الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 08 - ملامح بدوية


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

08- ملامح بدوية:

     اتصل البارودي اتصالاً مباشراً بدواوين الشعر العربي القديمة، وتتلمذ عليها، وتمثل صورها وأخيلتها وتقاليدها، ولم يتعلم الشعر على طريقة معاصريه، فنجا بذلك من أن يكون شاعراً عروضياً على حد تعبير العقاد[1]، ونجا من تمثل الصور المسفة للشعر العربي في عصور ضعفه، التي أضاعت معانيه وديباجته وإشراقه وحيويته بسبب ما فشا فيها من تكلف وبديعيات وموضوعات تافهة.

     وقد كان في هذا اللون من الاتصال نفع كبير، ذلك أن البارودي تجاوز به عصره، وطوى الزمان فتعامل مع أروع نماذج الشعر العربي في أفضل عصوره، فكان أن ارتفع بهذا التعامل، ثم رفع بما صنع مستوى الشعر فكان رائداً حقاً، فنياً وموضوعياً على حد سواء.

     واتصال البارودي الوثيق بدواوين الشعر العربي الأولى، وهو شعر نشأ في البادية حيث اكتملت فيها تقاليده الفنية، جعل أثر البادية واضحاً في شعره أكثر من شوقي وحافظ، لذلك لا نخطئ أن نلمس معالم ذلك بشكل واضح، وقد أعان البارودي على الأمر، أنه كان فارساً تمثلت فيه أخلاق الفروسية أصدق تمثيل، وأنه كان مقاتلاً حقيقياً له في القتال مجد باذخ، وبادية العرب كانت تحفل بالفرسان الذين ملأت صورهم خيال البارودي فنالوا من إعجابه واحتذائه الشيء الكثير.

     يرثي البارودي زوجته فنجد العناصر البدوية واضحة في مرثيته تماماً من قدح الزناد طلباً للنار، ومن رمح الطراد والقتال، ومن إناخة المصيبة كما ينيخ البعير:

أيـد المنــــون قدحت أي زنــــــاد     وأطــرت أيـة شعـــلة بـفــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حــــملة فيلق     وحطمت روحي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطـــب ألم بســـاحتي     فأناخ أم سهم أصـاب سوادي[2]

     ويصور نفسه كيف صار خائفاً ذليلاً بعد فقد زوجته، فهو يمشي خاضعاً كأنه يخشى الغارة من أعداء له يكادون يسطون به، كما جرت العادة في حياة البادية:

متخشعــــاً أمشي الضراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي

     وعيناه باكيتان كأنما وخزهما القتاد بشوكه الصلب ذي الإبر، فأظلمتا إذ كان القتاد لهما بديلاً عن الكحل:

قد أظلمت منه العيون كأنما     كحل البكاء عيونها بقتـــــاد

     ولو أن الدهر يخاف سطوة شجاع أو سطوة فاتك لفعل به ما فعله الحارث بن عباد يوم تحلاق اللمم في حرب البسوس إذ انتصف به لقومه بكر من تغلب:

لو كان هذا الدهر يقبــــل فدية     بالنفس عنك لكنت أول فـــادي
أو كان يرهب صولة من فاتك     لفعلت فعـــل الحارث بن عباد

     وهو لا يرضى أن يبكي على زوجته عاماً واحداً كما فعل لبيد حين طلب من ابنتيه ذلك، على ما جرت عليه عادة البدو مع موتاهم:

فلئـــن لبيــــد قضى بحول كامل     في الحزن فهو قضاء غير جواد

     ورثاؤه لوالده ينقلنا إلى جو البادية منذ البداية، فنجد أنفسنا مع عناصرها المختلفة تحيط بنا حيث نكون:

لا فـــــارس اليوم يحمي السرح بالوادي
               طــاح الردى بشهــــاب الحي والنـــادي
مــات الذي ترهــب الأقــران صولتـــه
               ويتــــقي بـأســـه الضرغـــامة العــادي
هــل للمكـــارم من يحـيي منـــــاسكهــا
               أم للضــــلالة بعـــد اليــــوم من هـادي
جف الندى وانقضى عمر الجدا وسرى
               حـــــكم الردى بين أرواح وأجســـــــاد
فـلتمــــرح الخيــل لهواً في مقـــــاودها
               ولتصـــدأ البـــيض ملقــــاة بأغماد[3]

     إننا نجد أنفسنا أمام واد خلا من فارسه الذي يحمي حوزته حيث أطاح الردى بمقدم القبيلة والحي، وحيث هلك الشجاع الذي كان أنداده يخافون لقاءه في الحرب، فجف بموته الكرم والسخاء وصارت الخيل لا تجد من يقودها للحرب، والسيوف لا تجد من يقاتل بها، فلهذه أن تمرح حيث هي في مرابعها، ولهذه أن تصدأ حيث هي في أغمادها.

     وإحساسه بفقد الشدياق إحساس مرير، يجعله يشعر شعور من فقد الماء وهو ظامئ، والظمأ والماء من طبيعة الصحراء ولوازمها:

فقدناه فقدان الشراب على الظما     ففي كل قلب غلة ليـس تنقع[4]

     وفي رثائه لقبائل العرب التي أحزنه اقتتالها، نجده ينقل أحدنا نقلة كاملة إلى جو البادية، فما يخال نفسه إلا في إحدى المعامع التي كانت تجري بين قبائلها، بكل ما للبادية وما للمعامع والقبائل فيها من عناصر وإشارات:

إذا ما تذكرت الزمــــان الذي مضى
               تســـاقط نفسي إثر تــلك القبـــــــائل
قبــــائل أفنتهـــا الحـــروب ولم تكن
               لـتفــــنى كرام الناس ما لم تقــــــاتل
قضت بعدهم نفسي عزاء وأصحبت
               عشـــــوزنتي وانقــــاد للـذل كاهلي
وأصبحت مغــــلول اليدين عن التي
               أحــاولهــا والدهر جم الغـــــــــوائل
صريـــع لبانـــــات تقســمن نفســـه
               وغـــادرنه نهـب الأكف الخواتـــــل
كأني لم أعقــــد مع الفجـر رايــــــة
               ولم أدع بــــاسمي للكمي المنــــازل
ولم أبعث الخيل المغيرة في الضحى
               بـكــل ركــــوب للـكريهــة بـاســــل
نــزائع يعــــلكن الشكيم على الوجى
               إذا عريـــت أمثـــــــالها في المنازل
من القــــوم باد مجدهم في شمــالهم
               ولا مجـــد إلا داخل في الشمـــــائل
إذا ما دعـــوت المرء منهم لدعــوة
               على عجـــل لبــــاك غير مســــائل
يكفـــكف أولى الخيــــل منه بطعنة
               تمـــج دماً مطعـــــونها غير وائــل
يـكون عشــــاء الزاد آخر آكــــــل
               ويوم اختلاج الطعن أول حامل[5]

     هناك بادية واسعة تسكنها قبائل كثيرة، وهذه القبائل كثيرة الحروب، وهو ما يجعلها تتفانى وما يجعل الشاعر يحزن عليها حزناً لا حد له، بحيث ضعفت قوته، وذل كاهله، ولم يعد يعقد رايات القتال مع الفجر لتهجم أول النهار على الأعداء، ولا يهتف باسمه مفتخراً لمن يبرز له في القتال، ولا يأمر بإرسال الخيل المغيرة تحمل الأبطال الشجعان.

     وهذه الخيل المغيرة تعلك شكائمها مع ما بقوائمها من وجى وحفاء لأنها معتادة على الكر والفر وطول الركوب، بخلاف سواها من الخيل التي لا يجشمها ذووها عناء القتال.

     ومن في هذه البادية شجعان يسارعون إلى إجابة النداء حين يدعوهم الداعي دون مساءلة أو تأخير، والواحد منهم يرد الخيل العدوة بطعنة تجعل صاحبها لا يعود إلى الحياة، وهو من عفة النفس والشجاعة ممن يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، ففي الطعام يتأخرون وفي القتال يقدمون.

     وفي رثائه لوالدته يتساءل عن الحمام الذي يبكي على فقد الهديل الذي تجعله الأسطورة العربية جداً للحمام أو فرخاً مات عطشاً، فكل حمامة من بعده إنما تبكي عليه:

ينوح على فقد الهديل ولم يكن     رآه فيـــــا لله كيف تهـكما[6]

     وليس للشاعر بعد أمه الراحلة عنه رغبة في الحياة، ذلك أنه فقدها كما يفقد المرء شرابه وهو ظامئ:

وأي حيـــــاة بعـــد أم فقـــــــدتها     كما يفقد المرء الزلال على الظما

     ويتساءل – ملتمساً العظة – عن الماضين الذين عفت ديارهم فلم يبق منها إلا الطلول، وأخبارهم التي لم يبق منها إلا الظنون:

مضوا وعفت آثارهم غير ذكرة     تشيــد لنـــا منهم حديثــاً مرجما

     والشاعر لا ينسى والدته الراحلة قط ما أشرقت الشمس، وما حن طير في شجر الأراك الذي ينمو في البادية:

فوالله لا أنســاك ما ذر شارق     وما حن طير بالأراك مهينما

     وفي رثاء البارودي لعلي الطهطاوي نجده يستدعي العناصر البدوية كما فعل عدة مرات من قبل:

نعـــاء عليه أيهـــا الثقــــــــلان     فقـد أقصدتــــه أسهــم الحدثــان
حفـــاظاً وإشفاقـــاً على مترحل     خلت أربع من شخصه ومغـاني
فقدنـــاه فقـــدان الظماء شرابهم     بديمومة والورد ليس بداني[7]

     إن الشاعر في هذه الأبيات ينقلنا نقلة تامة إلى البادية، حيث نرى من يركب الجمل ويمر بمضارب القبائل ليقول لهم ((نعاء فلاناً)) كما جرت عادة العرب إذا مات لهم شخص مهم خلت منه الديار إذ رحل، فحزن الناس عليه حزن المسافر في الصحراء يفتقد الماء أشد ما يكون حاجة إليه.

     وهذا الجو الذي ينقلنا به البارودي إلى عالم البادية، مع أنه لم يعش في البادية بل في مدن متحضرة عامرة، لا يوحي بالتكلف ولا ينفي عن البارودي صفة الصدق، ذلك أنه إن لم يعش في البادية بجسمه فقد عاش فيها بروحه وثقافته، فروحه روح الفرسان الذين نشأت تقاليدهم النبيلة في بادية العرب، وثقافته نهلت من منابع الشعر العربي الأولى وهي وثيقة الصلة بالبادية ورموزها وتقاليدها وخصائصها. من جهة أخرى يمكن أن يعد هذا الأمر نموذجاً واضحاً لأثر التراث على البارودي، وهو أثر واسع، وضع بصماته عليه بوضوح من جانب، وأخذ بيده ليكون رائد الشعر العربي الحديث وباعثه من جانب آخر.

----------------------
[1] شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ص 7 – 8 .
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 1/250.
[4] الديوان 2/242.
[5] الديوان 3/136.
[6] الديوان 3/394.
[7] الديوان 4/99. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة