الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 09 - صدق رائع


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

09- صدق رائع:

     من أجمل ما يروع الدارس لحياة البارودي وشعره، صدقه مع نفسه، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا الصدق ثمرة طبيعية للفروسية التي نشأ عليها وأشرب حبها، فرافقته في جميع مراحل حياته. وأخلاق الفروسية تدعو إلى الصدق، وتدعو إلى الوفاء، وهذان المعنيان من ألزم لوازم المراثي الجيدة.

     يقول البارودي في رثاء ابنته ستيرة التي جاءه نعيها وهو في المنفى:

فزعت إلى الدموع فلم تجبـــني     وفقـــد الدمـــع عند الحـزن داء
وما قصـــرت في جزع ولكــن     إذا غلب الأسى ذهب البكاء[1]

     وهو بهذين البيتين أبان عن حزنه الممض، ووجد عذراً لنفسه أنه لم يقل في ابنته سواهما، فقد استبد به الحزن فغلبه على البكاء، كما غلبه على النظم.

     أما صديقه عبدالله فكري الذي كان نوراً يمشي بين الناس، فهو يود أن يفتديه لو كان إلى ذلك سبيل:

ألا بأبي من كان نوراً مجسـداً     يفيض علينا بالنعيم رواؤه[2]

     ولولا يقينه أنه في جنة الله تعالى وهو ما يدعوه إلى الصبر والعزاء، لبكى عليه بكاء يسلمه إلى العمى:

ولـــولا اعتقـــــادي أنه في حظيــرة     من القدس لاستولى على الجفن ماؤه

     والمصيبة به هائلة هدته هداً، وفتكت بقلبه فتداعى، فإذا بالأطباء عاجزون عن علاجه، وللطب مداه المحدود الذي لا يعدوه:

عليك ســلام من فؤاد نزا به     إليك نزاع أعجز الطب داؤه

     وفي رثائه لصديقه عبدالله فكري وأستاذه حسين المرصفي، نجده حزيناً جداً، لسلسلة الكوارث التي توالت عليه ومنها موت الفقيدين المرثيين، خاصة أنهما ماتا وهو في المنفى:

لـم تـدع صـــــولة الحوادث مني     غيــــر أشـــلاء همة في ثيــــاب
فجعــــتني بوالــــــــــدي وأهـلي     ثــم أنحــت تـكـر في أتـــــرابي
كــل يـوم يـــزول عني حبـــيـب     يــا لقـــلبي من فرقة الأحبــــاب
أين مني حسين، بل أيـن عبد اللـ     ــه رب الـكمـــــــــــال والآداب
مضيــــا غير ذكرة وبقــــاء الـذ     كــر فخـــر يــدوم للأعقـــــــاب
لم أجــــد منــــــهما بديلاً لنفسي     غير حزني عليهما واكتئابي[3]

     إن موت أقربائه وأصدقائه، جعل منه بقية أشلاء، ذلك أن المحنة بهم طحنته طحناً، فجعته بذويه، ثم مضت تفجعه بصحبه، فيزول كل يوم منهم حبيب، فأنى لقلبه أن يحتمل ذلك كله؟ وأنى له أن يجد بديلاً عما يكابد من أحزان؟

     أما رثاؤه لزوجته عديلة يكن فهو درة مراثيه، وهي قصيدة رائعة تفيض بالصدق والوفاء والحزن المرير والتصوير الحي، لذلك لا غرابة أن كانت أفضل مراثيه وأروعها، ولذلك لا غرابة أن وجدنا الدكتور شوقي ضيف يصفها بأنها ((تعد من غرر المراثي في لغتنا العربية))[4].

     ومن البيت الأول من القصيدة نشعر بالحرقة على الفقيدة العزيزة التي ضاعف حزنه عليها أنها ماتت أيام نفيه:

أيد المنون قدحت أي زنـــــاد     وأطرت أية شعلة بفؤادي[5]

     إن الشاعر يسأل الموت سؤالاً محزوناً مريراً عن النار التي أوقدها في قلبه، وهي نار أوهنت عزمه وكان قوياً وحطمت جسمه وكان صلباً وأصابته بسهم حل في سواد قلبه، فإذا بدموعه تنهل على خديه كأنها دماء جارية:

أوهنــــت عزمي وهو حملة فيلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لم أدر هل خطب ألم بســــــاحتي     فأنــــاخ أم سهم أصـــاب سوادي
أقـذى العيـــون فأسبـــلت بمدامع     تجــري على الخدين كالفرصــاد

     والشاعر لقوة شخصه وما أشربه من الفروسية التي تجعل أبناءها رجالاً أشداء، لم يكن يحسب أنه يراع لحادث، فلما ماتت زوجته تبين له أن موتها فوق طاقته، فإذا به لا يحتمل المصاب، وإذا بالحزن يبليه حتى يكاد جسمه لا يبين للعواد الزائرين الذين جاؤوه للتعزية، وإذا به يستنجد الزفرات وهي محرقة، ويحاول كتم الدموع لكنه لا يستطيع:

ما كنت أحسبني أراع لحادث     حتى منيــــت به فأوهـن آدي
أبلتني الحسرات حتى لم يكـد     جسمي يـــلوح لأعين العـواد
أستنجد الزفرات وهي لوافـح     وأسفه العبــرات وهي بوادي

     وفي بيت رائع يصور لنا حزنه الكبير، فهو بين أمرين كلاهما مر صعب، اللوعة لا تدع فؤاده، ويده لا تقوى على رد الفقيدة الغالية:

لا لوعتي تـدع الفؤاد ولا يدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     وفي أبيات جميلة تفيض بالحزن المرير يناجي الشاعر الدهر الذي سلبه زوجته ويسأله عما حمله على ذلك، ولماذا لم يبقها لأولاده إن لم يشأ إبقاءها له، ويصور له كيف ساء حال بناته من بعدها بسبب جنايته، فهن منفردات ليس لهن من يحميهن، لا يقدرن على النوم، وعيونهن متقرحة من البكاء، وأكبادهن مضطربة من الحزن، تركن عقود الدر التي كانت تحيط أعناقهن، وجعلن من دموعهن قلائد بديلة، خدودهن ندية بالبكاء الدائم وقلوبهن محترقة من الهم والغم:

يـــا دهر فيم فجعتـــــني بحليلة     كانت خلاصة عدتي وعتـــادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها     أفـلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهن فــــلم ينمن توجعـــــاً     قرحى العيون رواجف الأكبـاد
ألقيـن در عقودهن وصغن من     در الدموع قلائـــــد الأجيـــــاد
يبـــكيــن من وله فراق حفيـــة     كانــت لهن كثيـــــرة الإسعــاد
فخــــدودهن من الدموع نديــة     وقلوبهن من الهمــوم صــوادي

     لقد استطاع الشاعر أن ينقل لنا صورة حية من أحزانه على الزوجة الفقيدة، وعلى بناته اللواتي هدتهن الكارثة، وصور لنا حالهن في مشهد درامي موجع.

     ويتوجع البارودي لزوجته، وكيف ارتحلت عن منزلها الذي كانت نوره وضياءه لتصبح رهينة في جوف قبر أغبر مظلم مغلق:

أسليلة القمرين أي فجيـــــعة     حلت لفقدك بين هذا النـــادي
أعزز علي بـأن أراك رهينة     في جوف أغبر قـاتم الأسداد
أو أن تبيني عن قرارة منزل     كنت الضيــــاء له بكل سواد

     ويوفق البارودي كذلك في تصوير حزنه على زوجته الفقيدة، فجوانحه لا تقر بعدها، وفراشه لا يلين له. وألمه عليها رفيق دائم له، ودمعه ملازم لوسادته كلما جاء ينام، وحين ينتبه من نومه فهي أول من يتذكره، وحين يأوي إلى فراشه فهي آخر ما يصطحبه، لذلك صار نموذجاً غريباً للحزن ينظر إليه الناس ما تجددت المصائب، وصار خاشعاً ضعيفاً يمشي مستخفياً حذر عدو له قد يفاجئه ويؤذيه:

هيهات بعدك أن تقــــر جوانحي     أسفـــاً لبعــــدك أو يلين مهــادي
ولهي عليك مصاحب لمسيــرتي     والدمع فيــــك ملازم لوســــادي
فإذا انتبهت فأنت أول ذكـــــرتي     وإذا أويت فـــــأنت آخـــر زادي
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يوم كل مصيبــــة وحــــــداد
متخشعــــاً أمشي الضراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشــــا     بلهيب سورتــــه وسقم بــــــادي

     ويوفق البارودي في إبراز عاطفته الحزينة، حين يصور هول الكارثة على نفسه أول مفاجأة النبأ له، وخاصة في التناقض الحاد بين الأمل الذي كان وهماً، والكارثة التي باتت حقيقة:

ورد الـبـريد بغيـــــــر ما أملته     تعس البريد وشاه وجه الحادي
فسقـــــطت مغشياً علي كأنــما     نهشت صميم القلب حيـة وادي
ويـلـمه رزءاً أطــــــار نعيـــه     بالقـــــلب شعـــــلة مارج وقاد
قد أظلمت منه العيــــون كأنما     كحل البـــكاء جفـــونها بقتـــاد
عظمت مصيبته علي بقدر مـا     عظمت لدي شماتة الحســــــاد

     إن حزنه الصادق يظهر في هذه الأبيات بأجلى حالاته، لقد تناول البريد وهو يرجو أن يجد فيه ما يسره فإذا به يجد ما يسوؤه، لذلك يدعو عليه، ويدعو على حملته، ويسقط على الأرض فاقداً وعيه كأن حية سامة نهشت قلبه، ذلك أن المصاب أوقد فيه النار، وأجرى دموع عينيه اللتين كأنما وخزتهما الأشواك، وعظمت عليه مصيبته بفقدان الزوجة الغالية كما عظمت عليه مصيبته بشماتة الحاسدين.

     ويحمل البارودي في مودة حانية ورقة بالغة وصدق ظاهر، النسيم الذي يهب رسالة منه إلى قبر الفقيدة، ينقلها من منفاه البعيد إلى حيث دفنت الفقيدة في مصر، وفي الرسالة مودة وتحية للزوجة العزيزة، وفيها يبثها شكواه ممن حوله في المنفى إذ أخذوا يتلاومون، صحت أجسادهم ومرضت قلوبهم، وفشا فيهم الحسد، حتى إنهم يريدون الإحسان إلى أنفسهم من خلال الإساءة إليه:

سر يا نسيــم فبـــــلغ القبر الذي     بحـمى الإمام تحيــــتي وودادي
أخبـــره أني بعــــده في معشــر     يستجلبـــــون صلاحهم بفسادي
طبعـــوا على حسـد فأنت تراهم     مرضى القلوب أصحة الأجساد
ولو انهم علموا خبـيئة ما طـوى     لهم الردى لم يقـدحوا بزنــــــاد

     ويختم البارودي قصيدته الرائعة بأبيات تفيض بالصدق والوفاء، والدعاء واللوعة، وحفظ عهود المودة، فيقول:

فاستهد يا محــمود ربك والتـمس     منه المعــــــونة فهو نعم الهـادي
واســـأله مغفرة لمن حل الثــرى     بالأمس فهو مجيب كل منــــادي
هي مهجة ودعت يوم زيــــــالها     نفسي وعشـــت بحسرة وبعــــاد
تالله ما جفت دموعي بعــــــد مـا     ذهب الردى بك يا ابنة الأمجــاد
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى     هيهات ما ترك الوفاء بعــــــادي
قد كدت أقضي حسرة لو لم أكـن     متوقعــــاً لقيـــــاك يوم معـــادي
فعـليـــك من قـلبي التحيــــة كلما     نــاحت مطــــوقة على الأعــواد

     إن الشاعر يطلب من ربه الرحمة للفقيدة الغالية، التي ودع بوداعها كل شيء وانكفأ على نفسه منفرداً متحسراً، وهو يقسم أن الدموع ما جفت على الراحلة العزيزة، يحمله على ذلك الوفاء الذي عرف به، والذي يجعله يتذكرها على الدوام.

     إن مرثية البارودي لزوجته عديلة يكن، قصيدة حية مؤثرة، استكملت كل الأدوات اللازمة لتظفر بالتفوق في مستوى شعر البارودي، وفي مستوى الشعر العربي. يقول الدكتور علي محمد الحديدي عنها:((ومطولة البارودي التي يبكي فيها زوجته الحبيبة ويندبها على البعد، من نادر الشعر العربي، فقليلاً ما رثى الشعراء العرب زوجاتهم ... وقد استطاع البارودي أن يصور الحزن الحقيقي على الحبيب الفقيد، حتى ليكاد المرء يحس من القصيدة لهفة الشاعر وقد وهن عزمه، في عباراته، ويشعر بجمرات الحزن في كلماته، ويرى الدمع مدراراً على وسادته، والحزن في القصيدة حزن عميق جدير بأن يعد نموذجاً في الشعر العربي للعاطفة الصادقة))[6].

     وقصيدة البارودي في ابنه علي الذي توفي أيام نفيه، هي من أجمل مراثيه وأحفلها بالحزن واللوعة والصدق:

كيــف طوتــك المنـــــون يا ولـــدي
               وكيـــف أودعتـــــك الثـــرى بيــدي
واكبـــــدي يـــا عــلي بعــــــــدك لو
               كــــانت تبــــل الغليــــل واكبـــــدي
فقـــــدك ســــل العـظــــــام مني ور
               د الصبر عني وفت في عضدي[7]

     إنه يتساءل متعجباً متحسراً كيف طوت المنون ابنه الصغير، وكيف استطاع أن يودعه الثرى بيديه، وهو محترق الكبد لوفاته التي أضعفت جسمه، وردت صبره، وفتت في عضده.

     ودمع الشاعر مقترن بأرقه الدائم، وهو ما أضعف عينه التي اجتمع عليها البكاء والسهر معاً، ولهفته على معالم النجابة وأمارات الذكاء مما رآه في ابنه الفقيد لا تنتهي، ومما زاد في حجم المصيبة أن المفاجأة فيها كانت من حيث لا يتوقع، ولذلك فهو يود أن يعصف به الهيام لا الحلم لولا بقية من حياء تدعوه إلى الصبر:

كــم لـيــــــلة فيـــك لا صبـاح لهـا
               سهـــــرتهــا بــاكياً بـلا مـــــــــدد
دمــــــع وســــــهـد وأي نـــاظرة
               تبــــقى عــلى المدمعيـــن والسهد
لهـــــفي على لمحــــة النجــابة لو
               دامت إلى أن تـفــــوز بالســـــــدد
ما كنت أدري إذ كنت أخشى عليـ
               ـك العيـــن أن الحمــــــام بالرصد
فاجــــأني الدهر فيـك من حيث لا
               أعلم ختــــلاً، والدهر كالأســـــــد
لولا اتقاء الحياء لا عتضـت بالـــ
               ــحـــلم هيـــــاماً يحيــق بالجـــــلد
لـكن أبــت نفـسي الـكـــــريمة أن
               أثــــلـم حــــد العـــــزاء بالـكمــــد

     ويطلب الشاعر من قلبه أن يبكي على ابنه، لأن بكاء القلب يبلغ ما لا يبلغه بكاء العين، وإذا كان الموت قد أطبق على الولد فإن المصاب به أطبق على الوالد، الذي يسلم على ابنه أحسن سلام ويودعه أحسن توديع:

فليبــــك قلبي عليك فالعيـن لا     تبـــلغ بالدمع رتبــة الخــــــلد
إن يك أخنى الردى عليك فقـد     أخنى أليم الضنى على جسدي
عليك مني الســــلام توديـع لا     قـــال، ولكن توديع مضطهــد

     ويبدو أن حزنه على ابنه علي ظل يتجدد. لذلك نجده يعود مرة ثانية إلى رثائه له في قطعة من سبعة أبيات تفيض بالحزن الصادق:

بكـيــــت علـيــــاً إذ مضى لـسبيــــــــــــله
               بعيـــــن تـــــكـاد الروح في دمعها تجـري
وإني لأدري أن حــــــــــزني لا يـــــــــفي
               برزئي ولــكـن لا سبيــــــل إلى الصبـــــر
وكيـــف أذود الـقـــــلب عن حســــــــراته
               وأهــــون ما ألـقــــــاه يصدع في الصخــر
يـلومونني أني تجـــــاوزت في الـبــــــــكا
               وهـل لامرئ لم يبــــك في الحزن من عذر
إذا المــــرء لم يـفــــرح ويحــزن لنعــــمة
               وبـؤس فلا يـــرجى لـنفــــــع ولا ضـــــــر
وما كـنــــت لولا قســـمة الله في الـــــورى
               لأصبـــــر لـكنــــا إلى غـــــــاية نســــري
لقـــد خفـــــف البـــلوى وإن هي أشـــرفت
               على النفس ما أرجوه من موعد الحشر[8]

     وعاد البارودي لرثاء ابنه أيضاً مرة ثالثة، وتكرار الرثاء ثلاث مرات يدل على الحزن العميق من ناحية، وعلى العاطفة المتقدة من ناحية:

لم أصطبـــر بعدك من سلوة     لكن تصبــــرت على جـــمر
وشيــــمة العاقل في رزئـــه     أن يسبق السلوة بالصبر[9]

     ويدفع الوفاء البارودي إلى رثاء حاضنته في ثلاثة أبيات تفيض بالحزن الصادق عليها، يحلف لها فيها أنه لن ينساها، ولن ينسى كريم أخلاقها، ويدعو لها بالجنة:

أمريــــم لا والله أنســــــــاك بعـــــــــــد ما
               صحبتــــك في خفــض من العيش أنضـــر
فقـــــد كنــــت فينــــا بـــرة القول ســـــرة
               سليــــــمة قــــلب في مغيــــــــب ومحضر
فلقيــــت من ذي العرش خيــــــر تحيـــــة
               توافيك في روض من القدس أخضر[10]

     ويتوجع البارودي لوفاة صديقه أحمد فارس الشدياق، توجعاً يجعل جنبه لا يقر، وفؤاده منصدعاً للمصاب الذي كان كبيراً بحيث شعر أصحابه أنهم فقدوا به ما يفتقده الظامئ، حين لا يجد الماء للشرب أوان اشتداد حاجته إليه:

أبعد سمــــير الفضل أحمد فارس     تقر جنـــــوب أو يلائم مضجــــع
كفى حزناً أن النوى صــدعـت به     فــؤاداً من الحدثـــــان لا يتصدع
وما كنت مجزاعاً ولكن ذا الأسى     إذا لم يســــاعده التصبر يجـــزع
فقدناه فقدان الشــراب على الظما     ففي كل قلب غلة ليس تنــقع[11]

     وفي رثائه لأمه نجده محزوناً حزناً مراً عليها، فقد غالها الموت الذي لا يرحم، وكان يود أن تسلم ويموت بدلاً عنها، وحياته لا قيمة لها بعد خسارته لأمه التي فقدها كما يفقد الظمآن الماء العذب وقد ألح عليه الظمأ، وقد اشتد به الحزن لوفاتها شدة أمرضته، ولم يبق له منها إلا ذكرى تحزن وطيف يزور، لقد كانت له سروراً وبهجة خسرهما بوفاتها:

لعـــمري لقد غال الردى من أحبـــه
               وكــــان بودي أن أمـــوت ويســـلما
وأي حيــــاة بعـــد أم فقــــــــــدتهــا
               كما يفقد المرء الزلال على الظمــــا
تولـــت فولى الصبــر عني وعادني
               غرام عليـــها شف جسمي وأسقـــما
ولم يبـــق إلا ذكرة تبعــــــث الأسى
               وطيــف يوافيـــني إذا الطرف هوما
وكانت لعيــــني قـــرة، ولمهجــــتي
               سروراً فخاب الطرف والقلب منهما
فــلولا اعتقــــــادي بالقضاء وحكمه
               لقطعــــت نفسي لهفـــة وتندما[12]

     ويدعو البارودي لوالدته بالرحمة، وأن تشرب من الكوثر كأساً عذبة شهية، ويطلب من قلبه البكاء عليها لأن القلب أوفى للعهود، ويقسم لها إنه لن ينساها ما أشرقت شمس وما حن طير حتى يلقاها بين يدي الله:

سقتــــك يد الرضوان كأس كرامة
               من الكوثر الفياض معسولة اللمى
ولا زال ريحــان التحية ناضــــراً
               عليك وهفـــــاف الرضا متنســـما
ليبــــك عليك القلب لا العيـن إنني
               أرى القلب أوفى بالعهــود وأكرما
فو الله لا أنســـاك ما ذر شــــارق
               وما حن طيـــر بالأراك مهيــــنما
عليك ســــلام لا لقــــــاءة بعــــده
               إلى الحشر إذ يلقى الأخير المقدما

     ويفيض رثاؤه لعلي رفاعة الطهطاوي بالحزن الصادق العميق، وبالثناء المستطاب على الفقيد الكريم:

مضى وأقـمنـــــا بعــــده في مــــآتم
               عـلى الفضل نبـــــكيه بأحمر قــاني
فـــلا عين إلا وهي بالدمع ثــــــــرة
               ولا قــــلب إلا وهو ذو خفقـــــــــان
حفــــاظاً وإشفاقــــاً على متــــرحل
               خـــلت أربع من شخصـه ومغـــاني
فقـدنـــــاه فقــــدان الظماء شــرابهم
               بديمـــومة والـــورد لـيــــس بــداني
لعـــمري لقد هــــاج الأسى بعد فقده
               بنــــا لـوعــــة لا تنثـــــني بعنــــان
ضمـــان على قلبي صيـــــانة عهده
               وما خيــــر قلب لا يفي بضـــــــمان
لـقـــد كان خـــلاً لا يشان بغــــــدرة
               وصـــاحب غيــب طـــاهر وعيـــان
خـــلال يفوح المسك عنها محدثـــــاً
               ويثـــــني على آثـــــارها الملـــــوان
فلا غرو أن تدمى العيون أســـــــافة
               عليك ويرعى الحزن كل جنان[13]

     فالبارودي يصور عظم الكارثة التي حلت بوفاة المرثي، فشاع الحزن، وبكى الناس دماً أحمر قانياً عليه، ولا غرابة في ذلك فقد فقدوه أحوج ما يكونون إليه كما يفقد الظماء الماء وهم منقطعون في الصحراء. ويتعهد البارودي محمولاً بوفائه وأخلاقه أن يظل حافظاً عهد الفقيد الذي كان طاهراً في السر والعلن، متصفاً بأفضل الأخلاق التي تضوع كالمسك، ويثني عليها الليل والنهار، ولذلك لا غرابة أن يحزن عليه الجميع وأن تدمى عليه العيون والقلوب.

     ورثاء البارودي لأخته يصور تصويراً حياً حزيناً ألمه عليها، حيث نجد أن مقلته يذهب البكاء بها، وحين تنفد الدموع يسيل الدم، ذلك أن الشقيقة الفقيدة كانت نادرة في دينها وحيائها وعفافها وثقافتها وكانت تطارحه فنون البلاغة والإنشاء:

هي مقـــلة ذهب البكــــاء بمائها     مقذية والبيـــــــــن من أقــذائها
نفــــدت مدامعها فأعقــــــبها دم     تجـــــري سوابقه على أرجائها
تبكي لصورة عفة حجب الردى     عني براعة فضـــــلها وروائها
أخت وما الأخـــوات كن كمثلها     في دينــــها وعفافها وحيــــائها
ذهبت وأبقت في فــؤادي لوعة     تترقص الأحشـــاء من برحائها
كانت تطارحني فنــــون بلاغة     مصقولة الأطراف من إنشــائها
ماذا على الأيـــــام وهي بخيـلة     لو أنها سمحت لنـا ببقـائها[14]

     وحين رثى صاحباً له، اعتصره الحزن فأحسن وأجاد، وهو يثني على الفقيد من ناحية ويصف أحزانه من ناحية أخرى:

يــا فقيــد العـــــلم والوطــن     بنــت عن عيني ولم تبــــن
أنت في قــــلبي وإن ذهبـت     بــــك عني غـــــدرة الزمن
كيف لا يبــــــكيك ذو شجن     أنت منه موضع الشجـــــن
كان قـلبي للســـــــرور فمذ     غبــــت عني صار للحـزن
قد أشـــــت الدهر ألفتـنـــــا     ليت هذا الدهر لم يكن[15]

     إن الفقيد بان عن الدنيا لكنه لم يبن عن قلب الشاعر الذي يبكيه إذ عصف به الزمن، وقلب الشاعر الذي كان للسرور باجتماعه مع صديقه، صار للحزن بعد أن تمزق الشمل فمات الفقيد وترك الشاعر وحيداً يبكي فيه الألفة الزائلة.

     وهكذا يظل الصدق الذي عرف به البارودي في حياته بارزاً في شعره عامة وفي رثائه خاصة، وهو صدق مبعثه نفس وفية ترى الكذب عاراً والنفاق دناءة، ومبعثه أيضاً بكاء أقارب رحلوا، وأصدقاء ماتوا، زاد من فجيعة الشاعر بهم أن معظمهم حل بهم الموت وهو في المنفى فكانت المصيبة بهم مضاعفة.

     وهو صدق يجعله ــ وهو الفارس الأبي ــ لا يخجل من تصوير وقع الكارثة عليه وضعفه أمامها، ويجعله يسائل الدهر عن سبب جنايته على من يحب، ويدعو على البريد وحامله حين وافاه بغير ما أمل، ويحمل النسيم تحية حارة من سيلان إلى القاهرة، ويعاهد على دوام التذكر وطلب الرحمة، ويتمنى لو استطاع أن يكون الفداء لو كان إلى ذلك سبيل.

     هذا الصدق في حياة الشاعر وفي مواقفه، وفي شعره هو أمر يلمسه الدارس للبارودي حيث توجه، لذلك قرر الدكتور شوقي ضيف وهو يتحدث عن صدق التجربة عند البارودي أن ((شعر البارودي صورة صادقة لحياته وقومه وبيئته المصرية وكل ما ألم به من بيئات، وهو يروعنا بهذا الصدق الذي لا يشوبه تمويه، وهو صدق استتبع في قصيدته أن تكون تجربة فنية أحسها الشاعر وملأت جنبات قلبه وهي تجربة لا تزال أبياتها تتولد من نفسه متلاحقة، بيتاً من وراء بيت، حتى تتم القصيدة صورة لنفسه ومشاعره ... فالقصيدة تنفصل من ذات نفسه صورة صادقة أمينة كأجمل ما تكون الأمانة والصدق، وكان يشعر بذلك شعوراً عميقاً بل شعوراً متأصلاً في أطواء نفسه ... وحقاً لم يجر في نفسه شيء إلا صوره في شعره وجسده تجسيداً، وكأنه يقتطعه منها اقتطاعاً، وكانت نفساً خصبة، عمقت اتصالها بالحياة وكل ما أحاط بها اتصالاً زادها خصباً إلى خصب، وهو اتصال أعد لتطور واسع في شعرنا الحديث إذ وصله بحياتنا الواقعة وانطباعاتها المختلفة))[16].

     وقد يكون صدق البارودي في مراثيه أحد الأسباب التي جعلته مقلاً فيها، فهو لا يرثي إلا محزوناً منفعلاً، وبهذا نجا مما وقع فيه شوقي وحافظ إذ كانا يرثيان في بعض الأحيان، مدفوعين بالمجاملة أو المنافسة أو الرغبة في الظهور. يقول الأستاذ عمر الدسوقي:((ولم يرث البارودي إلا صديقاً أو قريباً، فلم يكن رثاؤه مفتعلاً أو من شعر المناسبات، وإنما كان منبعثاً من عاطفة صادقة))[17]، يضاف إلى ذلك أن معظم مراثي البارودي قالها في فترة النفي، وهو ما جعل عاطفته أكثر صدقاً وأشد انفعالاً، وقد ذكر ذلك الأستاذ عمر الدسوقي حيث قال:((ومما زاد رثاءه حرارة أنه قال معظمه وهو في المنفى فزاد في أساه لوعة النوى عن الوطن وحرمانه من التزود من الميت بنظرة أو حديث))[18].

وقد لاحظ الأمر نفسه الدكتور إبراهيم السعافين حيث قرر أن الرثاء عند البارودي كان ((غرضاً ذاتياً خالصاً، قصره على أصدقائه الأقربين وذويه الأدنين، كالزوجة والوالدين والأبناء والأصدقاء الخلصاء، ولم يؤثر عنه أنه رثى كما رثى شعراء البلاط، بل كان رثاؤه متصلاً بذاته لا يتعداها إلى المجاملة والتكلف، لهذا فإن هذا الغرض لم ينل حيزاً كبيراً في الديوان))[19].

     وهكذا يمكن للدارس أن يقرر أن صدق التجربة عند البارودي كانت أحد الأسباب الأساسية في قلة مراثيه حيث لم يرث إلا منفعلاً محزوناً، غير محمول بدافع من دوافع المجاملة أو المنافسة. وحين أشاد الدكتور عبدالقادر القط بالبارودي، ودوره التجديدي وتفوقه وريادته، جعل من ذلك ((التجربة الصادقة واللمسات الذاتية)). يقول: ((أما البارودي فقد أتاحت له موهبته وظروف حياته أن يؤدي دوره في حركة الإحياء تلك، على خير ما كان يمكن أن يؤدي في ذلك العصر، فشعره يكاد يشبه في نسجه ومعجمه وبناء عبارته وصوره وأخيلته شعر الكبار من شعراء العصر العباسي ... وهكذا اجتمع في شعر البارودي أسلوب، إن يكن قديماً فهو على أية حال جديد بالنسبة إلى عصره، متفوق كل التفوق بالقياس إلى عصور التخلف، وتجربة صادقة ولمسات ذاتية طالما افتقدها الشعر العربي في تلك العصور))[20].

-------------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/81.
[3] الديوان 1/104.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 122.
[5] الديوان 1/237.
[6] محمود سامي البارودي، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م، ص 165-166.
[7] الديوان 1/248.
[8] الديوان 2/111.
[9] الديوان 2/112.
[10] الديوان 2/111.
[11] الديوان 2/242.
[12] الديوان 3/394.
[13] الديوان 4/99.
[14] د. سامي بدراوي: أوراق البارودي، ص 70.
[15] المرجع السابق، ص 108.
[16] البارودي رائد العصر الحديث، ص 187 – 188.
[17] محمود سامي البارودي، ص 42.
[18] المرجع السابق، ص 42.
[19] مدرسة الإحياء والتراث، دار الأندلس، بيروت، ط1، 1981م، ص 173 – 174.
[20] الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، ص 25 – 26.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة