الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي)
10- لغة البارودي:
ريادة البارودي للشعر العربي الحديث أمر يجمع عليه الدارسون، وهي ريادة موضوعية وريادة فنية معاً. وأهم أسباب هذه الريادة، موهبته القوية، وسعة اطلاعه على روائع الشعر العربي، وطريقته في التعلم التي جعلته يتصل اتصالاً مباشراً بهذه الروائع متجاوزاً عصور الضعف والركاكة، وهي عصور كان لابد لها من أن تضع بصماتها عليه، لو أنه درس من خلال الطريقة التقليدية التي كانت سائدة في عصره.
وقد أدى هذا إلى أثر واضح في صياغة البارودي لشعره، فالألفاظ عنده قوية لا تخطئ أن تجد فيها آثاراً بدوية أحياناً، ولكن من دون إغراب أو مبالغة، والعبارة عنده مستوية ومحكمة النسج بحيث يشعر الدارس بتلاحمها تلاحماً متيناً، لا نبو فيه ولا شذوذ، وذلك يدل على طبع سوي أحكمته القراءة الواعية لعيون الشعر العربي، وملكة صقلتها روحه المتوثبة الطموح التي جعلت من كبار شعراء العربية نموذجاً لها، ولذلك ما تكاد تقرأ في شعر البارودي حتى تشعر أن صياغته تردك إلى عالم الفحول من شعراء العربية كالمتنبي والشريف الرضي وأبي فراس.
بعد أن ينقل الدكتور شوقي ضيف عن الشيخ حسين المرصفي ما رواه في الجزء الثاني من كتابه ((الوسيلة الأدبية)) كيف أن البارودي لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية، لكنه بدأ يطلع على دواوين الشعر العربي فتصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية فصار يقرأ ولا يكاد يلحن، ثم حفظ الكثير من الشعر دون كلفة، يقول: ((والمرصفي بذلك يذيع السر في براعة البارودي، وتمثله المنقطع النظير للسليقة العربية، فإنه لم يكون قريحته الشعرية بالطريقة التي كانت متبعة في عصره والتي كانت تردد فيها قواعد النحو والعروض وصور سقيمة من الشعر المسف المبتذل المليء بأعشاب البديع والمخمسات والتضمينات الركيكة، وإنما كونها بالتزود من رواية النماذج الرائعة لشعراء العربية القدماء. وقد مضى يستظهرها مردداً نظره فيها حتى فقه أسرار تراكيبها وأحكم طبيعته وأرهف ذوقه واستقامت له شاعريته، وعلى هذا النحو تكاملت للبارودي سليقته العربية بنفس الطريقة التي كان يصطنعها شعراؤها في العصور القديمة وفي أعمق هذه العصور، وأقصد العصرين الجاهلي والإسلامي، فإن الشاعر حينئذ كان يعتمد في تكوين سليقته على استظهار أشعار النابهين من معاصريه وأسلافهم، وما يزال يأخذ نفسه بروايتها وفهمها وتمييز مقاصدها وتبين مواقع الجمال الفني بها حتى يسيل الشعر على لسانه بنفس الصورة ونفس الألحان والأنغام المطربة، مذيعاً فيه مشاعره ومشاعر قومه، دون أن يحول بينه وبين ذلك عائق من بديع أو غير بديع))[1].
هذه الطريقة الصحيحة في تعلم العربية، جعلت البارودي يتمثل روائعها الشعرية تمثلاً تاماً فصارت جزءاً لا يتجزأ منه، يفكر بها. ويشعر بها، وينظم بالتالي بها فيأتي نظمه على أمثال تلك الروائع بصورة عفوية، وهذا هو الفرق بين تمثل اللغة روحاً وألفاظاً وتراكيب، وبين تعلمها بطريقة حفظية استظهارية تجعل الإنسان يعبر بها وكأنه يعبر بلغة أجنبية عنه.
فإذا أضيف إلى هذه الطريقة جملة الظروف المواتية للبارودي من ذكاء قوي، وذاكرة قوية، وملكة نادرة، وأسباب عيش مسعف لما يريد، كان لنا أن نعرف لماذا تفوق البارودي في صياغته اللغوية.
يقول البارودي في رثائه الشهير لزوجته:
أيـــد المنــــون قدحت أي زنــــاد وأطرت أيـة شعــــــلة بفــــؤادي
أوهنـــت عزمي وهو حملة فيـلق وحطمت عودي وهو رمح طراد
ما كنت أحسبــــني أراع لحــادث حتى منيــــت به فـــــــأوهن آدي
أبلتــــني الحسـرات حتى لم يكــد جســمي يـلــوح لأعين العـــــواد
أستنجــــد الزفـــرات وهي لوافح وأسفــــه العبــــرات وهي بوادي
يــا دهـر فيــم فجعــــتني بحليــلة كــانت خلاصة عدتي وعتــــادي
إن كنت لم ترحم ضنـــاي لبعدها أفــــلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهــن فــــلم ينمن توجعـــــــاً قرحى العيـــــون رواجف الأكباد
ألقيـــن در عقودهن وصغــن من در الدموع قـلائـــــد الأجيـــــــاد
يبكيـــــن من وله فـــراق حفيـــة كـــانت لهــن كثيـــرة الإسعــــاد
فخــــدودهن من الدموع نديـــــة وقلوبهن من الهموم صـوادي[2]
إن ألفاظ هذه الأبيات قوية جزلة، فيها فحولة بادية، لا تجد فيها لفظاً مسفاً أو مبتذلاً، وهي منتقاة انتقاء جيداً لأداء المعاني التي يريد الشاعر أن يقولها لنا، ومع ذلك ليس فيها غريب لا يفهم، أو يتعسر التلفظ به ويشق. وهذه الألفاظ تقع موقعها المقرر في سياق التراكيب دون إكراه أو افتعال، أما التراكيب فإنها مستقرة مستوية يأخذ بعضها برقاب بعض دون نبو أو شذوذ، ولذلك كانت الصياغة على أعلى درجات الجودة والإحكام والإتقان، كأنها قطع حجارة نحتت نحتاً دقيقاً منضبطاً متساوياً بيد قادرة صناع، ثم ضمت إلى بعضها ضماً قوياً فإذا بها بناء واحد.
ويقول البارودي في رثائه للشدياق:
نميــــل من الدنيــا إلى ظل مزنة لهـــا بــــارق فيــه المنيـــة تـلمع
وكيف يطيب العيش والمرء قائم على حــذر من هول ما يتوقـــــع
ومن عجب أنا نســــاء ونرتضي ونـدرك أسبـــاب الفنـــاء ونطمع
ولو عـــلم الإنسان عقبـــان أمره لهـــان عليه ما يســــر ويفجــــع
تسيــر بنا الأيام والموت موعـــد وتدفعنـــا الأرحام والأرض تبلع
عفـــاء على الدنيا، فما لعــــداتها وفــاء، ولا في عيشها متمتع[3]
وفي هذه الأبيات تظهر صياغة البارودي المحكمة القوية، فهي تتشكل من ألفاظ جزلة قوية، وجمل مسترسلة محكمة، وقدرة على حسن التصرف بالكلام وتوزيع أجزاء الجمل، وهو ما يوضح المعنى ويحكم الترابط، ويزيد من الوقع الموسيقي.
يمضي البيت الأول باتساق وانسجام ليقرر فيه البارودي حب الناس للحياة مع الكوارث والنذر، الأمر الذي يستدعي التساؤل عن سر ذلك وهو ما يأتي به البيت الثاني، حتى إذا جئنا البيت الثالث وقعنا على تقابل جميل يتساوى فيه الشطران ويتناظران، أما في البيت الرابع فنجد الشاعر ينتهي إلى النتيجة التي يؤول إليها الأحياء وهو ما ينبغي معه أن تهون عليهم مسراتهم وأحزانهم، لأن الدنيا قافلة دائبة كما يقرر ذلك البيت الخامس في تقابل جميل بين الشطرين، وروعة لتقسيم للكلام داخل كل شطر، أما البيت السادس فيأتي ليتم معنى البيت السابق له ويقرر أن الدنيا إلى زوال لأن وعودها لا تنجز وعيشها لا يستطاب.
ومتابعة مراثي البارودي، تقود إلى نفس النتيجة التي قاد إليها النظر في النموذجين السابقين.
وهكذا تطلع علينا صياغة البارودي، لنجدها دائماً على أعلى درجات القوة والاكتمال، ألفاظاً قوية جزلة، وتراكيب جيدة السبك متلاحمة النسج، تدل على طبع سوي وسليقة عربية صميمة، لا نبو فيها ولا تكلف ولا إكراه، نجت من عصور الضعف اللغوي، واتصلت بعصور القوة والفحولة، لذلك ما تكاد تمضي في قراءة البارودي حتى تحسب نفسك مع أحد شعراء العربية الكبار الأوائل.
يقول الدكتور شوقي ضيف: ((ولا يختلف اثنان في أن البارودي كان يفقه أسرار العربية وصورها البلاغية فقهاً دقيقاً، وأنه أحكم سليقته إحكاماً بكثرة ما قرأ وحفظ من نماذجها الرفيعة ... ومن أجل ذلك اتسق التعبير الشعري عنده اتساقاً عجيباً بحيث لا تلقاك فيه كلمة نابية، ولا أخرى استكرهت على أن تنزل في غير موضعها، بل كل كلمة تنزل في مكانها نزولاً طبيعياً وكأنما قدرت له تقديراً))[4].
وأما الأستاذ العقاد فإنه يقول:((كان محمود سامي البارودي شاعراً رائع اللفظ بليغ العبارة، وكانت روعته المتانة والفخامة وبلاغة السراوة والجزالة، وربما رجحته هذه المزايا على شوقي في ناحيتها))[5].
وأما الدكتور أحمد هيكل فإنه يقول: ((كان البارودي أوضح الجميع أخذاً بهذا الاتجاه الجديد فهو أقواهم شاعرية وأعلاهم قامة وأغزرهم نتاجاً، وأبعدهم عن التقليدية التي غلبت على كثير من شعراء تلك الفترة، ومن هنا يعتبر البارودي بجدارة رائد هذا الاتجاه الذي اتجه بأسلوب الشعر إلى الأسلوب القديم المشرق الحي، البعيد عن التهافت والتستر بالمحسنات، فهو مؤسس الاتجاه المحافظ البياني في الشعر الحديث، وليس المراد بالمحافظة أي لون من التقليدية أو المحاكاة بمعناها الرديء الذي تلغى معه الشخصية أو تغلق العيون والمشاعر عما يحيط بالشاعر ويمس نفسه، وإنما المراد بالمحافظة اتخاذ النمط العربي المشرق مثلاً أعلى في الأسلوب الشعري وهذا النمط تمثله تلك النماذج الرائعة من الشعر التي خلفها قمم الشعراء في عصور الازدهار في المشرق والأندلس))[6]. وهكذا تتلاقى شهادات ثلاثة دارسين كبار لتؤكد لنا صحة لغة البارودي وتميزها، وامتلاك صاحبها لأدواتها امتلاك الخبير المتمكن المتصرف، الذي يضع مفرداتها وتراكيبها على أحسن ما يكون البناء اللغوي، في محافظة لا تلغي الشخصية، وتجديد لا يقطع الجذور.
----------------------
[1] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 98.
[2] الديوان 1/237.
[3] الديوان 2/241.
[4] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 129.
[5] مهرجان أحمد شوقي، ص 5.
[6] تطور الأدب الحديث في مصر، ص 62.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق