الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الأول - 06 - حضور الذات

الفصل الأول
(الرثاء في شعر شوقي)

6- حضور الذات:

     مما يلاحظ على شوقي في مراثيه، أنه يتحدث عن نفسه فيها، فخراً بشعره، أو إشادة بوفائه، أو تمجيداً لنفسه، بصورة يبدو الموقف فيها غريباً في بعض الأحيان، لا يجد له الدارس موقعاً منطقياً مستساغاً، وفي أحيان أخرى يكون الموقف منطقياً بل مقبولاً ومطلوباً حين يجعل من رثائه لأصدقائه واجباً ينبغي أن ينهض به.

     يقول في رثائه ليعقوب صروف، وكأنه يرد على من اتهمه في مراثيه:

يقولـــون يرثي كل خل وصــــاحب
               أجل إنما أقضي حقـــوق صحـــابي
جزيتـــهم دمعي فلما جـــرى المدى
               جعلت عيون الشعر حسن ثوابي[1]

     وفي رثائه لرياض باشا، يعتذر شوقي منه لما كان أخذه عليه في حياته من مواقف، ويطلب منه الصفح، ويشبه نفسه بعيسى عليه السلام من حيث طهارة الوجدان من الأحقاد، والعفو عن الإساءة، ويقرر أنه يعرف أقدار الناس ومنازلهم حتى لو وقع بينهم وبينه جفاء:

أخذتك في الحياة على هنــــات     وأي النـــاس ليس له هنـــــات
فصفحاً في التراب إذا التقينـــا     ولُوشِيَــــتِ العداوة والتـــرات
خلقـــت كأنني عيسى حــــرام     على قلبي الضغينة والشــمات
يســــاء إلي أحيــــانـاً فأمضي     كريماً لا أقــوت كما أقــــــات
وعندي للرجال وإن تجــــافوا     منازل في الحفاوة لا تفات[2]

     وفي رثاء شوقي لجدته، يجعل من مزاياها أنها أنجبته، ويمضي بعد ذلك ليصف نفسه بأنه فخر القبائل واللغات، وأبلغ الشعراء، ويشيد بنقاء قلبه من العداوة، وترفعه عن الشماتة، وحفظه لعهود لداته وإخوانه، وخبرته العميقة بالدهر، وصبره على النازلات، وهو موقف غريب ومبالغة تذكرنا بما فعله المتنبي في رثاء جدته. يقول شوقي:

ولو لم تظهري في العـرب إلا     بأحمد كنت خير الوالــــــدات
تجــــاوزت الولائـد فاخــرات     إلى فخر القبـــــائل واللغــات
وأحكم من تحــــــكم في يراع     وأبـــلغ من تبـــــــلغ من دواة
وأبــــرأ من تبرأ من عـــــداء     وأنـزه من تنــــزه من شمـات
وأصون صائن لأخيـه عرضاً     وأحفظ حافــــــظ عهد اللدات
وأقتــــل قاتــــــل للدهـر خبراً     وأصبر صابر للغاشيـات[3]

     وفي رثائه لعمر لطفي يخبر صديقه الفقيد، أنه سيرثيه بشعر كالجواهر تجعله الدنيا قلادة لها، ويصوغ محاسنه ومحامده في كتاب من شعره، فيعرف الناس بذلك فضله ويتقدم به عليهم:

اليوم أصعــــد دون قبــــرك منبرا
               وأقــــلـد الدنيا رثـــــــاءك جوهرا
وأقص من شعري كتـاب محـاسن
               تتقـــــدم العــــلماء فيه مســــطرا
ذكراً لفضــــلك عند مصر وأهلها
               والفضل من حرماته أن يذكرا[4]

     وبعد أن يتحدث شوقي عن الفقيد، ويطري أعماله، يعود في آخر القصيدة ليفخر بشعره وبنفسه وبوفائه:

لمـــا دعيــــت أتيت أنثـــــر مدمعي
               ولو استطعت نثرت جفني في الثرى
لم أعط عنـــك تصبــراً وأنــــا الذي
               عزيت فيـــك عن الأميــــر المعشرا
أزن الرجــــال ولي يــــــراع طالما
               خــــلع الثنــــــاء على الكرام محبرا
بالأمس أرســلت الرثـــــاء ممســكاً
               واليــــوم أهتـــف بالـثنـــاء معنبــرا
غيــرتني حزنــــاً وغيـــرك البـــلى
               وهــواك يــــأبى في الفؤاد تغيـــــرا
فعـــلي حفـــظ العهــــد حتى نلتــقي
               وعليــــك أن ترعــــاه حتى نحشــرا

     وفي رثائه لجورجي زيدان، يمجد شعره وخلقه، ويبالغ في ذلك فيجعل دولة الشعر راجعة إليه دون الآخرين، ويشيد بنفسه إلى درجة مستغربة، فهو لا يمشي إلى خير أو شر إلا بحساب دقيق، ويستصغر صنيعه للناس في جنب صنع الله له، وإن أحسن إليه أحد شكر له سراً وعلناً، وهو يترك الغيب لله عز وجل فلا يتابع سرائر الناس، لذلك يخف عليهم إن أكثر أو أقل، وهو من وفائه يحزن لأصحابه الذين يرثيهم حزناً شديداً يجعله في موقف يرثى له فيه:

زيــــدان إني مع الدنيا كعهــــــــدك لي
               رضـــا الصديق مقيل الحاسد القـــــالي
لي دولة الشعــــر دون العصر وائـــلة
               مفــــاخري حـــكمي فيـــها وأمثـــــالي
إن تمش للخيـــــر أو للشــــر بي قـــدم
               أشــــمر الذيـــل أو أعثـــر بأذيــــــــال
وإن لقيـــت ابن انــثى لي عليـــه يـــــد
               جحــدت في جنب فضل الله أفضــــالي
وأشــكر الصنــع في ســري وفي علني
               إن الصنـــــائع تـزكـو عنــد أمثــــــالي
وأتـرك الغيــــــب لله العليــــــم بـــــــه
               إن الغيــــوب صنــــــــاديـق بـأقفـــــال
كأرغـــن الديـــر إكثــــاري وموقــــعه
               وكالأذان على الأســــماع إقـــــــــلالي
رثيـــت قبــــلك أحبــــاباً فجــــعت بهم
               ورحت من فرقة الأحباب يرثى لي[5]

     وربما أحس شوقي حين رثى سعيد زغلول، أن هناك من يتهمه بأنه رثى الفقيد إكراماً لخاله سعد زغلول، فراح يذكر عفة نفسه وانحيازه إلى الحق، وراح يشيد بسعد زغلول ومكانته التي يجله بسببها، ويشيد بشعره الذي يقوله في الأحرار، وهو شعر بالغ الأهمية يعجز الناحتون المهرة عن صناعة مثيل له:

سيقولون مارثاه على الفضـــ     ـل ولكن رثاه زلفى لخــــــاله
ليس بيــني وبين خـــــالك إلا     أنني ما حييـــت في إجـــلاله
لست أرجوه كالرجــال لصيد     من حرام انتخـــابهم أو حلاله
كيف أرجو أبــــا سعيد لشيء     كـان يقضي بكـفــره وضلاله
هـو أهـل لأن يرد لـقـــــومي     أمرهـم في حقيــــقة استقـلاله
وأنـــا المرء لم أر الحـــق إلا     كنت من حزبــــه ومن عماله
رب حر صنعـــت فيه ثنــــاء     عجز الناحتون عن تمثاله[6]

     هنا نحس أنه ترك المرثي جانباً، ومضى يدافع عن نفسه، بل يمجدها وانتقل إلى الإشادة بسعد زغلول وآمال الأمة المنعقدة عليه.

     وفي رثائه لوالدته، وهو رثاء تظهر عليه بصمات المتنبي واضحة جلية، يختم قصيدته بالثناء على نفسه وتمجيدها، ففي الشعر ليس له مثيل، وأخلاقه تنتظم كل خلق كريم، ولو أن السماء والأرض مخضتا معاً لكان هو أفضل ما تجيئان به كرماً ونفاسة وشعراً:

أتيــــت به لم ينـــظم الشـــــعـر مثــــــــله
               وجئــــت لأخــــلاق الــكـرام به نظــــــما
ولو نهضـــــت عنه الســــماء ومخضــت
               به الأرض كان المزن والتبر والكرما[7]

     وفي رثائه لمصطفى كامل يتحدث شوقي عن شعره، فلولا الحزن المستبد بقلبه لنظم في الفقيد يتيمة الأزمان كلها، وهو إذا رثى علماً هوى عاد برثائه شمساً تدور في فلكها، وشوقي يعرف قدر الفقيد كما كان الفقيد يعرف قدره شعراً ومكانة، يقول شوقي مخاطباً الفقيد.

وجعـــلت تسألني الرثاء فهـــــــاكه
               من أدمعي وسرائــــري وجنــــاني
لولا مغــــالبة الشجــــون لخاطري
               لنظــــمت فيــــك يتــــيمة الأزمان
وأنا الذي يرثي الشـموس إذا هوت
               فتعــــود سيــــرتها إلى الــــدوران
قد كنت تهتف في الورى بقصائدي
               وتجـــل فوق النيـــرات مكاني[8]

     وفي رثائه لإسماعيل أباظة، يلوم الذين يهاجمون مراثيه، ويجعل ذلك من الحسد المذموم، ويدفع عن نفسه تهمة الانتفاع فأنى للراحلين أن يجازوا من يرثيهم، ويقرر أنه إنما يريد من رثائه أن يجعل من محاسن المرثي قدوة حسنة يحتذيها الأحياء، وأن يقوم بواجب الوفاء للأموات لأن الذي لا يرعى عهود الموتى لن يرعى عهود الأحياء:

يقولون يرثي الراحليــــن فويحهم
               أأملت عند الراحــــلين الجوازيــا
أبوا حسداً أن أجعل الحي أســـوة
               لهم ومثـــالاً قد يصادف حــــاذيا
فـــلما رثيت الميت أقضي حقوقه
               وجدت حسوداً للرفات وشـــــانيا
إذا أنت لم ترع العهــــود لهــالك
               فلســت لحي حافظ العهد راعيــا
فلا يطوين الموت عهدك من أخ
               وهبـــه بــواد غير واديك نائيـــا
رثيــــت حياة بالثنـــء خليــــــقة
               وحليت عهداً بالمفاخر حاليا[9]

     وفي هذه الأبيات يربط شوقي – من حيث يدري أولا يدري – بين مدائحه وبين مراثيه، لأنه وجد من يتقول عليه في الاثنين معاً، وهو ما جعله في موقف دفاعي يريد أن يلتمس فيه العذر لنفسه، أما مدائحه فعلل نظمه لها بأنه كان يريد الإشادة بأناس أحياء لهم مزايا عالية يستحقون معها أن يكونوا قدوة للناس ومثالاً، ومن هنا كان الثناء عليهم دعوة للسير على خطاهم، أما مراثيه فقد نظمها بدافع الوفاء لمن سبق للموت من كرام الرجال، وهو وفاء خالص لأن الأموات لن يقدموا الجوائز لمن يثني عليهم بسبب موتهم، فأمر المصلحة غير وارد في هذا الموقف أبداً.

     وفي رثاء شوقي لفتحي زغلول، يخاطب المرثي ليخبره أنه رثاه بقصيدة خالدة سبق فيها الجميع، فكانت درة الإنشاد، وكانت عظة وإرشاداً يلقيان على العظماء والأفراد:

فتحي رثيتــــك للبـــــــلاد وأهلها
               ولرائــح فــوق التــراب وغـــــاد
وسبقـــت فيـــك القـــائلين لمنبــر
               عـــال عليهم خــــــــــالد الأعواد
ما زلــت تســـمع منه كل بديهــة
               حتى سمعـــت يتـــــيمة الإنشـــاد
وحيــــاة مثلك للرجـــــال نموذج
               وممــاتك المثـــل القويم الهـــادي
ورثـــاؤك الإرشــاد والعظة التي
               تلقى على العظماء والأفراد[10]

     وفي رثاء شوقي لعبد الحميد أبي هيف، يصف نفسه بالوفاء، ويذكر أن الوفاء دفعه إلى الرثاء فاستجاب له:

هز الشباب إلى رثــــــائك خاطري
               فوجدت في وفي الشباب وفاء[11]

     وحين مات حافظ إبراهيم قال فيه شوقي قصيدة تعد من أجود شعره، ويشكر شوقي لحافظ في هذه القصيدة قصيدته التي بايعه فيها في حفل الإمارة عام 1927م، ويصف هذه القصيدة بأنها جديرة أن تحفظ، وأنها رفعت مكان شوقي عالياً وهو ما أوقد جذوة الأمل في نفسه، ولا ينسى شوقي أن يثني على نفسه كما أثنى على حافظ، فيصف نفسه بأنه شاكر هذا الصنيع، قائم بحقوق المودة والإخاء والوفاء:

بالأمس قــــد حليتــــني بقصيـــدة     غراء تحفـــظ كاليـــد البيضـــــاء
غيظ الحسود لها وقمت بشـــكرها     وكما عـلمـــــت مودتي ووفـــائي
في محفـــل بشـــرت آمــالي بـــه     لما رفعت إلى السماء لوائي[12]

     ويشير شوقي إلى الذين كانوا يحاولون الإيقاع بينه وبين حافظ، فيصفهم بأنهم ذوو أحقاد، وأنهم لا يرعون حرمة للموت، والموت يطفئ الضغائن وينهي الصراع والتنافس، وأنهم يريدون بناء أمجادهم من خلال هدم أمجاد الكرام، لكنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فالمجد العظيم لا يحطم، وإنما يحطم من يحاول هدمه، وكأن شوقي في ذلك كله، يدفع عن حافظ ويعلي منزلته وفي الوقت نفسه يدفع عن نفسه ويعلي منزلتها:

ووددت لو أني فـــداك من الردى
               والكاذبون المرجفـــون فــــــدائي
الناطقون عن الضغينـــة والهوى
               الموغـــرو الموتى على الأحيــاء
من كل هـــدام ويبـــني مجــــــده
               بكرائم الأنـقـــــــاض والأشـــلاء
ما حطموك وإنمـــا بك حطـــموا
               من ذا يحطــــم رفرف الجــوزاء
انظر فأنت كأمس شأنك بـــــاذخ
               في الشرق واسمك أرفع الأسماء

     وفي رثاء شوقي لعبد الخالق ثروت يحييه أحسن تحية، ويبعث له بواحدة من قصائده التي كان الفقيد يهتم بها ويحتشد لها، وهي قصيدة يتذكر فيها الشاعر الماضي، ويشير إلى الود الصافي الذي كان بينهما وهو ود باق في قلب الشاعر لم يتغير، بل هو كخلية النحل تموج بالحياة، وبالعسل المصفى، وهو ثناء من شوقي على نفسه، لم تفته الإشارة إليه وهو يرثي صديقه الفقيد:

أبـــا عزيـــز ســــــلام الله لا رســل
               إليــــك تحـــمل تســـليمي ولا بــرد
ونفحة من قوافي الشعر كنت لهــــا
               في مجلس الراح والريحان تحتشــد
أرســـلتها وبعثــــت الدمع يكنـــفها
               كما تحـــدر حول الســـــوسن البرد
عطفت فيك إلى الماضي وراجعني
               ود من الصغـــر المعسول منعقــــد
صـــاف على الدهر لم تقفر خليــته
               ولا تغيــر في أبيــــاتها الشهد[13]

     وفي رثائه لأمين الرافعي، يختم قصيدته ببيتين يقرر فيهما أن مكانته الشعرية هي من العلو والرفعة بحيث لا تزول، وأن الدهر وحده هو الذي يمتلك جدارة إلقاء شعره على الناس، جيلاً فجيلاً ليترنموا به ويتعظوا به:

إن يفت فيك منبر الأمس شعــري    إن لي المنبـــر الذي لـــــن يزولا
جل عن منشد سوى الدهر يلقيــــ     ـه على الغابرين جيلاً فجيلا[14]

     ويلوم شوقي نفسه في رثائه لسعد زغلول لأنه لم يرثه يوم وفاته إذ خانه بيانه وهو الذي كان يستجيب له إذا دعاه لأي رثاء:

أيــــــن مني قــــــلم كنــــــت إذا     سمته أن يرثي الشمس رثــــــاها
خــــانني في يوم سعـــــد وجرى     في المراثي فكبا دون مداها[15]

     وهكذا كانت ذات شوقي الشاعرة حاضرة في مراثيه، حضوراً تختلف درجته بين موقف وآخر، بسبب إحساسه بشخصيته وأهميتها، وبسبب إعجابه بشعره وفنه وهو حضور عجيب يصل إلى درجة الاستغراب أحياناً، خاصة حين يشتد في الإشادة بنفسه وبشعره بحيث لابد للدارس أن يتساءل عما إذا كان شوقي صادقاً في رثائه. ومن هنا كان لنا أن نقول: إن إشادته بنفسه وبشعره هي إحدى نقاط الهروب الواعية أو غير الواعية التي يستر بها وهن عاطفته، وربما كان أوضح مثال لذلك هو التماسه لنفسه العذر في رثاء سعيد زغلول وهو التماس جعله يتحول عن الرثاء إلى الثناء على نفسه. وأيضاً يمكن أن يقال: إن ذات شوقي المتضخمة الحاضرة تمت بسبب قوي إلى المتنبي الذي كان قدوة شوقي وأحد أستاذيه الأكبرين (المتنبي والبحتري) مع أن الخلاف جذري في تكوين الشاعرين ونفسيتهما ومواقفهما، ذلك أن إعجابه بالمتنبي جعله من حيث يدري أو لا يدري يقع في تقليده، فظهر ذلك في حضور ذاته بهذا الشكل الذي يبلغ أحياناً درجة غير مقبولة.

--------------------------
[1] الديوان 2/373.
[2] الديوان 2/386.
[3] الديوان 2/398.
[4] الديوان 2/454.
[5] الديوان 2/512.
[6] الديوان 2/523.
[7] الديوان 2/532.
[8] الديوان 2/574.
[9] الديوان 2/588.
[10] الشوقيات المجهولة 2/151.
[11] الديوان 2/337.
[12] الديوان 2/359.
[13] الديوان 2/427.
[14] الديوان 2/496.
[15] الديوان 2/578.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة