الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثالث - 11 - الصورة الشعرية


الفصل الثالث
(الرثاء في شعر البارودي) 

11- الصورة الشعرية:


     تكثر الصور في مراثي البارودي وتتنوع، فهي مرة صورة مكثفة مشعة، وهي مرة أخرى صورة مفصلة، وأحياناً تستحيل إلى لوحة ومشهد، كما أنها تعنى مرة بتصوير الخلجات النفسية وتعنى أخرى بتصوير المشاهد الحسية.

     يقول في صديقه عبدالله فكري:

ثوى برهة في الأرض حتى إذا قضى
               لبــــانتـه منـــها دعتــــه سمــــــــــاؤه
ومـا كان إلا كوكبــــاً حــــل بـالثــرى
               لوقـــت فـلما تـم شــــــال ضيـــــــاؤه
نضــــا عنه أثـــواب الفناء ورفرفــت
               إلى الـفـــلك الأعــلى به مضــــــواؤه
فأصبـــح في لــج من النور سابحـــــاً
               سواحــــله مجهـــــولـة وفـضـــــــاؤه
تجــــرد من غمد الحوادث ناصعـــــاً
               وما السيــــف إلا أثـــره ومضاؤه[1]

     في هذه الأبيات يصور البارودي انتقال المرثي من عالم الفناء إلى عالم البقاء، فقد مكث في الأول مدة من الزمن هي أجله فلما انتهى لبى داعي السماء، فكان مثل كوكب ارتفع ضياؤه بانقضاء أمده، وفي عالم البقاء خلع عن نفسه أثواب عالمه الأول، واندفع إلى الفلك الأعلى متقدماً، ليؤول إلى بحر هائل من النور لا يمكن معرفة أبعاده وأعماقه، لقد كان سيفاً ظهر أروع ما يكون حين تخلى عن غمده، وغمده هنا هو عالم الفناء وروعته هنا هي ما آل اليه في عالم البقاء.

     وفي رثائه لعبد الله فكري وحسين المرصفي، يحن إلى مصر وهو في منفاه البعيد فيقول:

ليت شعري متى أرى روضة المـنـ     ـــيــــــل ذات النخيل والأعنــــــاب
حيـــث تجـري السفين مستبقـــــات     فـــوق نهر مثــــل اللجيـــن المذاب
قـد أحـــاطت بشــــاطئيه قصـــــور     مشرقـــــات يلحن مثــــل القبــــاب
ملعـــب تســـرح الـنـــــواظر منــه     بيــــن أفـنــــــان جنــة وشعــــــاب
كـلمـا شــــــافـه الـنســــــيم ثــــراه     عــــاد منــــه بنفحـــــة كالمــــلاب
ذاك مرعى أنسي ومرتــــع لهــوي     وجنى صبــــوتي ومغنى صحــابي
لـســت أنســـــاه ما حييت وحاشـــا     أن تراني لعهـــــده غير صـابي[2]

     إن هذه الأبيات تصوير دقيق للروضة والنيل وما حولهما، وهو تصوير تتعدد عناصره وتتكامل لتستحيل إلى لوحة نابضة بالحياة والحركة، ففي اللوحة النخيل، وفيها العنب، وفيها السفن التي تتسابق على نهر كالفضة الذائبة، وفيها القصور المشرقة المضيئة التي تحيط بجانبي النهر كأنها قباب تلفت النظر فيظل يتردد بينها وبين الأشجار الباسقة، وفيها الماء الجاري الذي تضوع رائحته كالطيب كلما مسه النسيم، وروضة المنيل هذه التي قدمها البارودي في هذه اللوحة المتكاملة، تتصل به ماضياً وحاضراً، تتصل به ماضياً بالذكرى التي لا تفارقه، وتتصل به حاضراً بالأمل في أن يراها مرة ثانية.

     وفي القصيدة نفسها يقدم لنا البارودي لوحة رائعة متكاملة، نراه فيها وقد توالت عليه المصائب ففعلت به الأفاعيل:

أخــلق الشيـــب جدتي وكســاني     خلعـــــة منـــه رثــــة الجلبـــاب
ولوى شعــــر حاجـبي على عيــ     ــني حـــــتى أطل كـالهـــــــداب
لا أرى الشيء حيــن يســنـح إلا     كخيـــــال كأنني في ضبـــــــاب
وإذا ما دعيــــــت حـــرت كأني     أسمــع الصوت من وراء حجاب
كــلمـا رمت نهضــــــة أقعـدتني     ونيــــة لا تقــــلهـا أعصــــــابي
لم تـــدع صـــولة الحوادث مني     غيــــر أشــــلاء همة في ثيــاب
فجعتـــني بوالـــــدي وأهـــــــلي     ثم أنحـــت تـــــكـر في أتــرابي

     وواضح أن هذه الصورة تعبر عن مشهد متكامل بجميع عناصره، فالشبـاب النضر ذوى، وحل محله الشيب والوهن والمرض، والبارودي إذ يقرر ذلك لا يكتفي بالأمر على إجماله، بل يدخل في التفاصيل التي تؤكده وتبينه، فالحاجب متهدل على العين، والبصر ضعيف تبدو معه الأشياء كأنها خيال عابر في ضباب كثيف، والسمع واهن لذلك يظن من يناديه بعيداً، وإذا ما أراد النهوض قعد به ضعف أعصابه، لقد توالت عليه النكبات فلم تبق في برديه إلا أشلاء همة وحطام عزيمة، فجعته بوالديه وأهله، ثم طفقت تفجعه في أصحابه، لقد نجح الشاعر نجاحاً كبيراً في التقاط عناصر اللوحة، وضمها إلى بعضها حتى ظهر لنا فيها بأجلى صورة، بحيث لو أراد فنان مقتدر أن يصور البارودي من خلال هذه اللوحة لاستطاع ذلك ولقدم لنا صورة دقيقة رسمها بفرشاته كما رسمها البارودي بكلماته.

وكما استطاع البارودي تصوير الحركة الحسية في هذه اللوحة، استطاع أيضاً تصوير الحركة النفسية، نرى ذلك في آخر بيتين من الأبيات السابقة، حيث فتكت الحوادث بعزمه كما فتكت بجسمه فلم تبق منه إلا الحطام.

وقصيدة البارودي في رثاء زوجته، وهي درة مراثيه، تمتلئ بالتصوير الحي الرائع المتنوع، يبدأ البارودي قصيدته على النحو التالي:

أيد المنـــون قدحت أي زنــــــاد     وأطرت أية شعـــــلة بفــــــؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فيـــلق     وحطمت عودي وهو رمح طراد
لــم أدر هل خطب ألم بســـاحتي     فأنــــاخ أم سهم أصـــاب سوادي
أقــذى العيون فأسبــــلت بمدامع     تجـــري على الخدين كالفرصـاد
ما كنــــت أحسبني أراع لحادث     حتى منيـــــت به فــــــأوهن آدي
أبــلتــني الحسرات حتى لم يكـد     جسمي يـلـوح لأعيـــــــن العـواد
أستنـجد الزفــــرات وهي لوافح     وأسفه العبرات وهي بـوادي[3]

     والتصوير حي، يروع القارئ والسامع منذ البيت الأول، حيث نرى المنون تشعل نار الأحزان في قلب الشاعر، ثم نراها في البيت الثاني تحطمه نفسياً وتحطمه جسدياً، تحطمه نفسياً إذ توهن عزيمته وكانت جبارة، وتحطمه جسدياً إذ تكسر بناءه وكان قوياً كالرمح، وعيناه تسيلان دماً لا دمعاً لشدة المصيبة التي تشتد عليه حتى تضعف جسمه فلا يكاد يراه الزائرون من الهزال، وهو في موقف صعب يطلب فيه العون من الزفرات وهي حارة لافحة، ويرى الدموع سفاهة لكنها تسيل رغماً عنه.

     وفي بيت رائع يقدم لنا البارودي صورة حية غنية مكثفة، نرى فيها الشاعر ممزقاً، ذلك أنه يريد أن يرد الحبيب الراحل إلى الحياة وأنى له ذلك، وأنه يريد أن تهدأ نيران قلبه لكنه لا يستطيع، فهو بين ما يريده من ناحية، وما يعجز عنه من ناحية ممزق متآكل، أحاقت به لوعة لا تنتهي وعجز لا يتوقف:

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يـدي     تقوى على رد الحبيب الغادي

     وفي لوحة رائعة نرى أثر المصاب على بنات الشاعر محزناً مفصلاً مؤسياً:

يـــا دهر فيم فجعتني بحليـــــلة     كانت خلاصة عدتي وعتــادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها     أفلا رحمت من الأسى أولادي
أفردتهـن فلم ينــــمن توجعـــــاً     قرحى العيون رواجف الأكبـاد
ألقين در عقــودهن وصغن من     در الدموع قـلائـــــد الأجيــــاد
يبكيـــن من وله فـراق حفيــــة     كانت لهـــن كثيـــرة الإسعـــاد
فخـــدودهن من الدموع نـديــة     وقلوبهن من الهموم صــــوادي

     في هذه الأبيات يعاتب البارودي الدهر لأنه فجعه بزوجته الغالية في البيت الأول، وفي البيت الثاني يذكره بأنه كان عليه أن يرحم الأولاد الصغار إن لم يرد رحمة الأب الكبير، وكان بوسع الشاعر أن يتوقف عند هذا البيت لأننا علمنا منه سوء حال الصغار بعد وفاة أمهم، لكنه مد الصورة ودخل في تفاصيلها الجزئية المحزنة ليكون وقعها أكبر، لذلك صار بوسعنا أن نرى الفتيات الصغيرات وقد جفاهن النوم، منفردات متوجعات، عيونهن متقرحة بسبب البكاء، وأكبادهن راجفة بسبب الحزن، وفي إضافة تفصيلية للصورة نجد الدموع صارت عقوداً تحيط بأجيادهن بدل القلائد، ذلك أنهن يبكين بكاء يكاد يذهب بالعقل أماً كانت كثيرة العناية بهن. لقد استطاع البارودي أن يقدم صورة متكاملة تحولت إلى لوحة فيها كل العناصر التي تجعلها تأسر الإنسان.

     وكما وفق البارودي في تصوير حالة البنات تصويراً محزناً، وفق أيضاً في تصوير حاله هو الآخر تصويراً محزناً:

ولهي عليك مصاحب لمسيــرتي     والدمع فيــك ملازم لوســـــادي
فـــإذا انتبهت فأنت أول ذكــرتي     وإذا أويـــت فأنت آخــــر زادي
أمسيت بعدك عبرة لذوي الأسى     في يوم كل مصيبـــة وحـــــــداد
متخشعــاً أمشي الضــراء كأنني     أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بيــن حزن باطن أكل الحشــا     بلهيـــب ســـورته وسقم بــــادي
ورد البريـــد بغيــــــر ما أملتــه     تعس البريد وشاه وجه الحــادي
فسقـــطت مغشيـــــاً علي كأنـما     نهشت صميــم القلب حيـة وادي

     فالحزن على الفقيدة يظل معه طوال نهاره حيث يذهب، حتى إذا جنه الليل أوى إلى فراشه فسالت دموعه فبللت وساده ولازمته، وذكراها هي أول ما يصحو عليه وآخر ما يؤول إليه حين ينام، ومادام أمره هكذا فلا غرابة أن صار نموذجاً للأحزان ينظر إليه الناس كلما حلت مصيبة، ووقع الكارثة جعل المخاوف تنتابه فهو يمشي متسللاً محاذراً خوفاً من عدو يفتك به، وهو لا ينفك عن هذه الحال وآثارها الضارة على باطنه وظاهره، وفي مقابلة متناقضة نرى البارودي يتناول البريد بما يرجو أن يسر فإذا به يفجعه بما يسوء، وهو ما يزيد من حجم المأساة، وما يجعله يدعو على البريد وحامله، ويسقط مغشياً عليه كأنما نهشته حية شديدة السم. إن هذه الأبيات لوحة متكاملة فيها تصوير الحركة الحسية وتصوير الحركة النفسية بما يعجب ويأسر.

     ويبرع البارودي في تصوير حزنه على ابنه علي:

كيف طوتك المنـــــون يا ولــدي     وكيــف أودعتـــــك الثرى بيدي
واكبـــدي يـــا علي بعـــــــدك لو     كانـــت تبــــل الغليـــل واكبدي
فقـــدك ســـل العظـــــام مني ور     د الصبر عني وفت في عضدي
كم لـيــــلة فيـــك لا صبـــاح لهـا     سهرتهـــا بــاكيـــــاً بـلا مـــــدد
دمع وسهـــــــد وأي نــــــاظـرة     تبقى على المدمعيـن والسهد[4]

     ففي هذه الأبيات نرى المنون تطوي الفقيد، ونرى الأب يدفنه بيده، ونراه يبكي ويتوجع من أعماق كبده لكن هذا التوجع لا يذهب ما به من حزن، فرحيل الولد العزيز أوهن منه العظام فما يحتمل، ورد عنه الصبر فما يطيق، وفت في عضده فما يقوى، ثم تأتي بقية الصورة بالدمع الذي لا يكف، والأرق الذي لا ينقطع وهو ما يكاد يذهب بعينه التي لا تبقى مع هذه الأكدار.

     وفي رثائه لأبيه استطاع أن ينقلنا إلى عالم البادية من خلال تصوير دقيق لأثر الوفاة على الناس، بحيث يخيل إلينا أننا في أحد مضارب القبائل العربية، حيث الدواب والأنعام وحيث يموت البطل الذي ترهبه الأقران، وحيث الكرم العربي الذي يفتقد من ينهض بأعبائه، وحيث الخيل التي ستظل تلهو في أعنتها لغياب من كان يقاتل عليها، وحيث السيوف التي ستصدأ في أغمادها لأنها لن تجد من يستعملها:

لا فــــارس اليوم يحمي السـرح بالوادي
               طـــاح الردى بشهــاب الحي والنــــادي
مات الذي ترهب الأقـــران صولتـــــــه
               ويتـــقي بـــأسه الضرغــــامة العـــادي
هــل للمكــــارم من يحيي منــــــاسـكها
               أم للضــــلالة بعـــد اليـــوم من هـــادي
جف الندى وانقضى عمر الجدا وسـرى
               حــــكم الردى بين أرواح وأجـســـــــاد
فـلتــــمرح الخيـــل لهواً في مقــــاودها
               ولتصـــدأ الـبيـــض ملقـــاة بأغمـاد[5]

     وفي رثائه للشدياق يعرض لنا لوحة حية متكاملة العناصر، مؤتلفة الجزئيات، لسطوة الموت وغلبته للجميع:

نميــــل من الدنيـــــا إلى ظل مزنة     لهـــا بــــارق فيه المنيـــــة تـــلـمع
وكيف يطيب العيش والمرء قــــائم     على حــــذر من هول ما يتوقـــــع
بنـــا كل يوم للحـــوادث وقعـــــــة     تسيـــل لها منـــا نفــــــوس وأدمـع
فأجســادنا في مطرح الأرض همد     وأرواحنا في مسرح الجو رتع[6]

     فالناس يركنون إلى الدنيا ونعيمها علماً أن المنية تهددهم دائماً بالانقضاض عليهم، لذلك لا يطيب لهم العيش بسبب ما يرهبون من مفاجآتها، ذلك أن لها على الدوام فتكات تترك أجساد صرعاها هامدة في التراب أما الأرواح فهي في السماء. واللوحة مكتملة العناصر فيها رغبة الناس في التمتع في الدنيا، وفيها أيضاً خوفهم الدائم من هجمة الموت، وفيها الوقائع المتجددة التي تقتل الناس وتتركهم على الأرض جثثاً هامدة.

     وفي بيت واحد نجد صورة مكثفة غنية تلخص حكاية الحياة كلها، مسير متصل ينتهي بالموعد المحدد، وأرحام تدفع المواليد الجدد، وأرض تبلع الموتى والهالكين:

تسيـر بنا الأيام والموت موعد     وتدفعنا الأرحام والأرض تبلع

     وفي بيت واحد آخر يحسن تصوير عظم المصيبة بالفقيد، حيث فقده الناس أشد ما يكونون حاجة إليه كما يفقد المرء الماء على الظمأ:

فقدناه فقدان الشراب على الظما     ففي كل قـــلب غــــلة ليس تنقع

     وفي رثاء البارودي لأمه يوفق في تصوير الحركة النفسية لمطامع الإنسان التي لا تنتهي، فهو يطلب حاجة معينة يجعلها همه ودأبه حتى إذا فاز بها، طلب حاجة أخرى وجعلها أيضاً همه ودأبه، وما تزال هذه المطامع تورده مواردها حتى لو تحطم في سبيل ما يؤمله:

يـــود الفتى في كـــــل يوم لبـــــانة
               فـــإن نـالهــا أنحى لأخرى وصمما
طمـــاعة نفس تورد المرء مشرعاً
               من البؤس لا يعدوه أو يتحطــما[7]

     ويوفق توفيقاً بعيداً في تصوير موقفه لما جاءه نعي أمه وهو في الحرب، بكل جوانب حركته النفسية وحركته الحسية، فقد كان يقاتل عندما جاءه النبأ فاستولى عليه الحزن وألقى من كفه الحسام وكف عن القتال، لكن عقله لم يلبث أن غلب عاطفته، فأطاع عقله وعصى عاطفته، ذلك أن عقله كان يهيب به أن يرجع إلى القتال حتى يخرج منه بما يليق به من الشجاعة التي عرفت عنه، ففعل ذلك، وكان له ما أراد، وحين جاء الليل وهدأ القتال خلا بنفسه ليبكي على أمه، وبذلك قام خير قيام بما أملاه عليه قلبه وما أملاه عليه عقله ولكن دون أن يجور أحدهما على الآخر:

فيـــا خبراً شف الفؤاد فأوشــــــكت     سويـــداؤه أن تستحيــل فتسجــــما
إليـــك فقد ثـلمــــت عرشاً ممنـــعاً     وفــللت صمصــاماً وذللت ضيغما
أشـــاد به النـــاعي وكنت محاربــاً     فألقيــت من كفي الحسام المصـمما
وطـــارت بقــلبي لوعة لو أطعتـها     لأوشـــك ركن المجــــد أن يتـهدما
ولكنــني راجعــت حلمي لأنثــــني     من الحرب محمود اللقــــاء مكرما
فلما استرد الجنــد صبغ من الدجى     وعــاد كلا الجيشـــين يرتاد مجثما
صرفت عنــاني راجعــاً ومدامعي     على الخد يفضحن الضمير المكتما

     ويقدم لنا الشاعر الدهر في صورة غنية مكثفة في بيتين اثنين تومض وتوحي، وتضعنا أمام المتناقضات بداية ونهاية:

هو الأزلم الخــداع يخفر إن رعى     ويغدر إن أوفى ويصمي إذا رمى
فكم خان عهـــداً واستبــــاح أمانة     وأخــــلف وعداً واستحل محـرما

     فالدهر خداع خوان، يخون إذا عاهد، ويغدر إذا وافق، ويصيب الناس في مقاتلهم، والنظر في صفحته يدل على ذلك، فكثيراً ما استباح الأمانة، واستحل المحارم، ونقض المواثيق، وفاجأ الناس بما يكرهون.

     ويوفق الشاعر في تصوير قصر الدنيا وسرعتها تصويراً خاطفاً مؤدياً، إذ يقول في رثاء علي الطهطاوي:

ألا قاتــــل الله الحيــــــاة فإنهـــــا     إلى الموت أدنى من فم لبنان[8]

     ويوفق أيضاً في تصوير حركة الهدم والبناء المستمرة بفعل الدهر، وهي حركة دائبة تمثل سنة من سنن الله تعالى في الحياة:

إذا ما بنانا الدهر ظلت صروفه     تهدمنــــا والدهر أغدر بـــــاني

     ولك أن تتخيل من هذا البيت عملية الهدم وعملية البناء تتسابقان وتتعاقبان، والدهر يمكث وراء ذلك يراقب ما يجري بتدبيره وسعيه، والناس لا تتوقف عندهم عجلة الحياة والرغبة فيها، والفناء يأتي عليهم وعلى مطامعهم، ويستمر الأمران المتناقضان يدوران وكأن كل واحد منهما لازم من لوازم الآخر.

     إن البارودي مصور مقتدر، يلون الصورة وينوع فيها ويعدد في عناصرها حتى تستحيل لوحة أو مشهداً، أو يأتي بها لمحة تلمع وتضيء كأنها برق سريع، وبراعته في تصويره للجانب الحسي كما في تصويره للروضة والنيل لا تقل عن براعته في تصويره للجانب النفسي كما في تصويره لحاله وقد توالت عليه المصائب في سيلان.

     وقد أعان البارودي على أن يكون شاعراً مصوراً مقتدراً قوة خياله، وسعة محفوظاته، وكثرة تجاربه، وتوقد همته، وعميق إحساسه بالحياة ورغبته فيها.

     لذلك يقول الدكتور شوقي ضيف ــ بحق ــ عن صور البارودي: ((لا يروعنا البارودي بصدقه في وصف أحاسيسه وما مر به من أحداث الحياة وأحاط به من واقعها في بيئته وغير بيئته فحسب، بل يروعنا أيضاً بملكته الخيالية التي أتاحت له تصوير المشاهد الكبيرة تصويراً ينبض بالحركة والحيوية الدافقة، ولا نقصد المشاهد الحسية وحدها، بل نقصد أيضاً المشاهد النفسية، إذ استطاع دائماً أن يرسم ما يجري من حوله وفي نفسه رسماً تخطيطياً دقيقاً))[9].

     وبعد أن يعرض لنماذج من صور البارودي يخلص إلى القول: ((وعلى هذا النمط تكثر الصور في شعر البارودي كثرة مفرطة، بحيث يعد في طليعة شعراء العرب المصورين، وهو ليس مصوراً فحسب، بل هو بارع التصوير، وهي براعة ترد إلى غنى خياله وقوة استحضاره للمشاهد الحسية وتمثله للمشاهد النفسية، كما ترد إلى فطنة قوية حادة وإحساس عميق بالروح المنبثة في الكائنات من حوله))[10].

-------------------
[1] الديوان 1/81.
[2] الديوان 1/104.
[3] الديوان 1/237.
[4] الديوان 1/248.
[5] الديوان 1/250.
[6] الديوان 2/242.
[7] الديوان 3/394.
[8] الديوان 4/99.
[9] البارودي رائد الشعر الحديث، ص 188.
[10] المرجع السابق، ص 204.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة