الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ)
11- التجربة الشعورية:
الصدق معلم بارز من معالم الرثاء عند حافظ، ولا غرابة في ذلك لما عرف به حافظ من طيبة ووفاء، وسماحة نفس لا يترسب في قراراتها حقد أو بغضاء، لذلك يروعك الصدق في مراثيه كلها إلا ما كتبه منها لسبب من أسباب المجاملة أو المنافسة.
ويتفاوت الصدق بطبيعة الحال ما بين مرثية وأخرى، لكنه يصل إلى القمة في تلك القصائد التي قالها في رثاء الشخصيات المهمة، أو الشخصيات التي كان يجمعه بها ود خاص. وربما كانت شخصية الإمام محمد عبده أهم شخصية عامة أحبها حافظ، وتغلغل حبها في سويداء قلبه لمكانتها العامة الكبيرة من ناحية وللصلة الشخصية الخاصة بينها وبين حافظ من ناحية أخرى. ولذلك كانت قصيدته التائية الشهيرة قصيدة خالدة رائعة تمثل الصدق أحسن تمثيل.
يبدأ حافظ قصيدته بهذا المطلع الحزين الذي يجعل المأساة عامة والمصيبة جللاً:
سلام على الإســــــــلام بعـد محــمد
سلام على أيــــــــامه النضـــــــرات
على الدين والدنيا على العـلم والحجا
على البر والتقوى على الحسنات[1]
واسمع هذا البيت الجميل المحزون الذي خشي الشاعر فيه أن تطول حياته بعد الفقيد بعد أن كان يخشى أن يموت قبله:
لقد كنت أخشى عادي الموت قبله
فأصبحت أخشى أن تطول حياتي
فالشاعر بعد الفقيد يرى الدنيا موحشة لا تستحق أن يعيشها المرء بعد أن كانت مؤنسة زاهرة بحياته فلا يود المرء أن يغادرها، وهكذا كان بين مخافتين قبل الفقيد وبعده، وهكذا كانت الحياة تجمل وتسوء بوجود الفقيد وبغيابه.
وانظر إلى إحساس الشاعر الهائل بالخشوع وهو واقف على قبر الفقيد، إنه إحساس مماثل لإحساس المسلم المخبت المنيب وهو في أقدس الأمكنة، في عرفات:
وقفت عليه حاسر الرأس خاشعاً
كأني حيــــــال القبر في عرفات
ويحمل حب حافظ للفقيد وشعوره بأهميته الدينية إلى اعتراضه على دفنه في مكان موحش، ودعوته إلى دفنه بأحد المسجدين لتحل أكرم رفات في أكرم ثرى:
لقد جهلوا قدر الإمــــام فأودعوا تجـــاليده في موحش بفــــــــلاة
ولو ضرحوا بالمسجدين لأنزلوا بخيـر بقاع الأرض خير رفـات
ومكانة الإمام كبيرة لا يسد مسدها أحد، وقد صورها الشاعر في صورة بديعة حزينة صادقة تعكس إحساسه الحاد بخلو الساحة، لقد امتدت الأيدي بعد الإمام إلى الأعلام الآخرين فارتدت خاوية، وتطلعت الأنظار إليهم فعادت خائبة باكية وآثرت العمى على الإبصار:
مددنا إلى الأعلام بعـدك راحنا فردت إلى أعطافنــــا صفرات
وجـالت بنا تبغي سواك عيوننا فعدن وآثرن العمى شرقـــــات
وحب حافظ للفقيد الكبير يحمله على مبالغات غير منطقية إلا إذا كان الصدق شافعاً لها، فالشهب تعزي بعضها لأنها فقدت واحداً منها خر من السماء إلى الأرض، والنعش يختال عجباً بالمحمول عليه، والدموع الجارية تكاد تقله كما يقل الماء السفن، والشرق كله باك حزين، وعيون الكون شرقت بالدموع، والحزن عصر قلوب المسلمين من عرب وعجم:
وشــاعت تعازي الشهب باللمح بينـها
عن النيــــر الهـــــاوي إلى الفـــلوات
مشى نعشــــه يختــــال عجبــــاً بربه
ويخطــــر بيـــن اللمــس والقبــــلات
تكـــــاد الدمـــوع الجــــاريات تقـــله
وتدفعــــه الأنفـــــاس مستعـــــــرات
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
وضــــاقت عيــــون الكون بالعبـرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع
وفي مصر بـــــاك دائم الحســـــرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نـادب
وفي تونس ما شئـــــــت من زفــرات
ويناجي الشاعر منزل الفقيد في عين شمس مناجاة حزينة، ويسائله برنة باكية عن إقفاره وعبوسه، بعد أن كان آهلاً بالعفاة وطالبي الحكمة والنور:
فيا منزلاً في عين شـمس أظلني وأرغم حســــــادي وغم عداتي
دعائمه التقوى وآســـاسه الهدى وفيه الأيادي موضع اللبنـــــات
عليك ســـــلام الله مالك موحشاً عبوس المغاني مقفر العرصات
لقد كنت مقصـود الجوانب آهلاً تطـــوف بك الآمال مبتـــهلات
مثـــابة أرزاق ومهبــــط حكمة ومطلع أنـــوار وكنـــز عظات
لقد بعث في المنزل الحياة وجعله إنساناً يحاوره ويناجيه، واعترف له بالجميل، وأشاد بما فيه من نبل وفضل وعون ودين، وسلم عليه تسليم المحب المحزون المتعلق بساكن المنزل الراحل.
وتمضي على وفاة الأستاذ الإمام سبع عشرة سنة، فلا ينساه الشاعر الوفي، وينشد قصيدة في رثائه تنبض بالصدق والوفاء، في الحفل الذي أقيم لإحياء ذكراه عام 1922م يبدؤها بهذا المطلع الحزين:
آذنت شمس حيــــاتي بمغيــب ودنا المنهل يا نفس فطيبي[2]
وبعد أن يرثي نفسه رثاء حزيناً مريراً، ويشير إلى قصة الستة العجيبة التي وقعت لمن وقفوا على قبر الإمام يرثونه، يخلص إلى رثاء الإمام، ويبين كيف هدأت نيران حزنه فترة لكنها لم تلبث أن اشتعلت حين توفي حفني ناصف فتذكر بوفاته وفاة الإمام من قبل، وتذكر قصة الستة وتذكر أن أجله قد دنا:
هدأت نيـــــران حزني هــــدأة وانطوى حفني فعادت للشبوب
فتـــــذكرت به يوم انطــــــوى صادق العزمة كشاف الكروب
وصادق العزيمة وكشاف الكروب الذي انطوى وتذكره الشاعر، هو المرحوم محمد عبده، الإمام المصلح ذو الهدى والندى:
وفجعنـــا بإمــــام مصــــــلح عــامر القلب وأواب منيـــب
كم له من باقيات في الهـــدى والندى بين شروق وغـروب
يبذل المعروف في السر كـما يرقب العـاشق إغفاء الرقيب
وفي صورة جميلة حية مؤثرة يبين الشاعر كيف كان الفقيد مثابة للضيوف والآمال والخلال الغر العالية، وكيف مضت سبع عشرة سنة على فقده، والعقول تذوي والآمال تنضب، والشاعر والناس ينظرون إلى الأفق فلا يجدون نوراً وينادون كل مأمول فلا يسمعون غير الصدى:
تنـــزل الأضيـــــاف منه والمنى والخلال الغر في مرعى خصيب
قد مضت سبـــــع وعشر والنهى في ذبول والأماني في نضــــوب
نرقـب الأفــــق فلا يبــــــــدو به لامع من نور هــــــاد مستثيـــب
وننــــــادي كل مأمــــــــول وما غير أصداء المنادي من مجيــب
وفي بيت جميل حزين يأسى الشاعر لأن الناس نسيت ذكرى الإمام، وهي ذكرى جميلة لا تنسى كأنها المسك والطيب:
أنسي الأحيــــــــاء ذكرى عبده وهي للمستاف من مسك وطيب
وهكذا ظل حب حافظ للإمام محمد عبده ساكناً في قلبه الوفي لا يبارحه، ظهر ذلك في رثائه له، كما ظهر في إشارته إليه في مراثي الآخرين، وفي رثائه قاسم أمين عام 1908م، وجرجي زيدان عام 1914م، وأحمد حشمت عام 1926م.
وكما ظهر الصدق والوفاء في رثاء حافظ للإمام، ظهر أيضاً في رثائه لمصطفى كامل الذي قال فيه ثلاث قصائد من غرر شعره.
يبدأ حافظ قصيدته الأولى بخطاب القبر أن يعرف قدر الفقيد الذي مات شهيداً في زهرة العمر، ويذكر له أنه لا صبر للناس على فقده لأنهم خسروا بموته كل شيء:
أيــــا قبر هذا الضيـــف آمـــــال أمة
فكبــــر وهلل والق ضيفــــك جاثيـــا
عزيز علينــا أن نرى فيــك مصطفى
شهيد العلا في زهرة العمر ذاويا[3]
ويدرك حافظ أنه يجيد الرثاء في الفقيد، ويعزو السبب في ذلك إلى الحزن الشامل عليه حيث يبكيه الشعب كله:
مدحتــــك لما كنت حيـاً فلم أجد وإني أجيـــد اليوم فيك المراثيا
عليك، وإلا مالذا الحزن شاملاً وفيك، وإلا ما لذا الشعب باكيـا
وكنا نيــــاماً حينما كنت ساهداً فأسهدتنا حزناً وأمسيــت غافيا
أما القصيدة الثانية التي قالها حافظ في رثاء مصطفى كامل فمطلعها:
نثروا عليك نوادي الأزهـــــار وأتيت أنثر بينهم أشعاري[4]
وهي قصيدة جميلة يعدد فيها الشاعر أعمال الفقيد، ويصور المصاب مصاباً عاماً. وتظهر فيها العاطفة الإسلامية، ويغلفها الحزن الصادق. انظر كيف يخاطب الفقيد بهذا النداء الحار، يبين له فيه حزن الأمة وهجوم النوائب التي لا تجد الفقيد يتصدى لها:
زين الشباب وزين طلاب العلا هل أنت بالمهج الحزينـة داري
غادرتنـا والحادثـــــات بمرصد والعيش عيــــش مذلة وإســـار
ما كان أحوجنـا إليك إذا عــــدا عاد، وصاح الصائحون بـــدار
ويتوهج الشاعر إذ ينادي الخطيب فلا يجيب والأنظار إليه شاخصة، والأسماع إليه مصيخة، ويسأله عن سكوته غير المعتاد، ويطلب منه أن يقوم فيواصل جهاده، ويمحو إساءات كرومر بحق الإسلام:
أين الخطيب وأين خلاب النهى طال انتظار السمع والأبصـــار
بـالله مالك لا تجيــــــــب منادياً ماذا أصـــــــابك يا أبا المغـوار
قم وامح ما خطت يمين كرومر جهـــلاً بدين الواحد القهـــــــار
وفي صورة حزينة حية مؤثرة يخاطب حافظ الفقيد مبيناً أن جسمه لم يطق عزمه فهوى، وأنه أعجز الناس ببيانه، وأنه أسرع يبغي الفوز في طلب العلياء، وهو بها جدير، لكن القضاء كان يرصده وهو في مضمارها، ثم يأسى لحال الأمة المبتلاة التي تفتك الغوائل بكل رجاء لها:
قد ضاق جسمك عن مداك فلم يطق صبــــراً عليه وأنت شعلة نــــــار
أودى به ذاك الجهــــــاد وهـــــــده عزم يهـــــد جلائــــــــل الأخطـار
لعبت يمينـــــك باليراع فأعجــزت لعب الفــــوارس بالقنــــــا الخطار
وجريت للعليــــــاء تبغي شــــأوها فجرى القضاء وأنت في المضمار
أو كلـما هز الرجـــــــاء مهنــــــداً بدرت إليه غوائــــــــــل الأقـــدار
وفي صورة حية مؤثرة أخرى يصور حافظ موكب الجنازة تصويراً موفقاً جداً فيه الحياة، وفيه الصدق، وفيه وفاء الأمة للفقيد، وبكاؤها عليه، وزفير صدورها المتسعرة:
شـــاهدت يوم الحشر يوم وفــــاته وعـــلمت منــه مراتـــب الأقـــدار
ورأيت كيف تفي الشعوب رجالها حــق الولاء وواجــب الإكبـــــــار
تســــعون ألفاً حول نعشك خشـــع يمشـــون تحت لوائــــك السيــــار
خطوا بأدمعهم على وجه الثـــرى للحــــزن أسطــــاراً على أسطــار
آنـــــا يوالــون الضجيــــــج كأنهم ركب الحجيــــج بكعبــة الــــزوار
وتخــــالهم آنـــاً لفرط خشـــوعهم عنـــد المصــلى ينصتـــون لقاري
غـلب الخشـــوع عليهم فــدموعهم تجـــري بلا كلـــــح ولا استنثـــار
قد كنـــت تحت دموعهم وزفيرهم ما بين سيــــل دافـــــق وشـــــرار
أسعى فيــــأخذني اللهيـــب فأنثني فيصـــــدني متـــــــدفق التيــــــار
لو لم ألــذ بالنعــــــش أو بظــلاله لقضيــــت بين مراجــل وبحـــــار
والنسوة الحرائر المخدرات هتكن حرائر أستارهن إذ سفرن يودعن الفقيد، وقد أمن عيون الناظرين لأن الحزن أضفى على الجنازة جلالاً ومهابة وقدسية، لا يلتفت أحد معها إلى نظر مريب:
كم ذات خدر يوم طاف بك الردى هتــــكت عليك حرائــر الأستـــار
سفــــرت تـــودع أمة محـــــمولة في النعـــش لا خبــراً من الأخبار
أمنــــت عيــون الناظرين فمزقت وجه الخمــــار فـــلم تلذ بخــــمار
قد قـــــام ما بين العيـــون وبيــنها ستـــر من الأحزان والأكــــــــدار
وفي صورة رائعة أخرى يبين حافظ كيف أدرج الفقيد وهو علم الجهاد في علم البلاد، ولذلك كان الناس الذين يحملون الجنازة يحملون علمين محزونين متصافيين متعانقين:
أدرجت في العـــلم الذي أصفيته منــــك الوداد فكان خير شعــــار
علمان من فوق الرؤوس كلاهما في طيـــه ســـر من الأســــــرار
نـــاداهما داعي الفـــراق فأمسيـا يتعــــانقان على شفيـــــر هـاري
والقصيدة الثالثة التي قالها حافظ في رثاء مصطفى كامل، هي الأخرى قصيدة حزينة صادقة، تجري في يسر وبساطة وعفوية، ومطلعها:
طوفوا بأركان هذا القبر واستــــــلموا
واقضوا هنالك ما تقضي به الذمم[5]
والشاعر بهذا المطلع الغريب، يجعل قبر الفقيد كعبة يطوف بها الناس ويستلمونها، فيؤدون إزاءه ما يؤديه العابد الحاج من أعمال الحج.
ويأسى الشاعر للفراغ الذي تركه الفقيد والذي لا يملؤه إلا أَبيٌّ مقدام دؤوب، وأنى بمثل هذا؟ لذلك أخذت الأقلام والأوراق تسائل عن مصطفى كامل بعد أن لم تجد من يسد مسده:
باتت تســــائلنا في كل نــازلة عنك المنابر والقرطاس والقلم
تركت فينا فراغاً ليس يشغــله إلا أبي ذكي القـــلب مضطرم
منفــر النوم سبــــــاق لغــايته آثــــاره عمــم آمـــــــاله أمــم
وفي صورة درامية مؤثرة جداً، يصور لنا الشاعر أنه رأى روحاً جليلاً لم يلبث أن عرفه فهتف أنه الفقيد فتى النيل، ويكبر إذ عرفه، ويطلب من الناس أن يغضوا أبصارهم إزاءه إجلالاً وهيبة وأن يقسموا على الدفاع عن مبادئه التي قضى من أجلها، ويجيب على لسان الناس أنهم عازمون على الوفاء للفقيد ومبادئه:
إني أرى وفــــؤادي ليس يكــذبني
روحاً يحف به الإكبــــار والعظـم
أرى جلالاً، أرى نوراً، أرى ملكاً
أرى محيـــــاً يحيينــــا ويبتســـــم
الله أكبر هذا الوجـــــــه أعرفـــــه
هذا فتى النيـــــل هذا المفرد العـلم
غضـــوا العيــــون وحيوه تحيــته
من القـــــلوب إذا لم تسعد الكـــلم
وأقســــموا أن تذودوا عن مبـادئه
فنحـــن في موقف يحلو به القسـم
لبيــك نحن الألى حركت أنفســهم
لمــــا سكنــــت ولما غالك العــدم
جئنــــا نؤدي حســـاباً عن مواقفنا
ونستــــمد ونستعــــدي ونحتــــكم
وفي رثاء حافظ لجرجي زيدان نجد الحزن المرير الصادق، والأسى الذي برى الشاعر، وقلب الشاعر الذي يقطعه الحزن قطعة قطعة كلما مات صاحب له:
دعاني رفاقي والقـوافي مريضة وقد عقدت هوج الخطوب لساني
فجئت وبي ما يعــلم الله من أسى ومن كـمد قـــد شفــــــني وبراني
مللت وقــــوفي بيـــــنكم متلهفــاً على راحل فارقتــــه فشجـــــاني
أفي كل يوم يبضع الحزن بضعة من القلب إني قد فقـدت جنــــاني
كفاني ما لقيــت من لوعة الأسى وما نــابني يوم الإمام كفاني[6]
ومن دواعي الصدق عند حافظ وفاؤه الذي يجعله يشعر أن رثاءه لأحبابه، دين مستحق واجب الأداء:
أراني قد قصـرت في حق صحبتي
وتقصير أمثــــالي جنــــــاية جاني
وفي ذمتي لليــــــــازجي وديعــــة
وأخرى لزيــــــدان وقد سبقـــــاني
فياليت شعري ما يقولان في الثرى
إذا التقيــــا يوماً وقـــد ذكــــــراني
وقد رميــــا بالطرف بين جموعكم
ولم يشــــهدا في المشــهدين مكاني
ويؤكد أن العقوق لا يليق بمثله، فهو الوفي، ووفاؤه معروف للجميع، ولكن القريض ربما عصى الشاعر القادر:
أيجمل بي هذا العقــــوق وإنما على غير هذا العهد قد عرفاني
دعاني وفـائي يوم ذاك فلم أكن ضنيناً ولكن القريض عصـاني
وقد تخرس الأحزان كل مفـوه يصرف في الإنشاد كل عنـــان
ومن أجمل مراثي حافظ قصيدته التي قالها في رثاء عبد الحميد رمزي على لسان أبيه عام 1920م، وهي قصيدة تخلو من المبالغة التي عرف بها حافظ، لكنها شجية ومؤثرة جداً، تلمس فيها الصدق، والحزن الهادئ المرير، حتى كأن الشاعر يتخيل أنه يرثي نفسه ويرثي ولده في آن واحد:
ولدي قد طال سهــــدي ونحيبي جئت أدعوك فهل أنت مجيــبي
جئت أروي بدموعي مضجعـــاً فيه أودعت من الدنيــــا نصيبي
لا تخف من وحشـــــة القبر ولا تبتئس إني مواف عن قريب[7]
وفي تصوير حزين، يتساءل الشاعر لماذا أخذ الموت منه ابنه، حين كبر الولد وصار يرجى خيره، وشاخ الأب وصار بحاجة للعون:
أو حيــن ابتــــــز دهري قـــــوتي وذوى عودي ووافــــــاني مشيبي
واكتسى غصنــــــك من أوراقـــه تحت شمس العز والجاه الخصيب
ورجونـــــا فيـــك ما لم يرجــــــه منجب الأشبال في الشبل النجـيب
ينتويك الموت في شرخ الصبــــا والشباب الغض في البرد القشيب
ويعرض لنا الشاعر الأب المفجوع في صورة رائعة محزنة مليئة بالأسى، فهو ذاهل يمشي كالغريب بين أتراب ابنه الميت، يهزه الشوق إليه كلما رأى واحداً منهم، يسأل الأغصان عن غصن منها ذوى، والأقمار عن وجه غاب مبكراً، غمر الحزن نفسه، وذهب الخطب الفادح بلبه فأنى له أن ينتفع بعيش:
إيه يا عبد الحميــــــد انظر إلى والد جم الأسى بادي الشحــوب
ذاهل من فـــــرط ما حـــــل به بين أترابـــــك يمشي كالغريـب
كـلمــا أبصــــــر منهم واحـــداً هزه الشوق إلى وجه الحبـــيب
يســـأل الأغصان في إزهارهـا عن أخيها ذلك الغصن الرطيب
يســــأل الأقمار في إشراقــــها عن محياً غاب من قبل المغيـب
غمر الحـــــزن نواحي نفســــه وأذابت لبــــــه سود الخطــوب
فهـــو لا ينفعــه العيــــش وهل تصلح الأبدان من غير قـلــوب
والحقيقة أن هذه القصيدة مع عدم شهرتها، هي من أجود مراثي حافظ وأصدقها وأكثرها تأثيراً، اجتمع فيها اليسر والحزن، والصدق والتصوير الحي، ليجعل منها درة فريدة.
وقصيدة حافظ في سعد زغلول قصيدة رائعة وهي من أجمل مراثيه وأصدقها، ولا غرابة في ذلك فقد كان الفقيد بالنسبة لحافظ زعيماً وطنياً كبيراً فالخسارة فيه للوطن كله، ومن البيت الأول نشعر بإحساس حافظ الحاد بالفاجعة فهو يسأل الليل:
إيه يا ليــــل هل شهـــــــدت المصابا
كيف ينصب في النفوس انصبابا[8]
ثم يطلب منه أن يبلغ العالم نبأ الوفاة، وأن ينعاه للنيرات:
بـــلغ المشرقين قبل انبـــلاج الصـ
ــبــــح أن الرئيــــس ولى وغابــــا
وانــع للنيـــــرات سعــــــداً فسعــد
كان أمضى في الأرض منها شهابا
وفي رنة حزينة يتساءل الشاعر عن غياب سعد عن الخطابة في الحفل الذي أقيم لتأبينه ويحاول أن يلتمس له العذر في هذا الغياب:
أين سعــــد فـــــذاك أول حفـــل غاب عن صدره وعاف الخطابا
لم يعــــود جنــــــوده يوم خطب أن ينـــــادى فلا يرد الجوابـــــا
عل أمـراً قد عاقـــــه عل سقــماً قد عراه لقد أطـــــــال الغيــــابا
أما النكبة بسعد فهي الكارثة التي كان يخشاها الشاعر ويأباها:
إنها النكبـة التي كنت أخشى إنها الســـاعة التي كنت آبى
إنها اللفظة التي تنسف الأنـ ــفس نسفاً وتفقر الأصلابــا
ويتساءل عن عبارة ((مات سعد)) بحسرة، هل كانت هذه العبارة حراباً قاتلة أم سهاماً مسمومة:
مات سعد، لا كنت يا ((مات سعد))
أســــهاماً مســـــــــمومة أم حرابـــا
ويرى حافظ – وهو محق فيما يراه – أن المصاب بالدور والأموال أهون من المصاب بالرجال مشيراً بذلك إلى زلزال وقع في فلسطين قبل وفاة الفقيد:
قل لمن بات في فلسطيـــن يبكي إن زلزالنـــا أجل مصـــــــــابــا
قـــد دهيـــتم في دوركم ودهينــا في نفـــوس أبين إلا احتســــــابا
ففقــــدتم على الحــوادث جفنـــاً وفقدنـــــا المهنـــــد القرضــابـا
ســـله ربه زمانـــــــــــاً فأبـــلى ثم نــــــــاداه ربه فأجــــــــــابـا
قــــدر شـــــاء أن يزلزل مصراً فتغــــــالى فزلــــزل الألبـــــابا
طاح بالرأس من رجالات مصر وتخطى التحـــوت والأوشابــــا
والأمة المحزونة كلها خرجت تشيع سعداً، لكنها اضطرت إلى حمله على المدافع لما عجزت الرقاب والرؤوس عن حمله:
خرجت أمة تشيــــع نعشاً قد حوى أمة وبحراً عبابا
حملوه على المدافــــع لما أعجز الهام حمله والرقابا
ويصور حافظ شكوى الفقيد له من السهاد، وكيف توهما أن الدهر كف أذاه عنهما، لكن الفجاءة بالموت كانت أقرب مما توهماه:
كم شكوت السهاد لي يوم كنا بالبســـاتين نستعيد الشبــــابا
ننهب اللهــــو غافلين وكنـــا نحسب الدهر قد أناب وتــابا
فإذا الرزء كان منـــا بمرمى وإذا حائم الردى كان قابـــــا
كما يصور كيف حرمته المصيبة من الفقيد السمح، ويتذكر بتوجع وحرقة كيف وردا معاً موارد الأنس ومرحا في ساحها فنسيا كل شيء، لكن بشاشة العيش هذه ذهبت كلها حين مات الفقيد.
حرمتنـــا المنون ذيالك الوجـ ـه وذاك الحمى وتلك الرحابا
وسجايــا لهن في النفس روح يعدل الفوز والدعـــاء المجابا
كم وردنا موارد الأنس منــها ورشفنا سلافها والرضــــــابا
ومرحنا في ساحها فنسينا الــ أهل والأصدقاء والأحبــــــابا
ثم ولت بشـــــاشة العيش عنا حين ساروا فوسدوك الترابــا
وقصيدته في رثاء الأستاذ قاسم أمين، نجده فيها محزوناً أشد الحزن، وإن كان حزنه على قاسم أمين مختلفاً بطبيعة الحال عن حزنه على محمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول، لأن هؤلاء زعماء شعبيون جماهيريون خلافاً لقاسم أمين الذي عرف بأمر محدد لم يتجاوزه، ولعل الصلة الطيبة التي كانت تربط الشاعر والفقيد معاً بالأستاذ الإمام كانت سبباً من أسباب المودة الصادقة التي جعلت الشاعر يحزن على المرثي ويبكي له.
يصور الشاعر حزنه تصويراً جميلاً إذ يقارن بين الأجداث التي تزدان لمن يحل بها كقاسم أمين وأمثاله، وبين ربوع النيل الحزينة لفقدها رجالها، فمصر ثكلى مرزأة كلما أطلعت رجلاً طاح القضاء به، وحافظ محزون كلما أرسل مرثية في راحل هاجت أحزانه القديمة فاتصلت دموعه القديمة بدموعه الجديدة:
ما لي أرى الأجـــــداث حالية وأرى ربوع النيـــل في عطل
فـــــإذا الكنــانة أطلعت رجلاً طـــاح القضـــاء بذلك الرجل
أو كـلمـــا أرســــلت مرثيـــة من أدمعي في إثــــر مرتحـل
هاجت بي الأخرى دفين أسى فوصلت بين مدامع المقل[9]
ويتوجع حافظ لدار الفقيد التي صارت قفراً بعد عمران، ويذرف عليها غوالي دمعه، ويسألها عن قاسم فتسكت فيصاب بالجنون وينتابه الوهن ويترنح كالشارب الثمل:
واهاً على دار مررت بهـــا قفراً وكانت ملتــــقى السبل
أرخصــــت فيهـا كل غالية وذكرت فيها وقفــــة الطلل
ساءلتها عن قــــــاسم فأبت رد الجواب فرحت في خبل
متعثــــــراً ينتـــــابني وهن مترنحاً كالشــــــارب الثمل
وقصيدة حافظ في رثاء عبدالخالق ثروت قصيدة جيدة، يظهر فيها حزيناً عليه حزناً صادقاً لا يشبه حزنه على مصطفى كامل أو سعد زغلول أو محمد عبده، الذين صورهم الشاعر زعماء شعب يختلط فيهم الحزن الخاص بالحزن العام، بخلاف ثروت الذي يحزن حافظ عليه حزن الصديق على الصديق، الذي يعدد في رثائه جوانب امتيازه في أخلاقه الشخصية ويلتمس له الأعذار في مواقفه العامة:
من كان يـــدري يوم ســـــافـر أنه سفر من الدنيـــــــــا بغير إيــــاب
حزنت عليه عقـــــولنا وقلـــــوبنا وبكت وحزن العقـــل شر مصاب
القــــــــلب ينسيه الغيــــــاب أليفه والعقل لا ينسيه طول غياب[10]
وفي سرد جميل طويل موفق يتحدث حافظ عن أخلاق الفقيد الشخصية في جميع أموره ويشيد بها، كما يتحدث عن مواقفه العامة ويحسن التماس العذر له في مفاوضته للإنجليز حيث استطاع أن يحصل على أفضل ما بوسعه، ويختم قصيدته الطويلة بثلاثة أبيات يعود فيها للصلة الشخصية بينهما ويودعه وداعاً محزوناً.
قد كنت تحسن بي وترقب جولتي في حلبة الشعـــــراء والكتــــــاب
وتهش إن لا قيتــــــني وتخصـني بالبشــــر في ناديك والترحـــــاب
فاذهب كما ذهب الربيع بنـــــوره تأسى الرياض عليه غب ذهــــاب
وقصيدة حافظ في رثاء إسماعيل صبري قصيدة طويلة جيدة، يشيد فيها بشعره ويبين معالم هذا الشعر وملامحه، ويعترف بأستاذيته، ويكشف فيها عما اعتراه من حزن صادق لا مبالغة فيه، حزن يقترن فيه الود الذي يقوم على الصداقة، بالاحترام الذي تفرضه الأستاذية. يبدأ حافظ القصيدة بالحديث عن القدر الذي حم فاختطف الشاعر الفقيد، فإذا ذبحة الصدر التي كان مصاباً بها تطويه، فبات يذكر في الغابرين، وإن كانت سيرته في النابهين لها مكانها الكبير:
نعــــاك النعـــــاة وحم القـــــدر ولم يغــــن عنـــا وعنك الحـــذر
طوت ذبحة الصدر صدر الندي فلم تطـــــو إلا سجــــــل العبـــر
فأمسـيت تـــذكر في الغــــابرين وإن قل مثـــــــــلك فيــــمن غبر
إذا ذكرت سيـــــــر النـــــابهين فسيرة صبري تجب السير[11]
لقد مات الفقيد أوائل الربيع فجفت الرياض التي كان ينبغي أن تخضر، وذوى الزهر الذي كان ينبغي أن يتفتح، وذبلت القوافي بوفاة شاعرها المجيد:
أأول يوم لعهــــد الربيـــــــع تجف الرياض ويذوي الزهر
ويذبل زهر القريض الثـري ويقفر روض القوافي الغـرر
وفي لهجة صدق حزينة يصور لنا حافظ كيف كان يتردد إلى دار الفقيد ليأنس بمجلسه الأدبي، وليعرض عليه شعره، وليتعلم منه، ذلك أن الفقيد كان إمام الشعراء والأدباء، وكانوا هم الجداول أما هو فكان النهر، وفي هذا التصوير يقترن الصدق بالوفاء وهو ما اشتهر به حافظ وعرف:
لقــد كنت أغشـــــاه في داره
ونــــاديه فيها زهـــا وازدهر
وأعرض شعري على مسمع
لطيــــف يحــــس نبو الوتــر
على ســــمع باقعــة حاضـــر
يميـــز القـديــم من المبتــــكر
فيصقل لفظي صقل الجـمـان
ويكسوه رقــــة أهل الحضــر
يرقرق فيه عبيــر الجنـــــان
فتستــاف منه النهى والفـــكر
كذلك كــــــان عليه الســـلام
إمامـــــاً لكل أديب شعـــــــر
فكنا الجداول نروي الظمــاء
ظماء العقول وكــــــان النهر
وقصيدة حافظ التي قالها في الطلبة الذين ذهبوا ضحية حادث قطار في إيطاليا عام 1920م، قصيدة جيدة حزينة، وفيها رنة حزن صادق على مصاب مصر عامة بالطلبة الذين خسرتهم، وعلى مصاب أهل الطلبة وذويهم خاصة. يبدأ حافظ قصيدته بوصف المصاب على أنه كارثة عامة:
علمونا الصـبر يطفي ما استعر إنما الأجــــــر لمفجوع صبـــر
صدمة في الغرب أمسى وقعها في ربوع الشرق مشـؤوم الأثر
قطـــف الموت بواكيـــر النهى فجــــنى أجـــمل طاقات الزهر
وعـــدا الموت على أقـــمارنــا فتهــــاووا قمــــراً بعد قمــــــر
في سبيــــل النيـــل والعلم وفي ذمة الله قضى الإثنا عشر[12]
وينتقل حافظ بعد ذلك من العام إلى الخاص فيصور وقع الكارثة على أهل الضحايا وذويهم تصويراً صادقاً حزيناً، يشعرك بطيبة قلبه الذي أحزنته المأساة، فكأنه أب وأم لكل واحد من الضحايا.
إن الأب ذاهل لمصابه بابنه، فقد أدمت الكارثة قلبه، وحطمت ظهره، فإذا هو ساهم سادر كأن به مساً:
كم أب أســـوان دام قلبـــــه مستطير اللب مفقور الظهر
ســــاهم الوجه لما حــل به سادر النظرة من وقع الخبر
أما الأم فإن وقع الكارثة عليها أكبر، فهي والهة باكية، إذا رأت طيراً سألته عن ابنها، وإن شاهدت نجماً سألته عن وحيدها، وهي تود أن تهب عمرها كله هدية لمن يبشرها أن ابنها نجا من الكارثة:
كم بهــــا والـــــدة والهـــة عضــها الثــكل بناب فعقـر
تسأل الأطيار عن مؤنسـها كلما صفق طير واصطحر
تســـأل الأنجم عن واحدها كلما غور نجم أو ظهــــــر
تهـــب العـــمر لمن ينبـئها أنه أفـــلت من كف القـــدر
ويتوجع حافظ لمصاب مصر بأبنائها وهم أفضل ما تدخر، وللبلايا المتوالية عليها:
ويح مصر كل يوم حادث وبــــلاء ما لهـــا منه مفر
هان ما تلقـــاه إلا خطبـها في تراث من بنيها مدخـر
وقصيدة حافظ في رثاء أحمد حشمت عام 1926م من أجمل قصائده وأصدقها، ولا غرابة في ذلك فالفقيد كان شخصية مهمة وليت مناصب كبيرة منها وزارة المعارف، وكانت صلته بحافظ صلة متينة، وهو الذي أحسن إلى حافظ حين عينه بدار الكتب المصرية، وحافظ رجل مفطور على الوفاء وحفظ الجميل.
وتفيض القصيدة بالحزن الصادق، وفيها إشادة بأعمال الفقيد وإحسانه للشاعر، وفيها يرثي حافظ نفسه أيضاً.
يبدأ حافظ القصيدة بالحديث عن خبر موت الفقيد الذي أصم الآذان وحبس اللسان وأطلق الدموع، ويعترف للفقيد بإحسانه إليه ويصف ذلك بأنه منة في عنقه لا يريد نزعها. ويذكر حافظ بوفاة الفقيد، وفاة الإمام من قبل ويبين خسارته بهما فالإمام كان له كنفاً والفقيد كان له درعاً، وهو اليوم بلا كنف ولا درع، ولذلك فللحساد أن يشمتوا به وللأيام أن تواصل حملاتها عليه:
حبــــس اللـســـــان وأطلـق الدمعــــا
نــــاع أصــــم بنعيــــــك السمعــــــا
لك منـــــــة قــد طوقـــت عنـــــــقي
ما إن أريــــد لطوقهـــــا نـزعــــــــا
مات الإمـــــام وكـــــــان لي كنفــــاً
وقضيـــــت أنــت وكنت لي درعـــا
فليشـــــمت الحســــاد في رجــــــــل
أمســـت منـــاه وأصبحـــت صرعى
ولتحــــمل الأيــــــــــــام حملتـــــهـا
غاض المعين وأجدب المرعى[13]
ويصور حافظ مصاب العلا والندى والمروءة برحيل الفقيد الذي كان يوالي الجميل، ويزيد في المكارم على الكرام:
إني أرى من بعـــــده شـــــللاً بيـــد العـــلا وبـــأنفها جدعــا
وأرى الندى مستوحشــــاً قلقـاً وأرى المروءة أقفــرت ربعــا
قد كان في الدنيـــــا أبو حسـن يولي الجميل ويحسن الصنـعا
إن جــــاء ذو جــــاه بمحــمدة وتراً شــــــآه بمثـــــلها شفــعا
ويقر للناس بأنه من صنائع الفقيد، وأنه ضاق بالحياة بعده، وأنه يود أن يطوف بقبره لولا خوف الاتهام في دينه:
ســـلني فإني من صنـــــائعه وسل المعارف كم جنت نفعا
تــــالله لولا أن يقـــــــال أتى بدعـــاً لطفـــت بقبره سبعــا
قـد ضقت ذرعاً بالحياة ومن يفقــــد أحبـــته يضق ذرعــا
وانظر إلى وفاء حافظ للفقيد، وهو وفاء نادر جعله يتمنى الموت بدلاً عنه:
حتى نعى الناعي أبا حسن فوددت لو كنت الذي ينعى
ويختم حافظ قصيدته بستة أبيات تعبق بالوفاء، وتضوع بالصدق، يشيد فيها بالفقيد ويعدد مآثره، ويعتذر عن تقصيره لأن الرزء كان أكبر منه:
يــا دوحة للبــــر قد نشـــــرت في كل صـــــالحة لهـا فرعــــا
ومنـــــارة للفضل قد رفعــــت فــــوق الكنــــانة نورها شعـــا
ومثـــــابة للــرزق أحمــــــدها ما رد مســـكينــاً ولا دعــــــــا
إني رثيتـــــك والأسى جـــــلل والحزن يصدع مهجتي صدعا
لا غرو أن قصرت فيـــــك فقد جل المصاب وجاوز الوسعـــا
سأفيك حقــك في الرثـــــاء كما ترضى إذا لم تقــــدر الرجعى
وهكذا تعبق مراثي حافظ بالصدق النابع من قلب مـحترق وفي، أحزنه المصاب، فأرسل أشعاره حارة مؤثرة، تنتقل حرارة صدقها إلى القارئ فيعجب بها ويتأثر ويتفاعل معها، وذلك أقصى ما يطمح إليه العمل الفني.
لقد كان حافظ بكل أبعاد شخصيته، ما لها وما عليها، مؤهلاً لأن يمتاز بالصدق في مراثيه، يعينه على ذلك طبعه أولاً، وظروف حياته ثانياً لذلك ((ما نكاد نقرأ له مقطوعة يرثي فيها عزيزاً عليه حتى نحس باللوعة والحسرة تفيض من وجدانه لتلمس وجدان الناس، ونشعر كأنه كان يبكيه من قلبه وجوارحه، وقد أجاد حافظ في مواقف الرثاء ووصف الفواجع لأنه كان يستوحي الإلهام من كامن حزنه الحقيقي، وكان شعره في الرثاء صادق اللهجة بعيد الأثر، ولأنه كان يتمتع بقدر كاف من صدق العاطفة ونبل الشعور))([14]).
ووفاة رجل أحسن إلى حافظ، توقد فيه أمرين، الأول هو الوفاء لمن أحسن إليه، والثاني مرارة الحاجة التي سد عوزها ذلك المحسن، ومن هنا يتلاقى في مثل هذا الموقف الحزن على المرثي، بالحزن على النفس، فتزداد القصيدة صدقاً وحزناً وتأثيراً، ولعل أوضح ما يمثل ذلك رثاء حافظ للإمام محمد عبده، ورثاؤه لأحمد حشمت. لقد كان حافظ (( في تكوينه وتلوين حياته وليد آلام وصراعات متعددة ألجأته في أوقات كثيرة إلى كبار القوم يحتمي بهم ويبتغي خيرهم، فإذا ما فجع فيهم ذهب ينشج وينوح عليهم بعاطفة حزينة صادقة وقلب محترق))([15]).
وللدكتور طه حسين تحليل دقيق لنفسية حافظ التي أعانته على التفوق في الرثاء، وهو تفسير مقنع تنطق به سيرة حافظ وحياته ومراثيه. يقول الدكتور طه حسين: ((كانت نفس حافظ رحمه الله تمتاز بشيئين أتاحا لها إجادة الرثاء وإتقانه والبراعة فيه، كانت قوية الحس كأشد ما تكون النفوس الممتازة قوة حس وصفاء طبع واعتدال مزاج، وكانت إلى ذلك وفية رضية لا تستبقي من صلاتها بالناس إلا الخير ولا تحتفظ إلا بالمعروف ولا ترى للإحسان والبر جزاء يعدل الإشادة به والثناء عليه، ونصبه للناس مثلاً يحتذى ونموذجاً يتأثر ... كان يرثي لأنه يحزن، وكان يحزن لأنه يحب، وكان يحب لأن الله قد وهبه نفساً رضية مؤثرة، لم تبرأ من شيء قط كما برئت من الأثرة، وكما برئت من الضغينة والحقد))([16]).
أما الدكتور زكي مبارك فإنه يؤكد صدق حافظ، بل وتفرده في هذا الصدق فيقول: ((وهو في حزنه هذا يشعر القارئ بأنه صادق اللوعة مجروح الفؤاد، ولقد يندر أن تجد نفساً تصدق صدق حافظ في بكاء الذاهبين من الأصدقاء إلى عالم البقاء))([17]).
وحين تحدث الدكتور عبد الحميد سند الجندي عن رثاء حافظ، وصفه بأنه أهم فنون شعره، وقرر أنه الفن الذي بز فيه شعراء عصره، وأعاد ذلك إلى طيبة نفسه أولاً، وإلى ما مر به من صعاب جعلت الحزن رفيقاً دائماً له ثانياً ([18]). وهكذا تتلاقى شهادات الدارسين وتتضافر لتؤكد بحق مزية حافظ الأساسية في رثائه وهي الصدق، الصدق العميق الذي ينبع من نفس صافية وفية، يجعل تجربته الشعورية تتوهج مع الحدث فيمتد الحزن في أعماق صاحبه، ويهزه هزاً عنيفاً يوقد أحزانه الشخصية فيتلاقى هذا بذاك، لنظفر آخر الأمر بشعر صادق حزين، يفيض من قلب صادق حزين فيقع من قلوبنا موقع التأثير العميق.
-----------------
[1] الديوان، ص 458.
[2] الديوان، ص 517.
[3] الديوان، ص 463.
[4] الديوان، ص 465.
[5] الديوان، ص 474.
[6] الديوان، ص 497.
[7] الديوان، ص 514.
[8] الديوان، ص 532.
[9] الديوان، ص 470.
[10] الديوان، ص 544.
[11] الديوان، ص 522.
[12] الديوان، ص 573.
[13] الديوان، ص 580.
[14] د.عبد الرشيد عبدالعزيز سالم: شعر الرثاء العربي واستنهاض العزائم، ص 80-81.
[15] المرجع السابق، ص 33.
[16] حافظ وشوقي، ص 140-142.
[17] حافظ إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978م، ص 89.
[18] حافظ إبراهيم شاعر النيل، ص 128.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق