الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 10 - النزعة الخطابية


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

10- النزعة الخطابية:


     كان حافظ شاعر إلقاء وإنشاد من طراز نادر، وقد أعانته على ذلك جملة أمور، فقد كان يحفظ قصائده حفظاً جيداً، وكان ذا صوت جهوري يشد السامعين ويبهرهم، وكانت معانيه السهلة البسيطة التي تفهم بسهولة تتغلغل في أفئدة الناس فيتفاعلون معها دون مشقة، وكانت ألفاظه المنتقاة القوية ذات أثر كبير في الجمهور، من أجل ذلك لا غرابة أن كان شاعر إنشاد وإلقاء من الدرجة الأولى، ولذلك كان يحتفل بإلقاء قصائده احتفالاً بالغاً ويفوز بالإعجاب الكبير حتى لو كانت القصيدة عادية، بخلاف شوقي الذي لم يقف على منبر قط.

     وقد أثرت هذه السمة على شعر حافظ بحيث نجد صداها واضحاً في قصائده، ما اتصل منها بالرثاء وما لم يتصل.

     يقول الأستاذ علي الجندي وهو يتحدث عن إلقاء حافظ:((وقد كان شاعر النيل أعظم شعراء المحافل في عصره، فكان في إنشائه للقصائد غالباً، يستحضر في نفسه أنه يخاطب آذان المستمعين ويثير فيهم الطرب الوقتي ويستدر تصفيقهم وهتافهم، فيعتمد على موسيقى التعبير ونظم الأداء وخلابة الصوت أكثر مما يعتمد على براعة الخيال وبداعة التصوير وعمق الفكرة ودقة المعنى والتأمل الفلسفي وإيراد طرائف الحكم والأمثال، فكان شعره على فصاحته وجزالته يلذنا إلقاء ويروقنا مسموعاً أكثر مما يروقنا مقروءاً))[1].

     ويقول الأستاذ عبدالرحمن صدقي فيما نقله عنه الأستاذ علي الجندي: ((لقد أفدت من هذه المقارنة بين حافظ كما سمعته وحافظ كما قرأته: أن المقياس الحري بأن يؤخذ به ويحتكم إليه في تقدير شاعر النيل هو مقياس الشعر الخطابي، فقد كان حافظ إبراهيم ينظم قصائده للإنشاد، ومما يروى عنه أنه في حال نظمه للقصائد يرفع عقيرته بما يرد على خاطره، تحرياً للأثر الخطابي، فهو مطلبه الذي لم يكن يبرح ماثلاً نصب عينيه، إذ كان لا يخفى عليه أن هذا قبل غيره هو موطن قوته، وأن فيه سر فضله وميزته))[2].

     أما الأستاذ محمد إسماعيل كاني، فيقول في مقدمة الطبعة الثالثة من الديوان:((ومن ميزات حافظ الكبرى أنه كان يحسن إلقاء الشعر، فكان يلقي قصائده بنفسه ولا ينيب عنه أحداً في إلقائها إلا ما ندر لعذر قاهر يمنعه عن الحضور، كان جهير الصوت، قوي الأداء، إذا اعتلى المنبر اهتز تحته، كأنها البراكين تتفجر، يعلو صوته كالرعد في وطنياته، وجموع الشعب تصغي في إعجاب وانبهار، وقد ملك عليها أفئدتها وأنفاسها وكل مشاعرها، حتى إذا انتهى إلى مقطع من مقاطع القصيد، جاوبه الشعب بهدير وزمجرة تعبر عن شعورهم وتقديرهم ومكنون ضمائرهم. وإذا رثى لا يملك السامعون أنفسهم من البكاء والنحيب شعوراً بما عبر عنه من فداحة المصاب فيمن يرثيه، وهكذا كان رحمه الله، كانت قوته أيضاً في إلقائه حتى كان يؤثر عن المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد أنه قال: شعر حافظ لا يقرأ وإنما يسمع، ولو كانت في عهده أجهزة تسجيل لسجل شعره بدلاً من طبعه))[3].

     ولو مضينا إلى ديوان حافظ لوجدنا مراثيه تنطق تماماً بصدق هذه الأحكام. فلو نظرنا في رثاء حافظ للبارودي لوجدناه يبدأ على هذا النحو الفخم المهيب:

ردوا علي بيـــــاني بعـد محـــــــمود
               إني عييـــــت وأعيا الشعر مجهودي
ما للبـــــلاغة غضـــبى لا تطاوعني
               وما لحبــــل القــــوافي غير ممـــدود
ظنــــت سكوتي صفحــــاً عن مودته
               فـأسلمتــــني إلى هــم وتسـهيـــــــــد
ولو درت أن هذا الخطـــب أفحــمني
               لأطلقت من لســــاني كل معقـــــــود
لبيـــك يا مؤنس الموتى وموحشــنــا
               يا فــــارس الشعر والهيجاء والجـود
لبيـــك يا شــــاعراً ضن الزمــان به
               على النهى والقــوافي والأنــــــاشيـد
لبيــك يا خيــــر من هز اليراع ومن
               هز الحسام ومن لبى ومن نودي[4]

     فالألفاظ فخمة قوية الجرس تثير الانتباه، وعتبه على القوافي بطريقة استنكارية يشد الاهتمام، ونداؤه للسامع، وتلبيته للمرثي، كلها نافعة مؤدية إلى إنجاح المهمة الخطابية للقصيدة. وانظر كيف يخاطب المشيعين خطاباً قوياً فخماً فيه مبالغة ومناداة ومحاورة:

أقــول للملأ الغــــــادي بموكبـــــه
               والنــــاس ما بين مكبود ومفــــؤود
غضوا العيون فإن الروح يصحبكم
               مع الملائــــك تكريمــــاً لمحــــمود

     فهو يطالبهم أن يغضوا العيون لأن الملائكة والروح الأمين جبريل عليه السلام في مقدمة من يشيع الفقيد.

     وفي آخر بيتين من القصيدة نرى حافظ ينادي الفقيد ويطلب منه قبول عذره بطريقة خطابية بينة:

محمود إني لأستحييـك في كلمي     حياً وميتاً وإن أبدعت تقصيــدي
فاعذر قريضي واعذر فيك قائله     كلاهما بين مضعـــوف ومحدود

     وفي قصيدته التائية الشهيرة في رثاء الأستاذ الإمام محمد عبده نجد أثر الخطابة والإلقاء بيناً جداً. إن الشاعر يبدأ القصيدة على النحو التالي:

ســـلام على الإســــلام بعد محـــمد
               ســـلام على أيـــــــامه النضــــرات
على الدين والدنيا على العلم والحجا
               على البر والتقوى على الحســنــات
لقد كنت أخشى عادي الموت قبـــله
               فأصبحت أخشى أن تطول حيـــاتي
فـــوا لهـــفي والقبـــر بيني وبيـــنه
               على نظــــرة من تلـــكم النظــرات
وقفــت عليه حاسر الرأس خاشعــاً
               كأني حيــال القبر في عرفــات[5]

     ثم يبين خسارة الإسلام بوفاة الفقيد:

تبــــاركت هذا الدين دين محــــمد
               أيتــــرك في الدنيـــا بغير حمــــاة
تباركت هذا عالم الشرق قد قضى
               ولانت قنـــاة الدين للغـــــــــمزات

     ويتأوه محزوناً لأعمال الفقيد التي لا تجد بعده من يرعاها، ويبين كيف خلت الساحة من بعده فعادت الراح صفرات بعد امتدادها بحثاْ عن بديل، وعادت العيون شرقات بالدمع آثرت العمى بعد أن لم تكتحل برؤية أحد يسد مسد الفقيد:

زرعت لنا زرعاً فأخرج شطأه     وبنـــت ولما نجتـــــن الثمرات
فــواهاً له ألا يصيــب موفقــــاً     يشـــارفه والأرض غير موات
مددنا إلى الأعلام بعدك راحنـا     فردت إلى أعطافنــــا صفرات
وجالت بنا تبغي سواك عيوننـا     فعــــدن وآثرن العمى شرقـات

     أما السنة التي مرت على الفقيد، فهي سنة شؤم، حطمت السيف، وعطلت المنبر، وأذوت الروض، وأطفأت المصباح، وأشعلت النفوس حزناً:

فيــــا سنـــة مرت بأعواد نعشـه     لأنت علينا أشـــــأم الســـــنوات
حطمت لنــا سيفاً وعطلت منبراً     وأذويت روضاً ناضر الزهرات
وأطفأت نبراساً وأشعــلت أنفساً     على جمرات الحزن منطويــات

     وفي آخر القصيدة يخاطب المنزل الذي كان يعيش فيه الفقيد مصوراً ما أصابه من هول المصيبة فيقول:

فيا منزلاً في عيــن شمس أظلني     وأرغم حســــادي وغم عـــداتي
دعائمه التقوى وآســــاسه الهدى     وفيه الأيـــادي موضع اللبنـــات
عليـــك سلام الله مالك موحشـــاً     عبوس المغاني مقفر العرصات
لقد كنت مقصــود الجوانب آهلاً     تطوف بـــك الآمال مبتـــهلات
مثــــابة أرزاق ومهبط حكــــمة     ومطـــلع أنـــوار وكنز عظـات

     إن الألفاظ سهلة واضحة تفهم، ضخمة جزلة تروع، والعبارات تتقابل وتترادف، والمعاني قريبة، والنداء يكثر، والكارثة تصور مجسدة كبيرة، والخطاب يتنقل بين المرثي وبين الراثي وبين الجمهور وبين القبر وبين منزل الفقيد، وهذا كله أثر من آثار طبع حافظ عامة، ومن آثار الخطابة والإلقاء فيه خاصة.

     وفي القصيدة التي قالها في رثاء مصطفى كامل يظهر أثر الخطابة والإلقاء بوضوح شديد في القصيدة كلها التي يفتتحها على نحو مثير ينبه ويروع، كأنه خطيب يكثر من أساليب النداء:

أيــــا قبر هذا الضيــــف آمال أمـــة
               فكبر وهلل والق ضيفــــك جاثيـــــا
عزيز عليـنا أن نرى فيـك مصطفى
               شهيــد العلا في زهرة العمر ذاويــا
أيـــا قبـــــر لو أنــا فقدنـــاه وحــده
               لكان التأسي من جوى الحزن شافيا
ولكن فقــــــدنـا كل شيء بفقـــــــده
               وهيهات أن يأتي به الدهر ثانيـا[6]

     وكما خاطب القبر، خاطب الفقيد وصاغ على لسانه شعراً خطابياً مؤثراً جداً، يقوله الفقيد لأبناء الوطن يستنهض الهمم ويدعو إلى الوحدة:

شهيــــد العــلا لازال صوتك بيننا
               يــرن كما قد كـــان بالأمس داويـا
يهيــــب بنـــا هذا بنــــاء أقمتــــه
               فــلا تهــدموا بالله ما كنت بانيــــا
يصيح بنــا لا تشعروا الناس أنني
               قضيــــت وأن الحي قد بات خاليا
ينــــاشــــــدنا بالله ألا تفـــــرقــوا
               وكونوا رجالاً لا تسروا الأعاديـا
فـروحي من هـذا المقـــــام مطلة
               تشــــارفـكم عني وإن كنت باليــا
فــلا تحزنـــــوها بالخلاف فإنني
               أخاف عليكم في الخلاف الدواهيا

     ثم يجيب حافظ الفقيد بأن الأمة على العهد وأن بناءه محفوظ وأن صوته مسموع:

أجل أيهــا الداعي إلى الخير إننا     على العهد مادمنا فنـم أنت هانيا
بنــــاؤك محفوظ وطيفـــك ماثل     وصوتك مسموع وإن كنت نائيا

     إن أثر الخطابة والإلقاء بين في القصيدة كلها من حيث الألفاظ التي تفهم وتأسر معاً، والمعاني القريبة المناسبة، وتكرار النداء والإجابة، بين القبر والفقيد والشاعر والناس، والقافية المطلقة التي تساعد على الترنم المحزون، والبحر الذي يعين على استيعاب العبارة الطويلة المثقلة بالأسى والشجن.

     وفي القصيدة الأخرى التي قالها في رثاء مصطفى كامل، نجده ينادي الفقيد:

زين الشباب وزين طلاب العـلا     هل أنت بالمهــج الحزينة داري
غادرتنــا والحادثــــات بمرصد     والعيـــش عيـــش مذلة وإســـار
ما كان أحوجنـــا إليـــك إذا عدا     عاد وصاح الصائحون بدار[7]

     ويطلب منه أن يقوم من قبره ليرد عدوان كرومر على الإسلام، فمن مثله لا يصح السكوت، والأسماع والأبصار طال شوقها إليه، مستخدماً أسلوب الاستفهام:

أين الخطيب وأيـن خلاب النهى     طال انتظار الســــمع والأبصار
بالله مالك لا تجيـــــب منـــــادياً     ماذا أصـــــابك يا أبا المغــــوار
قم وامح ما خطت يميـن كرومر     جهـــــلاً بدين الواحد القهــــــار

     ويختم حافظ القصيدة بهذه الأبيات التي يخاطب بها الفقيد:

فاهنـــأ بمنزلك الجديد ونم بـــه     في غبـــطة وانعم بخير جــوار
واستقبل الأجر الكبير جزاء ما     ضحيــــت للأوطان من أوطار
نعـــم الجزاء ونعم ما بلغتـــــه     في منزليــــك ونعم عقبى الدار

     أما قصيدته الثالثة في مصطفى كامل التي أنشدها في الحفل الذي أقيم لإحياء ذكراه الأولى عام 1909م، وهي قصيدة تظهر فيها العفوية والصدق من جانب، والخطابية والإلقاء من جانب آخر أوضح ما تكون، فهي جديرة بوقفة فيها أناة.

     يبدأ حافظ قصيدته على هذا النحو الخطابي الضخم المؤثر:

طوفــــوا بـــأركان هذا القبر واستــلموا
               واقضـــــوا هنـــالك ما تقضي به الذمـم
هنـــــا جنـــــــان تعـــــالى الله بــــارئه
               ضــــــاقت بآمـــاله الأقــــدار والهـــمم
هـنــــــــا فــم وبنـــــان لاح بيـنهــــــما
               في الشــــرق فجر تحيي ضـــوءه الأمم
هنــــا فــم وبنـــــان طـــــــالما نثـــــرا
               نثـــــراً تسيــــل به الأمثـــال والحـــكم
هنــــا الكمي الـــذي شــــــادت عزائمه
               لطـــــالب الحــق ركنـــــاً ليس ينهـــدم
هنـــــا الشهيــــد هنـــا رب اللواء هنـــا
               حامي الذمار هنا الشهم الذي علموا[8]

     فهو يطالب الحضور أن يطوفوا بالقبر كما يطوف المسلمون بالكعبة المشرفة أداء لحق الفقيد، ثم يقدم لنا خمسة أبيات يبدأ كل منها بكلمة ((هنا)) يبين فيها ما ضمه القبر من محاسن الفقيد همة وبياناً وشجاعة، بل إن البيت السادس تتكرر فيه كلمة ((هنا)) أربع مرات، يلي كل واحدة منها وصف للفقيد، فهو الشهيد وهو رب اللواء وهو حامي الذمار وهو الشهم المعروف، وهذا كله يؤكد النزعة الخطابية في مراثي حافظ.

     وفي مقطع آخر من القصيدة يبين لنا كيف يرى روح الفقيد يحوطها الجلال، ومحياه تزينه البسمة والتحية:

إني أرى وفؤادي ليس يكـــذبني     روحــاً يحف به الإكبار والعظم
أرى جلالاً أرى نوراً أرى ملكاً     أرى محيـــــاً يحييـــنــا ويبتسـم

     ثم يهتف حافظ بطريقة درامية أنه عرف صاحب هذا الوجه:

الله أكبر هذا الوجـــه أعرفـــه     هذا فتى النيل هذا المفرد العلم

     ثم يطلب من الحضور أن يغضوا العيون إجلالاً له وأن يقسموا على الوفاء لمبادئه:

غضوا العيــــون وحيوه تحيته     من القـــلوب إذا لم تسـعد الكلم
وأقسموا أن تذودوا عن مبادئه     فنحن في موقف يحلو به القسم

     ثم يخاطب الفقيد على لسان الحضور بأنهم استجابوا لدعوته ووفوا لمبادئه، وهم الآن إنما جاؤوا ليقدموا له كشف الحساب:

لبيك نحن الألى حركت أنفسهم     لمــــا سكنت ولما غالك العــدم
جئنا نؤدي حسابــاً عن مواقفنا     ونستـــمد ونستــعدي ونحتــكم

     ويدعو على من يريدون بمصر سوءاً، ويسخر بهم لأن رايتها ستظل مرفوعة:

ماذا يريدون لاقرت عيونهم     إن الكنانة لا يطوى لها عـلم

     ويعود مجدداً ليخاطب الفقيد بأن الناس على العهد، وأن ما غرسه بخير تحرسه عين الله، فقد استطال وأثمر يعجب به الصديق ويرغم به العدو:

لبيــــك إنا على ما كنت تعـــــهده
               حتى نسود وحتى تشـــــهـد الأمم
فيعــلم النيل أنا خيــــر من وردوا
               ويستطيــل اختيـــــالاً ذلك الهرم
هذا الغـــراس الـذي واليت منبته
               بخيـــر ما والت الأضواء والنسم
أمسى وأضحى وعين الله تحرسه
               حتى نما وحــلاه المجـــد والشمم
فانظـــر إليه وقد طالت بواسقـــه
               تهنأ به ولأنف الحــــــاسد الرغم

     ويلتفت إلى شباب مصر طالباً منهم أن يسيروا على نهج الفقيد لأن في إهاب كل منهم مثيلاً منه:

يا أيها النشء سيروا في طريقته     وثابروا رضي الأعداء أو نقموا
فكلكم مصطفى لو ســـار سيرته     وكلكم كامل لو جــــازه الســـأم

     وبعد أن يعود إلى القبر يسائله عن الفقيد، يخاطب الفقيد بهذين البيتين اللذين ختم بهما القصيدة:

نم أنت يكفيك ما عانيت من تعب     فنحن في يقظة والشـــمل ملتـــئم
هـذا لــواؤك خفـــــــاق يظــللنــا     وذاك شخصك في الأكباد مرتسم

     والقصيدة كما يتضح مما مر بنا من أبياتها ذات نفس خطابي مؤثر، لغة وتراكيب، وصوراً وأخيلة، وحسن استهلال لها وحسن اختتام لها، وحسن تنقل في الحديث ما بين القبر والفقيد والجمهور بطريقة حية مؤثرة، وحسن انتقاء بحر تعين تفعيلاته على الترنم والإنشاد، ومن المؤكد أن الشاعر حين ألقى القصيدة بطريقته المعروفة التي يحتفل لها أيما احتفال، بكى وأبكى السامعين، وبلغ من قلوبهم ونفوسهم ما بلغ.

     وقد وقف الدكتور طه حسين عند هذه القصيدة ليشيد بها وليثني فيها على قدرة حافظ على الخطابة المؤثرة فقال: ((وبراعة حافظ في تصوير آلام الشعب أكسبت شعره السياسي ورثاءه لأصحاب السياسة، لوناً من الخطابة يمنحه قوة غريبة تسيطر حقاً على نفوس الجماعات فتفعل فيها الأعاجيب))[9]. ثم أورد سبعة أبيات من القصيدة تبدأ بقول الشاعر ((إني أرى ...))، ومضى يعلق عليها قائلاً: ((ألا ترى هذه الأبيات، وكيف استحضر الشاعر فيها شخص الزعيم يحف به الجلال والعظمة، وكيف مهد لهذا الاستحضار بهذا البيت الأول الذي خرج فيه عن طوره العادي، وأخرج الناس معه عن أطوارهم، وهيأهم لموقف غير مألوف، ثم أخذ يدفعهم إلى هذا الموقف دفعاً ويملأ قلوبهم هيبة وإجلالاً بهذا البيت الذي ألفه من جمل متقطعة قصيرة ختمه بصورة خلابة رائعة:

أرى جلالاً، أرى نوراً، أرى ملكاً
               أرى محيــــــاً، يحيينــا ويبـــــتسم

     ثم انظر كيف استأثر به الذهول وغلبه على نفسه وملك عليه كل أمره فصاح:

الله أكبر، هذا الوجـــــه أعرفه     هذا فتى النيل هذا المفرد العلم

     ثم انظر إليه بعد ذلك وقد أكد الجمهور وأنساه نفسه، وملك عليه شعوره وحسه، وأقنعه بأنه أمام الزعيم، كيف يتحدث إلى هذا الجمهور بهذا الحديث الذي تملؤه المهابة والروعة والحب معاً فيقول:

غضوا العيون وحيوه تحيته     من القلوب إذا لم تسعد الكلم

     ثم يتجه بعد ذلك إلى الزعيم نفسه فيصيح صيحة كلها إيمان وطاعة ويقين وإعجاب:

لبيك نحن الألى حركت أنفسهم     لما سكنت ولما غـالك العـــــدم

     هذه أبيات لو قرأها أرستطاليس صاحب الخطابة، ومنشئ علم البيان لما تردد في أن يتخذها مثلاً لما يسميه في الكتاب الثالث من الخطابة وضع الشيء تحت العين))[10].

     وواضح من كلام الدكتور طه حسين مدى إعجابه بقدرة حافظ الخطابية بحيث تسحر السامعين، وأثرها على شعره في تجزئة الجملة عنده إلى أجزاء صغيرة متقطعة لأن ذلك أعون على الإلقاء الذي يريده حافظ، وأكثر أثراً في الجمهور، الأمر الذي له في مراثي حافظ نماذج كثيرة.

     وفي قصيدة حافظ في رثاء سعد زغلول وهي من أعظم مراثيه، نجد أثر الخطابة والإلقاء منذ أبياتها الأولى:

إيه يا ليــــل هل شهــــــدت المصـــــابـا
               كيــف ينصب في النفــــوس انصبــــابـا
بـلــــــــغ المشــرقين قبل انبلاج الصـــ
               ـــــبــح أن الرئيــــــس ولى وغابــــــــا
وانــــع للنيـــــــرات سعــــــداً فسعـــــد
               كان أمضى في الأرض منها شهابا[11]

     ويتساءل عن غياب سعد وهو أمر غير مألوف:

أين سعــــد فـــــــــذاك أول حفل     غاب عن صدره وعاف الخطابا
لم يعــــود جنــــــوده يوم خطب     أن ينــــــادى فلا يرد الجوابــــا
عل أمراً قد عـــــــاقه عل سقـماً     قد عراه لقــــــــد أطال الغيـــابا

     ثم يصور حجم الكارثة الكبيرة التي تلخصت في كلمتين هما ((مات سعد)) فيقول:

إنها النكبـــــة التي كنـــــــت أخشى
               إنها الســــــاعة التي كنـــــــت آبى
إنها اللفظـــــة التي تنســـف الأنــــ
               ــفس نسفـــــاً وتفقـــر الأصلابـــــا
مات سعد لا كنت يا ((مات سعد))
               أســـــهاماً مســـــمومة أم حرابــــا

     ويخاطب حافظ الفقيد:

يا كبيـــــر الفؤاد والنفس والآ     مال أين اعتزمت عنا الذهابــا
كيف ننسى مواقفــــاً لك فينــا     كنت فيها المهيب لا الهيــــابا
كنت في ميعـة الشباب حساماً     زاد صقـــــلاً فرنده حين شابا

     وفي مقطع جميل موفق يخاطب الإنجليز بلهجة قوية مؤثرة، ويتحداهم أن يظفروا بمصري أبي يتعاون معهم قائلاً:

فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا
               وامنعـــــونا طعامنـــــا والشرابــــــا
واستشــــفوا يقيننـــــا رغـــــم ما نـلـ
               ـــقى فهـــــل تلمحون فيـنا ارتيـــابــا
قــــد ملكتـــــم فم السبيــــــل علينــــا
               وفتحتـــــــم لـكــل شعـــــــواء بـــابا
وأتيـــــتم بالحــائمــــــات تــــــرامى
               تحــــــمل الموت جـــاثماً والخرابـــا
وملأتــــم جوانــــب النيــــــل وعــداً
               ووعيـــــــداً ورحــــــــمة وعذابـــــا
هــل ظفــــــرتم منـــــــا بقــــلب أبي
               أو رأيتــــم منــــــا إليـــــــكم مثــابــا
لا تقـــــولوا خــلا العريــــــــن ففيـه
               ألف ليـــــث إذا العريـــــن أهابـــــــا

     ويخاطب حافظ الفقيد:

لم ينل حاسدوك منك مناهم     لا ولم يلصقوا بعلياك عابـا
نم هنيئاً فقد سهــدت طويلاً     وسئمت السقام والأوصـابا

     ويختتم حافظ قصيدته بهذا البيت الذي يودع فيه الفقيد ويبشره بالجنة:

خفت فينا مقام ربك حياً     فتنظر بجنتيـــه الثوابــا

     إن أثر الخطابة والإلقاء الذي وجدناه فيما سبق استعراضه من شعر حافظ، نجده يتكرر في قصيدته في رثاء سعد زغلول في أول القصيدة وآخرها وفي معظم أبياتها ولا غرابة. فحافظ وثيق الصلة بالمرثي، والمرثي شخصية مهمة جداً، ثم إن حافظ ينشد قصيدته إنشاداً لابد أنه سار فيه على سنته المعروفة عنه في الإلقاء فبكى وأبكى السامعين، في شعر حزين صادق مؤثر ظهرت فيه قدرته الفنية أوضح ما تكون، وظهرت فيه آثار الخطابة والإلقاء بشكل بين، لم يزد عليه إلا ما قاله في مصطفى كامل.

     ومما زاد من قدرة حافظ على الإلقاء المؤثر، الذي يؤدي إلى مزيد من التواصل بينه وبين الجمهور، قوة ذاكرته التي جعلته يلقي منها لا من الورق، وحرصه الشديد على البساطة اللغوية مع الجزالة، أما البساطة فهي ليكون شعره مفهوماً، وأما الجزالة فهي ليكون شعره قوياً أخاذاً، ومما هو جدير أن يروى هنا أنه تخير رجلاً من عامة الشعب اعتبره المستوى العام لفهم ((ابن البلد)) المصري، اسمه علي محمود حسن الكرساتي، فكان يعرض عليه شعره بيتاً بيتاً، فإذا وجد منه فهماً للبيت أجازه وإلا غير وبدل بل وحذف أحياناً[12]، وهذه الرواية تدل بوضوح على رغبته القوية أن يكون شعره مفهوماً ومؤثراً معاً لدى الجمهور. ومن المهم هنا أن نلفت النظر إلى أن هذا اللون من الشعر الخطابي، ليس ميزة بحد ذاته كما أنه ليس عيباً، إنما هو لون من الشعر ترضاه أذواق وتأباه أخرى، أما بالنسبة لحافظ فقد كان فيه منسجماً مع نفسه، معبراً عن سجيته، متفقاً تمام الاتفاق مع تطلعاته ومواهبه وقدراته، ثم هو – في النهاية – لون يحبه جمهور من الناس يفضلون سماع الشعر ينشد، ويزهد فيه آخرون يحبون قراءته فيما بينهم وبين أنفسهم، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

-----------------------
[1] الشعراء وإنشاد الشعر، دار المعارف، القاهرة، 1969م، ص 11.
[2] المرجع السابق، ص 13.
[3] مقدمة الديوان، ص 48.
[4] الديوان، ص 453.
[5] الديوان، ص 458.
[6] الديوان، ص 463.
[7] الديوان، ص 465.
[8] الديوان، ص 474.
[9] حافظ وشوقي، ص 150.
[10] المرجع السابق، ص 151 – 152.
[11] الديوان، ص 532.
[12] مقدمة الديوان، ص 34 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة