه بالوراثة، وقد مست جذوة هذه الوراثة أكثر أفراد العائلة»[79]. ومما يتصل بهذا العامل أن لمدينة حلب التي عاش فيها الشاعر ردحاً طويلاً من عمره عناية خاصة بالموسيقى. ومن المعروف أن حلب كانت وما تزال مجمع البحاثة في أصول الموسيقى العربية الخالصة، وأن ولع الحلبيين بالموسيقى ولع قديم جديد.
أما العامل الثالث فهو الإرث الصوفي عند عمر، فوالدته «من أسرة عريقة في الصوفية، وأبوها شيخ الطريقة الشاذلية في فلسطين، والصوفية كما لا يخفى تحمل كثيراً من النغمات الشعرية، وفيها موسيقى وألحان، وهدوء مع عالم الروح في عالم غير هذا العالم، ولا يبعد أن يكون الشاعر قد أفاد من هذه الناحية بعض ما في روحه من صفاء وما في نفسه من شفوف»[80]. لقد نشأ عمر أبو ريشة في طفولته مع أخواله اليشرطيين في عكا، وهم طائفة صوفية، وقد تأثر «في سلوكه وشعره ونجاواه بأخواله اليشرطيين وبأناشيدهم الصوفية»[81].
وقد أشار عمر أبو ريشة نفسه إلى نشأته الصوفية، وإلى أثر ذلك في حياته وزناً وذوقاً وخيالاً ومعاناة، وذلك في مقابلة الأستاذ سيمون عواد له حيث قال له مجيباً عن أحد أسئلته: «أحلامي في الكبر هي امتداد لأحلامي في الصغر، نشأت في بيئة متصوفة، كنت وأنا طفل أستمع فيها إلى أناشيد لم أكن أسمع مثلها خارج تلك البيئة، كنت أرددها مع الأهل وأصدقاء الأهل دون أن أدرك أبعاد معانيها، كانت مع ذلك تنقلني إلى أجواء جمالية تتجلى فيها الذات الكبرى في أروع وأسنى التجليات، كانت تلك الأناشيد لكبار المتصوفين، أمثال ابن مشيش، وبحر الصفا وعلي وفا، وابن عربي، وعبد القادر الحمصين وابن زورق، وكان حلمي الكبير أن أصل إلى ما وصل إليه هؤلاء السادة في تجوالهم الروحي ومعاناتهم الحياتية، وما زلت أشعر بفيض من النشوة يغمرني عند أي ذكر لها ولإيقاعها الحنون. خذ على سبيل المثال قول الحمصي:
لاح بــــرق الذات من ذاك اللوا قد بدا حبي
وبه قد زال من عيني الشـوى وانجـلى قلبي
يـا ندامى كل من يصحبنــــا ما عليه بـــاس
سار في بحر الصفا مركبنا ريحه الأنفــاس
ليس يدري في الهوى مشربنا غير ذي قلب
كما أذكر قول بحر الصفا:
إني أنا شيء عجيب لمن رآني أنا المحب والحبيب ما ثم ثــان
كما أذكر قوله:
علم التوحيـد كشف العيـــون أصل التجريد هدم الحصون
حل التقييـــد جمع الشـــؤون عـز التــــأييـد أن لا تـــكون
وهكذا تعودت أذني على استساغة ألحان الشعر لكثرة ما كنت أردد تلك الأناشيد، ولطول ما كنت أصغي إلى ما كان يجرى بين أمي وأبي وأقاربي من مساجلات شعرية كانت تعرف «بمذاكرة الأنفاس»، فلم أكن في المستقبل بحاجة إلى تعلم الأوزان الشعرية»[82].
أما العامل الرابع فهو حب الشاعر لشعر الموشحات، ومن المعروف أن الموشحات أثرت موسيقى الشعر العربي ونوعت فيها وذلك بخروجها على نمط القصيدة العربية التقليدية وإضافتها عناصر جديدة لها بالتنويع في القوافي، والجمع بين البحور التامة والمجزوءة، والتغيير في أطوال الأشطر، وإذا عدنا إلى مسرحية الشاعر «ذي قار» وهي من أعماله المبكرة، التي نفدت طبعتها الأولى والوحيدة حتى صارت في حكم المطبوعات النادرة، وجدنا فيها موشحاً على لسان المنذر بطل المسرحية يقول فيه:
يا غراماً بين أحشائي نــما ورمـاني في بحور التعس
أتـــرى تهجر قلباً مُكْـــلَما يتلظى في سعيـــــر النفس
وهو يتأثر في موشحه هذا خطا الموشح الشهير «جادك الغيث» للسان الدين بن الخطيب.
وفي مكان آخر من المسرحية نفسها نجد عمر أبو ريشة ينوع في موشحه، فيقول على لسان المنذر بطل المسرحية:
أيها الموت اقترب واشفق علي، يا أخي
وانبــتي يــــا أرض من بعـــد ممــــاتي
كل نبــــت عـــاطر فـــــوق رفــــــاتي
عـله يقتـــــاد من كنـــت أود، فاستبــــد
ومن المعروف أن الموشحات غنية بالموسيقى التي تتأتى من تركيزها على البحور الرشيقة، وخاصة الرمل، ومن البحور المجزوءة، ومن التنويع في عدد التفعيلات تنويعاً لا يتقيد بنظام الخليل العروضي، وكذلك من التنويع في القوافي، فضلاً عن اختيار الكلمات العذبة والمقابلات الجميلة بين أجزاء الكلام.
لهذا لا غرابة أن يشيد الدكتور شوقي ضيف كثيراً بموسيقى الموشحات، وما فيها من نغمات وتوقيعات وآثار «تلمس لمساً، وهي آثار جعلت ابن بسام يقول: إنه تُشَقُّ على سماعها مصونات الجيوب بل القلوب، معبراً بذلك عن جمال موسيقاها وما يسكب في النفوس من متاع حين تستمع إلى ألفاظها وألحانها الساحرة»[83]، وأن يقرر في شيء من البسط «أن نغم الموشحة بلغ من الرقة والعذوبة والنعومة ما جعله يتفوق أحياناً على نغم القصيدة التقليدية، فقد أحيط بكل ما يمكن من ضروب التوازن الموسيقي، كما أحيط بكل ما يمكن من إيقاع كامل. فالنغم يتوالى متقابلاً تقابلاً دقيقاً، والألفاظ تختار وكأنما تختارها أيدي سحرة، وتجري عليها تموجات الذبذبات الصوتية جرياناً ليناً سهلاً، إذ أعدت لتنشد، بل ليوقع عليها المغنون ألحانهم، فهي ألحان وأنغام خالصة، وإذن فالموشحة لا تنفك من التلونات الصوتية التي نعرفها لنظام القصيدة التقليدي، بل لعلها في بعض الأحيان تفوقها في التعبير الموسيقي، ولذلك كان لا يحسنها إلا المهرة أصحاب الأذواق الأدبية الرفيعة. فهي ليست عملاً سهلاً، بل لعلها أكثر صعوبة وتعقيداً من القصيدة، فإن ما سقط منها لتعدد الوزن أو تعدد القافية عاد إليها أروع أداء، وأبهج صوتاً»[84].
وإذا كان الشعراء قد قللوا كثيراً من نظمهم للموشحات، فإن شهرتها الغنائية باقية، ولاتزال هناك فرق خاصة في كثير من البلدان العربية وخاصة في المغرب، تعيد غناء الموشحات الأندلسية، ولايزال الناس يستمعون إليها في نشوة وإقبال.
والمدرسة المهجرية عامل خامس أثر في عمر أبو ريشة وموسيقاه، فقد بدأ يظهر في عالم الشعر والمدرسة المهجرية في أوج ازدهارها، وكانت أسماء جبران ونعيمة وعريضة وفرحات وأبي ماضي والقروي ومعلوف؛ تملأ سماء الأدب العربي، وما كان لمثل عمر أبو ريشة أن يغيب عن عطائها، يضاف إلى ذلك صلة الشاعر العميقة والطويلة بلبنان، حيث درس فيه بادئ ذي بدء، واستقر فيه بعد إحالته إلى التقاعد، وكان يتردد عليه كثيراً بين هذين التاريخين، وله فيه أصدقاء كثيرون على شتى المستويات كالشاعر بشارة الخوري الذي خلده بقصيدتين رائعتين، ورئيس الجمهورية الأسبق شارل الحلو، ومن المعلوم أن لبنان هو البلد الذي ينتمي إليه أكثر الشعراء المهجريين، ومنهم من عاد إليه واستقر فيه حتى مات كالقروي ونعيمة، وكان لبنان حفياً بالشعر المهجري ينشر إنتاجه، ويعرف بأعلامه، ولا ريب أن عمر أبو ريشة كان على صلة وثيقة بهذا كله.
ويشاء الله أن يتوثق صلةُ عمر أبو ريشة بالمهجر والمهجريين بخيطين آخرين: الأول: أنه عمل سفيراً في البرازيل والأرجنتين فتوثقت صلته بأدباء المهجر بحكم إقامته بينهم، وحين زار الأستاذ زكي قنصل الرياض في شتاء عام 1992م، وهو الشاعر الذي آلت إليه إمارة الشعر المهجري، تحدث فيما تحدث فيه عن صلته بعمر أبو ريشة وصلة الجالية السورية وأدبائها به، ومن طرائف ما ذكر الأستاذ قنصل أنه اختار لابنه الوحيد اسم «عمر» إعجاباً منه بعمرين عظيمين عمر بن الخطاب وعمر أبو ريشة. الثاني: أن زوجة الشاعر الأولى السيدة منيرة محمد مراد هي من مواليد الأرجنتين، ومن أصول لبنانية، وهي تجيد الإسبانية إجادة تامة.
ومن أجل ذلك كله يمكن القول: إن صلة عمر أبو ريشة بالشعر المهجري هي صلة وثيقة وعميقة وممتدة زماناً ومكاناً ودماء. ومن المعروف أن التجديد في الموسيقى إحدى خصائص الشعر المهجري، من حيث تنويع القوافي، ومن حيث التركيز على البحور المجزوءة، ومن حيث التنويع في البحر خلال القصيدة الواحدة.
والعامل السادس الذي أثر في موسيقى عمر أبو ريشة هو صلته بالشعر العربي القديم، فمن المعروف أنه اتصل اتصالاً طويلاً بالشعر العربي القديم، صحيح أنه كان متمرداً منذ صباه على بعض المقررات التقليدية النقدية في الأدب العربي، وأنه انتقص عدداً من كبار الشعراء كالبحتري بدعوى أنهم كانوا مرتزقة ومنافقين، لكنه استوعب الكثير من روائع شعرهم وتمثلها، بل وحاكاها، وقد ذكر الدكتور سامي الدهان -وهو من مدينة الشاعر ومن أترابه وممن كتبوا عنه- أن طائفة من أصدقاء الشاعر كانت تخلو إليه في جلسات بحي قريب من قلعة حلب حيث كان يهدر بالشعر القديم ساخراً متندراً، وأنه كان يخدعها عن نفسها، فتحسب أن الشعر قديم حقاً، وتمضي تبحث عن أصحابه في مظانه حتى إذا يئست أخبرها أنه من نظمه هو[85].
ويزكي هذه الرواية أننا نجد في مسرحية «ذي قار»، وهي من أوائل أعمال الشاعر قطعة تقع في ثمانية وعشرين بيتاً يقولها عمر أبو ريشة على لسان النابغة الذبياني، مطلعها:
اعقل قلوصي أيهذا الحادي إنـــا بربع بثينــــة وسعــاد
وقد تقمص الشاعر في هذه الأبيات عصر الجاهلية ولغتها وتقاليدها تقمصاً تاماً ناجحاً بحيث بدا وكأنه بدوي من الصحراء يصف الناقة والذئب والربع والرحلة وكل ما دأبت القصيدة القديمة على وصفه في لغة بدوية محكمة جزلة.
ومعنى ذلك أن صلة عمر أبو ريشة بالشعر العربي القديم صلة قوية من ناحية، وفيها قصد ومحاكاة واعية من ناحية أخرى. وإذا كانت هذه الصلة قد خفتت في فترة الشباب والتطلع إلى التجديد؛ فيبدو أنها استيقظت مع تقدم السن وما يرافقه من نضج وأناة وخبرة، لذلك لا غرابة أن وجدنا الشاعر يركن إلى شيء من الهدوء، بل إلى شيء من المحافظة على التقاليد الفنية القديمة، بل يبدو أنه في أواخر عمره عاد إلى شيء من الأساليب التي عرفها في بدايات حياته، وتمرس بمحاكاتها وتقليدها في شبابه الأول وفق ما روى لنا الدكتور الدهان، ووفق ما وجدناه في «ذي قار» من إيثار القصائد ذات الروي الواحد، وفخامة الأسلوب ألفاظاً وتراكيب، والعناية بتقسيم الجملة داخل البيت تقسيماً يزيد موسيقاها، ولعل أكثر مجال ظهرت فيه هذه القضايا هو قصائد الشاعر التي كان يلقيها في المناسبات العامة، وكان يحتشد لها أيما احتشاد، ويحتفي بها، ويصب فيها كل طاقته الفنية بحثاً عن إعجاب الجمهور الذي كان يلقيها بين يديه.
أما العامل السابع فهو أن عمر أبو ريشة كان يمتلك أذناً موسيقية مميزة تجعله يعرف مكان النغم المناسب حدة وقوة وضعفاً، ويعرف الذبذبات الخاصة التي لا يحيط بها علم العروض، وكان يحلو له أن يخلو إلى نفسه مع الموسيقى، وبذلك ارتقى بملكته الموسيقية الفطرية ونماها، وأضاف إليها أبعاداً جديدة، خاصة أنه كان ينشد شعره إنشاداً مميزاً متفرداً في المحافل؛ الأمر الذي يجعلنا نتوقع أنه كان ينشده بينه وبين نفسه قبل أن ينشده على الناس تماماً كما كان يفعل حافظ إبراهيم، وهذا الإنشاد الذاتي زاد من غنى موسيقاه وأثراها، وجعلها أكثر خصباً وتنوعاً وجمالاً.
إن الأذن الموسيقية ملكة فطرية، لكن هذه الملكة يمكن أن تضعف بالإهمال والكسل، ويمكن أن تنمو بالصقل والتجويد والمتابعة والاطلاع، مثلها في ذلك مثل أي ملكة أخرى. ويحمد لأبي ريشة أنه عُنِي بملكته الفطرية ونماها، وأضاف إليها ونوع فيها، بما درس وأنشد، وراجع وتأمل، وحاكى وجدد، فأضاف الخبرة إلى الملكة القوية، فكان منهما هذه الأذن الموسيقية المتميزة والمبدعة.
وقد شهد الأستاذ عبد الله يوركي حلاق بأذن الشاعر الموسيقية المتفردة، ولحظ أنه لم يدرس علم العروض، ولكنه ذو أذن موسيقية عجيبة لا تخطئ، وأنه يختار اللفظة المناسبة للمعنى الذي يريده، ومن هنا جاءت أشعاره في منتهى الدقة والفصاحة والانسجام[86].
ولهذه الشهادة قيمتها لأن صاحبها من مدينة حلب، حيث نشأ الشاعر، وحيث عاش فترة من عمره، ولأن صاحبها شاعر هو الآخر، ثم هو فضلاً عن هذا وذلك محب لعمر أبو ريشة اتصل به فترة طويلة، وكتب عنه، ونظم فيه، وتتلمذ عليه.
أما الدكتور ظافر أبو ريشة، شقيق الشاعر؛ فإنه يذكر أن عمر كان يحب النغم التركي كثيراً، وذكر ذلك في رثائه له حيث قال:
أبيات شعــرك نضح الثوب تلبسـه
ورشف خـــمرك ما أعطت دواليه
وروعة الـنغـــــم التـركي تســجله
شــرائط الحب يندى من روابيــــه
ربيـــع مكتبك الريحـــان أنشــــقه
لو يبتغي الحور كانت من جواريه
ولقد تحدث عمر أبو ريشة نفسه عن حبه للموسيقى فذكر أنه كان ولايزال للموسيقى عليه سحر لا يقاوم لأنها تغمره بالهدوء والسكينة، وتملأ نفسه بالراحة والاطمئنان. وذكر أيضاً أنه تعلم الغناء على يد أستاذ له اسمه «فريد مدور» حتى سن الثانية عشرة، وأنه تلقى على يد أستاذ آخر له اسمه «أحمد أبري» مبادئ العزف على العود، الأمر الذي جعله بعد ذلك لا يقتنع بغير الموسيقى الصحيحة[87].
وحين كتب الأستاذ نجدة فتحي صفوة عن عمر أبو ريشة بمناسبة الذكرى الثانية لوفاته قرر أنه «مرهف الحس، واسع الخيال، يحتفظ على الدوام بموسيقية الأسلوب، ويتخير اللفظ الجميل، والصياغة الفصيحة المحببة إلى السمع في غير تكلف ولا إغراب»[88].
كل شاعر يمتلك ابتداء أذناً موسيقية، لكن هناك من الشعراء من يصقل هذه الأذن، وينميها بالقراءة الجيدة، والاستماع الجيد، والإلقاء الجيد، وعمر أبو ريشة واحد من هؤلاء، إنه «شاعر مرنان، شاعر إذ ينظم، وشاعر إذ يؤدي»[89].
وللدكتور الطاهر أحمد مكي كلام نفيس في هذا الصدد، يعلي فيه من أثر القراءة الجيدة في تربية السمع التي يرى أنها تحتاج «إلى كثير من القراءة الجيدة، بصوت مرتفع، وأصر على صفة «جيدة» لأن الذين يقرؤون الشعر مضبوطاً وفي دقة، ويقفون على أسراره الصوتية، قلة نادرة. أما القراءة الرديئة والاستماع إليها، فتؤذي أكثر مما تنفع. وثمة أمران يجب أن يتحققا في قراءة الشعر على نحو جيد: الإحساس بإعطاء كل بيت قيمته الحقيقية وتنمية هذا الإحساس، وصوت قادر على تمثيل هذه القيمة، وإذا امتلك الشاعر، مبدع الأبيات، هذه الوسائل؛ فهو أفضل من يقوم بإلقاء شعره، ويجيء بعده مرتبة أولئك الذين يملكونها غيره»[90].
ولقد كان عمر أبو ريشة -بشهادة كل من أتيح له أن يستمع إليه- سيد من يلقي الشعر في عصره، وكان يراعي مكان المعنى والجملة واللفظة والمقطع والمفاجأة والختام والانتقال، وكان يحسن اختيار الوقت المناسب للتوقف، والوقت المناسب للمواصلة، وكان بذلك يضيف إلى شعره أبعاداً حية من الجمال والأثر والإيقاع المحبب، ولقد تحدث الأستاذ زكي قنصل الشاعر المهجري الذي كان صديقاً حميماً لعمر أبو ريشة عن إلقائه، فقال: «أما طريقته في إلقاء الشعر فكانت الحد الأقصى في الروعة والأناقة. قالت عنه إحدى المجلات الدمشقية؛ ولعلها «الدنيا»: نصف شاعرية أبي ريشة في حنجرته»[91].
ويرى الأستاذ عبد الله بلخير -وهو شاعر وصديق قديم لعمر- أن الله عز وجل جمع «للأستاذ عمر موهبتين جليلتين قلما اجتمعتا لشاعر غيره إلا فيما ندر، موهبة الشعر البديع الأخاذ وموهبة إلقاء ذلك الشعر بما يأخذ بمجامع القلوب، فموهبة الشاعر أبي ريشة في هاتين الظاهرتين شيء يتحرق الشعراء عليه، ويحسدون من تجمعت فيه مثل هذه المواهب. وهكذا كان عمر يهز المنابر والمجتمعات إذا وقف بقامته الوارفة وثقافته الفياضة التي يطغى بها على من يجيء قبله في الحفل أو بعده، حتى لو كان ممن يتمتع بإحدى هاتين الموهبتين النادرتين»[92].
ولا ريب أن هذا كله ثمرة من ثمار ملكته الموسيقية التي نماها وأثراها وأغناها ونوع فيها، لذلك لا غرابة أن وجدنا الأستاذ أحمد سويلم -وهو ناقد وشاعر- يصف عمر أبو ريشة بأنه عازف ماهر[93]، وأن وجدنا الأستاذ حسن عبد الله القرشي -وهو شاعر وصديق لعمر- يصفه بأنه «صناجة زماننا»[94]، وأن وجدنا الدكتورة عزيزة مريدن تصفه بأنه صاحب أنغام موسيقية بديعة[95]، أما الأستاذ محمد حسين زيدان الذي نقلنا له قوله في عمر: «شاعر مرنان، شاعر إذ ينظم، وشاعر إذ يؤدي»؛ فإنه يقول عنه في الحفل الذي أقامته إثنينية الأستاذ محمد عبد المقصود خوجة لتكريمه: «كان إلقاؤه شعراً على الشعر، وفناً على الفن»[96].
❊❊❊
البحور التامة:
يعد ديوان عمر أبو ريشة الصادر عن دار العودة في بيروت أغنى إصداراته شعراً، ففيه مئة وثلاثون قصيدة وأوبريت واحد. وسنقوم ببعض الإحصاءات في هذه القصائد دون الأوبريت لاختلاف طبيعته عنها، ونحاول الخروج من هذه الإحصاءات بنتائج ودلالات.
يلاحظ أن البحور التامة تحظى بأربع وثمانين قصيدة، وأفضل البحور التي كان يؤثرها أبو ريشة هي البحر السريع، حيث نجد له في الديوان واحدة وعشرين قصيدة؛ يليه البحر الخفيف الذي نجد له تسع عشرة قصيدة؛ يليه بحر الرمل الذي نجد له خمس عشرة قصيدة؛ يليه البحر الكامل والبحر المتقارب اللذان نجد لكل منهما ثماني قصائد؛ يليهما البحر البسيط الذي نجد له سبع قصائد؛ يليه البحر المحدث الذي نجد له ثلاث قصائد؛ يليه البحر الطويل الذي نجد له قصيدتين؛ يليه البحر الوافر الذي نجد له قصيدة واحدة.
على أن عمر أبو ريشة كان يختار البحور التامة حين كان ينظم في المناسبات العامة الدينية أو الوطنية، وهنا يستأثر البحر الخفيف بالنسبة الكبرى، تليه وبعد بون كبير بحور الكامل والبسيط والرمل، ولعل السبب في ذلك أن الشاعر كان يعي دور البحور التامة في إحداث الأثر المطلوب في السامعين حين كان يقف بينهم لينشد قصائده بإلقائه المتفرد الذي يستحوذ على الإعجاب، مما يجعلنا نقدر أنه وجد البحور التامة أكثر انتزاعاً للإعجاب من المجزوءة فآثرها عليها.
والذي يبدو أن عمر أبو ريشة لم ير للبحور المجزوءة مكاناً في القصائد التي كان يلقيها في المناسبات العامة، فاختار لها البحور التامة وفق ما رأينا، ولعله رجع في ذلك إلى فطرته وذوقه من ناحية، ولعله أدرك من ناحية أخرى أن المناسبات المهمة تجمع عدداً كبيراً من الشعراء مما يجعل مجال التنافس والتفوق عسيراً فيما بينهم، فاتجه إلى البحور التامة انسجاماً مع طبيعة هذه المناسبات التي جرت عادة الشعراء أن ينظموا فيها على البحور التامة ويتجنبوا المجزوءة.
وقد فطن إلى ذلك الدكتور عمر الدقاق حيث ربط بين شعر المناسبات وبين طبيعة القصائد التي تلقى فيها، فقال: «ولما كان الشعر العربي في سورية في معظمه موازياً للحياة متفاعلاً معها غدا بطبيعته شعر محافل ينشد إنشاداً ويلقى إلقاء. ولذلك اتسم بما اتسمت به الموسيقى المحفلية من جهارة في الصوت، وقوة في النبر، ووضوح في الإيقاع، ورتابة في الجرس، وهو بهذا شديد الشبه بفن الخطابة الذي يحمل أيضاً الطابع المحفلي. فكان الشعر يعتمد على خلب الأسماع، وتوليد الإثارة، وإلهاب المشاعر»[97].
وعمر أبو ريشة بلا ريب شاعر ضخم جهير الصوت، ذو حضور فاعل في المحافل والمناسبات، بجرأته ووطنيته وإلقائه، ولعله في عصرنا أشبه الناس بحافظ إبراهيم في عصره، فلا غرابة أن أثرت فيه المحافل والمناسبات من عدة وجوه؛ منها اختياره للبحور التامة في المهرجانات والمناسبات العامة.
وليس عمر أبو ريشة بدعاً في ذلك، فنزار قباني -وهو من أعمدة الشعر الحر- كان يلجأ في قصائده المحفلية إلى أوزان الخليل لمعرفته بحب الجمهور لها، وهو ما نجده في قصائده: «إفادة في محكمة الشعر» عام 1969م، و«من مفكرة عاشق دمشقي» عام 1971م، و«إليه في يوم ميلاده» عام 1971م، و«ترصيع بالذهب على سيف دمشقي» عام 1974م، وحين سأله الدكتور أحمد بسام ساعي عن قصيدته الأخيرة: لماذا هي عمودية أكثر مما ينبغي؟ أجاب: «ماذا أفعل!؟ إنهم يفضلونها كذلك، ألم تر كبار الحضور كيف انتصبوا يصفقون لها وقوفاً أكثر من مرة؟»[98]، وقد لاحظ الدكتور شوقي ضيف أن الجمهور يقبل على شعر الشعراء المحافظين بأكثر مما يقبل على شعر الشعراء المجددين؛ «لأن الأولين يحتفظون له في شعرهم بخصائص صياغتنا الفنية، ويجيدون له العزف على أوتارها اللغوية»[99]. وكلام الناقد الكبير يلتقي مع كلام الشاعر الشهير في دلالة واحدة شديدة الأهمية، وهي قوة الأوزان الخليلية، وتأثيرها العميق في الشاعر والناقد والمتلقي على السواء، وتفوق موسيقاها على موسيقى الشعر الحر تفوقاً كبيراً.
❊❊❊
البحور المجزوءة:
تبلغ القصائد التي نظمها عمر أبو ريشة على البحور المجزوءة خمساً وأربعين قصيدة[100]، تناول فيها شتى الموضوعات، مثل الفخر، والوطنية، والوصف، والغزل، والتاريخ، والبطولة، والشكوى، والحنين، والمرأة، والحكمة.
وربما بدا هذا غريباً على شاعر مثل عمر أبو ريشة، يمكن أن يعد من حيث موسيقاه شاعراً مجدداً ضمن الإطار العام لموسيقى الشعر العربي من ناحية، واستمراراً لمدرسة الإحياء في العصر الحديث من ناحية، وهي مدرسة قل أن نعثر في أهم دواوين أعلامها «البارودي وحافظ وشوقي» على قصائد مجزوءة البحور.
ولكن إذا تذكرنا حب الشاعر للموشحات والأناشيد الصوفية والغناء وتأثره بشعر المهجر، فضلاً عن شخصيته القوية التي لا تبالي بشائع تأبَّاه، زال استغرابنا، وحل محله تقدير كبير لشاعر يصب تجربته الفنية في قالب يهفو إليه بفطرته، ويتعامل معه تعاملاً خاصاً بذوق رهيف وخصوصية متفردة.
❊❊❊
الأوزان والموضوعات:
ويمكن أن نلاحظ أن عمر أبو ريشة كان يتناول في البحر الواحد عدة موضوعات مما يعزز وجهة النظر التي ترفض الربط بين الأوزان والموضوعات في الشعر العربي، فالقصائد التي نظمها على البحر الخفيف مثلاً وعددها تسع عشرة قصيدة نجد فيها خمس قصائد للرثاء: هي «الفارس» و«فراق» و«مصرع الفنان» و«بلادي» و«شهيد»، وقصيدتان إسلاميتان تاريخيتان فيهما سمات ملحمية هما «محمد» و«خالد»، وقصيدتان من قصائد المناسبات هما «مع المعري» قالها في الذكرى الألفية لأبي العلاء المعري، و«شاعر وشاعر» قالها أيضاً في الذكرى الألفية للمتنبي، وقصيدة وطنية وهي «هذه أمتي»، وقصيدة ذاتية رمزية وهي «نسر»، وثماني قصائد ذاتية هي «هيكلي» و«اقرئيها» و«لا تنتقي كلماتك» و«دليلة» و«كان التلاقي» و«انتقي لي حكاية» و«عاصفة» و«حنين». وما قيل عن تعدد الموضوعات في القصائد التي نظمت على البحر الخفيف يقال مثله عن البحور الأخرى.
ومما يستوقف النظر أن البحر الطويل -وهو أكثر بحر نظم فيه الشعراء العرب قديماً وحديثاً- لم يحظ إلا بقصيدتين اثنتين هما «جبل» وتقع في خمسة أبيات لا غير، و«الطيف» وتقع في ثمانية أبيات. وأن الوافر لم يحظ إلا بقصيدة واحدة هي «أخاف عليك» وتقع في ستة أبيات.
وعلى كل حال يمكن أن يكون هذا الأمر دليلاً قوياً على تفرد عمر أبو ريشة وشخصيته القوية في اختيار بحوره بحيث يعتمد في ذلك على ذوقه الخاص وأذنه الموسيقية الغنية دون مبالاة بما هو شائع ومتداول، فحيثما طاب لأذنه وذوقه البحر نظم فيه أياً كان الموضوع، وأياً كانت الأعراف الذائعة.
❊❊❊
تعدد الوزن داخل القصيدة:
التزم عمر أبو ريشة في معظم شعره، بالحرص على أن تكون كل قصيدة من قصائده على وزن واحد، فإذا درسنا ديوانه الصادر عن دار العودة وجدنا ثلاث قصائد فقط هي «شطآن بلادي» و«عودة الروح» و«مصرع الفنان» يستعمل فيها أكثر من وزن، وإذا بحثنا في شعر شبابه الذي لم يعد طباعته وجدنا أربع قصائد استعمل فيها أكثر من وزن، وهي «خاتمة الحب» و«رثاء حافظ إبراهيم» و«رثاء أحمد شوقي» وتكريم الشاعر «أحمد الصافي النجفي»، ووجود سبع قصائد فقط في شعر عمر أبو ريشة تعدد فيها الوزن، دليل على التزامه بتقاليد الشعر العربي التي جرت على تخصيص القصيدة الواحدة ببحر واحد، ويزكي هذا الالتزام إلى جانب غلبته العددية أمران، الأول: أن كل شعر المناسبات عنده كانت تجري القصيدة فيه على بحر واحد، والثاني: أن القصائد التي تعدد فيها الوزن تعود إلى مرحلة الشباب مما يدل على أنه بعد نضجه ازداد التزامه بالتقاليد الموسيقية المأثورة للشعر العربي[101].
إذا نظرنا في قصيدة «خاتمة الحب» وجدناها تتكون من ستة مقاطع، تتكون المقاطع الأربعة الأولى منها من عشرة أبيات لكل مقطع، أما المقطعان الخامس والسادس فيتكون كل منهما من أحد عشر بيتاً، وبذلك يبلغ عدد أبيات القصيدة كلها اثنين وستين بيتاً. والقصيدة بمقاطعها الستة تجري على البحر الخفيف، والخلاف بين مقطع وآخر هو اختلاف القافية فقط.
لكن جديد الشاعر في وزن هذه القصيدة هو أنه كان يقدم لكل مقطع من مقاطعها ببيتين من مجزوء الخفيف، وهما أشبه باللازمة الموسيقية، فهما على وزن واحد، وهما على قافية واحدة هي حرف الراء. والمقطع الأول من القصيدة مع لازمته يقول لنا:
سطـر الحب للورى من دمي آية العبر
آية صورت على لوحها أحزن الصور
شمس حزني قد استوت وعجيب
أن أراني أعيـــــش من غير ظل
أبصر الدهر نـاشراً سفر عمري
ولســــان الآلام يقـــــــرا ويملي
طعنـــة إثر طعنــــــة إثر أخرى
نثـــرت هذه الحشــــــاشة حولي
فتــــأملت في الحيــــــاة وفيـــما
كنـــت أبني على الخيـال وأعلي
فــــإذا مورد النعيـــــم ســــراب
وإذا حـــــائط المنى فـــوق رمل
هـــذه ســــلوة الفـــــؤاد توالــت
فحــــرام على فـــــؤادي التسلي
يا بقايــا الأحـــلام في جفني النا
ئم أخلي مقـــــرك اليـوم أخـــلي
يا سراج الآمـال قد نضب الزي
ت فبـــدد هـذي الخطوط وأبـلي
يــــا فـؤادي دع الوجيب لأقــرا
فوق رأس الحبيب سورة ثكلي
يا عيـوني دعي البكــاء فصعب
أن أراهــا وأدمعي فيــك تغـــلي
وإذا كان كل مقطع يحقق قدراً من الاستقلال الموسيقي من خلال القافية المتغيرة دون الوزن الثابت؛ فإن هذا الاستقلال يثري موسيقى القصيدة، وينوع في ألحانها. فاللازمة تزيد من ثرائها وتنويعها من ناحية، وتمنح المتلقي والشاعر قبله فرصة التفاعل وتجديد التواصل ودفع الملل الذي قد تحدثه قصيدة طويلة تزيد على سبعين بيتاً من ناحية.
وقصيدة الشاعر في رثاء «حافظ إبراهيم» مماثلة لقصيدته «خاتمة الحب»؛ إذ تتكون من خمسة مقاطع، في كل مقطع عشرة أبيات، تختلف القافية فيها بين مقطع وآخر، لكنها تتحد في الوزن وهو البحر الخفيف، ولكل مقطع لازمة من بيتين، وكلها على قافية واحدة هي الراء، وهي من مجزوء الخفيف.
وقصيدة الشاعر في رثاء «أحمد شوقي» مماثلة لقصيدته في حافظ إبراهيم، حيث تتكون من خمسة مقاطع مختلفة القافية متحدة الوزن على البحر الخفيف، وكل مقطع يتكون من عشرة أبيات، وله لازمة من بيتين، وهي على قافية واحدة هي الراء، وعلى وزن واحد هو مجزوء الخفيف، والفرق الوحيد أن اللازمة في رثاء حافظ كانت تأتي قبل المقطع، وفي رثاء شوقي كانت تأتي بعده.
وتأتي قصيدة الشاعر في تكريم أحمد الصافي النجفي على غرار القصيدتين السابقتين إلا في أمرين طفيفين هما: أن المقاطع الخمسة التي تشكل القصيدة يتفاوت عدد أبياتها، فالأول ثمانية أبيات، والثاني تسعة، والثالث عشرة، والرابع تسعة، والخامس عشرة، والثاني أن اللازمة كانت تأتي في نهاية كل مقطع إلا المقطع الأخير حيث لم ترد. وتبقى القصيدة كلها على البحر الخفيف، والمقاطع مختلفة القافية، واللازمة متحدة القافية على الراء، ومتحدة الوزن على مجزوء الخفيف.
وقصيدة الشاعر «مصرع الفنان» التي قالها في رثاء صديقه الموسيقار كميل شمبير هي على غرار قصائده السابقة باستثناء أشياء يسيرة جداً، تتكون القصيدة من ستة مقاطع تجري كلها على بحر واحد هو البحر الخفيف، ويستقل كل مقطع بقافية خاصة، وعدد الأبيات في جميع المقاطع عشرة أبيات إلا المقطع الثالث حيث يتكون من ثمانية أبيات فقط، ولكل مقطع لازمة من بيتين تتحد القافية فيها على الميم، وعلى الوزن وهو مجزوء الخفيف، وتأتي اللازمة في نهاية كل مقطع إلا المقطع الأخير حيث لم ترد.
أما قصيدة «شطآن بلادي» فتتكون من ثلاثة مقاطع على البحر المحدث، وتسبق كل مقطع لازمة من مجزوء البحر نفسه، وتنتهي القصيدة بلازمة من المجزوء نفسه، وبذلك يزيد عدد اللوازم على عدد المقاطع بواحدة، ويبلغ المجموع كله سبعة. والقصيدة قصيرة تقع بمقاطعها ولوازمها في سبعة عشر بيتاً، وهي تجربة غير مكررة لدى الشاعر.
أما قصيدة «عودة الروح» فتقع في خمسة مقاطع تتحد في الوزن، وهو مخلع البسيط، وتختلف في القوافي، وبين المقاطع الخمسة أربع لوازم تتحد في الوزن، وتتحد في القافية، وهي حرف الدال.
وهكذا يبدو لنا من دراسة القصائد السبع أن الشاعر في الغالبية العظمى من شعره آثر تخصيص كل قصيدة ببحر واحد، على غرار المألوف من معظم الشعر العربي، ولعل مرد القدر الضئيل من تنويع الوزن في القصيدة الواحدة رغبته في التجديد التي داعبته أول شبابه، والتي تخلى عنها مع السن، ومع الخبرة والنضج، ومع طبيعة شعر المناسبات التي تؤثر الوزن الواحد، والقافية الواحدة، والقافية المطلقة، والبحور التامة، وتصريع المطالع.
وإذا تذكرنا أن كل قصيدة من هذه القصائد السبع تجري على بحر واحد، وأن التعدد يأتي من اللازمة فقط، وأن هذه اللازمة من مجزوء البحر الذي جرت عليه القصيدة؛ صار من حقنا أن نضيق من مساحة تعدد الوزن داخل القصيدة الواحدة عند الشاعر، أو أن نلغيه إلغاء تاماً بشيء من المرونة.
❊❊❊
القوافي المطلقة والمقيدة والمشتركة:
تستأثر القوافي المطلقة في الديوان بأكثر من ثلثي القصائد حيث تشكل ثلاثاً وتسعين قصيدة، وأما القصائد ذات القوافي المقيدة فهي ثلاثون قصيدة، وأما القصائد المشتركة التي تجمع بين القافيتين المطلقة والمقيدة فهي ست قصائد.
ولا ريب أن غلبة القوافي المطلقة تدل على أن الشاعر من حيث يقصد أولا يقصد أدرك أن القافية المطلقة أكثر توقيعاً موسيقياً من أختها المقيدة، فالمقيدة يتوقف فيها مدى الصوت مع نهاية الحرف الأخير من البيت، كما في قول الشاعر في قصيدته «وجراحي»:
ربِّ ضاقت ملاعـبي في الدروب المقيـــدَةْ
أنـا عمر مخضـــــب وأمــــان مشــــــردة
ونشــيـد خنـقـــت في كـبريـــائي تنـهـــــده
رب ما زلت ضاربـاً من زمـــاني تمـــرده
صغر اليأس لن يرى بين جفـــني مقصـده
بســـماتي سخيـــــــة وجراحي مضــــمدة
القصيدة من مجزوء الخفيف، وموسيقاها رشيقة متحركة تستمدها من البحر الذي كان عمر أبو ريشة يحبه كثيراً، ومن الموسيقى الداخلية فيها، لكن القافية المقيدة توقف الصوت فيما يشبه الانقطاع المفاجئ، ولا تتيح له الامتداد والترنم إلى آخر مداه، كما تفعل القافية المطلقة كقوله في قصيدته الشهيرة «خالد» وهو يلتمس للأمة العذر فيما حل بها من كوارث، حيث غاب الأبطال عن قيادتها للظفر، فقادها الخونة والجبناء للهزيمة:
أنـــا من أمة أفـــاقت على العــــزْ
زِ وأمست مغـــموسة في الهــوان
عرشها الرث من حراب المغيريـ
ـن، وأعــلامهــا من الأكـفـــــــان
والأماني التي استـــماتت عـليــها
واجــــمات تـكــلمي يـا أمــــــاني
لا تـقـــل ذلت الرجـــولة يا خــــا
لــد واستســــلمت إلى الأحــــزان
حمحمات الخيول في ركبــك الظا
فــر ما زلـــــن نشــــــــوة الآذان
كـم طــوت هذه المرابـــع أفـــــلا
ذ قـــلوب بدريــــــة الخـفقـــــــان
قــــم تـلفـــت تر الجنــــود كما كا
نـوا منــــار الإبــــاء والعـنفـــوان
ما تخــــلوا عن الجهـــــاد ولـكــن
قــــادهم كل خـــائن وجبـــــــــان
فالقافية المطلقة في الأبيات تمنح الفرصة للصوت أن يبلغ آخر مدى له، خاصة أن حرف النون المكسور مسبوق بألف مد، مما يجعل أمام الشاعر وأمام المتلقي فرصة مدين متقاربين، فتزيد الموسيقى ثراء وتوقيعاً.
ويزكي هذه الإشادة بقيمة الموسيقى الزائدة في القافية المطلقة وبإحساس الشاعر به -وهو صاحب الأذن الموسيقية المرهفة، والوثيق الصلة بالموسيقى والغناء والموشحات والشعر المهجري وقديم الشعر العربي فضلاً عن جديده- أننا نراه في شعر المناسبات العامة يحرص حرصاً شديداً على أن تكون قوافيه مطلقة، يماثل حرصه على أن تكون بحوره تامة لا مجزوءة، مما يجعلنا نحكم أنه وجد البحور التامة أغنى بموسيقاها من البحور المجزوءة، والقوافي المطلقة أغنى من أختها المقيدة. ولا ريب أن الشاعر كان شديد الحرص على انتزاع إعجاب الجماهير خاصة أنه كان شاعر محافل وإلقاء من الدرجة الأولى، وكان يعي جيداً أن الموسيقى الأغنى بحراً وقافية وموسيقى داخلية أقدر على إحداث التواصل مع الجمهور، وبالتالي انتزاع إعجابه وتصفيقه. وللشاعر سبع عشرة قصيدة آثر فيها اختيار البحور التامة لأنها قصائد مناسبات عامة ومحافل، وحين ننظر في قوافي هذه القصائد نجدها جميعاً مطلقة باستثناء واحدة مقيدة.
وهذا الاستقراء الدقيق لقصائد المحافل والمناسبات العامة يدل على أن الشاعر كان عميق الإدراك لغنى الموسيقى في البحور التامة والقوافي المطلقة، لذلك آثرها وأحسن حقاً في هذا الإيثار.
❊❊❊
القوافي المنوعة:
حين نحصي القصائد ذات القوافي المنوعة في ديوان عمر أبو ريشة نجدها عشر قصائد فقط، أما بقية القصائد فقد التزم فيها بقافية واحدة في كل قصيدة.
وكما يدل النظر في عدد هذه القصائد على قلتها بالنسبة لقصائد الديوان، يدل النظر في تاريخها على أنها أثر من آثار فورة الشباب، حين كانت رغبة الشاعر في التجديد رغبة طاغية عنيفة. فقصيدتاه «جان دارك» و«خداع» تعودان إلى عام 1935م، وقصيدته «مصرع الفنان» تعود إلى عام 1936م، وقصيدته «عاصفة» تعود إلى عام 1937م، وقصيدته «كأس» تعود إلى عام 1940م، وقصيدته «شطآن بلادي» تعود إلى عام 1950م. وقصائده «عودة الروح» و«العودة» و«مراهقة» تعود إلى عام 1951م. ومعنى ذلك أن تسعاً من هذه القصائد العشر تعود إلى مرحلة الشباب، حيث نظمها الشاعر في سن الأربعين فما دون. أما القصيدة العاشرة «هيكلي» فهي قصيدة تقع في تسعة أبيات فقط، وهي القصيدة الوحيدة في حدود ما وصلنا من تراث الشاعر التي نظمها بعد زوال الشباب؛ إذ كان في يوم نظمها عام 1957م في حدود السابعة والأربعين من عمره، ولعلها بقية من فورة الشباب تخطت زمانها أمداً قليلاً.
ويزكي هذا الاستنتاج أننا نعثر على أربع قصائد من شعر عمر أبو ريشة إبان شبابه الأول نوع فيها في القوافي، لكنه أهملها وأسقطها مما كان ينشره في دواوينه بعد ذلك، وهي «خاتمة الحب» ومطلعها:
شمس حزني قد استوت وعجيب
أن أراني أعيـش من غيــــر ظل
«رثاء حافظ إبراهيم» ومطلعها:
جـمح الشعر بالأديب إلى البؤ
س وصعب عليه كبح جماحه
«رثاء أحمد شوقي» ومطلعها:
عبقري مضى ليوم حسابه
وثناء الأجيال ملء كتــابه
«تكريم أحمد الصافي النجفي» ومطلعها:
الشموع الصفراء حين سرى الـ
ـليل وألقى على الأنـــــــام بثوبه
والأولى والثانية ترجعان إلى عام 1932م، والثالثة والرابعة ترجعان إلى عام 1933م.
وقد بنى عمر أبو ريشة قصائده ذات القوافي المنوعة على نظام المقاطع التي يستقل فيها كل مقطع بقافية واحدة وفكرة عامة واحدة، فإذا انتقل إلى مقطع جديد تغيرت الفكرة وتغيرت القافية كذلك، ويبقى الجامع بين المقاطع كلها أمران: هما وحدة الغرض ووحدة الوزن.
فقصيدة الشاعر «خاتمة الحب» التي رثى فيها محبوبته الإنجليزية نورا التي كان يزمع الزواج منها تتكون من ستة مقاطع يصور في المقطع الأول منها حزنه وبكاءه على حبيبته الذاهبة، ويصور في الثاني حبه لها، ويناجيها في الثالث وهي في عالم البقاء، ويسألها عما رأت بعد الموت في الرابع، ويصف نعشها في الخامس، أما السادس فهو بمنزلة نحيب جنائزي حزين يودع فيه المحبوبة، ويسلم بحكمة الله تعالى البالغة.
وتتكون قصيدة الشاعر في رثاء حافظ إبراهيم من خمسة مقاطع يصور في الأول بؤسه وشقاءه، ويشيد به في الثاني، ويصف موته في الثالث، ويبكيه في الرابع، ويحاول أن يكون حكيماً يبحث عن العبرة في الخامس.
وقصيدة الشاعر في رثاء أحمد شوقي تتكون من خمسة مقاطع، يصور في الأول منها عبقريته وغروره، ويصف في الثاني كرمة ابن هانئ وهي دار الشاعر بعد أن خلت من صاحبها، ويتحدث في الثالث عن الغناء والراقصات مسائلاً عنهن الفقيد، ويلم بأطراف من آثار شوقي في مسرحيتيه «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى» في الرابع، ويشيد بنفسه في الخامس ملتمساً لها العذر من شوقي لمخالفته تقاليد الرثاء الغالبة.
وما قيل عن هذه القصائد الثلاث يمكن أن يقال عن قصيدته في تكريم «أحمد الصافي النجفي» التي تقع في خمسة مقاطع، وقصيدته «شطآن بلادي» التي تقع في ثلاثة مقاطع، وقصيدته «كأس» التي صور فيها مأساة ديك الجن الحمصي وهي تقع في سبعة مقاطع، وقصيدته «عودة الروح» التي صور فيها في خمسة مقاطع بعض مشاهداته في عيد الكرنڤال في ريودي جانيرو، وقصيدته «جان دارك» التي صور فيها في سبعة مقاطع سيرة البطلة الفرنسية الشهيرة، وقصيدته «مراهقة» التي تقع في مقطعين، وقصيدته «عاصفة» التي تقع في أربعة مقاطع، وقصيدته «خداع» التي تقع في ثلاثة مقاطع، وقصيدته «مصرع الفنان» التي تقع في ستة مقاطع.
أما قصيدتاه «هيكلي» و«العودة» فإن الفكرة في كل منهما واحدة، أما القافية فإنها وحدها المتغيرة.
وعلى كل حال؛ فقد أتاح هذا التنويع في القافية داخل القصيدة الواحدة للشاعر قدراً من المرونة والحرية استطاع بهما أن يولد في المعاني، وينوع في الأفكار، ويغير في الصور، فضلاً عن مزيد من الثراء الموسيقي الذي يتأتى من تجدد القوافي، ولعله كان في ذلك مثله مثل شعراء المهجر وشعراء الديوان وشعراء أبولو تمهيداً مشجعاً لشعراء العصر الحديث الذين فشا فيهم التنويع في القافية، واتسع حتى تخلى عنها كثير منهم.
ويبقى في النهاية أن نقول: إن التنويع في القوافي داخل القصيدة الواحدة عند الشاعر قليل جداً من الناحية العددية، ويمكن النظر إليه على أنه من آثار الشباب وفورته واندفاعه لذلك خبا مع تقدم السن حتى انتهى تماماً.
ويتصل بذلك أن نقول: إن قصائد الشاعر المحفلية التي كان يحتشد لها، ويصب طاقته الفنية فيها، ليست فيها قصيدة واحدة متعددة القافية فيها، الأمر الذي يجعلنا نقدر أنه أدرك أن وحدة القافية أدعى إلى التأثير في الجمهور، مثلها في ذلك مثل القافية المطلقة، والوزن الواحد، والبحور التامة، وتصريع المطالع.
❊❊❊
قوافٍ مأنوسة:
اختار عمر أبو ريشة لقصائده القوافي المأنوسة ذات الوقع الحسن والبعيدة تماماً عن كل جاف وخشن. ولذلك يخلو ديوانه خلواً تاماً من قصائد تتخذ حروف الزاي والطاء والظاء والصاد والجيم والخاء والغين قوافي لها. ولا ريب أن مرد ذلك إلى حسه الفني الغني الذي تداخلت في تكوينه موثرات موسيقية شتى، اكتسب بها خبرة عميقة كانت مرجعه في الاختيار.
وأكثر قوافيه تجري على حرف الراء، حيث نجد له اثنتين وعشرين قصيدة، ثم النون الذي يستأثر بثماني عشرة قصيدة، ثم الميم الذي يستأثر بسبع عشرة قصيدة، ثم الدال الذي نجد له إحدى عشرة قصيدة، واللام الذي نجد له عشر قصائد، والباء الذي نجد له ثماني قصائد، والتاء الذي نجد له ست قصائد، ومثله الياء، أما العين فله خمس قصائد، ولكل من الهمزة والقاف والهاء أربع قصائد، ولكل من السين والحاء قصيدتان، أما حرف الواو فله قصيدة واحدة.
❊❊❊
الموسيقى الداخلية:
حين نعايش شعر عمر أبو ريشة نجد للموسيقى الداخلية مكانها الموفور فيه، ذلك أنه كان شاعراً يتقن شعره ويحشد له طاقته الفنية، وكان شاعراً تضافرت مجموعة عوامل لتثري من قدراته الموسيقية، فما كان له وأمره كذلك أن تغيب الموسيقى الداخلية عنه.
لذلك عني بها وأبدع فيها، فازدادت موسيقاه بذلك غنى وتنويعاً وتوقيعاً، من أجل هذا لا نخطئ أن نجد الموسيقى الداخلية في مظانها المعتادة تعلن عن نفسها حيث تكون.
❊❊❊
نجدها في التصريع الذي جرت عادة الشعراء أن يفتتحوا قصائدهم به، وديوان عمر أبو ريشة يحوي مئة وثلاثين قصيدة كما سبق القول، لا بد من إسقاط واحدة منها ونحن نتحدث عن التصريع وهي قصيدة «الخزان الأكبر» التي تجري على الشعر الحر، ومن بقية القصائد نجد ستاً وستين قصيدة مصرعة وثلاثاً وستين غير مصرعة، أي أن المصرع أكثر من النصف بقليل مما يدل على إدراك عمر لقيمة التصريع في إثراء الموسيقى وزيادة وقعها، ويؤكد ذلك أننا نرى قصائده المحفلية مصرعة المطالع بدون استثناء، الأمر الذي يدل على قيمة التصريع لديه، فحرص عليه في قصائده المحفلية حرصه على وحدة الوزن، ووحدة القافية، والقافية المطلقة، والبحور التامة.
والتصريع هو استواء آخر جزء في صدر البيت وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي والإعراب، وقد عني النقد العربي القديم بالتصريع وأشاد به وأعلى من مكانته، وقال عنه ابن رشيق: «فأما التصريع فهو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه تنقص بنقصه وتزيد بزيادته»[102]، وقال عن مهمته: «وسبب التصريع مبادرة الشاعر القافية ليعلم في أول وهلة أنه أخذ في كلام موزون غير منثور، ولذلك وقع في أول الشعر، وربما صرع الشاعر في غير الابتداء، وذلك إذا خرج من قصة إلى قصة، أو من وصف شيء إلى وصف شيء آخر؛ فيأتي حينئذ بالتصريع إخباراً بذلك وتنبيهاً عليه»[103].
إن البيت الأول في القصيدة العربية هو بمثابة المفتاح الموسيقي للقصيدة كلها، حيث تتبعه بقية الأبيات وزناً وقافية، ومعنى هذا أن السامع للقصيدة العربية يستطيع أن يعرف لحن القصيدة، وأن يتوقع قافيتها منذ بيتها الأول، فإذا كانت القصيدة مصرعة كان بوسعه ذلك منذ شطرها الأول، وهذا من شأنه أن يحدث التواصل بصورة أكبر بين المبدع والمتلقي، ويهيىء أذن المتلقي لاستقبال ألحان القصيدة لأنه قد عرف مفتاحها الموسيقي واستعد للتعامل معه.
من أجل ذلك جعل النقد العربي القديم التصريع مذهب الشعراء المطبوعين المجيدين[104]، وعده دليلاً على قوة الطبع وكثرة المادة[105].
وكما أعلى القدماء من قيمة التصريع، أعلى منها المحدثون، فقال الدكتور النعمان القاضي عنه: «وللتصريع قيمة موسيقية بالغة التأثير»[106]. كما قال عنه الأستاذ علي الجندي: «والتصريع -في حقيقته- ليس إلا ضرباً من الموازنة والتعادل بين العروض والضرب، يتولد منها جرس موسيقي رخيم، وهو لذلك من أمس الحلي البديعية بالشعر، وأقربها إليه نسباً، وأوثقها به صلة. ونحن حينما نرهف آذاننا للإنشاد من شاعر معروف، فأول ما نتشوف إليه، ونترقبه منه، هذا التصريع الذي يشبه مقدمة موسيقية خفيفة قصيرة، تلهب إحساسنا، وتهيئنا لاستماع قصيدته، وتدلنا على القافية التي اختارها، فإن أغفله أو أتى به رديئاً أو ركيكاً، خيل إلينا أن شيئاً من الجمال، ترك مكانه شاغراً»[107].
ولقد شكلت القصائد المصرعة أكثر من نصف الديوان، واستغرقت كل الشعر المحفلي فيه الذي لا نجد له قصيدة واحدة يغيب في مطلعها التصريع، وإذا كان عمر أبو ريشة يستجيب لسجيته في المطالع بحيث لا يحملها على التصريع دائماً، فإنه كان يستجيب لإرادته وقصده في الشعر المحفلي بحيث يكون التصريع فيه قاعدة مطردة، لعمق يقينه بالأثر الموسيقي له خاصة أنه كان شاعر إلقاء ومحافل متفرداً، يحرص على التأثير في الجمهور الذي كان يعجب به أشد الإعجاب.
فقصيدته «بلادي» وهي قصيدة وطنية شهيرة قالها في رثاء سعد الله الجابري، يقول مطلعها:
هيكل الخلد لا عدتك الغوادي أنت إرث الأمجاد للأمجــــاد
وواضح أن كلمتي «الغوادي» و«الأمجاد» متماثلتان تماماً وزناً وروياً وإعراباً، ولذلك تستعد الأذن العربية فور سماعها الشطر الأول من البيت لتلقي الثاني منه، وقد تفاعلت وتواصلت مع البحر الخفيف والدال المكسورة والمسبوقة بألف ممدودة، فيطيب لها النغم وتزيد قوة التلقي.
ومثل ذلك يقال عن قصيدته الشهيرة «خالد» وهي قصيدة محفلية مطلعها:
لا تنامي يا راويات الزمان فهو لولاك موجة من دخان
وعن قصائده المحفلية الأخرى «شهيد» ومطلعها:
نام في غيهب الزمان الماحي جبل المجد والندى والســماح
و«شاعر وشاعر» ومطلعها:
شاخص الطرف في رحاب الفضاء
فــــوق طود عالي المنــــاكب نـــاء
و«مع المعري» ومطلعها:
ملعب الدهر لو ملكنا هدانا لبلغنـــا من الحيــاة منـــانا
و«هذه أمتي» ومطلعها:
ما صحا بعد من خمار زمانه فليرفه بالشـــدو عن أشجــانه
و«محمد» ومطلعها:
أي نجوى مخضلة النعماء رددتها حنــاجر الصحراء
و«من ناداني» ومطلعها:
رد لي ما استرد مني زماني فأراني ما الحــلم كان أراني
و«أنا في مكة» ومطلعها:
لم تـــزالي على ممر الليـــالي
موئل الحق يا عروس الرمال
و«حماة الضيم» ومطلعها:
عاتبته ونسيت طيـــب نجاره
وأبيت أن تصغي إلى أعذاره
و«حكاية سمار» ومطلعها:
هل في لقائك للخيال الزائر إغضاء سـال أم تلفت ذاكر
و«قيود» ومطلعها:
وطن عليه من الزمان وقار النــور ملء شعابه والنـــار
و«بنات الشاعر» ومطلعها:
نديـــك السـمح لم يخنق له وتر
ولم يغب عن حواشي ليله سمر
و«يا رمل» ومطلعها:
يـا رمل ما تعب الحادي ولا سئما
ولا شكا في غوايات السراب ظما
و«بعد النكبة» ومطلعها:
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقـــلم
و«عرس المجد» ومطلعها:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغــانينا ذيــــول الشهـــــب
بل إن مثل ذلك يقال عن قصائد غير محفلية حرص الشاعر فيها على التصريع مثل قصيدته «نسر» التي مطلعها:
أصبـــح الســـفح ملعبـــاً للنسـور
فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري
و«إفرست» ومطلعها:
إليــك غيــر الظــن لا يرتقي يا عاصب الغيم على المفرق
و«لا تندمي» ومطلعها:
لا تنــدمي يــا أخــت لا تنـــدمي
ما زال بعض الطيب في الموسم
و«عزاء» ومطلعها:
أما الصبــــا فلقد مرت لياليه
فابكيه يا عفة الجلباب فابكيه
❊❊❊
ومن أجمل مواقع الموسيقى الداخلية عند الشاعر ذلك النغم الجميل الذي يتأتى مما يمكن أن نطلق عليه اسم تماثل الإيقاع حيث نجد الوقع يتكرر على الأذن في ألحان جميلة تأنس بها وتهش لها، وينجم هذا الإيقاع المتماثل من بناء الجمل عند عمر أبو ريشة.
والحقيقة أن شعره غني جداً بهذا اللون الموسيقي بحيث لا تخطئ أن تجده في معظم شعره.
يقول الشاعر في قصيدته «بعد النكبة» مخاطباً أمته عاتباً عليها:
فيــم أقـــدمت وأحجــــمت ولم يشتـــف الثــــأر ولم تنتــــقمي
اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسـمي
فالفعلان «أقدمت» و«أحجمت» على وزن واحد، وكلاهما يبدأ بحرف الهمزة المفتوحة، وينتهي بحرف التاء المكسورة؛ مما يحقق للبيت مزيداً من الوقع الموسيقي المتماثل. أما البيت الثاني فهو أغنى من أخيه، حيث نجد أربعة أفعال أمر: «اسمعي اطربي انظري ابسمي» كلها متماثلة الوزن، وكلها تنتهي بالياء، كما نجد في البيت نفسه تماثلاً موسيقياً تاماً بين «نوح الحزانى» في الشطر الأول و«دمع اليتامى» في الثاني. وهذا يثري الموسيقى وينوع فيها، ويجعل الأذن تتلقاها بلذة تتأتى من الوقع الموسيقي المتتابع والمتماثل.
وفي رائعة الشاعر «حكاية سمار» التي ألقاها في حفل تكريم الأخطل الصغير نجده يقول:
أمجنح الحرف الحرون ومرقص الـ
ـوتــر الحنـــون على أنامل ســــاحر
الذكريــــات على الزحــام تدافعـــت
فـكأنهــن لديــــك سـرب ضـرائــــر
فـلأيهــــا تـومي براحــــة تـــــــائب
ولأيهـــا ترنـــــو بمقــــلة غافـــــــر
فهصــــرت زهرتها بدمعة شـــــاكر
وعصـــرت شوكـتهــا ببسمة صابـر
ولكم تخطفـــك الخيـــــال فعدت بالـ
ـعشـــــاق من حرم الزمان الغــــابر
عمـــــر ونعـــم يا خيـــــام تـلـفــتي
صوب العـبيـــر ويا نجوم تسـامري
عرفتـــك دنيــا البغي صرخة نـــاقم
يزري بهيـبتهـا وغضبـــــــة ثـــائـر
فهـــززت عــزمة كل وان متعــــب
وأثــــرت نخـــوة كل عــــــان سادر
في البيت الأول يغنى الإيقاع ويثرى من «الحرف الحرون» و«الوتر الحنون»، والجملتان يتماثل إيقاعهما تماثلاً بديعاً من عدد الحروف المتساوي منهما، ومن الكسرات التي تنتهي بها الكلمات الأربع، فضلاً عما تحدثه كلمتا «الحرون» و«الحنون» من نغم عذب؛ إذ تنتهي كل منهما بحرف النون المسبوق بالواو. لقد وصف عمر أبو ريشة في هذا البيت صديقه الأخطل الصغير وأعلى من قدرته الموسيقية وهو بذلك جدير حقاً، لكن عمر أبو ريشة أيضاً جدير بهذا الثناء الذي أسبغه على صديقه، وهو أيضاً جدير بأن يوصف بأنه «مجنح الحرف الحرون، ومرقص الوتر الحنون».
ويحقق البيت الثالث موسيقى بديعة حيث نجد في كل شطر أربع كلمات تماثل كل منها نظيرتها في الشطر الآخر وزناً ومداً وإعراباً، فكلمة «لأيها» في الشطر الثاني تماثل أختها في الأول لأنها تكرار لها، وكلمة «ترنو» في الثاني تماثل كلمة «تومي» في الأول، ومثل ذلك يقال عن كلمتي «بمقلة» و«براحة»، وكلمتي «غافر» و«تائب»، ويمكن للمرء أن يختبر غنى الموسيقى في هذا البيت لو كرره فيما بينه وبين نفسه عدة مرات.
وما قيل عن البيت الثالث يقال تماماً عن البيتين الرابع والثامن، حيث تماثل كل كلمة في الشطر الثاني أختها المناظرة لها في الشطر الأول، فتزداد موسيقاهما ثراء وروعة.
أما البيت السادس فنجد التماثل بين «يا خيام تلفتي» في الشطر الأول وبين «يا نجوم تسامري» في الثاني، وهو تماثل يزيد موسيقاه وقعاً النداء الذي يسبق الاسمين فيهما «خيام» و«نجوم»، والياء الذي ينتهي به فعلا الأمر «تلفتي» و«تسامري». ومن هذا الإيقاع المتماثل قول الشاعر في قصيدته «بنات الشاعر»:
رواقص تحــــمل الســلوى وتســكبها
وليـــس تعــــلم ما الدنيـــا وما القـــدر
على تـــأودها الإغـــراء منتـــــــفض
وفي تـلفتـــــها الـتحنـــــــان منهــــمر
الكـــــأس من خــمرة الإلهام متــرعة
والقـــــلب في هيـكل الأحلام معتـــمر
والحــــب قربنـــــا منــه وعلمنــــــــا
ما قــــدس الله لا ما دنــس الـبشـــــــر
غنــت فمن نينــــوى مر الشقـــــاء بنا
فالروح لا عبــــق والغصـــن لا ثمــر
رمى بنــــا القفر وافتض الســراب به
فــــأين لا أيــن منه الورد والصـــــدر
كتــــائـب بـالنضــــال الحق مؤمنــــة
إذا الـطواغيـــت من إيمانهـــا سخروا
إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبــوا
أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا
عــلى أرائــكهم سبحــــــان خــــالقهم
عاشوا وما شعــروا ماتوا وما قبــروا
والأبيات غنية جداً بهذا الإيقاع البديع الذي يثري موسيقاها ويغني ألحانها، فتعذب في أذن السامع، وخاصة حين يصل إلى البيتين الأخيرين منها حيث يتتابع اثنا عشر فعلاً ماضياً على قافية واحدة ممدودة.
ومنه قول الشاعر في قصيدته «لبنان»:
ولنـــا في كل نـــاد سمر عكف حول أمان شــرد
يوم طوقت البرايــا بيــد وتـلقيـــت جنــــاها بيــد
قدم تجرح أحشاء الثرى وفم يلثـــم خد الفرقـــــد
وقوله في قصيدة «الروضة الجائعة»:
وللغصـــن ترنيـــمة العنـدليب وللجـــو تسـبيحــــة القبـــــرة
ورقص القيان وخفق الصنوج وعربـــدة الأكـؤس المســكرة
فـــذا شبـــح فــــاغر شـــــدقه وذا شبــــح شــــاحذ خنجـــره
وقوله في قصيدة «لوعة»:
وتـــراءى لي علي كاسيـــاً من خيوط الفجر أسنى حلل
مرح اللفتـــة مزهو الخطى ســـلس اللهجة حلو الخجـل
وبنــــات الحي في ملعبـــه راحة تومي وطرف يجتـلي
وقوله في قصيدة «يا رمل»:
هنـــاءة شقيت هوج النفوس بها
فعربدت صلفاً واستكبرت شمما
فما هوى صــارم إلا رمى عنقاً
ولا هوى معول إلا رمى صنما
فتـــاب من لم يكن بالله معتقـــداً
وثاب من لم يكن بالله معتـصـما
❊❊❊
وللتكرار وقع موسيقي جميل ينوع في أوتار الموسيقى الداخلية وأنغامها، وهو أحد مواقع هذه الموسيقى عند عمر أبو ريشة الذي يستنبط منه ألحاناً جميلة في مثل قوله في قصيدته «لبنان»:
أنت ما أنت فتـون سـرمدي نجتدي من وحيه ما نجتدي
وننـــاجيك وفي ألحـــاننـــا ينتهي شوق وشوق يبتـــدي
ففي البيت الأول تتكرر كلمة «أنت» مرتين، وكذلك كلمة «نجتدي»، وفي البيت الثاني تتكرر كلمة «شوق» مرتين. وهذه الكلمات الثلاث تتكرر تكراراً تاماً بما فيه حركة الإعراب التي تتحد على أواخرها مما يزيد الموسيقى وقعاً وجمالاً.
وفي مثل قوله في قصيدة «كنا» حيث يقول لمحبوبته:
مري بجفنيـــك على جبهـــــتي واستعرضي العيش الفتي السنا
وسـلســــليه قصـــــة قصـــــة وقربيـــــــه موطنـــــاً موطنـــا
ففي البيت الثاني تتكرر كلمة «قصة» مرتين، ومثلها كلمة «موطناً»، وكل منهما في موقع إعرابي واحد يوحد حركة الإعراب عليهما، فيثري الموسيقى؛ خاصة أن فعل الأمر في أول الشطر الثاني مماثل لنظيره في أول الشطر الأول تماماً حتى في حركة الإعراب. وبذلك يصبح البيت لحناً موسيقياً غنياً جداً بما فيه من تكرار ألفاظ وتماثل شطرين.
وفي قصيدته «لا تندمي» يقول الشاعر:
لا تنـــــدمي يا أخت لا تنــــدمي ما زال بعض الطيب في الموسم
ولم تـــزالي في ســـــماع الـدنى أشهى أغــــاني الشـــاعر الملهم
ســـللتـــني من عـــــــالم بيـــــن وســــرت بي في عـــــالم مبـهم
وفيها نجد كلمة «لا تندمي» تتكرر مرتين في الشطر الأول من البيت الأول، فيتكرر وقعها الذي زاده غنى أن الكلمة تبدأ بـ «لا» الناهيةن وهي حرف ممدود يطلق الصوت، وتنتهي بحرف ممدود هو الياء في نهايتها يطلق الصوت كذلك، ونجد كلمة «تزالي» في البيت الثاني هي تكرار لكلمة «ما زال» في الأول مع اختلاف يسير جاء من أن إحداهما جاءت فعلاً ماضياً والثانية جاءت فعلاً مضارعاً، أما البيت الثالث فتتكرر فيه كلمة «عالم» في شطريه تكراراً يزيد جماله وحدة حركة الإعراب وهي الكسرة والنعت الذي يأتي في وزن واحد، ويلحق بكل من الكلمتين والفعل الذي يسبقهما، ويأتي هو الآخر على وزن واحد.
ومن جميل تكرار الشاعر قوله في قصيدة في «البار»:
فكم هزآ بعشـــــــاق وكم رثيـــا لعشـــاق
وما دريــــا بما بيني وبينك من هوى باق
حيث تتولد الموسيقى الداخلية من تكرار كلمات «كم» و«عشاق» و«بين». وللتكرار هنا قيمته الموسيقية التي تنضاف إلى تماثل «هزئا» و«ورثيا» و «دريا» وما في هذا التماثل من قيمة موسيقية جميلة.
وقوله في قصيدة «عزاء»:
أما الصبــــا فلقد مرت لياليه فابكيه يا عفة الجلباب فابكيه
حيث يتكرر فعل الأمر «ابكيه» مرتين فنكسب قيمة موسيقية داخلية تنضاف إلى الموسيقى الداخلية الأخرى الناجمة عن النداء في «ياعفة».
وفي المقطع الأخير من قصيدة الشاعر «خاتمة الحب» التي نظمها في رثاء محبوبته الإنجليزية نورا نجده يقول:
الوداع الوداع يــا زهرة العمـ ـر ونبـــع الآمال والأحــــلام
الوداع الوداع يا شعـــلة اللطـ ـف ونور الإيحـــاء والإلهــام
حكــمة الله أن تـــزولي وأبقى هائمــــاً في الشقاء أي هيـــام
حكـــمة الله أن أظل حزينـــــاً أتــلاشى على ضريح غرامي
حكمة الله أن أقطـــع أوتـــــــا ر نشيـــدي بأحـزن الأنغــــام
حـــكمة الله أن أجر على جــر ح نعيـمي غشــــاوة من ظلام
حكــمة الله أن تســـدد في القلـ ـب ســـهام الأحـــزان والآلام
حكمة الله أن تجف على العشـ ـب زهور ما زلن في الأكـمام
حكـــمة الله هــــذه ملؤها العـد ل وكل الإنصاف في الأحـكام
ليس لي ما أقول يا مبدع الـكو ن فوقـع السكوت فوق الكـلام
فعــــلى ما وهبت ألف ســلام وعلى ما أخــــذت ألف سـلام
والتكرار في المقطع كثير، يبدأ بكلمة «الوداع» التي تتكرر في أول البيتين الأول والثاني وكأنها لحن جنائزي هادئ رتيب نفاذ، ينتهي بصاحبه إلى الاستسلام والرضا بحكمة الله عز وجل، وهنا تتكرر كلمتا «حكمة الله» في أوائل الأبيات السبعة التالية لتحدث وقعها في النفس بما يشي بالتسليم والإنابة التي لا يخالطها تذمر.
وتكرار هاتين الكلمتين في الموقع نفسه من سبعة أبيات متوالية يجعلها بمثابة اللازمة التي تعتادها الأذن وتأنس إليها، وذلك كله قيمة موسيقية داخلية غنية تتعاضد مع الموسيقى الخارجية التي يشكلها البحر الخفيف، لتكون الألحان أغزر وأجمل وأوقع.
ومن أجمل التكرار ما نجده في البيت الأخير من قصيدة الشاعر «عالم من نساء»:
وغاب في اليـم وغابت به وغاب عني عالم من نساء
حيث تتكرر كلمة «غاب» ثلاث مرات في الأولى يكون الحديث عن المركب المسافر، وفي الثانية يكون الحديث عن رفيقة الشاعر، وفي الثالثة يكون الحديث عن صنف من النسوة تنتمي إليه الرفيقة المسافرة، والتكرار هنا غني بالخيال، غني بالموسيقى في آن واحد.
ومنه قول الشاعر في ختام قصيدته «لوعة» التي رثى فيها ابن أخته:
ما لهـــا تنحـــرني نحراً على قولها: مات ابنها .. مات علي
والبيت من أبيات المفاجأة المتألقة التي اعتاد الشاعر أن يختم بها طائفة من قصائده، وقيمة الموسيقى هنا تتولد من تكرار كلمة «مات» مرتين في الشطر الثاني من البيت ليزداد اللحن ثراء وجمالاً.
وفي قصيدة «محمد» يصور لنا الشاعر نزول الوحي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في غار حراء:
وإذا هاتف يصيح به اقـــرأ فيدوي الوجود بالأصــــداء
وإذا في خشــوعه ذلك الأمْ مِيُّ يتـــلو رسالة الإيحــــاء
وإذا الأرض والسماء شفـاه تتغـــنى بسيـــد الأنبيــــــاء
والأبيات الثلاثة تبدأ جميعها بكلمة «وإذا» التي تتكرر في أول كل منها، لتحدث وقعها الموسيقي المحبب الذي يتوالى على الأذن بانتظام بديع كأنه لازمة موسيقية تتشوف النفس إلى سماعها وتحن إليها.
وفي قصيدة الشاعر «من ناداني» التي ألقاها في أحد مواسم الحج نجده يقول وهو يلوم نفسه لأنها لم تبلغ من سمو الروح ما يؤمل:
كم صــــلاةٍ صليتُ لم يتجــــاوز
قدس آيــــاتها حدود لســــــــاني
كم صيـــــامٍ عانيـتُ جوعي فيه
ونسيـــــت الجيـــاع من إخواني
كم رجمتُ الشيطان والقلب مني
مرهق في حبــــائل الشـــــيطان
وهذه الأبيات الثلاثة وفي القصيدة سواها مما يماثلها تتكرر في مطلع كل منها كلمة «كم» لتشكل صوتاً موسيقياً مميزاً يقع في مكانه الذي يتشوف إليه السمع ويترقبه.
❊❊❊
ومن مواقع الموسيقى الداخلية عند عمر أبو ريشة كثرة حروف المد بحيث يتاح للصوت أن يأخذ أقصى مدى له، الأمر الذي يغني اللحن ويمتد بأبعاده، نجد ذلك في قصيدته «ولا كلمة»:
في النجـوى من نعم اللقيا ما أشقى الحب وما ظلمه
بتنــــا وذراعانــــــا قيـدا دنيــــا بالفتـــــنة متسـمة
ومراشفنـــــا ريـــا وجوا نحنا بالنشوة مضطــرمة
ومحــاجرنــا غرقى فيما سكبتـــه يقظتنـــا النهــمة
وانفــض الليل وما مرت في مســـمعه منـــــا كلمة
في البيت الأول نحصي ستة حروف مد، ومثل ذلك في الثاني، وخمسة في الثالث، وستة في الرابع، وثلاثة في الخامس، ولا شك أن كثرة هذه الحروف تتيح للصوت أن يأخذ أبعاده ويمتد كيف يشاء، وفي ذلك موسيقى إضافية عذبة، وخاصة حين تأتي هذه الحروف في كلمات متوالية كقول الشاعر في البيت الثاني «بتنا وذراعانا قيدا دنيا» وقوله في الثالث «ومراشفنا ريا وجوانحنا».
كما نجده في قصيدته «طهر» التي يقول فيها:
ألفيـــــتها ســـــــاهمة شـــــــاردة تأمـــــــلا
طيـــــف على أهدابها كـســــــرها تنقــــــلا
شق وشـــــاح فجرها خميـــــــلة وجــــدولا
وماج فيـــها رعشـــة حــرى وشوقاً منــزلا
نـــاديتها فالتفتـــــــت نهـــداً وشعراً مرسلا
واللحظ في ذهولـــــه مغــــــرورق تملمـلا
طوقتــــها يا للشــــذا مطــوقــــاً مقبـــــــلا
فـــما انثـــنت حـائرة ولا رنـــت تـــــــدللا
ولا درت وجنتــــــها مــن خجــــل تبــــدلا
كأنـــها في طهـــرها أطهــر من أن تخجلا
والموسيقى في الأبيات رشيقة جداً تأتي من مجزوء الرجز الذي تجري عليه القصيدة، وتأتي أيضاً من كثرة الموسيقى الداخلية المتنوعة التي تمدنا بها عدة مصادر أهمها حروف المد الكثيرة التي نجدها في جميع الأبيات، ولهذه الحروف موسيقى غنية عذبة الوقع تتكامل مع بقية المصادر وتتواصل.
ومن أجمل الوقع الموسيقي لحروف المد قول الشاعر في قصيدته «عرس المجد»:
رجفـت بالأمس سكرى ألم فأسـلها اليوم سكرى طرب
يــا لنعمى خف في أظلالها ما حملنا في ركاب الحقـب
أينما جال بنا الطرف انثنى وطيوف الزهو فوق الهدب
حيث تتوالى حروف المد في غزارة ورشاقة لتتصل موسيقاها الداخلية بموسيقى البحر الذي تجري عليه القصيدة، وهو بحر الرمل، وهو بحر راقص بطبيعته ورشيق، فينشأ عن هذا التواصل مزيد من الوقع الموسيقي المحبب.
❊❊❊
ويشكل النداء مصدراً من مصادر الموسيقى الداخلية عند عمر أبو ريشة، وذلك بما يتضمنه النداء من توتر عاطفي يكون في الغالب أكثر من المعتاد في بقية النص يفرغه الشاعر في الصيغة التي اختارها من صيغ النداء، ولذلك يغلب على النداء أن يحظى بقيمة شعورية وقيمة تعبيرية، أغنى من بقية السياق.
يقول الشاعر في المقطع الأول من قصيدته «خاتمة الحب» باكياً أحلامه وآماله بفقد الحبيبة:
يــا بقايا الأحلام في جفني النـــا
ئم أخــلي مقـــرك اليوم أخــــلي
يا سراج الآمال قد نضب الزيـــ
ـت فبــدد هذي الخيـــوط وأبلي
يـا فؤادي دع الوجيــــب لأقــرا
فوق رأس الحبيـب سورة ثكلي
يا عيوني دعي البــكاء فصعب
أن أراها وأدمعي فيــــك تغــلي
تبدأ الأبيات الأربعة كلها وهي تأتي في نهاية المقطع بحرف النداء «يا» لتتيح للحزن الذي كابده الشاعر أن ينفس عن توتره ولتتيح للصوت أن يأخذ مداه فيكون عوناً على هذا التنفيس فآهة الحزن تمتد وحرف النداء يمتد، وفي ذلك مساحتان أكبر من الشعور ومن التعبير.
وفي قصيدة الشاعر «خالد» نستمع إليه وهو يقول:
لا تنامي يا راويـــــات الزمان
فهو لولاك موجة من دخــــان
يا مسجى في قبة الخلد يا خــا
لـــد، هل من تـلفــت لبيــــاني
أنا من أمة أفــــاقت على العـزْ
زِ وأغفت مغموسة في الهوان
والأماني التي اسـتماتت عليها
واجـــمات تـكـلمي يـــا أماني
لا تقـــل ذلت الرجولـة يا خــا
لد واستســــلمت إلى الأحـزان
وقراءة هذه الأبيات قراءة متأنية، تدل على قيمة النداء الموسيقية الثرة التي تغني إيقاع القصيدة وتنوع في ألحانها، حيث ينادى الشاعر راويات الزمان، وينادي خالداً المسجى في قبة الخلد، وينادي الأماني طالباً منها الكلام. والطريف المحبب في موسيقى هذه القصيدة أنها تجري على البحر الخفيف الذي برع فيه عمر أبو ريشة وأكثر، والذي اعتدنا أن نجده يسيل عذوبة عنده، وهذه العذوبة تتلاقى مع عذوبة النون المكسورة المسبوقة بألف التي تشكل قافية القصيدة، ومع النداء الذي يثري الموسيقى الداخلية، لنظفر من ذلك بلحن موسيقي رائع ومتكامل، وحسب المرء أن يعيد قراءتها فيما بينه وبين نفسه بأناة ليدرك ذلك.
ومن أوقع نداءات الشاعر هذا البيت الطريف الذي يقوله في قصيدته «عرس المجد»:
يا روابي القدس يا مجلى السنا
يا رؤى عيسى على جفن النبي
حيث يتكرر النداء ثلاث مرات في «يا روابى» وفي «يا مجلى»، وفي «يا رؤى» وتلك قيمة موسيقية غنية تتلاقى مع القيمة الموسيقية الغنية الأخرى التي نجدها في الكلمات ذاتها والمتأتية من حروف المد فيها، فتتلاقى هذه مع تلك، مع الموسيقى الرشيقة لبحر الرمل مع القافية المطلقة، ليكون من ذلك لحن موسيقي غني يسيل عذوبة.
وهذان البيتان في قصيدته «بلادي» التي رثى فيها سعد الله الجابري:
أيها الســائلون كم زيف الـدرْ رُ وأمسى قلائــــد الأجيــــاد
يا حبيب الخلود طوبى جفون نعــمت بالكرى ليـوم التنـــاد
والنداء في البيت الأول يعتمد على «أيها» التي يأتي إيقاعها من الياء المشددة، ثم من حرف المد، وفي الثاني يعتمد على «يا»، والقيمة الموسيقية لهما تتضافر مع قيم أخرى من قيم الموسيقى الداخلية، مثل حرفي المد في كلمة «السائلون»، وحرفي المد في كلمتي «أمسى» و«قلائد»، وحروف المد في أربع كلمات متوالية هي «حبيب» و«الخلود» و«طوبى» و«جفون»؛ فيشعر الإنسان أنه إزاء لحن موسيقي غني ومتصل.
ويناجي عمر أبو ريشة فلسطين، وهي في محنتها فيقول لها في قصيدته «هذه أمتي»:
أي فلسطين يا ابتسامة عيسى لجراح الأذى على جثــــمانه
يا تثني البراق في ليـلة الإسـ ـراء والوحي ممسك بعنـــانه
فنجد في البيت الأول نداءين «أي فلسطين» و«يا ابتسامة عيسى»، وفي الثاني نداء واحداً «يا تثني البراق»، ولا ريب أن توالي النداء في بيتين متعاقبين يغني قيمتهما ويثريهما شعورياً وتعبيرياً.
ومن جميل النداء قول الشاعر في ختام قصيدته «أمرك يا رب» مصوراً ما تردد أنه دار على لسان الملك فيصل بن عبد العزيز لحظة استشهاده:
يا رب ما حل بي جرحي يسيل على
شراعها رعشة الإعيــــاء تغشـــاني
يا رب حسبي وأنت الآن مغـــرقهــا
إن قيل أغرقــــــت فيها خير ربـــان
فالملك الذي يودع الحياة الدنيا ويستقبل الحياة الأخرى ينادي ربه مرتين متواليتين «يا رب»، ويأتي النداء في أول كل بيت منهما ليصور تصويراً جميلاً لحظة الانتقال في نداء جميل يستمد وقعه المحبب من حرف المد الذي يتيح للصوت أن يبلغ مداه من ناحية، ومن تكرار النداء الذي يأتي في ختام القصيدة ليكون لحناً مكرراً تأنس إليه الأذن وتطرب له من ناحية.
❊❊❊
ويشكل الاستفهام مصدراً ثرياً من مصادر الموسيقى الداخلية عند عمر أبو ريشة، فمثلاً نجده في قصيدته «عرس المجد» يبكي محنة القدس وهي بأيدي غاصبيها، فيقول:
أين في القــدس قلوب غضـــة لم تلامسهـا ذنـــــــابى عقرب
وقف التـــاريخ في محـــرابها وقـــفة المرتجف المضطـرب
كم روى عنها أناشيــــد النهى في ســماع العالم المستغــرب
أي أنشــــودة خزي غـص في بثـــها بيـــن الأسى والـكــرب
ما لأبنـــاء السبايــــا ركبــــوا للأماني البيض أشهى مركـب
ومتى هــــزوا علينــــا رايـــة ما انطوت بين رخيص السلب
ومن الطـــاغي الذي مد لهـــم من ســراب الحق أوهى سبب
أو ما كنــــــا له في خطبــــــه معقـــــل الأمن وجسر الهرب
ما لنـــا نـلـــــمح في مشيــــته مخــــلب الذئب وجلد الثعــلب
وهذه الأبيات قطعة متصلة من القصيدة الشهيرة التي ألقاها الشاعر في ذكرى استقلال سورية عن فرنسا، وهي تقع في تسعة أبيات مترابطة يشكل الاستفهام فيها حيزاً كبيراً، يبدأ الأول باستفهام، ثم يتلوه الثاني والثالث خاليين من الاستفهام، لكنهما مهمان، حيث يعليان من قيمة القدس وأهميتها، مما يجعلها جديرة بستة استفهامات متوالية تبدأ من البيت الرابع وتنتهي في التاسع، وقد حرص الشاعر على أن يأتي بها في أوائل الأبيات كما حرص على أن ينوع في أدواتها «أين» و«أي» و«ما» و«متى» و«من» و«أوما»، وقد أورثت هذه الاستفهامات المتكررة والمتنوعة؛ الأبيات قيماً معنوية وقيماً شعورية إلى جانب ما فيها من قيم تعبيرية صوتية تنشأ من استهلال الأبيات بها، ومن تواليها كما لو كانت لازمة يتماثل إيقاعها ويتجدد، ومن الأمور المتوقعة أن الشاعر أحسن استغلال هذا الاستفهام في إنشاده لأنه شاعر إلقاء متفرد.
وربما استعمل الشاعر همزة الاستفهام سابقة للفعل، ثم أتبعها باستفهام آخر كقوله في قصيدته «بلادي»:
أترى الحق كيف أغضى حياء
ولوى جيــــده كئيب الفــــــؤاد
أو اكتفى بها وحدها كقوله في قصيدته «مع المعري»:
أنريد الوجود منهتك الستـ ـر يرينا أسراره عريانــــا
أو أورد استفهامين متواليين في نفس الموقع من بيتين متتابعين كقوله في القصيدة نفسها مخاطباً أبا العلاء:
كيف ألـفيــــت عالماً لم يكـــحل
مرود النــور جفنـــه الوسنــانــا
هل محا بســــمة الكـآبة عن فيـ
ـك وأردى في صدرك الأحزانا
وربما استعمل همزة الاستفهام في نهاية قصيدة لتكون ختاماً مثيراً كقوله في قصيدته «يارمل»:
أمن سنــــا أحمد حـــــر ستطلـعه
وتطلع المجد في برديه مضطرما
فيـرجع الأرض ريا بعد ما يبست
ويمتطي الدهر غضاً بعدما هرما
أو في بدايتها لينبه المتلقي ويستأثر باهتمامه كقوله في قصيدته «محمد»:
أي نجوى مخضلة النعماء رددتها حنــاجر الصحراء
وربما كرر الاستفهام نفسه في مطلع مقطع من قصيدة، ثم ختم المقطع باستفهام آخر كقوله في قصيدته «هذه أمتي»:
أيــن لا أيـن موئــــل عربي يسـرح الحر في ظلال أمانه
تعب البغي وهو يضرب فيه ويروي ثــراه من أضغـــانه
وتعـايا خزيان عن هدم حب تتــلاشى الأبعاد في ميزانـه
أي جرح ضج العـراق عليه ما تلقى الأســــاة من لبنـانه
وربما حرص على الاستفهام في مطالع أبيات متوالية، وأغناها باستفهامات أخرى داخل الأبيات نفسها كقوله في القصيدة السابقة:
أهتـــاف خلف البحار بصهيـ ـون وحدب على بناء كيـــانه
ومن الهـــــاتف الملح أحـــــر أين صدق الأحرار من بهتانه
أين ميثـــــاقه أتنحسـر الرحـ ــمة في دفتـــــيه عن عدوانـه
فالأبيات تتوالى في مطالعها استفهامات، وإذ يظل الأول مكتفياً بالاستفهام الذي جاء في مطلعه، يحظى الثاني باستفهامين، ويحظى الثالث باستفهامين آخرين أيضاً.
ومن أجمل استفهامات الشاعر قوله في قصيدته «أمرك يا رب» التي قالها في رثاء الملك فيصل بن عبد العزيز، مصوراً ما دار في خلد المرثي لحظة موته:
يـــا رب أمرك هذا لا أطيـــق له
رداً فأمرك يـــــا ربي تـــــولاني
من أين أي دوي عاصف عشيت
عينــــاي من وقعه واهتز بنيـاني
أعيا خيالي فلم أدرك مصــــادره
من أي صــاعقة من أي بركـــان
أما البيت الأول وهو مطلع القصيدة، فالشاعر يناجي فيه ربه عز وجل، ثم يأتي الثاني باستفهامين متواليين، ثم يأتي الثالث هو الآخر باستفهامين بينهما فاصل صغير.
وللشاعر قصيدة طريفة اسمها «نجمة» تقع في عشرة أبيات، تتوالى الاستفهامات في أوائل أبياتها جميعاً باستثناء بيتها الأخير:
من ينــــــاديني وقــــد أنـكرني في دروب العمر من يعـــرفني
أغريــــب مــــل في غربتـــــه عبـــث الوهم ولهـــو الزمــــن
أم شــــقي نسـي الـكبــــر على شفتــــيه بســـــــــمات المؤمـن
من ينـــاديني وأعراس الصبــا لم تدع في الكأس ما يســـكرني
أبتــــــول سـلها من خــــــدرها شوقها المخضوب بالحلم الهني
أمٌّ هلوكٌ ألفـــت روضتــــــــها شفـــة الســـاقي وكف المجتني
من ينــــاديني وســمار الـدجى كحـــــلت أجفــــانهم بالـوســن
أحبيـــب أي أحبـــــابي تـــرى من كوى الغيب سرى يؤنسـني
ما لأصداء المنــــــادي خفتــت وتـــــــلاشى وقعهــــا في أذني
نجمة ضـــــاءت على البعـــــد فيا ذيلها الوضــاء كن لي كفني
والأبيات التسعة تبدأ باستفهامات، بل إن الثامن منها فيه استفهامان، وتوالي هذه الاستفهامات -خاصة وهي تقع في موقعها المتكرر في بداية كل بيت- يجعل لها نغماً متماثلاً متكرراً يثري الإيقاع الموسيقي، ويشد انتباه المتلقي الذي يشعر بتوالي الأسئلة وتلاحقها، فكأنها تحاصره حتى لا يجد منها فكاكاً.
وتشبه هذه القصيدة قصيدة أخرى اسمها «لمن» تقع في ثمانية أبيات:
لمن تعصر الروح يا شـاعر أما لضـــلال المنى آخــــــر
أللحــب أين التفــات الفتـون إذا هتــف الأمل العـــــــاثـر
أللهــــو كم دميـــة صغــتها ومزقــــها ظفـــرك الكاسر
أللمجــــد ماذا يحس القتيــل إذا ازور أو بســــم العــــابر
أللخـــلد كيف ترد الذئــــاب وقــد عضها جوعها الكــافر
رويــدك لا تسفحن الخيـــال ببيــــداء ليـــس بها ســــامر
أما يرقص الكون في صمته كما يرقص الحيــــة الساحر
دع الحلم يخفق في ناظريـك فموعـــده غدك الســـــــاخر
والاستفهام يشيع في أبيات القصيدة كلها باستثناء البيتين السادس والثامن، وخمسة من هذه الأبيات نجد في كل واحد منها استفهامين اثنين. وأطرف من ذلك أن أربعة متوالية من هذه الخمسة تبدأ بأداة استفهام واحدة هي الهمزة، وهذا يعلي من موسيقى القصيدة، ويغني إيقاعها. ولو جرب الإنسان قراءتها على طريقة الإنشاد لوجد فيها متعة بالغة.
ومن أجمل الاستفهامات قول الشاعر في قصيدة «الفارس»:
أأناجيك يا إميل على البعـ ـد وللشوق وهجـه واتقاده
وقوله في قصيدة «طلل»:
أأستنطق الصخر عن ناحتيه وأستنهض الميت من رمسـه
وقوله في قصيدة «الروضة الجائعة»:
أأقلقت أحلامك الهاجعات على سرر النعمة المدبرة
وجمال هذه الاستفهامات يتأتى من الهمزتين في كل فعل بدأ به البيت، همزة الفعل نفسه، وهمزة الاستفهام، وتوالي هاتين الهمزتين يغني الموسيقى ويثريها.
ومن الاستفهامات البديعة قول الشاعر في قصيدة «دليلة»:
ما تصباك؟ ما توهمت؟ ما أغــ ـراك؟ ما خيـــلت إليك المخيلة؟
ووجه الجمال فيها أن بيتاً واحداً تتوالى فيه أربعة استفهامات، وأن هذه الاستفهامات تكرر أداة واحدة.
❊❊❊
ويشكل التنوين مصدراً غنياً من مصادر الموسيقى الداخلية عند عمر أبو ريشة بسبب وقعه المميز كقوله في قصيدة «لوعة»:
وفضضت الطرس لم أعثر على
غيــــر سطر واحــــد مختــــزل
وتهجيـــت بجهــــــــد بعضـــــه
إن أختي كتـبــــــت في عجـــــل
فيـــــــه شيء عن علي مبـــــهم
ربـمــــا بعد قليـــــــل ينجـــــلي
فالتنوين في كلمات «سطر» و«واحد» و«جهد» و«علي» و«مبهم» و«قليل»؛ يتوالى ليحدث وقعه الجميل المحبب في الأذن، والبيت الثالث تتوالى فيه أربعة تنوينات.
وتوالي ثلاثة تنوينات في بيت واحد تزيد الموسيقى عذوبة كقول الشاعر في قصيدة «فراق»:
ومغاني أيامك الزهر مهد لوصـــال وملعب لأماني
حيث نجد التنوين في كلمات «مهد» و«وصال» و«ملعب».
ومن بديع التنوين قول الشاعر في القصيدة السابقة:
قم تـكـلم فإن صمتــــك دمع في جفوني وعقدة في لساني
حيث تأتي الكلمتان «دمع» و«عقدة» منونتين، فيكون لهما الوقع الجميل الذي يتضافر مع مصادر أخرى للموسيقى الداخلية كالسكون في فعلي الأمر «قم» و«تكلم»، والوزن الواحد لكلمتي «جفوني» و«لساني»، ومن حرفي المد في نهايتيهما، وهو الياء المسبوقة بنون وبحرفي مد آخرين هما الواو والألف.
وللتنوين حظ موفور في قصيدة الشاعر «بلادي»:
وإذا زأرة يموج لها الجمــ ـع تدوي صخابة الإرعـاد
وإذا سعــــد الأبي مطــــل ثـابت العزم مطمئن الفؤاد
وقفة ردت الذئاب سخــالاً وثنتها عن غيها المتـمادي
وتجــلى من بعدها يتهادى باختيال على الأذى واتئاد
زهــوة في تواضع وإبــاء في خشوع ورقة في عناد
من ميـادين نـزع بالأماني لميـادين خضب بالعوادي
فالتنوين في كلمات «زأرة» و«سعد» و«مطل» و«وقفة» و«سخالاً» و«اختيال» و«زهوة» و«تواضع» و«إباء» و«خشوع» و«رقة» و«نزع» و«خضب» يحدث أثره الجميل في الأذن إذ يغني الموسيقى وينوع فيها.
والبيت الخامس من هذه الأبيات بالذات غني جداً بموسيقى التنوين لاشتماله على خمس كلمات منونة.
وفي قصيدته مع «المعري» نجد للتنوين حظه البارز كقوله:
وحنيــــن المجهـــول أخيـلة تنـ
ـبت من كل صخـــــرة ريحانـا
أي زاد سوى الظنــــون حملـنا
وتركنــــا إلى هواهــا العنـــانـا
واحتوانا من كل صوب ضباب
يرجـــع الطرف خاشعــاً حرانا
بيـن شـــــكٍّ مروعٍ ويقيــــــــنٍ
مطمئـــــنٍّ ما يأتــلي حيرانـــــا
لقد كثر التنوين، وتوالى من الكلمات «أخيلة» و«صخرة» و«زاد» و«صوب» و«ضباب» و«خاشعاً «و«شك» و«مروع» و«يقين» و«مطمئن» فأغنى موسيقى الأبيات وأثراها، ولقد كان أروعه وأجمل في الأذن ما جاء في البيت الأخير من أربعة تنوينات متوالية لا فاصل بينها.
ومن أجمل مواقع التنوين عند الشاعر هذه الأبيات التسعة المتوالية في قصيدته «يا رمل»:
فــــما هوى صـــارم إلا رمى عنقـــاً
ولا هوى معـــــول إلا رمى صنـــما
ولا بــــدت ســـــــدة إلا تســــــنـمها
مؤذن لم يــــدع في مســـمع صــمما
فتــــــاب من لم يــكن لله معــتقـــــداً
وثـــــاب من لم يكــن بالله معتصــما
فأقبـــــلت سروات العــرب خاشعــة
تجـــــلو بإيمـــانها عن دينـــها التهما
وتحمل الشـــهب في راحاتها قضبــاً
والخيـــــل تعلك في أشــداقها اللجما
وأحــــمد يتـــلقــــــــاها وبســـــمتـه
تــــرد كــل فـــم للمجـــد مبتســـــما
والفتـــح يغـــمزها حتى إذا وثبــــت
لم تبق في الشرك لا عرباً ولا عجما
فــــرف في كل مجـــلى للهدى عـلم
يظــــل في كل مجـــــلى للفـدا عـلما
فــــازينت بالبنـــــاة الزهر مملـــكة
العـــدل ما شــــادها والحق ما دعما
حيث يكثر التنوين في هذه الأبيات ويتلاحق، مما يجعل وقعه أنغاماً عذبة متصلة نجدها في كلمات «صارم» و«عنقاً» و«معول» و«سدة» و«مؤذن» و«مسمع» و«معتقداً» و«خاشعة» و«قضباً» و«أحمد» و«فم» و«عرباً» و«علم» و«مملكة».
ومن مواقع التنوين الجميلة قول الشاعر في قصيدته «محمد»:
وقريش في يقظة الحقد وهج من عنـــاد ولفحة من عــداء
كـلمــــا مر مؤمن بحــــماها قـذفتـــــه بطعنــــة نجــــلاء
خسة تترك المروءة غضـبى وترد الحلوم صرعى حيــاء
حيث تتوالى الكلمات «قريش» و«وهج» و«عناد» و«لفحة» و«مؤمن» و«طعنة» و«خسة» ليترك التنوين فيها وقعه الجميل المميز.
ومنها قوله في قصيدته «شهيد»:
فـإذا الأعصر الخوالي مطـاف لخيــــالات شـــاعر صــــداح
وإذا الطـــرف ليـس يعثــر إلا بقيـــود مغــــموسة بجـــــراح
ورقـــــاب محنيــة تتـشــــظى مزقــــاً فــوق منجل السفـــاح
ليس بدعاً إذا تعالى وضيـــــع واستباح الحمى الحرام إباحي
قد تحوك الأقدار من لبـدة اللي ث وشاحاً للغانيـــات المــلاح
حيث يشكل التنوين في الكلمات «مطاف» و«شاعر» و«قيود» و«مغموسة» و«رقاب» و«محنية» و«مزقاً» و«بدعاً» و«وضيع» و«وشاحاً» موسيقى متوالية عذبة.
❊❊❊
ويشكل حسن التقسيم عند عمر أبو ريشة مصدراً من مصادر الموسيقى الداخلية في شعره يتضامن مع غيره من المصادر ليزيد الموسيقى تنوعاً وغنى، فمطلع قصيدته «حكاية سمار» يخاطب لبنان قائلاً له:
هل في لقائك للخيال الزائر
إغضـاء سال أم تلفت ذاكر
حيث نجد في الشطر الثاني تقسيماً بديعاً له وقعه الموسيقي الذي تلذ له الأذن بين «إغضاء سال» و«تلفت ذاكر».
ومن أجمل التقسيم في القصيدة نفسها قول الشاعر:
أنا فيض آلام ووحي ضلالة
وسراب أحلام وقبر ضمـائر
حيث يتوزع البيت على أربعة تقسيمات جميلة «فيض آلام» و«وحي ضلالة» و«سراب أحلام» و«قبر ضمائر» تتوالى موسيقاها وتتناغم.
ومن أجمله أيضاً قوله في قصيدة «بنات الشاعر» عن جبل لبنان:
مؤثل شامخ بالنجم معتصب
بالمجد متشح بالعــز مؤتزر
حيث تتوالى الأنغام من التقسيمات «بالنجم معتصب» و«بالمجد متشح» و«بالعز مؤتزر».
وقوله عن الإسبانية الحسناء التي لقيها وهو مسافر «في طائرة»:
طلعة ريـــــا وشيء بــاهر
أجمال جل أن يسمى جمالا
حيث يتولد النغم الجميل من التقسيم «طلعة ريا» و«شيء باهر».
وقوله في قصيدته «جبل»:
نظرت إلى الدنيا فلم ألف عندها
كبيــراً أداري أو صغيراً أعاتب
حيث تتولد الموسيقى من التقسيم «كبيراً أداري» و«صغيراً أعاتب».
ومن التقسيم البديع قوله في قصيدته «عودة المغترب»:
العاجز المقهور أقتل حيلة وأذل منطلقاً وأنذل مقصدا
حيث تتولد الموسيقى من التقسيمات «أقتل حيلة» و«أذل منطلقاً» و«أنذل مقصدا».
ومن أجمل التقسيمات وأوقعها قول الشاعر في وصف سعد الله الجابري في قصيدته «بلادي»:
زهوة في تواضـــع وإبــاء في خشوع ورقة في عنــاد
حيث تتوالى ثلاثة تقسيمات متماثلة التكوين «زهوة في تواضع» و«إباء في خشوع» و«رقة في عناد» لتترك في السمع ألحانها الجميلة الغنية.
وقوله في وصف المعري وهو بين الشك واليقين في قصيدته «مع المعري»:
بين شــك مروع ويقيـن مطمئن ما يأتلي حيرانا
حيث نجد في البيت تقسيمين بديعين «شك مروع» و«يقين مطمئن» يغنيان موسيقى البيت وينوعان فيها.
وقوله في قصيدته «يارمل»:
نهفو إليها فيبدو البغي محتدماً والذل محتــكماً والعز منهزما
حيث تتوالى ثلاثة تقسيمات تغني الموسيقى هي «البغي محتدماً» و«الذل محتكماً» و«العز منهزما».
❊❊❊
وللجناس وقعه الموسيقي المقرر الذي تثرى به الموسيقى الشعرية. والذي يشكل مصدراً من مصادر الموسيقى الداخلية عند عمر أبو ريشة كقوله في قصيدة «الفارس»:
كيف يرتـــد عن مداه مراده وعلى ملعب الخلود طـراده
الجراحــــات لهوها وهواها والفجاءات وريه وزنــــاده
حيث نجد الجناس في البيت الأول بين «مراده» و«طراده»، وبين «لهوها» و«هواها» في البيت الثاني يحقق وقعه الموسيقي.
وقوله في قصيدة «لبنان»:
فتلفت فلم تلمح ســوى أمة تهدي ودنيا تهتدي
حيث يوجد الجناس في الكلمتين «تهدي» و«تهتدي».
ومثل ذلك قوله في قصيدة «عالم من نساء»:
لا لمســـة منـــا ولا همسة أشـ
ـقى المنى ما ضاق عنه الشقاء
حيث نلقى الجناس في الكلمتين «لمسة» و«همسة»، والكلمتين «أشقى» و«الشقاء».
وفي قصيدة «دليلة» نجد هذا الجناس الجميل بين «هديره» و«هديله» في قوله:
وأطل الصباح نشوان يروي
عن هوانــا هديـــره وهديـله
وفي مطلع قصيدة «قيود» نجد هذا الجناس الجميل بين «النور» و«النار»:
وطن عليه من الزمان وقار
النور ملء شعــــابه والنـار
ومن الأبيات الجميلة الوقع قول عمر أبو ريشة في قصيدة «شهيد»:
غضبة للنسور لا النصر فيها
بمتـــاح ولا الونى بمبــــــاح
حيث يستمد البيت موسيقاه الداخلية من الجناس بين «متاح» و«مباح»، ومن الوقع المتماثل الذي تحققه «لا النصر» و«لا الونى».
ومنها قوله في «حكاية سمار»:
أمجنح الحرف الحرون ومرقص الـ
ـوتر الحنــــون على أنــــامل سـاحر
فـــإذا الجبــــال الشـــم لفـح معـــاقل
وإذا الســهول الفيـــح نفــح مقـــــابر
حيث نجد الجناس بين «الحرون» و«الحنون» في البيت الأول وبين «لفح» و«نفح» في الثاني يحدث وقعه الموسيقي الجميل.
❊❊❊
وبعد:
يمكن أن يعد عمر أبو ريشة بجدارة شاعراً مجدداً في موسيقاه إذا كان التجديد يقصد به حسن الانتفاع من موسيقى الشعر العربي ضمن ثوابتها التي ألفتها الأذن، وأحبتها بحيث يتحرك في مرونة وحرية ومهارة مع هذه الثوابت حركة يحقق بها تفرده وتميزه واستقلاله، فيمنح نفسه فرصة التعبير عما تود من ناحية ويحميها من الشطط الذي يؤدي إلى تجاوزات تمجها الأذن العربية، وتنفر منها من ناحية أخرى.
والحقيقة أن شعره كله شعر حافل بألوان الإيقاع الموسيقي المحبب، وهو يخلو من أي نشاز تنفر منه الأذن سواء في البحور أو في القوافي أو في الموسيقى الداخلية. ومرد ذلك إلى العوامل الكثيرة التي تضافرت لتثري موسيقاه وتغنيها من ناحية، وإلى كونه من مدرسة «عبيد الشعر» التي تعنى بالإنضاج والتنقيح والصبر والمعاودة من ناحية.
أما جانب الحفاظ في موسيقى الشاعر فهو أنه احتفظ في موسيقاه بتقاليد الشعر العربي الموسيقية، فمن حيث القافية لم يخل شعره كله قط من قصيدة مقفاة، ومن حيث الأوزان جرت قصائده كلها على أوزان الخليل، باستثناء قصيدة واحدة هي «الخزان الأكبر» لم تلتزم ببحر من بحور الخليل، لكنها التزمت بتفعيلاته على غرار الشعر الحر.
أما جانب التجديد فنلمسه في شخصيته القوية في اختيار البحور والقوافي دون رجوع إلا إلى ذوقه الرهيف الخاص، وفي تحاشيه القوافي الخشنة الجافة وإيثاره القوافي الأنيسة الجميلة.
كما نلمس هذا التجديد في موسيقاه الداخلية، والموسيقى الداخلية مطلب عسير على الشاعر وعلى الناقد أيضاً يحتاج اكتشافها والتعامل معها فضلاً عن إبداعها إلى خبرة طويلة وحس موسيقي رهيف، ولقد كان حظ عمر أبو ريشة من هذه الموسيقى الداخلية حظاً موفوراً كما رأينا.
نوع عمر أبو ريشة في القوافي والأوزان على قلة، ويمكن أن نعد هذا التنويع من فورة الشباب كما مر بنا، وهو تنويع أثرى الموسيقى عنده، لكنه مع الزمن ومع النضج والخبرة تخلى عن هذا التنويع مع كل الهجوم الذي شنه ولا يزال يشنه الكثيرون على الوزن والقافية منفردين أو مجتمعين، مما يدل على نفوذ بصره وجرأته الأدبية التي تحميه من الانسياق وراء تيار عام لا يؤمن به رغباً أو رهباً.
ومما زاد ذلك عنده أنه كان شاعر محافل عظيماً ذائع الصيت بديع الإلقاء يحتشد له الناس ويطربون، ولذلك وجدنا قصائده المحفلية تحرص حرصاً شديداً على خمسة أمور: وحدة الوزن، ووحدة القافية، والقافية المطلقة، وتصريع المطالع، والبحور التامة.
وحين سأله سائل عما إذا كان قد كتب شعراً على غرار الشعر الحديث!؟ ذكر له قصيدته «الخزان الأكبر» ثم قال له: «هنا توجد موسيقى فقط، أما الذي يكتب شعراً بلا موسيقى ولا أوزان فليكتب نثراً»[108].
وإدراكه للفرق الكبير بين الشعر والنثر جعله «دائماً محارباً عنيداً لقصيدة النثر التي اعتبر أنها لا تنتمي إلى الشعر»[109].
وكان عمر «يضيق ذرعاً بما أدخله الشعراء المحدثون على القصيدة العربية من تغييرات وتشويهات، فكان يرفض أن يستمع إلى ما يلقونه من شعر، بل كان يصب عليهم جام غضبه ونقمته، كلما وجد مناسبة لذلك، وفي إحدى المقابلات الأخيرة التي أجريت له في إحدى المجلات ذكر أنه شتم إحدى الشاعرات المحدثات وطردها بقسوة، لأنها قرأت عليه ما لا يقبله أو يتذوقه مما يسمونه شعراً، ولا غرابة في ذلك فالذي يتذوق الشعر كما يتذوقه عمر وأضرابه، لا يمكن أن يقبل ذوقه ولا عقله ما يطلع به الشعراء المحدثون على الناس من كلام يزعمون أنه شعر»[110].
بل إن عمر أبو ريشة يرى أن الشعر العربي يتعرض لهجوم تدميري يريد أن يجتث قواعده، ويرى أن هذا الهجوم جزء من خطة يشترك فيها الفاشلون مع العملاء، يتبين ذلك من مقابلة أجرتها معه مجلة الحسناء البيروتية، حيث سئل فيها عن سبب غيابه عن مؤتمرات الشعر والشعراء فقال: «من القرف»!.. ثم أوضح ذلك بقوله: «من الموجة الطاغية على الشعر، وهي موجة الفاشلين والضائعين، ومنهم العملاء المأجورون، كل ذلك لجعل الفرد الشرقي يتيه في الضياع مثلما فعلوا في الفرد الغربي»[111].
ويروي الأستاذ أكرم زعيتر -وهو أحد أصدقاء الشاعر المقربين- أنه زاره في داره في بيروت، وخلال الزيارة حمل عمر حملة شعواء على ما يدعى زوراً بالشعر الحديث، وضرب منه أمثالاً استدرت السخرية والضحك، واعتبر أن هذه المدرسة وليدة مؤامرة صهيونية استعمارية غير مرتجلة على اللغة العربية، ودعا إلى مقاومتها في غير هوادة[112].
وذات مرة قال لسائله في مقابلة صحفية: «معظم الشعر الحديث الذي ينشر في بعض الصحف والمجلات والدوريات العربية يراد منه تشويه القيم الجمالية، وتخريب الذوق العربي، وتدمير الشخصية العربية. إنه مؤامرة وفضيحة. اسمع هذه القصيدة التي كتبها أحد الشعراء:
كان لجـــــارنا بغل
وكان البغل يعـرفنا
ويبتعد بيـننــا البغل
أحببت بغلاً أقترب ويبتعد
ماذا تفهم من هذا الشعر؟ أعتقد أن كاتبه لا يفهمه»[113].
وحين سئل عن رأيه في الشعر الحداثي وشعر الغموض قال للسائل: «ليس هناك شعر قديم ولا شعر حديث، وتعال اقرأ في الجرائد الشعر الحالي: هل تفهم ما يكتب؟ وماذا تفهم من هذه القصيدة التي تقول: دفنت نخاع البشر تحت إبط الضفدعة؟ ثم قرر أن أصحاب هذا الشعر يعملون بتخطيط يهدف إلى تحطيم القيم الجمالية حتى يبقى الفرد في حالة ضياع، وقرر أيضاً أن معظم ما ينشر الآن، كُتَّابه من الدخلاء والهدامين، وأن الشعراء الجيدين في معزل عن هذه الفوضى الهدامة إذ يكتبون ولا ينشرون، لكنه جزم بأن هذا التخطيط المعادي سيزول لأنه فاسد، وكل فاسد زائل حكماً»[114].
ويتحدث الأستاذ محمد مصطفى درويش عن كراهية عمر أبو ريشة لموجة الحداثة، وخوفه من الترويج لها، ومخاطر ذلك على الشعر الأصيل، وحرصه على أن يمتلك الشاعر ناصية اللغة والنحو والعروض، وأن يوثق الاتصال بكتاب الله عز وجل الذي هو معجزة اللغة العربية إيقاعاً وموسيقى، فيقول: «وعمر ليس شاعراً تقليدياً، والوزن والتقفية في شعره أجنحة لا قيود، ولكن موجة الحداثة والتحديث التي أغرقت منطقتنا العربية من محيطها إلى خليجها انحدرت بكلمة الشاعر من عليائه وامتيازه وجدارته، وخلقت تلك الهوة السحيقة بينه وبين القارئ... وعمر في مقابلاته الصحفية وشعره وجهده الدائم بقول الحقيقة أراد رد الاعتبار لكلمة شاعر في دنيا العرب إزاء وباء الحداثة الذي وجد من يروج له، لأن الترويج له وفرش الدروب له والمنابر بهذه الضراوة يدفع بالكذبة إلى مشارف التصديق. وكان ما كان، وانكفأ أبو ريشة وسواه من شعراء العربية الحقيقية إلى ذواتهم يبكون مجداً غابراً، وينعون مملكة الشعر أيام كانت كلمة شاعر تحدث زلزلة وترج كوناً... كان الشاعر الراحل يقول لهم دائماً: ما هكذا يكون تجديد الشعر لو سمحتم!. أين ثروة الشعر الإيقاعية التي لا تفنى؟ أين الأصالة والتجربة؟ أين القيمة الامتدادية التراثية؟ أين التمكن من اللغة؟ لماذا أيها الحداثيون لا تجيدون قراءة بيت واحد من الشعر قراءة نحوية وعروضية صحيحة؟ لماذا لا تحفظون آيات من الذكر الحكيم التي تجسد معجزة العربية إيقاعاً وموسيقى سماوية؟ فحفظكم هذا إضافة إلى اطلاعكم على شعرنا القديم بكل عصوره وأجياله يجعل أساليبكم التعبيرية مستقيمة صحيحة لا متعثرة ركيكة...»[115].
إن الموسيقى عند عمر أبو ريشة بغناها وتنوعها وقدرتها على التجديد القادر ضمن أفضل عناصر القديم، هي معلم من معالم مجده الشعري لكأنه كان «يغني شعره قبل نظمه، أو ينظمه موقعاً على آلة قديمة ذات أوتار عديدة، فتخرج النغمة فوق ما تعود قراء الشعر العربي... هذا هو التركيب الموسيقي في شعر عمر يزحف به على قواف مختارة، وألفاظ مصطفاة، فتحس بالأنغام تتساوق، يجر بعضها بعضاً بسلاسل دقيقة من أصوات خفية مهموسة هي سر النجاح في شعر عمر...، وإذا كانت القصيدة عند عمر متزنة الخطى كأنها قطعة من عسكر كما يقول مارون عبود، فإن القائد الذي يسوق الجيش يختلف عن الذي وضع الخطة في سير الجيش وفي «تكتيكه» كما يقولون. وعمر قائد لعسكره بنفسه، كما يقود الفرقة الموسيقية ملحن القطعة الموسيقية يضع فيها ذوب روحه وخياله حين يلحنها، وحين يعزفها، وحين يقودها»[116]. و«عمر علاوة على أنه مجدد في معانيه وخيالاته وصوره قد جدد في أنغامه الداخلية من خلال العبارة الشعرية الرشيقة، والأسلوب المروق المصفى، فلقد حقق مقاييس الفصاحة العربية التي تعني في الأصل مبدأ التنقية اللغوية، والتي تحقق النزعة الجمالية في النص الشعري. فلقد حقق ذلك بمستوى رفيع قل أن يحقق عند أحد. وهذا من شأنه أن يساعد على توليد النغم العذب والوزن المرقص المطرب»[117].
لقد احترم القديم دون أن يتعبد له، وسعى إلى الجديد دون أن يتيه فيه، جدد مع الاحتفاظ بأفضل ما في القديم من العناصر، وحافظ مع أصالة واقتدار وخصوصية تحرك بها حركة تتسم بالمرونة والحرية، فكان مجدداً بأصالة وتفرد، وكان مبدعاً باستقلال وتميز، وكان مع الإقرار بأهمية جميع العوامل الكثيرة التي تضافرت لإغناء موسيقاه يرجع إلى حسه الرهيف وذوقه الخاص في أوزانه وقوافيه وفي موسيقاه الداخلية. «إن شعر عمر جديد بالنسبة لنا نحن الذين قرأنا امرأ القيس حتى شوقي، ولكن هذا الشعر الجديد محافظ على القواعد اللفظية والنحوية والعروضية لذلك كان تجديداً معقولاً مقبولاً ومقدراً حق التقدير، وهو التجديد الذي نرمي إليه في كل ما نكتب وندعو إليه»[118]. لقد كان عمر أبو ريشة «من الشعراء الذين يجيدون المزج بين التراث والأساليب الشعرية الحديثة ويجمعون في شعرهم بين رصانة القديم وطرافة الحديث، وقد يتوازن هذان العنصران في شعره أو يغلب أحدهما على الآخر أحياناً، لكنهما في كلتا الحالتين يحققان روحاً عصرية في إطار قديم»[119].
لقد تضافرت الشهادات لتؤكد أن عمر أبو ريشة شاعر واسع الثقافة غني التجربة جواب آفاق ومدارس فنية وسياسية كثيرة، ومع ذلك ظل شعره عربياً صافياً، وظلت موسيقاه عربية صافية أبدع فيها بأصالة، وخصوصية، ومرونة، ومحافظة، وأدرك حظاً مشهوداً من النجاح في الجمع بين عناصر هذه المعادلة.
وبطبيعة الحال أدى هذا إلى جملة أمور منها قوة اتصاله بجمهوره لأن الخيوط النفسية والثقافية والتراثية، ومنها أوزان الخليل تزيد مساحة الصلة بين عمر أبو ريشة والسامعين وتلك ميزة كبرى لا تتاح إلا للندرة من الشعراء.
يروي الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، وهو أديب وشاعر وذواقة، وهو أيضاً صاحب أعرق وأشهر صالون أدبي في الرياض أنه شارك في مؤتمر الأدباء العرب الذين انعقد في بيت مري في لبنان عام 1956م، وفي المؤتمر ألقى «أبو ريشة قصيدة جميلة له عن لبنان أخذ في إلقائها بذلك الأسلوب الخطابي الفذ، وذلك الإلقاء التصويري الرائع، كانت القصيدة نونية، وكان كل بيت من أبياتها يرشح قافيته، فكنت أسمع الوفود ومعظمهم أدباء وشعراء ينطقون القافية مع الشاعر فلا يكادون يخطئونها، وكأنهم في حلقة ذكر، حتى فرغ منها، فالتهبت الأكف تصفيقاً، وترددت عبارات الاستحسان من كل مكان»[120].
وهذه الواقعة تدل بجلاء تام على استيعاب عمر أبو ريشة العميق للتقاليد الموسيقية العميقة للقصيدة العربية، بحيث حرك أخلاد المستمعين هذا التحريك الهائل الذي وصفه الأستاذ الرفاعي، فكان حجم التواصل بين المبدع والمتلقي في غاية القوة وذلك أقصى ما يطمح إليه العمل الأدبي.
***
-----------------
[1] H. L. Yelland,S.C. Jones and K.S.W. Eason; A Handbook Of Literary Terms Angus & Robertson Publishers, Sydney Austratia, 1983, P.159.
[2] شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، ص301.
[3] المرجع السابق، ص29.
[4] احمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، دمشق، دار المأمون للتراث، 1389هـ/ 1978م، ص258.
[5] علي شلش، في عالم الشعر، ص54-55.
[6] المرجع السابق، ص55.
[7] شوقي ضيف، في النقد الأدبي، ص97.
[8] علي عبد الوحد وافي، الأدب اليوناني القديم، القاهرة، دار المعارف، 1988م، ص61.
[9] إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، ط6، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1988م، ص17.
[10] محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، ص9.
[11] العمدة في صناعة الشعر ونقده، 1/88.
[12] النعمان القاضي، ابو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص475.
[13] بلابل من الشرق، دار المعارف، القاهرة، سلسلة اقرأ، العدد 355، 1972م، ص150.
[14] العقد الفريد، 6/4.
[15] إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، ص162.
[16] المرجع السابق، ص164.
[17] عباس محمود العقاد، أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، ط6، القاهرة، دار المعارف، ص106.
[18] مجلة الموقف الأدبي، دمشق، العدد 1، 1971م.
[19] التفسير النفسي للأدب، ص85.
[20] التجديد في الشعر الحديث بواعثه وجذوره الفكرية، كتاب النادي الأدبي الثقافي، جدة، 1986م، ص77.
[21] أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، ص105.
[22] قضايا الشعر المعاصر، ط8، بيروت، دار العلم للملايين، 1989م، ص343.
[23] اشتات مجتمعات في اللغة والأدب، ص110-111.
[24] أكرم زعيتر، بدوي الجبل وإخاء أربعين سنة، ص173.
[25] فصول في الشعر ونقده، ص52.
[26] المرجع السابق، ص31.
[27] في النقد الأدبي، ص102.
[28] العمدة، 1/99.
[29] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص477.
[30] محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، ص470.
[31] دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م.
[32] عبد الرحمن الوجي، الإيقاع في الشعر العربي، ط1، دمشق، دار الحصاد، 1989م، ص71.
[33] ابن رشيق، العمدة، 1/99.
[34] كتاب عيار الشعر، ص7-8.
[35] نقد الشعر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1398هـ/ 1978م، ص86.
[36] كتاب الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1971م، ص145.
[37] مقدمة شرح ديوان الحماسة، ص11.
[38] أبو يعلى التنوخي، كتاب القوافي، تقديم وتحقيق عمر الأسعد ومحيي الدين رمضان، بيروت، دار الإرشاد، 1389هـ/ 1970م، ص105.
[39] المرجع السابق، ص55.
[40] شكري عياد، موسيقى الشعر العربي، ط1، القاهرة، دار المعرفة، 1968م، ص89.
[41] العقد الفريد، 5/496.
[42] أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، ص105-107.
[43] شوقي ضيف، في النقد الأدب، ص97.
[44] الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص362.
[45] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص475.
[46] المرجع السابق، ص501 -502.
[47] المرجع السابق، ص476.
[48] المرجع السابق، ص501 -502.
[49] الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ص103 -104.
[50] كتاب عيار الشعر، ص7 -8.
[51] كتاب الصناعتين، ص145.
[52] مقدمة شرح الحماسة، ص9.
[53] مقدمة الإلياذة، القاهرة، مطبعة الهلال، 1904م، ص90-93.
[54] سليمان البستاني في مقدمة الإلياذة، بيروت، دار الثقافة، 1986م، ص34-35.
[55] أصول النقد الأدبي، ط7، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1964م، ص324.
[56] النقد الأدبي، القاهرة، ط4، مكتبة النهضة المصرية، 1972م، ص82.
[57] الشعر وإنشاد الشعر، القاهرة، دار المعارف، 1969م، ص102-107.
[58] المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، ط1، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي، 1955م، 1/74.
[59] شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عصر سيف الدولة، القاهرة، دار المعارف، 1961م، ص135.
[60] عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، ص59.
[61] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص480.
[62] المرجع السابق، ص484-485.
[63] التفسير النفسي للأدب، ص60.
[64] المرجع السابق، ص78.
[65] التفسير النفسي للأدب، ص79.
[66] موسيقى الشعر العربي، ص179.
[67] المرجع السابق، ص177-178.
[68] المرجع السابق، ص177.
[69] الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص72.
[70] في النقد الأدبي، ص152.
[71] لغة الشعر الحديث مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، ص168.
[72] مدرسة الإحياء والتراث، ص445.
[73] بين القديم والجديد دراسات في الأدب والنقد، ص119.
[74] الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ص393.
[75] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ/ مايو 1978م.
[76] العمدة، 1/99.
[77] الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي محمد البجاوي، ط4، القاهرة، عيسى البابي الحلبي، 1386هـ/ 1966م، ص15.
[78] الشعر وإنشاد الشعر، ص111.
[79] سامي الكيالي، الأدب العربي المعاصر في سورية، القاهرة، دار المعارف، 1968م، ص368.
[80] أحمد الجندي، شعراء سورية، ص155.
[81] أكرم زعيتر، جريدة الشرق الأوسط، لندن، 25/11/1990م.
[82] المجلة العربية، الرياض، جمادى الثانية 1398هـ/ مايو 1978م.
[83] فصول في الشعر ونقده، ص167.
[84] في النقد الأدبي، ص106.
[85] الشعر الحديث في الإقليم السوري، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، 1960م، ص247.
[86] من أعلام العرب في القومية والأدب، ص88.
[87] مجلة الأسبوع العربي، بيروت، 11/ 4/ 1983م.
[88] جريدة الشرق الوسط، لندن، 15/ 1/ 1413هـ= 15/ 7/ 1992م.
[89] محمد حسين زيدان، جريدة الرياض، 25/ 12/ 1410هـ= 17/ 7/ 1990م.
[90] الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته، ص94.
[91] من رسالة شخصية بعث بها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها "ذكريات عن عمر".
[92] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 28/ 2/ 1411هـ.
[93] النزعة الرومانسية في شعر عمر أبو ريشة، مقال غير منشور، أرشيف مجلة الفيصل، الرياض.
[94] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 16/ 9/ 1990م.
[95] جريدة المدينة المنورة، جدة، 1/ 1/ 1411هـ.
[96] الإثنينية، جدة، 1411هـ/ 1991م.
[97] فنون الأدب المعاصر في سورية، ص401.
[98] حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص180.
[99] في النقد الأدبي، ص117.
[100] القصائد ذات البحور التامة عددها أربع وثمانون، والمجزوءة خمس وأربعون، وثمة قصيدة واحدة لم يتقيد فيها الشاعر بأي بحر من بحور الشعر العربي، لذلك تصح نسبتها إلى الشعر الحر، وهي "الخزان الأكبر"، وبذلك يكون المجموع مئة وثلاثين قصيدة.
[101] قصيدتا "خاتمة الحب"، و"رثاء حافظ إبراهيم"، نظمت عام 1932م، وقصيدتاه في "رثاء شوقي، و"تكريم أحمد الصافي النجفي"، نظمتا عام 1933م، وقصيدته "مصرع الفنان" نظمت عام 1936م، وقصيدته "شطآن بلادي"، نظمت عام 1950م، وقصيدته "عودة الروح" نظمت عام 1951م.
[102] العمدة، 1/114.
[103] المرجع السابق، 1/115.
[104] قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص90.
[105] ابن رشيق، العمدة، 1/115.
[106] أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص513.
[107] الشعراء وإنشاد الشعر، ص134.
[108] جريدة الثورة، دمشق، 18/ 7/ 1990م.
[109] جريدة تشرين، دمشق، 19/ 7/ 1990م.
[110] جميل علوش، عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة، ص138.
[111] مجلة الحسناء، بيروت، 16/ 5/ 1975م.
[112] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 18/ 3/ 1411هـ = 17/ 10/ 1990م.
[113] جريدة الثورة، دمشق، 18/ 7/ 1990م.
[114] جريدة المدينة، جدة، 7/ 2/ 1412هـ= 17/ 8/ 1991م.
[115] جريدة الثورة، دمشق، 18/ 7/ 1990م.
[116] سامي الدهان، الشعراء الأعلام في سورية، ص324.
[117] جميل علوش، عمر أبو ريشة حياته وشعره مع نصوص مختارة، ص135.
[118] أحمد الجندي، شعراء سورية، ص122.
[119] عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص310.
[120] جريدة الأربعاء، ملحق أسبوعي يصدر عن جريدة المدينة، جدة، 2/ 2/ 1422هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق