السبت، 21 مايو 2022

كتاب عمر أبو ريشة عاشق المجد - لغة الشعر

لغــــة الشعـر

     يتخذ كل فن من الفنون وسيلة يوصل بها ما يريد إلى المتلقي، فالنحت وسيلته الحجارة والأخشاب، والرسم وسيلته الأصباغ والألوان، والموسيقى وسيلتها آلاتها المختلفة، أما الأدب فوسيلته الكلمة.

     وإذا كان الأدب بشقيه الشعر والنثر يعتمد على الكلمة؛ فثمة فارق بين الكلمة في الشعر وبينها في النثر. إنها في النثر أقرب إلى الهدوء والانضباط، وأقرب إلى الاستعمال فيما وضعت له أصلاً، لكنها في الشعر أقرب إلى التوتر والشحنة النفسية والعاطفية عالية الدرجة، وهي فيه أيضاً أكثر انفعالاً وإيحاء وإثارة، وأكثر تمرداً على الدلالة الأصلية لمعناها القاموسي، وهذا كله أمر طبيعي. فالتجربة التي يعبر عنها النثر هادئة لذلك تكون أقرب إلى الهدوء والموضوعية والانضباط خلافـــاً للتجربة التي يعبر عنها الشعر، وهي تجربة تكون في الغالب حادة حارة متوتــرة، ومن هنا جاء الخلاف بين لغة الشعر ولغة النثر. «لقد ظل الشعر في كل العصور تقريباً يكتب لغة خاصة، لغة الشعر، وهي تحوي كلمات وعبارات وأصنافاً من الصور ليست شائعة في الحديث العادي»[1].

     وإذا كانت لغة النثر هي لغة الحياة المعتادة يومياً بكل ما يستدعيه هذا الاعتياد من وضوح وتحديد ومباشرة، فإن لغة الشعر هي لغة الحياة غير المعتادة بكل ما يستدعيه تجاوز العادة والإلف والتكرار من توتر وتوهج وخصوصية وانفعال، ومن هنا يمكن القول: إن للشعر «لغته على الدوام موحية متوترة وقادرة على الإثارة، ولا تنبثق عن مشكلات الحياة اليومية، وإنما تصدر عن وجدان عميق، والتعبير عن الوجدان يستلزم ألفاظاً ذات دلالات نفسية وشعورية خاصة قادرة على تصوير إحساس الشاعر وعلى التأثير في نفس القارئ أو السامع لتحدث عنده إحساساً مماثلاً، وتنقل إليه تجربة الشاعر كاملة»[2].

     ولأن الشعر «تعبير عن الحالات الفائقة في الحياة، يحتاج أكثر من كل فن آخر من الفنون الأدبية إلى شدة التطابق والتناسق بين التعبير والحالة الشعورية التي يعبر عنها. وقد أسلفنا أن اللفظ يعبر عن الحالات الشعورية بعدة دلالات كامنة فيه، وهي دلالته اللغوية، ودلالته الإيقاعية، ودلالته التصويرية، ونقص أي من هذه الدلالات الثلاث في الشعر يؤثر في مدى تعبيره عن التجربة الشعوريـة الفائقـــة التي يتصدى لتصويرهـــا، ويغض من قوة الإيحاء إلى نفوس الآخريـــن. وأيّاً كانت القيم الشعورية فإن تقصير اللفظ في تصويرها يحجب جزءاً من قيمتها ويمنعه الإيحاء، ويؤثر بالتالي في حكمنا على النص الأدبي وعلى صاحبه كذلك. من هنا كان للفظ قيمته، وبخاصة في الشعر الذي هو صورة من اللحظات الفائقة في الحياة الشعورية. ولم يخطئ بعض النقاد العرب كثيراً وهم يقولون: المتنبي والمعري حكيمان والشاعر البحتري، أو وهم يضيقون بأبي تمام وتعقيداته اللفظية والمعنوية»[3].

     ومعنى ذلك أن قيمة اللفظ في الشعر قيمة كبيرة، لأن تجربة الشاعر المتوترة بحاجة إلى لغة متوترة موحية مثيرة كما يصفها الدكتور الطاهر أحمد مكي ليكون بوسعها أن تعبر عن التجربة الشعرية التي هي حالات فائقة في الحياة كما يصفها الأستاذ سيد قطب.

     إن الشاعر إزاء مخزون لغوي يتعامل معه ويختار منه، وهنا تظهر موهبته في استبعاد ألفاظ واستخدام أخرى. ذلك أن «للألفاظ أرواحاً، ووظيفة التعبير الجيد أن يطلق هذه الأرواح في جوها الملائم لطبيعتها فتستطيع الإيحاء الكامل والتعبير المثير»[4]، وحين يوفق الشاعر في اختيار ألفاظه لينقل إلينا تجربته من خلالها، يكون حظه من النجاح أكبر في الامتحان الذي يمر به. «وليس المقصود هو رونق اللفظ أو جزالته، ولا قوة الإيقاع أو حلاوته، إنما المقصود هو التناسق بين طبيعة التجربة الشعورية وطبيعة الإشعاع الإيقاعي والتصويري للفظ بحيث يتسق الجو الشعري والجو التعبيري»[5].

     إن لغة الشاعر لغة مرنة، ولغة إيحائية ليست لها الدلالات الثابتة الجامدة، ولذلك يمكن أن نجد للفظ أكثر من دلالة حيث تتسع هذه الدلالة وتضيق، وتتوهج أو تخبو، وتتحرك أو تجمد حسب استعمال كل شاعر لها، وفقاً للتجربة، ووفقاً للإيقاع، ووفقاً للسياق، ووفقاً للشحنة النفسية، «فليست الألفاظ إذن في بساطتها أو جلالها هي المحك ولكن الطاقة أو العاطفة أو الحركة التي يسبغها الشاعر عليها هي التي تحدد قيمتها»[6]. ومعنى ذلك أن «الكلمات والصور والتراكيب إنما هي رموز قد تشير لدى الشاعر إلى مضامين أبعد ما تكون عن توقعاتنا، والشاعر صياد يبحث عن الكلمة بحث الصياد عن السمكة»[7].

     ولذلك ينصب اهتمام الشاعر على «أن يثير في اللغة نشاطها الخلاق حتى يكتمل له التشكيل الجمالي الذي يعادل أو يوازي واقعه النفسي والفكري والاجتماعي، وكما واجه الشاعر واقعه التاريخي والاجتماعي بموقفه؛ فإنه يواجه خبرة مجتمعه الفنية مواجهة جمالية بتشكيل خاص لأدواته»[8].

     وإذا كانت التجربة الشعرية تراوح لحظة الإبداع بين الوعي وبين اللاوعي مع اختلاف في درجة ذلك، وتباين ما بين شاعر وآخر، وما بين تجربتين مختلفتين لشاعر واحد، صح لنا أن نقول: إن لما وراء الوعي دخلاً «في اختيار الألفاظ، فكثيراً ما يجد الشاعر الملهم كلمات وعبارات تقفز إلى منطقة الوعي في نفسه من حيث لا يدري، وقد لا يكون واعياً لمعانيها بدقة وهو ينظمها، وقد يعجب بعد انتهائه من النظم وعودته إلى الحالة الشعورية العادية كيف انثالت هذه الألفاظ والعبارات عليه انثيالاً كما يقول الجاحظ بحق، ثم قد يدرك فيما بعد أو لا يدرك أن لهذه الألفاظ أو لهذه العبارات ظلالاً في نفسه تتسق مع الجو الشعوري الذي نظم فيه قصيدته، سواء كان هذا الجو من صنع مؤثر خارج عن إرادته أو بسبب استحضاره له»[9].

     وكما أن للشعراء أرواحهم فإن للكلمات أرواحها، والشاعر إذ يستدعي كلمة ما؛ يستدعيها وبينه وبينها تواصل ما. «فللألفاظ أرواح، ولكل لفظة تاريخ، وليست الألفاظ إلا رموزاً لملابسات شتى متشابكة فيما وراء الوعي. وقد يختلف هذا بين شاعر وآخر، ولكن تبقى اللفظة رمزاً على الظلال والمعاني التي حملتها في تاريخها الطويل. والشاعر الملهم هو الذي يستوحي الألفاظ ورموزها العميقة، ويستدعيها في اللحظة المناسبة»[10].

     وبطبيعة الحال تتآزر اللغة مع بقية أدوات الشاعر من خيال وموسيقى وعاطفة وفكرة لتؤدي مهمتها المطلوبة، فالشعر محصلة كلية لأدوات مختلفة، والشاعر يستعمل اللغة «في سياق خاص يمكنها من إعطاء أقصى طاقاتها التعبيرية والتصويرية والإيقاعية، فلا شك في أن هذا الائتلاف يحدث قدراً من الإيقاع الموسيقي الذي يزداد تنغيمه جمالاً وأثراً كلما انسجمت الكلمات وائتلفت الصور والجمل الشعرية، وهذا يعني أن تآلف هذه العناصر هو الذي يقود إلى التشكيل الجمالي، وبخاصة عندما يتحد الإيحاء بالإيقاع مما يؤكد أن الحديث عن لغة الشاعر وأسلوبه لا ينفصل عن الحديث عن صوره وموسيقى شعره، وأن عملية الفصل بين هذه العناصر عملية تستوجبها ضرورة الدرس فحسب»[11]، ذلك لأن «العمل الشعري في نهاية الأمر معطى في كليته وشموله، وهذا الشمول كفيل بأن ينقض التفكيك المتعسف لوحدة البناء الشعري وتقسيمه إلى ألفاظ ومعان وأوزان وأساليب»[12].

     ولما كانت موضوعات الشاعر متعددة، كان لا بد له من أن يكون دقيقاً في لغته بحيث يأتي بها أقرب ما تكون للوفاء بمعانيه، وهو أمر نبه إليه النقد العربي القديم، حيث دعا الشاعر إلى المواءمة بين ألفاظه ومعانيه، فالقاضي الجرجاني يخاطب الشاعر قائلاً له: «فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبطائك، ولا هزلك بمنزلة جدك، ولا تعريضك مثل تصريحك، بل ترتب كلاً مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعــه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظـرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه»[13].

     إن تعامل الشاعر مع اللغة هو امتحان لذوقه وثقافته وموهبته، حيث ينبغي له أن يحسن انتقاء الكلمات وبناء العبارات بما يتسق مع التجربة الشعورية تعبيراً عنها وإيصالاً لها. «وحري بنا ألا ننسى أن هذا الرحيق الموسيقي المصفى الذي يقدمه لنا فن الشعر لا يكمن في أوزانه وتلحين كلامه وأنغامه فحسب، بل يكمن أيضاً في انتخاب ألفاظه الحية الرشيقة، ومرجع ذلك إلى أن الشعراء يستمدون أساليبهم من نفس المناجم اللغوية التي يستمد منها الإنسان العادي عباراته في حاجاته ومطالب عيشه، فإذا هم لم يتخيروا لأنفسهم من الألفاط والصيغ ما يخفق بحيوية نابضة هبطت أساليبهم إلى مستوى الحياة العادية وعباراتها اليومية. ومن هنا تبرز صعوبة لغة الشعر، ولا نقصد إلى أنه ينبغي أن تكون من الألفاظ الغريبة التي لا تشيع على الألسن، وإنما نقصد أن يكون الشاعر من المهارة بحيث يعرف في دقة خواص الألفاظ وطاقتها الشعرية الموسيقية، وبحيث يختار منها لشعره مادة حية تجسم تجربته الذاتية»[14].
❊❊❊

     وقد اختلف النقاد في لغة عمر أبو ريشة بين فريقين: فريق يتهمه بضعف لغته وقلة مفرداته وقلة اتصاله بالتراث اللغوي، وفريق يقف مناقضاً لذلك، يشيد بلغته ويرفع من مكانها.

     ومن الفريق الأول الأستاذ أحمد الجندي الذي يقول: «أما الشعر العربي فعمر قليل الحفظ له، ولكنه يحفظ الجيد المختار منه، وربما التفت إلى فرائد من هذا الشعر لا تخطر على بال الأدباء من ذوي الاختصاص، فهو مولع بالتنقيب واكتشاف المعاني الطريفة النادرة التي تلفت الفكر لفتاً قوياً»[15]، والذي يقرر أن عناية عمر أبو ريشة الزائدة بالصورة ربما جارت على لغته وأسلوبه فيقول: «يؤخذ عليه أحياناً التفاته الكلي إلى الصورة أو المعنى وتهاونه في أمر الأسلوب والموسيقى، فهو من هذه الناحية شبيه بابن الرومي في حين أن شوقي أو البدوي مثلاً يبحثان عن المعنى جاهدين، ولكنهما لا ينسيان الأسلوب والموسيقى...، ويؤخذ على عمر أو يأخذ عليه اللغويون بصورة خاصة أنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن الكلمات التي تمر بشعره فيما إذا هو شك بصحتها، وسادتنا اللغويون لا يعذرون الشاعر إذا هو أخطأ خطأ يمسهم ولو حلق في السماء، ولهم الحق في ذلك، فلغة الشعر يجب أن تكون لغة صحيحة مصفاة»[16].

     ومن هذا الفريق الأستاذ سامي الكيالي الذي يقول: «يأخذ عليه بعض النقاد ضعف لغته وحاجتها إلى المتانة والصقل، ويقولون: إن له لغة خاصة به ما يفتأ يكررها في كل قصيدة، وهو يصب ألفاظه في قوالب لفظية تغلب على شعره وتطبعه بطابع خاص، ونستطيع أن نرسم حدود لغته الشعرية، ونحصي قوالبه اللفظية. ولغته وإن رفعها الخيال إلى سماء عالية تحتاج إلى متانة وصقل، ومصدر هذا أن الشاعر لا يديم النظر في دواوين الشعر وكتب الأدب القديمة، ولو أنه درس اللغة على أساتذة فحول لاستطاع أن يكون أكثر إجادة في الشعر الحديث بما أوتي من دقة الشعور، وعمق الإحساس، وقوة الخيال. ويظهر أنه يرى نفسه غنياً عن مثل هذه الدراسة التي تقوي لغته وتصقلها وتجعلها جزلة تواتيه بالألفاظ القوية»[17].

     أما الدكتور سامي الدهان فيقف مع الفريق الذي يشيد بلغة عمر أبو ريشة وقوة صلته بالشعر العربي القديم، ويورد لنا في هذا الصدد رواية طريفة يحكي لنا فيها كيف كان الشاعر في صدر شبابه ينظم قصائد، ثم ينشدها لأصدقائه في حلب ومنهم الدكتور الدهان على أنها من الشعر العربي القديم، فيذهب هؤلاء الأصدقاء إلى المصادر القديمة باحثين عما سمعوه فيقول: «وكم فعل عمر مثل هذا، حين كنا نخلو إليه في جلساتنا بحي قريب من قلعة حلب، يهدر بالشعر القديم ويقلده متندراً ساخراً!. ولن أنسى أنه كان يخدعنا عن أنفسنا ونحن في مطلع الشباب، فنحسب أن الشعر قديم حقاً، ويلهو بنا زمناً نبحث فيه عن صاحب الشعر في المصادر القديمة، ونعود إليه لنقرأ في ثغره ضحكة الشباب المنتصر الساخر»[18].

     وينقل لنا الدكتور سامي الدهان جزءاً من أبيات الشاعر التي قالها على لسان النابغة الذبياني في مسرحيته «ذي قار» ليدلل بها على صلته القوية بالشعر القديم، وقوة تمثله له، وقدرته على محاكاته:

وتخال عصف الريح فـوق هضابه
               هزج السميــدع صيد في المرصاد
والذئب مطوي الحوايـــــا لم يجــد
               في الحــــي معطن ماعـــز للــزاد
قد حدثتـــــه النفــــس في مهريتي
               فدنا علــــــــى كبر بــه وعنــــــاد
قد خالني جبســاً تهــــز فرائصـي
               ومعـــــرداً من سفلــــة الأوغــــاد

     ويعلق الدكتور الدهان على هذه الأبيات بقوله: «ولن نتابع رواية الأبيات، فالشاعر يقد الذئب بسيفه ويعالجه بحد مشطب، كما فعل شعراء العرب مع الذئاب. وقد روينا هذا لندلل على قوة الشاب في الشعر، وتمثله للشعر العربي القديم وإجادته في تقليده، ولنعرضه على أولئك الذين كانوا في شك من قدرة عمر على صوغ الألفاظ القاموسية أو اللحاق بالقدماء»[19].

     ويورد الدكتور سامي الدهان جزءاً من مقابلة أجراها مع عمر أبو ريشة ونشرها في عدد يناير 1936م من مجلة الحديث الحلبية التي كان يصدرها، يدعم فيه رأيه في صلة الشاعر القوية بالشعر العربي القديم.

     وفي هذه المقابلة يتحدث الشاعر عن أدوار مختلفة في حياته الأدبية، حيث أحب البحتري وأبا تمام وسواهما، وحيث أخذ يعارض طائفة من القصائد العربية الشهيرة كبائية أبي تمام، وسينية البحتري، ثم يتحدث أنه في واحد من هذه الأدوار أولع بالتنقيب عما يعجبه من شعر قديم، وسر بنماذج لأبي صخر الهذلي، وعبدة بن الطبيب، وابن زريق البغدادي وسواهم.

     ويعقب الدكتور الدهان على كلام الشاعر بقوله: «لقد أطلنا في النقل عن عمر لأننا أردنا أن يتحدث عمر بلسانه عن شعره، فهو خير من يكشف عن تجربته الشعرية، وهو أحسن من يحلل نفسيته الخاصة. فقد عشق الشاب شعر القدماء أول الأمر، فاكتسب هذه اللغة والمفردات والتراكيب، واختزن بعضها ليرددها أبداً، وأهمل غيرها لأنها لا تصلح في رأيه لشعره، وهو لم يعن باللغة العربية غوصاً على قواعدها ومعرفة لأحوالها كما فعل البزم، ولكنه عني بها كأداة لشعره فحسب، يحتاج إليها في تراكيبه وصوره، فلم يدر حول القالب يعبده ويمجده، بل انصرف إلى الجوهر. ولقد عرف عمر أن الشعر العربي يجب أن لا يعيش في العصر الحاضر عالة على شعر القدماء يقلدهم ويحذو حذوهم في كل شيء. وعرف أن الشعر الغربي قد خطا في سماء الإلهام منذ القرن السادس عشر حتى بلغ إلى السماوات العالية بينما لبث الشعر العربي كسير الجناح أسير التقاليد والألاعيب، فأراد أن يلحقه عمر بركب الشعر العالمي، فاستعرض هذا الشعر العالمي وقرأه، واستوحى كثيراً من أهدافه وصوره، فلم يقف في حبه عند شاعر واحد، وقد كان قلباً، فاختار حيناً شاعراً، واختار حيناً غيره كما كان في حبه للنساء، وهو قد ولد شاعراً، وليس للشاعر مذهب واحد في أقواله، وفي حبه، وفي طريق عيشه»[20].

     ومن الواضح أن الدكتور الدهان يشيد بلغة عمر أبو ريشة، ويؤكد متانتها وصلة صاحبها بالشعر العربي القديم، حيث نظم على لسان النابغة قصيدة جزلة كأن صاحبها بدوي خالص، وحيث كان يعبث بزملائه فيصنع أبياتاً ثم يدعي أنها لشعراء قدامى، ويطالب هؤلاء الزملاء بمعرفة قائليها، ويسلم الدكتور الدهان أن الشاعر لم يعن باللغة العربية عناية المختص كما فعل محمد البزم في سورية حيث درس اللغة العربية دراسة عميقة متخصصة، ولكنه يرى أنه أخذ عن القدامى مفرداتهم وتراكيبهم، واختزن ما أخذ ليستعمله من حيث هو أداة يريد أن يوصل بها ما يريد لا أكثر ولا أقل.

     ويرى الدكتور شوقي ضيف أن التمعن في شعر عمر أبو ريشة يقود «إلى حقيقة مهمة عنده، وهي أن شعره يتصل مباشرة بعناصر شعرنا القديم ورواسبه، فهو قد تثقف به ثقافة واسعة، ولذلك كان شعره قريباً منا، ومن الغريب حقاً مع هذه السعة في التصوير أن اللفظ قلما يسقط عنده، فهو ينظم في لغة رصينة جزلة، وقد ترق فتعذب، ولكنها لا تسف ولا تهبط»[21].

     ويتحدث الدكتور حلمي محمد القاعود بإعجاب عن لغة عمر أبو ريشة في الفصل الذي عقده لدراسة قصيدته الطويلة «محمد»، وانتهى فيه إلى أن الدارس يستطيع أن يلاحظ على عمر أبو ريشة «سيطرته القوية على ألفاظ اللغة، ويرى أيضاً قدرته على استخدام كافة الألفاظ السهلة والوعرة في براعة واضحة دون أن يتوقف عند ألفاظ بعينها. ومن هنا يمكن القول: إن قاموس عمر أبو ريشة في المطولة هو ألفاظ اللغة جميعها، وهذا دليل حي على ثراء معجمه وقدرته اللغوية التي تضاف الى قدرته الشعرية»[22].

     أما الدكتور محيي الدين صبحي فيشيد بلغة عمر أبو ريشة ويصفه بأنه ذو معرفة عميقة باللغة، وأن الألفاظ عنده محسوبة بدقة، وعد ذلك مأثرة له، لأنها على حد تعبيره بترت التدفق اللفظي[23].

     ويأتي الشاعر زكي قنصل ليشيد بلغة عمر أبو ريشة، وليقرر أنه بهره بسعة خياله، ودقة صوره، واختيار ألفاظه وتواؤمها مع معانيه، وليقرر أيضاً أن عمر أبو ريشة كان «دودة» مطالعة، وأنه كان قوي الحافظة شديد الإلمام بأشعار القدامى والمحدثين، وأنه كان يروي معظم قصائده لا يعثر بكلمة واحدة، ولا يتلجلج ببيت، فكأنه يقرأ من كتاب مفتوح[24].

     وللدكتور حسن ظاظا ثناء كبير على لغة عمر أبو ريشة، حيث يصفه بأنه كان فناناً في اختيار الكلمة ذات الهالة لوناً ونغماً وضوءاً ورنيناً، وأن ألفاظه غنائية ومؤثرة ومنتقاة بعناية، وأنه لابد لدارسه من أن يعنى بقاموسه الشعري، وأنه يبدو للناس فقيراً لغوياً لأنه لا يقلد أحداً، وإنما يعبر من أقرب الطرق لأنه صاحب صور جديدة، ولغة جديدة، ومذاق جديد[25].
❊❊❊

     وأياً كان الأمر، فإن لعمر أبو ريشة صلة بالشعر العربي القديم، تزيد عند الدكتور الدهان، وتتضاءل عند الكيالي، وتتوسط عند الجندي الذي يشهد لعمر بحفظ الجيد المختار منه. ويمكن القول: إن عمر أبو ريشة لم يمتلك ناصية اللغة كما امتلكها البزم والجارم وعبد المطلب وحافظ وشوقي، لكن اطلاعه على الشعر العربي القديم وحفظه للجيد المختار منه أمداه بمخزون وافر كان يتعامل معه تعامل الصيدلي الماهر الذي يحدد عناصر أدويته ويختار نسبها بدقة بالغة، ولا غرابة في هذا لأنه كان يتأنى ويتعنى، بحيث يمكن أن يعد من مدرسة عبيد الشعر، ولذلك قال وهو محق فيما قال في جوابه للأستاذ حاتم صادق حين سأله: كيف تكتب الشعر؟: «علاقتي بالشعر بعيدة الجذور، وكل كلمة أستعملها أدرسها وأعيها وأعرف موقعها وأبعاد معانيها، الشعر عندي عالم فسيح بلا حدود أجوبه بملء حريتي متى شاء لي الإحساس»[26].

     وإذا كان الشعراء الذين درسوا اللغة العربية دراسة عميقة مثل البزم والجارم وعبد المطلب وحافظ وشوقي قد تفوقوا على عمر أبو ريشة في معرفة هذه اللغة فإنه قد تفوق عليهم في استخدامه لما يعرفه منها، فلغته أكثر خصوصية وتفرداً، وعليها بصمات ذوقه الحاد الخاص، وهم بالتراث ألصق، وهو بذاته ألصق، وربما أمكن أن يعزى شيء من شعرهم لسواهم، ولكن هذا الإمكان يكاد يستحيل مع شعره لتفرده وخصوصيته، فلغته بنت اختياره لا بنت محفوظاته، وهي منتقاة لا عامة، ومحسوبة لا مترهلة.

     وإذا كان الأسلوب هو الرجل فإن ذلك يصدق على عمر أبو ريشة بأكثر مما يصدق على سواه، فشخصيته القوية الحية المتأبية على القيود والرافضة للتقليد، والمستجيبة لذاتها ودوافعها ظهرت في شعره شكلاً ومضموناً، وما أصدق ما قاله الأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي في هذا الصدد!: «وهناك عنصر يؤثر في الأسلوب وهو شخصية الشاعر، وهو عنصر وإن كان خفياً فهو بالغ الأهمية، وهو بمثابة الروح الخفي في الكائن الحي. وهذا العنصر الروحي لو صحت التسمية يطبع الأسلوب بطابعه، ويكشف عن صورة صاحبه، فكياسة الشاعر تطبع أسلوبه الشعري، كما نجد ذلك في مثل أسلوب إسماعيل صبري. وحيوية الشاعر وهي من جواهر الشخصية تلد أسلوباً قوياً مليئاً بالحركة والحياة كما نلحظ ذلك في مثل أسلوب عمر أبي ريشة»[27].

     وإذا كانت كياسة إسماعيل صبري تطبع شعره بالرقة المفرطة، فإن حيوية عمر أبو ريشة تطبع شعره بالقوة والتفرد والمذاق الخاص لأن شخصيته القوية تطبع شعره بطابعها، صوراً ولغة وبناء وموضوعات. رحم الله عمر أبو ريشة لكأنه فصل تماماً بين شخصيته كدبلوماسي لبق كيس رقيق، وبين شخصيته كشاعر قوي فاعل مبادر يعبر عما يريد كما يريد شاعراً حياً جهيراً متحركاً، عاش ومات وهو ملء السمع والبصر، وكان حريصاً جداً على إتقان صنعته الفنية.
❊❊❊

     ويمكن أن توصف لغة عمر أبو ريشة بأنها لغة شاعرية بمعنى أنها تحتذي النموذج الأعلى الذي يبحث في لغة الشاعر عن الجمال والجرس والإيحاء والظلال. ولقد مرت على الأدب العربي فترة طلب «فيها المثالية في كل شيء، في البطولة، وفي الأخلاق، وفي الفن، وكان «المثال» في الشعر هو البحث عن اللفظة الجميلة المنتقاة التي تكاد تقف وحدها لوحة شعرية قبل أن تحتل موقعها في القصيدة، وكذلك الحرص على العبارة الأصيلة المتقنة، التي تعد امتداداً طبيعياً ومتأنياً لجزالة اللغة الشعرية القديمة. وقد ظل فريق كبير من الشعراء العرب يحتفظون حتى الآن بلغة المثال يحرصون على انتقاء اللفظة، ويحتفلون بصياغة العبارة، ويفرقون بحزم بين لغة الشعر ولغة الواقع، ولا يسمحون لأنفسهم بالانزلاق إلى تلك اللغة الجديدة التي خرج إليها الشباب. والاتجاه قوي متعدد الجوانب عند الشعراء للحفاظ على هذه اللغة المثالية. وهناك أعلام كبار في سورية خط كل منهم بشعره منهاجاً لمدرسة شعرية كاملة في بلده لها شعراؤها الكبار أيضاً. ومن هؤلاء بدوي الجبل الذي يقف على ذروة السلفية الشعرية بديباجته العربية الصافية، وعبارته الناصعة، وألفاظه المتفردة، وعمر أبو ريشة الذي يعد خير من تمثل عناصر الرومانسية والرمزية من غير أن يذهب «بمثالية» لغته، بل إن رومانسيته ورمزيته جعلتاه أكثر تمسكاً بهذه المثالية»[28].

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «المنحنى» التي مهد لها بهذه المقدمة النثرية: «كانا يتجولان في إحدى روابي كشمير الساحرة، وقالت له: كل هذا الجمال لنا، ثم صمتت في خشوع، ثم بكت»:

أمسـكت بــي باسمة لاهيَــــــةْ     على حواشي الربــوة الزاهيَةْ
وملـــــت في صمت وطوقتني     وملء عينيك رؤى خافيــــــة
رفيقـتي أكـــرم ما في غـــــــد     حكاية الخمــــر عن الداليــــة
سنقطع الدرب عـلــى المنحنى     وللسنا الإيمـــــــاءة الهاديــــة
وبَعْدنا يبقى الشــــذا والنـــدى     والنسمة الرائحــــــة الغاديـــة
والبلبل الشادي علــى أيكـــــة     والنرجس الحاني على ساقيـة
ونشوة العشاق في همــــس ما     قلناه في أيامنــــــا الماضيـــة
رفيقتي أهوت علــى ساعــدي     شاحبة، وانفجــــرت باكيــــة

     إن لغة الشاعر في هذه الأبيات لغة شاعرية مثالية، فهي موحية بألفاظها الجميلة ذات الظلال والإيحاء، وهي مصفاة منتقاة لا تجد فيها أثراً لما يسميه بعضهم لغة الواقع أو لغة الصحافة، وهي جميلة الجرس تزيد الوقع الموسيقي للبحر السريع الذي تجري عليه القصيدة وتثريه. وفي مفرداتها تكثر الكلمات الأنيسة التي تشي بالرضا والسكينة والهدوء الحالم واللذة النفسية الوادعة، مما ينسجم تمام الانسجام مع موضوع القصيدة والجو النفسي لدى الشاعر ورفيقته، حيث كانا يتجولان في منطقة بعيدة من كشمير، في ظروف تدل على الجمال الطبيعي والخلوة الهادئة، والبعد عن كل منغص قد يفسد التجربة التي صورها الشاعر، وكانت اللغة عوناً كبيراً له في هذا التصوير.

     هذه اللغة الشاعرية المثالية عند الشاعر التي أشاد بها الدكتور أحمد بسام ساعي يشيد بها باحث آخر هو الدكتور محمد عادل الهاشمي إشادة تعلي من قيمتها الجمالية الإيحائية البديعة، فيقول: «تطعيم الأسلوب الجزل باللفظة الموحية، سمة فنية برزت عند من جمعوا بين الثقافتين العربية والأجنبية، وقد عكس شعرهم المتأثر بالإسلام هذه الظاهرة، ويمثلها فنياً عمر أبو ريشة بتوفره على انتقاء اللفظة الجزلة الفخمة، وشحنها بالظلال الشاعرية الموحية، وكأننا أمام شعر يجاور شعر الفحول القدامى في شدة إحكامه ونسجه، ويفيض بالإيحاء والإمتاع في ظلاله وإلهامه»[29].
❊❊❊

     ولغة عمر أبو ريشة لغة صحيحة، فحيث تمضي في ديوانه تقابلك لغته الصحيحة المبرأة من الخطأ والعجمة والابتذال، ولا ريب أن مرد ذلك إلى قوة صلته بالشعر العربي بقطع النظر عن تنازع النقاد في حجم هذه الصلة، وإلى كونه شاعراً ذا أناة ينقح ويهذب ويراجع بحثاً عن الإتقان والكمال.

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «شاعر وشاعر» التي ألقاها عام 1935م في الجامعة السورية بمناسبة المهرجان الألفي للمتنبي:

شاعر الخلد قف على قبــة الخلــ
               ــد وشاهد أئمــــــة الشعـــــــراء
هتفوا باسمك المضمــــخ بالمجــ
               ـــد وكدوا حناجـــراً من ثنــــــاء
قربوا عهدك البعيد فمــــــــــرت
               صور منه فاتنـــــــــــات الـرواء
شاعر العرب غض طرفــك فالــ
               ـعرب حيارى في قبضـة عسراء
يخجل المجد أن يرى الليث شلواً
               تحت أنيـــاب حيــــــــــة رقطاء
أين ملك في ظله ترقــــص النعـ
               ـمى وتشدو شبَّــــابـة العليــــــاء
أين لمع المـنى وحمحمة الخيـــــ
               ــل ووهج القنـا وخفـــق اللـــواء
الميامين يا غرام الميــــامـــــــيـ
               ـن يخوضون لجـــة من شقــــاء
القيود الثقـال عضت عليهــــــــم
               وجرى سمها علـــــــى الأحنــاء
فاعذرَنْ إن سرت خلال نشيـدي
               بحة من تفجـــــــــــع وعنــــــاء
كيف أهدي إليك بيض الأغانــي
               وجــــراح الأيــام خلـــف ردائي

     والأبيات قطعة من قصيدة طويلة نظمها الشاعر عام 1935م، أي وهو في منتصف العقد الثالث من عمره، بعد رجوعه من بريطانيا بسنوات قلائل، وحين ننظر فيها نجدها صحيحة اللغة، سليمة البناء، متينة التركيب، مما يدعم الرأي النقدي الذي يحكم للشاعر بقوة صلته بالشعر العربي القديم، وغزارة مخزونه منه. وتخلو الأبيات من أي ضعف أو ركاكة، وتنجو من كل خطأ أو عجمة، وتجمع إلى الجمال الصواب، وإلى الصحة الدقة.
❊❊❊

     وتحقق لغة عمر أبو ريشة قدراً من الاتساق بين التجربة النفسية التي تنقلها وبين الوقع الموسيقي للألفاظ، بحيث يتواءم هذا الوقع مع حالة الشاعر، مما يجعلنا أكثر تفاعلاً معها واتصالاً بها، وهذا ما قرره الشاعر زكي قنصل حين أشاد بقدرة عمر أبو ريشة، وقرر أنه بهره بسعة خياله ودقة صوره واختيار ألفاظه وتلاؤمها مع معانيه[30].

     يقول عمر أبو ريشة في قصيدته «عالم من نساء»:

جنباً إلى جنب نجــــر الخطـــــى
               وفي مآقينا احتضــــار العـــــزاء
كأننا طيفان قـــــــــــــد أفلتــــــــا
               من عالم الموتـــــى ودنيا الفنــــاء
لا لمسة منهـــــــــــــا ولا همسـة
               أشقى المنى ما ضاق عنه الشقـاء
وسلَّـنا من صمتنــــا موعـــــــــد
               نـادى به المرفــــأ مــــــر النـداء
وكان منــا موقف لــــــــــم يــدع
               في الشهقة الحــرى بقايــا رجـاء
تــدري وأدري أنهـــــــا فرقــــة
               ليس لنا من بعدهـــــــا من لقـــاء
سارت إلى المركب مشدوهـــــة
               معقودة أجفانهـــــــــا بالسمــــاء
وغاب في اليم وغابـــــــــت بـه
               وغاب عني عالـــــــم من نســاء

     والأبيات تنقل لنا تجربة حزينة، لكن هذا الحزن صامت لا جلبة فيه ولا ضوضاء، يسير فيه البطلان إلى حيث يفترقان دون أمل في لقاء قادم، هي تجربة حزن يتصف بالسكوت والاستسلام التام، ويمضي البطلان فيها صامتين كأنهما في مشهد جنائزي، يغوص كل منهما في أعماقه يتأمل ويراجع ويودع ويأسى ويحزن. وقد أحسن الشاعر في كلمات قصيدته حيث اختارها تعبر بجرسها عن التجربة كما عبرت عنها بدلالتها، فاللمسة والهمسة والانسلال والسماء والسير والنساء، تنقل لنا بحرف السين الوسوسة النفسية التي كانت تملأ بطلي التجربة، والضيق والشقاء والشهقة والفرقة تنقل لنا بحرف القاف حالة الضيق لديهما، وإذ يحقق حرف السين وقعاً موسيقياً ينسجم والاستسلام، يحقق حرف القاف وقعاً موسيقياً ينسجم والضيق، ذاك برنينه الهامس، وهذا بقلقلته المتحركة.

     وإذا رقت لغة الشاعر ولانت، وغلبت عليها الكلمات الشاعرية المصفاة كما رأينا في قصيدته «عالم من نساء»؛ فإنها تتخذ نمطاً مغايراً لذلك حين تدعو الحاجة، ففي قصيدة الشاعر الوطنية «يا عيد» نرى لغة جزلة قوية، وهو ما تستدعيه التجربة التي تعبر عنها القصيدة، وهي تجربة حدة وعنف وصراع وغضب. والفرق بين التجربتين استدعى الفرق بين اللغتين، وهو ما أدركه عمر أبو ريشة فصنعه مشكوراً. تقول قصيدته الوطنية «يا عيد»:

يا عيد ما افتر ثغر المجـــــد يا عيـد
               فكيف تلقاك بالبشـــــــرى الزغاريد
وكيف ينشق عن أطياف عزتنـــــــا
               يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
حلم وراء جفــــون الحـــــق موؤود
               طالعتنا وجراح البغي راعفـــــــــــة
وما لها من أســــاة الحـــــي تضميد
               فللفجيعة في الأفواه غمغمـــــــــــــة
وللرجولــــــــة في الأسمـــاع تنديـد
               فتلك راياتنا خجلـــــــــى منكســـــة
فأين من دونهــــــــا تلك الصناديـــد
               يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
ما بالها وثبت للثأر وانكفـــــــــــأت
               وسيفها فـــــي قـــراب الذل مغمـود
يا للشعوب التي قــــادت أزمتهــــــا
               على الليالي عبابيــــــــــد رعاديــــد
يا عيد كم في روابي القدس مـن كبد
               لها علـــى الرفـــرف العـلوي تعييـد
هيهات لن يشتـــكي ما طُلَّ من دمها
               فالحقـــد مضطرم والعــــزم مشدود
سينجلي ليـــلنا عن فجـــر معـــترك
               ونحن في فمــــه المشبــوب تغريــد

     لقد غابت عن هذه الأبيات تلك الكلمات الجميلة الأنيقة الرشيقة التي مرت بنا في القصيدة السابقة «عالم من نساء»، وحلت محلها كلمات ضخمة مجلجلة وقوية. وهو أمر يحمد للشاعر، فكلمات «عالم من نساء» موائمة لطبيعة التجربة التي توحي بالهدوء والذاتية والوداعة والسكون، وكلمات «يا عيد» موائمة لطبيعة التجربة وهي تجربة غضب وطني، ونقمة على البغي والظلم، وبطش العدو المغتصب، وذل القريب المتحكم، واستشراف لمستقبل قادم يصنعه وطنيون غاضبون أشداء يرفضون الضيم ويتمردون على القيود. ومثل هذه التجربة بعمومها وعنفها وشدتها تحتاج لغة تنسجم معها، وهو ما أحسن الشاعر فيه إذ صنعه، حين جعل لغة قصيدته لغة فخمة ضخمة داوية تقرع الأسماع بلجب وصخب، وكأنها النذير للعدو، والبشير للصديق.
❊❊❊

     والبناء اللغوي عند عمر أبو ريشة بناء متين محكم السبك متصل الأواصر، تتراص أجزاؤه تراصاً قوياً، كأن كل جزئية فيه تقع موقعها المقرر، بدون نبو أو معاظلة أو تعقيد، وبذلك تجمع إلى المتانة استرسالاً جميلاً، وإلى الإحكام تدفقاً عذباً، والأمثلة على ذلك كثيرة كقوله في قصيدته «جبل»:

معاذ خلال الــكبر ما كـنـــــت حاقداً
               ولا غاضبـاً إن عـاب مسراي عائب
فكم جبـــل يغــفـو على النجــم خــده
               وأذيـــــالـه للســــــائمات ملاعــــب
نظــرت إلى الدنيــا فلم ألف عنـــدها
               كبيـراً أداري أو صغـــــيراً أعـــاتب
وما هان لي في موقف العز موقـــف
               ولا لان لي في جانـب الحق جــانـب
فيا غربة الأحرار؛ ما أطول السرى!
               وملء غيابات الدروب غياهـــــــــب

     والأبيات كما يظهر لمن يقرؤها أكثر من مرة، محكمة البناء اللغوي إحكاماً شديداً، فالكلمة تقع في مكانها المحسوب، وهي تترابط مع أخواتها الأخريات لتشكل جملاً متينة الصلة، وثيقة العرى، لا تنافر فيها ولا تعقيد ولا صعوبة، والأدوات التي تصل بين أجزاء الجمل تزيدها متانة، لذلك يشعر المرء وهو إزاء هذه الأبيات أنه إزاء بناء باذخ مستو محكم متين، لا عوج فيه ولا نتوء. على أن هذا البناء المحكم لم يجر قط على الاسترسال والتدفق والعذوبة بحال، لذلك يستطيع المرء أن ينشد الأبيات مرة بعد مرة بغاية اليسر والسهولة دون أن يعاني من ذلك أي مشقة. وتلك ميزة تحسب للشاعر وتقدر.
❊❊❊

     لكن هذا البناء المحكم لم يأت دفعة واحدة؛ إنما كان حصيلة الدرس والأناة والاطلاع الواسع، يزكي ذلك أننا نجد لغة الشاعر في بواكير شبابه فيها الكثير من الضعف والحشو والقرب من اللغة المحكية، ولعل هذا ما دفعه إلى إسقاط الكثير من شعر شبابه الأول.

     ويسعفنا النظر في شعر البواكير بأمثلة على ذلك. ففي قصيدة «خاتمة الحب» يخاطب مرثيته قائلاً لها:

عفة البرد ما عهدت بـك الصمـــ     ــت قبيل اللقاء في كل حــــــــال
طوقيني بساعديك فلا خـــــــــــو     ف علينا من أعين العـــــــــــذال
ما أرى الموت مطفئاً شعلة الـــــ     ـحسن ولا بالمزيل سحر الجمـال

     وواضح ما في الأبيات من حشو نجده في قوله «في كل حال» و«ولا بالمزيل سحر الجمال» حيث لا تقدم العبارتان أي إضافة ذات قيمة، وواضح ما فيها من اقتراب من اللغة المحكية كقوله: «فلا خوف علينا من أعين العذال».

     وهذه القصيدة التي تعود إلى عام 1932م تكثر في لغتها هذه العيوب كقول الشاعر مخاطباً المرثية:

لو تعذبت في الحيـــــاة لقلـنا:     لم تطق نفسك احتمال العذاب

     وقوله في نهايتها معلناً تسليمه بقضاء الله تعالى:

حكــــــــــمة الله هـــــــذه ملؤهــــــــــــــــا الرْ
               رَأفة والعدل وكل الإنصاف فـي الأحكام[31]
ليــــــس لي ما أقـــــــول يا مــدع الـكــــــــــو
               ن فوقـــــع الســـــــــكوت فــوق الكــــــــــلام

     ونجد في رثاء الشاعر لحافظ إبراهيم نماذج كثيرة من هذه العيوب كقوله مشيداً بحافظ:

كان حلو اللسان يرحمه الله كريم الأخلاق أنس الندامى

     فعبارة «يرحمه الله» لم تضف إلى المعنى أي بعد جديد في هذا البيت الذي تغلب عليه النثرية والتقريرية.

     وكقوله مصوراً أحلام المرثي بعد موته:

تلك أحلامه العـذاب تبقـــــت     من زوايا مخـــــادع وهميــة
كعروس لما تمثلهـا الفكـــــــ     ـر بأفق القرائــــــح الشعرية
كلما أوشكـــت تميـــــل إليـه     نظمتهــــــــا أنامل البشريــة
وتراءت لـه صـروف لياليــ     ــه شخوصــاً إنسيــــة جنيـة

     ففي هذه الأبيات حشو وركاكة وضعف وقرب واضح من اللغة المحكية.

     وفي القصيدة التي قالها عمر أبو ريشة عام 1933م في تكريم الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي نجده يخاطبه بقوله:

كم تغنيت في بســـــاط عليـــــــه     نثــــرت أكــؤس وفض فــــــدام
وحواليه زمـــــرة من حســــــان     هن للنفـــــــس بغيــــــة ومــرام
هذه فوق صدرهـــا رقص العــو     د، وسالـــت من روحــه الأنغـام
تلك من نشوة الطلا تمضغ النطـ     ـق، وتغفــــو وفـي الشفاه ابتسـام

     والبيتان الأول والثاني جيدان، اللغة فيهما عالية محكمة فضلاً عن جودة التصوير، أما البيت الثالث فالحشو والابتذال نجدهما في العود الذي سالت الأنغام من روحه، وأما البيت الرابع فإن كلمة «تمضغ» تفسد الصورة مع طرافتها إذ تنقلها إلى جو المآكل والمآدب.

     وعلى كل حال تكشف المقارنة بين لغة عمر أبو ريشة في هذه النماذج المبتدئة وبين لغته في النماذج التي آل إليها أمره فيما بعد عن الأثر المحمود للصبر والمران والاطلاع والمعاودة.
❊❊❊

     على أن لغة عمر أبو ريشة التي نجت مما وجدناه فيها من عيوب في بواكير شعره لم تخل من عيب استمر بعد مرحلة الشباب، نجد ذلك في استدعائه للصفات والإضافات والمعطوفات بأكثر مما يستدعيه المعنى مما يفقد الشعر التكثيف الذي هو ميزة أساسية من مزاياه، ويسبغ عليه التسطح بكل ما يؤدي إليه من تباطؤ وترهل وإملال. وربما كان مرد ذلك إلى أن حجم الانفعال لدى الشاعر كبير بحيث لا يستطيع التعبير عنه من خلال اللغة المحكمة، فيهرب إلى هذا الاستدعاء، ويجمع الكلمات تجميعاً حتى يصل بها إلى آخر البيت حيث القافية.

     يقول الشاعر في قصيدة «خالد»:

نفحــات النبي والفتــــــح والعلــ
               ـيـاء والعـــز والنــــدى والبيــان

     وفي هذا البيت نجد «نفحات النبي» بكل ما تثيره في النفس من معان وذكريات، ثم نجد خمس كلمات معطوفة عليها عطفاً متصلاً يصيب البيت بالترهل والرتابة.

     وما وجدناه في هذا البيت نجد مثيلاً له في قوله في قصيدة «فراق» التي قالها في رثاء صديقه وقريبه جميل مراد:

ومسحت الشفــــه من قبـلات الـ
               ـحب والشوق والرضى والحنان

     ومثيلاً آخر في قوله في قصيدته «عام جديد» مصوراً أحزانه الخاصة والعامة في مطلع سنة جديدة:

وحــدي هنــا في حجــرتي     والليل والعــــــــام الوليــد
والكأس والغصص الحِــرا     ر، وغربة الحلـم البعيــــد
وتساؤل القلــــــــق المرير     ووطأة الصمـــــت المديـد

     على أن الإنصاف يقتضي القول: إن هذه الظاهرة التي يمكن أن نعدها من بقايا مرحلة البواكير قلت كثيراً مع النضج والمران، فلا نعثر عليها إلا قليلاً.
❊❊❊

     وفي شعر عمر أبو ريشة نجد مجموعة من التراكيب الجميلة التي تشيع في لغته وتكسبها جمالاً ورونقاً كقوله: كبرياء الألم، يتيم النغم، ملعب العز، مغنى الشمم، جباه الأنجم، غصة دامية، غبار التهم، طهر الصنم، المجد الظمي؛ في قصيدته الشهيرة «بعد النكبة».

     وكقوله في قصيدته «حماة الضيم»: سلافة حلمه، كآبة صمته، دهم الخطوب، كهف عبادة، جر السنين، حماة الضيم، جفن الحق.

     وكقوله في قصيدته «هكذا»: ترف الأيام، هانت الخيل، الخيام الشم، جيد أتلع، السبات الممتع، جياع خشع.

     وكقوله في قصيدته «حكاية سمار»: إغضاء سال، شموع شبابه، بقية زهوة، عبث الليالي، غيابات السرى، أشباح الونى، غوايات الفتون الآسر، بدعة الدنيا، تعربد اللذات، جيد النجم، جفن السامر، وحي ضلالة، قبر ضمائر، جواب الأعالي، مخضل الكمائم، سر العاصر، الحرف الحرون، الوتر الحنون، شفوف الليل، تابوت الشباب، رفات أهداب، بوح سرائر، سكرة المذبوح.

     وكقوله في قصيدته «الفارس»: صهوة المجد، البسمة اللعوب، حلف الكبر، أورق الرمل، سيرة السيوف، أسرى التراب، شوق السماء، دأبك الوهب. وكقوله في قصيدته «في طائرة»: طلعة ريا، ألحاظ كسالى، بوركت صحراؤهم، حملوا الشرق.

     وكقوله في قصيدته «معبد كاجوراو»: وهب الأمان، وقفة عنفوان، نثر الفتون، نضوا صبوة، غوية ظمأى، رعشة محمومة، مساحب الأردان، أقنعة الحياة، أولى فأولى.

     وكقوله في قصيدته «طلل»: حوافر خيل الزمان المشت، كف الدمار، ينفض الوهم أشباحه، ينتحر الموت.

     وكقوله في قصيدته «لبنان»: فتون سرمدي، معبد النجوى، أحشاء الثرى، خد الفرقد، الزمان الأمرد، مئزر من زبد، شفاه الأبد.

     وكقوله في قصيدته «إفرست»: عاصب الغيم، مجلى الأرض، المترف الشيق، غوي السنا.

     وكقوله في قصيدته «نسر»: فحيح سعير، الضحى المخمور، فضلة الإرث، جنون الكبر، ضمير الأثير، نشت الآفاق، وكره المهجور.

     وكقوله في قصيدته «دليلة»: الغمائم المجدولة، فجاءة مستحيلة، مخابئ كهف، الصبر المبرح، وشاح الليل، أشلاء قهقهات.

     وكقوله في قصيدته «خالد»: راويات الزمان، أجنحة الإلهام، غصة الظمآن، هبوب الأجيال، انفلاتي من الغيوب، هاجس رحماني، الأمل العاتب، وشاح البطولة، زغردة النصر، أنشودة الجهاد، دمعة التكفير، ضلوع اليرموك، الطيوف الحسان، الليالي الكسالى، لا رعاني الصبا، فمي ضريح لساني، عرشها الرث، منار الإباء.

     هذه التراكيب من مضاف ومضاف إليه، وصفة وموصوف، وفعل وفاعل، وفعل ونائب فاعل، وفعل وفاعل ومفعول به، ومبتدأ وخبر، تراكيب فيها طرافة وجمال وجدة، وفيها بصمات الشاعر وذوقه واختياره، الأمر الذي يدل على أنه كان يتأنى في شعره ويتعنى وأنه كان حقاً كما وصفه الدكتور حسن ظاظا فناناً في اختيار الكلمات المؤثرة ، وأن ما قاله عن نفسه من أنه يدرس كل كلمة يستعملها ويعيها ويعرف موقعها وأبعاد معانيها صحيح تماماً[32].

     والتأمل في التراكيب السابقة وأمثالها يكشف عما فيها من جمال وخصوصية، وبعضها لا يملك الإنسان إلا أن يقول: هذه بصمات عمر أبو ريشة تطالعنا فيها كقوله: سلافة حلمه، غيابات السرى، وغوايات الفتون الآسر، شفوف الليل، طلعة ريا، وقفة عنفوان، نضوا صبوة، مساحب الأردان، حوافر خيل الزمان المشت، ينتحر الموت، ينفض الوهم أشباحه، فحيح سعير، الضحى المخمور، جنون الكبر، ضمير الأثير؛ بل إن هذه التراكيب يمكن اعتبارها اختراعاً من اختراعات الشاعر، حيث يشعر الدارس بجدتها وطرافتها، وأنها شيء جديد لعله يطالعه للمرة الأولى.

     وإذا دل هذا على تعنِّي الشاعر وتأنِّيه وصبره، فإنه يدل كذلك على أصالته التي تأبى إلا أن تعبر عن ذوقها الخاص، وقدرته التي تجعله يتعامل مع اللغة تعامل الصائغ المقتدر الذي يشكل من مفــــرداتها تراكيب تعرف به ويعــــرف بهـــا. إن اللغة مـــورد متـــاح لكل أديب وكاتب وشاعــــر، لكن الذي يتعامل معها بهــــذه الخصوصيـــة والتفـــرد قليــــل جـــداً ومنهم عمر أبو ريشة.
❊❊❊

المعجم الشعـري:

     وإذا كان لكل شاعر طريقته الخاصة في صوره وموسيقاه وموضوعاته؛ فإن له أيضاً «معجمه الشعري الخاص، يكرر ألفاظاً يتكئ عليها في أكثر قصائده، ويسوق عبارات نجدها في أماكن عديدة من شعره. ولكن من الشعراء من تكون ألفاظه وعباراته حادة المذاق لو جاز التعبير، يبقى أثرها طويلاً على لوحة النفس بسبب الشحنة الشعرية أو الشعورية القوية التي غذاها بها الشاعر من ناحية، وبسبب امتيازها الحاد عن ألفاظ الشعراء الآخرين وعباراتهم من ناحية ثانية. فإذا ما تكررت عند الشاعر نفسه بعد ذلك أحسسنا برنينها القديم ما يزال في آذاننا وأدركنا بسرعة البديهة أن تشابهاً ما قد وقع بين هذه القصيدة وبين ما سبقها من قصائد للشاعر. ويمكن أن نقول: إن ألفاظ نزار قباني وعباراته في معظمها من هذا النوع الحاد الطعم، وما أسهل اكتشاف التشابه والتكرار عنده لهذا السبب!.. وقد تكون لغة عمر أبو ريشة أيضاً في مثل هذه الحدة والتميز».

     وحين نمضي في ديوان الشاعر نجد أن له بالفعل معجمه الشعري الخاص الذي لا نخطئ اكتشاف بصماته عليه، ولا نخطئ أن نرى فيه تلك الكلمات المتميزة ذات المذاق الحاد على حد تعبير الدكتور أحمد بسام ساعي، وهذه محاولة لحصر أهم الكلمات من خلال متابعتها في ديوانه: المنى، نعمى، الحلم، الذكرى، السنا، النجوى، الذهول، الطيف، الرؤى، السراب، الزهو، البغي، النجم، النسر، الطهر، الرجس، يهمي، مخضل، الجناح، هيكل، البيد، المئزر، المزهر.

     وإذا كانت الكلمات السابقة تمثل أهم المعجم الشعري عند الشاعر، فإن هناك كلمات أخرى من هذا المعجم تشيع في شعره ولكن بدرجة أقل وهي:

     جرح، شرف، جمال، جلال، جنة، عز، ذل، بطولة، رجولة، إباء، وطن، مجد، شباب، هوى، طيب، ضيم، حقد، نخوة، خيل، فرسان، سيوف، خيام، نشيد، فتون، غواية، ضلالة، بوح، دموع، عناد، شموخ، علا، شموس، فتوح، آلام، أحلام، كؤوس، دروب، زحام، رمل، موت، بدعة، أحرار، أغلال، حرمان، غصص، غناء، زهراء، نجي، صحراء، ظفر، شرق، راعف، حوافر، وهم، مترف، وحشة، سفح، جبل، شبح، غيهب، سمار، خمر، أقداح، صبا، نشوة، خميلة، جدول، شيق، ريق، شقي، إثم، زورق، مجداف، طلعة، عفاف، عزاء، صدأ، عربدة، كفن، إيمان، هدى، تاريخ، جهاد، صلاة، كتائب، حداء، جاهلية، مروءة، كبرياء، ألم، دنيا، يتيم، ملعب، مغنى، شمم، جباه.

     ويمكن أن ترد هذه الكلمات التي مثلت أبرز ما في معجم عمر أبو ريشة الشعري إلى أمرين يعبران عن الشاعر تعبيراً أميناً. ذلك أن تكرار عناصر لغوية معينة يوحي بسيطرتها وإلحاحها على صاحبها فهي لاتفتأ تنبثق عنه باستمرار:

الأول: إباء الشاعر وشموخه وعنفوانه واعتزازه بالإسلام نبياً وقرآناً وتاريخاً وحضارة وحبه للعرب وصحرائهم وفروسيتهم ومروءتهم، وغيرته على وطنه الذي تتكاثر عليه الجراح بين عجز القادة وهجمة الغاصب والمحتل، وهذا ما تمثله كلمات: الشرف، الجلال، العز، البطولة، الرجولة، المروءة، الوطن، المجد، الفتوح، الإيمان، الجاهلية، الكتائب، الجهاد، وما إليها.

الثاني: تجارب الشاعر الشخصية في الغزل واللهو والعبث وهو ما تمثله كلمات: الشباب، الطيب، الفتون، النشوة، الخميلة، الشيق، الريق، الطهر، الإثم، الطلعة، الغواية، الزهو، الحرمان، الوهم، الترف، السمار، الطيف، وما إليها.

     ودارس عمر أبو ريشة يجد أن هذين الأمرين أهم ما ألح على هذا الشاعر الجهير الذي انسجم مع نفسه في شعره تمام الانسجام وعبر عنها بفضائلها ونقائصها، واهتماماتها العامة واهتماماتها الخاصة.
❊❊❊

--------------------
[1] M.H.Abrams, A. Glossary Of Literary, Rinehart and Winston, New York, U.S.A. P.140.
[2] الطاهر أحمد مكي، الشعر العربي المعاصر، روائعه ومدخل لقراءته، ص76.
[3] سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، بيروت والقاهرة، دار الشروق، ص68.
[4] المرجع السابق، ص71.
[5] المرجع السابق، ص69.
[6] عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، ص340.
[7] أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص232.
[8] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص395.
[9] سيد قطب، كتب وشخصيات، ص45.
[10] المرجع السابق، ص45-46.
[11] النعمان القاضي، أبو فراس الحمداني الموقف والتشكيل الجمالي، ص379.
[12] عاطف جودة نصر، الخيال مفهوماته ووظائفه، ص181.
[13] الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص24.
[14] شوقي ضيف، فصول في الشعر ونقده، ص303.
[15] شعراء سورية، ص116.
[16] المرجع السابق، ص125-126.
[17] الأدب العربي المعاصر في سورية، ص307.
[18] الشعراء الأعلام في سورية، ص311.
[19] المرجع السابق، ص311.
[20] المرجع السابق، ص322.
[21] دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص244.
[22] القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث قراءة ونصوص، ص181.
[23] جريدة الرياض، الرياض، 28/ 12/ 1412هـ= 29/ 6/ 1992م.
[24] من رسالة شخصية بعثها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها "ذكريات عن عمر".
[25] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.
[26] جريدة الشرق الأوسط، لندن، 1/ 9/ 1990م.
[27] الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث، ص68-69.
[28] أحمد بسام ساعي، حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه، ص195.
[29] أثر الإسلام في الشعر الحديث في سورية من 1920م إلى 1946م، ص258.
[30] من رسالة شخصية بعثها إلى الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، عنوانها "ذكريات عن عمر".
[31] هذا البيت فيه زيادة في الوزن، وقد أثبته بعض الدارسين كما هنا، وعند هاني الخير في كتابه "قيثارة الخلود"، وجاء عند د.عمر الأسعد في كتابه "قطاف الستين":
حكمة الله هــذه ملؤهـــــــا العَدْ = لُ، وكل الإنصاف فـي الأحكام
وهذه إفادة من الدكتور عمر خلوف. (المُراجع).
[32] في زيارة خاصة للدكتور حسن ظاظا في منزله في الرياض، عام 1412هـ/ 1992م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة