الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ)
08- دائرة المصيبة:
من أسباب تفوق حافظ في الرثاء أنه كان يشعر بفداحة المصاب الذي يجعل الكارثة، تنتقل من الحيز الشخصي الضيق إلى المدى الوطني أو الإسلامي العام وهو ما يجعل دائرة الحزن والمحزونين أكبر، وما يجعل مدى القصيدة أوسع وأرحب.
ويظهر ذلك أوضح ما يظهر في قصيدته التائية التي قالها في الإمام محمد عبده عام 1905م والتي مطلعها:
سلام على الإســلام بعد محمد سلام على أيامه النضرات[1]
وهذه القصيدة تعد من أفضل مراثي حافظ، فالمرثي شخصية مهمة وعلاقته بالشاعر قوية وثيقة، وفيها حزن حاد وتصوير رائع.
نظر حافظ إلى الكارثة نظرة عامة تجاوزت دائرة مصر ودائرة العروبة لتصل إلى الدائرة الإسلامية الواسعة، ومطلع القصيدة إيذان بذلك، فعلى الإسلام وعلى أيامه النضرات السلام بعد موت الإمام، بل على الدنيا أيضاً والبر والتقوى والحسنات كما في البيت التالي:
على الدين والدنيا على العلم والحجا على البر والتقوى على الحسنــــات
لقد صار الإسلام كما يقول حافظ بوفاة الإمام عالم الشرق بغير حماة، ولانت قناته للأعداء:
تبـــاركت هذا الدين دين محــــــمد أيتـــــرك في الدنيا بغير حمــــــاة
تباركت هذا عالم الشرق قد مضى ولانت قنـــــاة الدين للغـــــــمزات
ويمضي حافظ في بيان مكانة الإمام الراحل، وكيف احتمل الأذى في ذات الإله، وكيف بين روائع التنزيل، ووفق بين العلم والعقل، وتصدى لكل من (هانوتو) و (رينان) حين انتقصا من الإسلام، وكيف كان ملاذاً للفقراء كافلاً للأرامل غوثاً للفقراء، وصاحب الفتوى الحكيمة والشورى الصائبة والعظة والهداية. لذلك كانت المصيبة بالإمام كبيرة جداً والحزن عاماً شاملاً:
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
وضــــاقت عيون الكون بالعبـــــرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع
وفي مصر بــــــاك دائم الحســـــرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نـادب
وفي تونس ما شئـــــت من زفــــرات
بكى عـــــالم الإســــلام عالم عصـره
ســــراج الديــــاجي هادم الشـــبـهات
وحين مات مصطفى كامل عام 1908م نجد إحساس حافظ بالكارثة إحساساً عاماً، فوفاة الزعيم الوطني الشاب مصاب لمصر كلها بل وللإسلام وللدولة العثمانية التي كانت مصر تابعة لها يومذاك. يقول حافظ مخاطباً قبر الفقيد:
أيـــــا قبـــــر لو أنا فقدنـــــاه وحده
لكان التأسي من جوى الحزن شافيا
ولكن فقـــــدنـــا كل شيء بـفقـــــده
وهيهات أن يأتي به الدهر ثانيا[2]
ووفاة الفقيد بشرى للإنجليز الذين كانوا يخافون صوته، ذلك أن كل صوت آخر سيسكت بسكوت الرائد القائد:
هنيــــئاً لهم فليــــــأمنوا كل صائح
فقد أسكت الصوت الذي كان داويا
ومات الذي أحيــــا الشعور وساقه
إلى المجد فاستحيا النفوس البواليـا
وفي قصيدة حافظ التي قالها في حفل الأربعين لتأبين مصطفى كامل، يطلب منه أن يقوم ويتصدى لمزاعم كرومر في حق الإسلام:
قم وامح ما خطت يمين كرومر جهلاً بدين الواحد القـــهار[3]
ويذكره أنه كان يغضب لمصر كلها كلما أصابها مكروه كما يغضب التقي لربه وقرآنه، وكما غضب الفاروق للمصطفى صلى الله عليه وسلم:
قد كنت تغضب للكنانة كلما همـت وهم رجاؤها بعثـــار
غضب التقي لربه وكتـــابه أو غضبة الفاروق للمختـار
ويصف كيف حزن الهلال وهو رمز الدولة العثمانية زعيمة المسلمين يومذاك على الفقيد، وكيف طفق يتلفت حائراً باحثاً عمن يسد الثغرة، وحزن الهلال هنا حزن للمسلمين جميعاً:
جزع الهلال عليك يوم تركته ما بيـــن حــر أسى وحر أوار
متــــلفتــاً متحيـــــراً متخيـراً رجلاً يناضل عنه يوم فخـــار
وحين مات علي يوسف صاحب المؤيد عام 1913م، نجد حافظ يرثيه، صحفياً شجاعاً مدافعاً عن الدين والوطن داعياً لوحدة المسلمين، لذلك كان المصاب به مصاباً عاماً. يقول عن قلم الفقيد وبيانه:
قد كان سلـــــوة مصر في مكـــــارهها
وكان جــــــمرة مصـر ساعة الغضب
في شـقـــــــــه ومراميــــه وريقتــــــه
ما في الأساطيل من بطش ومن عطب
كم رد عنــــا وعين الغـــــرب طامحة
من الرزايا وكم جـــلى من الكرب[4]
ويجعل جريدة المؤيد التي كان يصدرها الفقيد معقلاً للجهاد، ففيها تجتمع أقلام الأحرار المدافعين عن الدين والوطن في وجه الغرب، وفيها نشر الإمام محمد عبده رده على هانوتو الذي انتقص الإسلام.
ألم يكن لبــــني مصــر وقد دهـــــموا
من ساسة الغرب مثل المعقل الأشـب
كم انبـــرت فيه أقـــــلام وكم رفعـت
فيه منـــــائـر من نظـــم ومن خطـب
وكان ميـــــدان سبق للألى غضبــوا
للدين والحــــق من داع ومحتســــب
فكم يــراع حكيـــــم في مشــــــارعه
قد التقى بيــــــراع الكـــــاتب الأرب
أي الصحائف في القطرين قد وسعت
رد الإمــــام مزيل الشـــــك والريــب
أيـــــام يحصب هانـــــوتو بفريتـــــه
وجه الحقيـــــقة والإســـلام في نحب
ويبين فضل المؤيد على المسلمين جميعاً، لأن الفقيد جعلها منبراً يدافع عن قضاياهم وتتعارف فيه أرواحهم وتجتمع فيه كلمتهم:
لـــولا المؤيــــــد ظل المســـــــلمون عـــلى
تنــــــاكر بيـــــنهم في ظــــلمة الحجـــــــب
تعـــــارفــوا فيــه أرواحــــاً وضمهــــــــــم
رغــم التنــــــائي زمـــام غير منقضـــــــب
في مصــــر في تونس في الهند في عـــــدن
في الروس في الفرس في البحرين في حلب
هـــــذا يحــــــن إلى هــــــذا وقـــد عقـــدت
مــــودة بيـــــنهـم موصـــــــولة السبـــــــب
وفي رثائه لعلي أبو الفتوح الذي توفي عام 1913م، نجده يرى في المصاب مصاباً لمصر كلها، فيعزيها به ويرثي لها ويطلب منها الصبر للكوارث التي تتوالى عليها بفقدان الرجال، يقول مخاطباً مصر:
جـــل الأسى فتجــــــملي وإذا أبيـــــت فـأجــــملي
يـــا مصر قد أودى فتـــا ك ولا فــــتى إلا عــــلي
قــد مات نابغــــة القضـا ء وغــــاب بـدر المحفـل
وعدا القضاء على القضا ء فصــــابه في المقتــــل
ويح الكنــــــانة ما لهــــا في غمـــــرة لا تنجـــلي
بــــاتــت وكــــارثة تمـر بهـــا وكارثـــــة تلي[5]
ووفاة الشيخ سليم البشري عام 1917م، وهو شيخ الأزهر مرتين، وعالم الحديث الشريف الكبير، مصيبة للمسلمين:
أيدري المســــلمون بمن أصيـبوا وقـــد واروا سـليـــماً في التراب
هـــوى ركن الحديــث فأي قطب لطــــلاب الحقيـــــقة والصـواب
فمـــا في النـــــاطقين فــــم يوفي عزاء الدين في هذا المصاب[6]
ووفاة محمد فريد عام 1919م كارثة على مصر، وعلى الوطنية، ذلك أنه الزعيم الوطني الذي تفانى في خدمة وطنه:
فقدت مصر فريــــداً وهي في موطن يعــــوزهـا فيه المـــدد
فقـــدت مصر فريـداً وهي في لهـــوة الميدان والموت رصد
فقــــــدت منه خبيــــــراً حولاً وهي والأيام في أخذ ورد[7]
وحين مات سعد زغلول عام 1927م، أنشد حافظ في الحفل الذي أقيم لتأبينه قصيدة من غر قصائده:
إيـه يا ليــــل هل شهــــدت المصابــا
كيف ينصب في النفوس انصبابا[8]
لقد صور الكارثة تصويراً بارعاً، وأبرع ما فيه أنها مصاب للأمة كلها، لذلك خرجت تشيع النعش الذي حملته على المدافع لما عجزت عنه الرقاب:
خرجت أمة تشــــيع نعشاً قد حـوى أمة وبحراً عبابا
حمــــلوه على المدافع لما أعجز الهام حمله والرقابا
ويعدد مواقف الفقيد النابعة من نفسه الماضية المقدامة، من شجاعة وصبر ومضاء، وعزيمة تتحدى الصعاب:
كيـــف ننسى مواقفــــاً لك فـينــــا
كنـــت فيــها المهيب لا الهيـــــابا
كنت في ميعــــة الشباب حســاماً
زاد صقــــلاً فرنده حين شــــابــا
عظـــم لو حـــواه كسرى أنو شر
وان يوماً لضـــــاق عنه إهابـــــا
ومضـــــاء يريك حد قضــاء الله
يفــري متنــــاً ويحـــطم نابـــــــا
لم ينهنه من عزمك السجن والنفـ
ـي وســـاجـلتها بمصـر الضرابا
ســـائـلوا سيشـــلاً أأوجس خوفاً
وســــلوا طارقـــاً أرام انسحابــا
عـزمة لا يصــــدها عن مداهــا
ما يصد السيول تغشى الهضابـا
ومصاب سعد مصاب للشرق كله الذي جزع عليه، لأنه أراه القدوة في طلب الحق ومدافعة الظلم والذود عن الحمى:
جزع الشرق كـــــله لعظيـــــــــــم
مـــلأ الشرق كــــله إعجـــــــــابـا
عــــلم الشـــــــام والعــراق ونجداً
كيف يحمى الحمى إذا الخطب نابا
جمـــــع الحـــــق كـــله في كتـاب
واستثـــــار الأسـود غابــاً فغــــابا
ومشى يحـــــمل اللواء إلى الحــــ
ـق ويتـــلو في الناس ذاك الكتـــابا
لقد كان سعد قائداً لمصر كلها، فجمع حوله الأحزاب، ونظم الشيوخ والنواب، وملك الزمام، وخلف من بعده للكنانة أبطالاً أعزة، يسعون إلى مقصدهم الأسنى في إعزاز مصر وبناء علاها وتشييد مجدها الذي يسعد به بنوها وتسعد به الأجيال القادمة:
قد جمعت الأحزاب حولك صفــــاً ونظـــمت الشيــــوخ والنـوابــــــا
وملكت الزمـــام واحتطــت للغـيــ ـــب وأدركت بالأنـــــاة الطلابــــا
ثــم خـلفـــــت بالكنـــــانة أبطـــــا لاً كهـــــولاً أعـــزة وشـبـــــــابــا
قد مشى جمعهم إلى المقصد الأسـ سمى يغـــذون للوصـول الركابـــا
يبتــــنون العـــلا يشيــدون مجـــداً يسعــــدون البنيــــن والأعقـــــابـا
وفي عام 1920م قتل عدد من الطلبة المصريين الذين ابتعثوا للدراسة في أوربا في حادث قطار، فرثاهم حافظ بقصيدة حزينة، وجعل المصاب بهم مصاباً لمصر كلها لا لذويهم فقط، وقد أعانه على ذلك أن الكارثة كانت جماعية، وأن الطلبة قتلوا غرباء عن وطنهم، يقول حافظ:
قطـــف الموت بواكير النــهى فجــنى أجــمل طاقات الزهــر
وعــدا الموت على أقــــمارنـا فتهـــــاووا قمراً بعـــد قـــــمر
في سبيــــل النيـل والعـلم وفي ذمة الله قضى الإثـنــــــا عشـر
نبــــأ قطــــع أوصــــال المنى وأصم السمع منا والبصر[9]
ويتوجع حافظ لمصر وكوارثها المتوالية، ويرى أن كل خطوبها يمكن أن تهون إلا خطبها في أبنائها الذين تعدهم للمستقبل:
ويح مصر كل يوم حادث وبــــلاء ما لهـــا منه مفر
هــان ما تلقــاه إلا خطبها في تراث من بنـيها مدخر
ويشيد حافظ بأعمال محمد عاطف بركات الذي مات عام 1924م، ويعدد أياديه على بلده مصر التي أخلص لها، لذلك كانت المصيبة به كبيرة وكان الفقيد شهيد وطنية وإصلاح، ويأسى لأن النوابغ تقصر أعمارهم، خلافاً للتافهين الذين تمتد أعمارهم وتطول:
يا شهيد الإصلاح غادرت مصراً وهي تجتــــاز هول دور انتقـــال
لو تريثـــت لاستـــطال بك النيـــ ـــل على هذه الخطــوب التــوالي
غيــــر أن الردى وإن كثـر النـــا س حريص على البعيــــد المنـال
كلما قــــــام مصــــلح أعجـــــلته عن منــــاه غوائــــــل الآجـــــال
يخــطف النــــابـغ النبيـــه ويبـقى خــــامل الـذكــر في نعيم وخــال
أيعيش الرئبـال في الغاب جيــــلاً ويمر الغــراب بالأجيــــال[10]
ويختم قصيدته بهذا البيت الذي يعده فيه مصلحاً تبكي عليه الأعمال الجليلة، وقيمة الرجال تقاس بما قدموا لأوطانهم وذويهم من أعمال:
فعلى المصلحين مثلك تبكي ثم تبــــكي جلائــل الأعمال
وهكذا تتسع دائرة الأحزان لدى حافظ إذ يرثي الفقيد، فلا يرى فيه خسارة لأسرته وذويه فحسب، بل للعلم والوطنية والدين والجهاد، وهذا التصوير الشامل للأسى يوسع مساحة الحزن وأعداد المحزونين، ويجعل القصيدة أكثر ذيوعاً وانتشاراً، ويخرج بها من الخصوصية الفردية إلى أفق أوسع وأرحب.
-----------------------
[1] الديوان، ص 458.
[2] الديوان، ص 463.
[3] الديوان، ص 465.
[4] الديوان، ص 486.
[5] الديوان، ص 490.
[6] الديوان، ص 503.
[7] الديوان، ص 511.
[8] الديوان، ص 532.
[9] الديوان، ص 573.
[10] الديوان، ص 576.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق