الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ)
09- تردد واضطراب:
يؤخذ على حافظ أنه لا يكون فكرة واضحة في بعض القضايا المهمة، التي ينبغي أن يكون لمثله فيها رأي محدد يدافع عنه ويتبناه، ومن ذلك موقفه من قاسم أمين حين مات.
مات قاسم أمين عام 1908م وقد ارتبط بقضية شهيرة لم تزل منذ إثارته لها محل جدل واسع، وهي ما عرف باسم حركة تحرير المرأة، فقال حافظ فيه قصيدة رثاء جيدة مطلعها:
لله درك كنت من رجـــــــل لو أمهلتك غوائل الأجل[1]
وفي هذه القصيدة يثني على الفقيد ويصفه بصواب الرأي الذي يسبق به الناس لكنه لا يلبث أن يشقى بهم كما يشقى المتفوق السابق بالعاجز الضعيف:
يــــا رائش الآراء صــائبة يرمي بهن مقــــاتل الخطل
لله آراء شــــــــــأوت بهــا في الخـــالدين نوابغ الأول
قد كنت أشقــــانا بنــا وكذا يشقى الأبي بصحبة الوكل
شغلتك عن دنيـــاك أربعـة والمرء من دنياه في شغـل
حق تنــــاصره ومفخـــرة تمشي إليها غير منتحــــل
وحقــــائق للعلم تنشــــدها ما للحكـيــــم بهن من قبـل
وفضيلة أعيت سواك فلــم تمـــدد إليه يداً ولم تصـــل
وبعد هذا الثناء الكبير على المرثي والإشادة بعقله وسبقه وشجاعته وفضله، يصل حافظ إلى أهم أعماله، فلا يعدو أن يكون إزاءها إنساناً يسجل تسجيلاً محايداً آراء الناس، من معارضين ومؤيدين دون أن تلمس منه موقفاً خاصاً به ينحاز فيه هنا أو هناك:
إن ريت رأياً في الحجاب ولم تعصـــم فتــلك مراتب الرسل
الحــكم للأيـــــام مرجعـــــــه فيـــما رأيـت فـنــم ولا تســـل
وكذا طهـــــاة الرأي تتــــركه للدهـــر ينضجــه على مهـــل
فـــإذا أصبت فأنت خيــر فتى وضــع الـدواء مواضع العـلل
أولا فحسبـــك ما شـــرفت به وتركت في دنيــــاك من عمل
لقد هرب حافظ من تبيان رأي محدد، وترك الأمر للأيام، وأشاد بالمرثي فيما لو أصاب والتمس له العذر فيما لو أخطأ.
وحين رثى تولستوي عام 1910م، نجده يقول: إنه رثاه لأنه يحب النابغين والمفكرين، ولذلك فهو لا يبالي أكان من أهل الجنة أم من أهل النار، ذلك أنه دعا إلى المسيحية كما فهمها فاختلفت فيه الآراء، فغضب القساوسة، وغضب القيصر، وقال عنه قوم إنه ملحد وقال آخرون إنه مؤمن، يقول حافظ:
ولست أبـــالي حين أرثيك للورى
حوتك جنـــان أم حـــواك سعيـــر
فـــاني أحــب النـــابغين لعـــلمهم
وأعشـق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
وهــز لهــــا عرش وماد سريــــر
وقال أنـــــاس إنه قـــــول ملحــد
وقال أنـــــاس إنه لبشيـــــــر[2]
وبعد أن يجمع حافظ بين تولستوي المسيحي والمعري المسلم في الدار الآخرة، يخاطبه على لسان المعري قائلاً له:
قضيت حياة ملؤها البـر والتقى
فـــأنت بأجر المتقين جديـــــــر
وسـموك فيهم فيلسوفاً وأمسكوا
وما أنــت إلا محســن وأجيــــر
وما أنت إلا زاهد صاح صيحة
يرن صـــداها ســـاعة ويطيـــر
وهكذا نرى حافظ فيما قاله لتولستوي ابتداء، وما قاله له على لسان المعري، يردد مجموعة الأقوال التي ترددت عن الأديب الروسي الكبير والتي تصفه بأوصاف كثيرة متناقضة ما بين إيمان وإلحاد، ومسالمة وعنف، وفلسفة وزهد، دون أن يتبين لنا وجه من وجوه الرأي يأخذ به حافظ ويتبناه.
وفي غير ميدان الرثاء يمكن أن نجد تردد حافظ واضطرابه في مواقف أخرى مهمة مثل وداع اللورد كرومر، وزواج علي يوسف صاحب المؤيد من صفية السادات، وتصريح 28 فبراير 1922م، والسلطان عبدالحميد قبل سقوطه وبعده. وهذا ما يشير إلى أن الشاعر لا يملك في بعض الأحيان موقفاً محدداً من الشخصية التي يتناولها، ومرد ذلك إلى عدم تعمقه للأمور وهو ثمرة الدرس الجاد الذي لا يصبر عليه، وإلى طبيعته القريبة الساذجة، وإلى رغبته في إرضاء الجمهور الذي كان يحرص على أن يفوز بإعجاب كل فئاته، لذلك لا يجزم برأي قد يعجب فريقاً ويغضب آخرين.
يقول الأستاذ عبد العليم القباني عن هذا العيب الذي لمسه لدى حافظ إبراهيم: ((عودنا حافظ إبراهيم أن تتأرجح مشاعره هبوطاً وصعوداً ورضى وسخطاً، تبعاً لمشاعر الجماهير العريضة في الأحداث الجسام، وقد اعترف حافظ نفسه بهذه الخاصية في القصيدة التي نظمها في رحيل اللورد كرومر عن مصر والتي لم يزد فيها على ما جاء في الصحف المختلفة الاتجاهات، ثم برر موقفه بقوله:
فهــذا حديث الناس والنـــاس ألسـن
إذا قــال هذا صــاح ذاك مفنـــــــدا
ولو كنت من أهل السيـاسة بيـــنهم
لسجلت لي رأياً وبلغت مقصدا[3]
-------------------
[1] الديوان، ص 470.
[2] الديوان، ص 478.
[3] موقف شوقي والشعراء المصريين من الخلافة العثمانية، ص 98.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق