الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ)
07- محور المبالغة:
مع أن حافظ أجاد في الرثاء إجادة لا مراء فيها فقد كانت تقع في بعض شعره مبالغات غريبة غير مقبولة، وربما كان مرد ذلك إلى طبيعته السهلة التي لا تخلو من سطحية أحياناً، وهو ما جعله ينظر إلى الأمور بأكبر من حجمها، وربما كان مرد ذلك أيضاً إلى حزنه الذي لا يكاد يفارقه، ثم إلى كونه شاعراً يلقي شعره بنفسه بطريقة حية مؤثرة، تجعله يود انتزاع الإعجاب من ناحية والدموع من ناحية أخرى.
في رثائه لعثمان أباظة نجده يبالغ في الحزن ويبالغ في أهمية الفقيد:
أمست تنافس فيك الشهب من شرف
أرض تواريت فيها يا فتى الجـــــود
لو لم تكن سبقتـــك الأنبيــــــاء لهــا
قلنـــا بأنك فيــــــها خيــــــر ملحود
وودت الشمس لو كانت مســـــخرة
لحمل نعشـــك عن هـــــام الأماجيد
والشمس لو أنهـــا من أفقها هبطت
وآثرت معك سكنى القفـــــر والبيد
وقد تمنى الضحى لو أنهم درجــوا
هــذا الفقيد بثــــوب منه مقـــــدود
أبكيت حتى العلا والمكرمات وما
جفت عليك مآقي الخرد الخود[1]
وفي القصيدة التي قالها في رثاء سليمان أباظة، نجده يبالغ مبالغة كبيرة لا يمكن قبولها، إنه يستهل قصيدته قائلاً:
أيهــذا الثــــرى إلام التمــــادي بعـد هذا أأنت غرثان صـــادي
أنت تــروى من مدمع كل يـوم وتغـــذى من هذه الأجســـــــاد
قد جعلت الأنام زادك في الدهـ ـــر وقد آذن الورى بالنفــــــاد
فــالتمس بعده المجـــــرة ورداً وتزود من النجــــــوم بزاد[2]
فهو يلوم الثرى الذي لا يشبع من جثث الموتى، وقد كاد الناس ينفدون وهو لا يزال جائعاً، لذلك يطلب منه أن يلتهم المجرة والنجوم كما التهم الناس.
وحين عاد ثانية إلى رثاء الفقيد نفسه، وقع مرة أخرى في المبالغة العجيبة غير المنطقية التي لا تستساع في قليل أو كثير:
وذروا على نهـــر المدامع نعشــه يســـري به للروضـــة الفيحـــــاء
تــــالله لو عـلمت به أعـــــــــواده مـذ لامستــــه لأورقــــــت للرائي
خلق كضوء البدر أو كالروض أو كالزهر أو كالخـــمر أو كالمــــاء
ومنــــاقب لولا المهـــــابة والتقى قلنــــا منـــــاقب صاحب الإسراء
وعزائم كــانت تفــــــل عزائم الـ أحداث والأيـــــام والأعــــــــداء
شوقتنـــا للتـــرب بعدك واشتهى فيه الإقــــــامة واحد العذراء[3]
فحافظ يجعل الدموع نهراً يحمل الفقيد إلى الروضة الشريفة، والأعواد كانت ستورق لو علمت من تحمل، وخلق الفقيد ضوء وروض وزهر وخمر وماء، ومناقبه قريبة من مناقب الرسول ×، وعزيمته تفل الأحداث والأيام والأعداء، ومقامه في التراب جعل الشاعر يشتاق إليه، بل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام يود أن يقيم فيه.
وفي قصيدته التي قالها في رثاء الملكة فكتوريا عام 1901م، نجده يبالغ في وصف الإنجليز وفي الثناء عليهم:
أعزي القوم لو سمعـــوا عزائي وأعلــن في مليـــكتهم رثـــــائي
وأدعو الإنجـــليز إلى الرضــاء بحـــكم الله جبــــــــار الســــماء
فـــكـل العــــالمين إلى فـنــــــاء
أشمس الملك أم شـــمس النهــار هوت أم تــلك مالــــكـة البحـــار
فطرف الغرب بالعبرات جاري وعيـــن اليـــم تنظـر للبخــــــار
بنظــرة واجـــد قـــــلق الرجـاء
وكنـــت إذا عمدت لأخــذ ثـــار أســـلت البر بالأسد الضــواري
وسّيـــرت المدائن في البحــــار وأمطرت العـــدو شواظ نـــــار
وذريت المعاقل في الهــواء[4]
والقصيدة كلها على هذا النحو العجيب، فالفقيدة شمس الملك وشمس النهار وهي مالكة البحار، والغرب يبكي، واليم محزون خائف، والشاعر لم ير في المعالي علا مثل علا الفقيدة، ولا تاجاً كتاجها، وجنودها يملؤون الأرض، وفي وجهها نور السعود والهناء. والشاعر يعزي في القصيدة العلم الذي ملك الدهور، وجنودها أبطال النزال الظافرين أبداً. إذا غفرت السقطة في رثاء العدو – وهي سقطة فجة لا تغتفر – فما القول في هذه المبالغات العجيبة الغريبة في رثاء من لا تجمعه بالشاعر مودة ولا أخوة ولا نسب ولا دين، ولا أي آصرة من الأواصر التي تجعل شاعراً يحزن لغياب فقيد؟
وفي قصيدته التي قالها في رثاء البارودي وهو أستاذه وقدوته عام 1905م، تطالعنا مبالغة حافظ المعهودة:
لو حنطــــوك بشـــــــعر أنت قــــائله
غنيت عن نفحات المســــك والعــــود
لبيــــك يا خيــــر من هز اليراع ومن
هز الحســـــام ومن لبى ومن نـــودي
أودى المعـــري تقي الشعر مؤمنـــــه
فكـــاد صرح المعـــــالي بعــده يودي
وأوحش الشـــرق من فضل ومن أدب
وأقـفـــر الروض من شدو وتغـــــريد
وأصبــــح الشعــــر والأسماع تنبـــذه
كأنــــه دســـم في جوف ممعـــــــــود
لو أنصفــــوا أودعــوه جوف لؤلـــؤة
من كنز حكمتــــه لا جوف أخـــــدود
وكفنــــوه بــــــدرج من صحـــــائفـه
أو واضح من قميص الصبح مقـــدود
وأنزلـــــوه بــــأفـق من مطــــــــالعه
فــوق الكواكب لا تحـــت الجلاميــــد
ونــاشدوا الشمس أن تنعى محاسنـــه
للشرق والغرب والأمصار والبيد[5]
فالشاعر يدعو أن يحنط الفقيد بشعره، ويكفن بأوراقه أو بكفن يقتطع من الصباح، ويودع في جوف لؤلؤة يكون محلها فوق الكواكب لا في التراب، فهو خير من كتب وحارب، ولبى ساعة العسرة، وهو كالمعري تقي الشعر مؤمنه، والشرق أوحش بعد فقده، والروض أقفر لغيابه، والأسماع زهدت في الشعر ونبذته، وإن على الشمس أن تكون الناعي الذي ينعى البارودي للشرق والغرب والأمصار والبيد.
وفي رثائه للإمام محمد عبده وهو من أجمل شعره وأصدقه وأخلده، وأكثره تعبيراً عن خصائصه النفسية والفنية، نجد مبالغات حافظ الكبيرة، فالناس قد جهلوا قدر الفقيد فدفنوه في الصحراء، وكان ينبغي أن يدفن في أحد المسجدين لتضم خير البقاع خير الرفات:
لقـــد جهــــلوا قدر الإمام فأودعوا تجـــــاليده في موحــــش بفـــــلاة
ولو ضـــرحوا بالمسجدين لأنزلوا بخير بقاع الأرض خير رفات[6]
أما الشهب فإنها تتبادل التعازي فيما بينها:
وشاعت تعازي الشهب باللمح بينها
عن الـنيــــر الهاوي إلى الـفـــلوات
وأما النعش فإنه يختال عجباً بالفقيد:
مشى نعشه يختال عجباً بربه ويخـطر بين اللمس والقبلات
وأما الدموع الجارية فتكاد تحمله:
تكاد الدموع الجارات تقله وتدفعه الأنفاس مستعرات
ويحذر الشاعر الناس من إقامة تمثال للفقيد خوفاً من أن يضل الناس فيعبدوه:
فلا تنصبوا للناس تمثال عبـــده وإن كان ذكرى حكمة وثبـــات
فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا إلى نور هذا الوجه بالسجــدات
وفي قصيدته التي رثى بها مصطفى كامل عام 1908م، نجد حشداً من المبالغات، فهو يطلب من القبر أن يكبر ويهلل ويجثو للفقيد:
أيـــا قبر هذا الضيـــف آمال أمة
فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا[7]
ويدعو النيل إلى أن يجري دماً أحمر ويدعو مصر أن تحفظ عهد الفقيد، وإلا، فليتوقف النيل عن الجريان، وليصب مصر الوهن والانحلال:
فيــا نيـــــل إن لم تجر بعد وفـــاته
دماً أحـــمراً لا كنت يا نيــل جاريا
ويا مصر إن لم تحفظي ذكر عهده
إلى الحشــر لا زال انحــلالك باقيا
وفي قصيدته الأخرى التي قالها في رثاء مصطفى كامل عام 1908م أيضاً، والتي مطلعها:
نثــــروا عليك نوادي الأزهار وأتيت أنثر بينهم أشعاري[8]
وهي من جيد شعر حافظ تلقانا المبالغة التي تظل تتكرر في شعر حافظ، فيوم وفاة الفقيد هو يوم الحشر، والمشيعون يخطون على الثرى سطوراً بدموعهم، وزفيرهم كالشرر، والشاعر كاد يموت بين مراجل الزفير، وبحار الدموع، لو لم يلذ بنعش الفقيد.
وفي قصيدته التي قالها في رثاء سعد زغلول عام 1927م، وهي الأخرى من أجود شعره وأصدقه وأحفله بالأمل والمعاني الوطنية، لا تفارقنا مبالغة حافظ، فهو يطلب من الليل أن يصنع من سواده ثوباً للنجوم والضحى، وأن يلبس الشمس نقاباً أسود:
قــد يا ليــــل من ســـوادك ثـوبــــــاً
للــــدراري وللضـــحى جـلبـــــــابـا
انســج الحالكــــات منــــك نقــــــاباً
وأحب شـــمس النهـــار ذاك النقــابا
قل لها غاب كوكب الأرض في الأر
ض فغيبي عن السماء احتجـــابا[9]
أما إعلان وفاة سعد فهي اللفظة التي قتلت كل حي على الأرض، وغيرت في الوجود، وإنه لأعجب العجب أن تفعل لفظة واحدة كل هذه الحوادث:
كيف أقصدت كل حي على الأر ض وأحدثت في الوجود انقلابا
أما النيل فقد نسي أن يجري لما رأى أحزان الجموع الباكية، في حشد ضخم لم يعرف منذ أيام الفراعنة:
وســـها النيــل عن سراه ذهولاً حين ألفى الجموع تبكي انتحابا
ظن يا سعـــد أن يرى مهرجاناً فـرأى مأتمــاً وحشداً عجــــابـا
لم تســق مثــــله فراعين مصر يوم كـــــانوا لأهلهــا أربابـــــا
وفي رثائه لعبد الحليم العلايلي عام 1932م، يجعل الدموع بحراً تجري فيه السفن، وينبغي لنا أن نلاحظ أن هذا الرثاء قاله حافظ في آخر عمره:
أسال من الدموع عليك بحـراً تكاد بلجه تجري السفين[10]
وفي رثائه للمنفلوطي عام 1924م نجد المبالغة الغريبة المعهودة عن حافظ، وهنا ينبغي لنا أن نلاحظ أيضاً أن هذا الرثاء قاله في أواخر عمره:
جمحت بعدك المعــاني وكانت سلســـات القيــــاد مبتــــدرات
وأقــــــام البيـــان في كل نـــاد مأتماً للبـــــدائع الرائعـــــــات
لطمت مجــدليــــن بعدك خديـ ـها وقامت قيامة العبرات[11]
فالمعاني نافرة غاضبة، والبيان يقيم مأتماً في كل ناد، و ((مجدولين)) تلطم خديها وكتاب ((العبرات)) قامت قيامته.
وإذا كانت مبالغة الشاعر تقبل منه أو تغفر له وهو في شبابه، فإنها لا تقبل منه وهو في أوج نضجه الفني واكتمال موهبته وأداته، لذلك كانت مستغربة خاصة في رثائه للمنفلوطي وزغلول وهو من أواخر شعره، بل في رثائه لعبد الحليم العلايلي عام 1932م وهي السنة التي توفي فيها حافظ.
وعلى كل حال لا يمكن لنا أن نفسر هذه المبالغات في مراثي حافظ بعاطفة كاذبة، يسترها بالمزايدة في البكاء والثناء والإشادة، ذلك أننا نجدها حتى لدى من رثاهم بصدق، وأجاد في رثائهم كسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد عبده، ولكن مردها شخصيته وفطرته وثقافته وإحساسه الدائم بالحزن، فضلاً عن جماهيريته وخطابته، ولاشك أن هذه المبالغة المسرفة تدل على قدر من السذاجة العقلية والعاطفية. وقد لمس الدكتور عبدالحميد سند الجندي هذا الملحظ في شخصية حافظ، وكان موفقاً حين ربط بينه وبين المبالغة في شعره حيث قال: (( وأعتقد أن طبيعة حافظ نفسه قد أذكت من روح هذه المبالغة التي يجري فيها على غبار الأقدمين، لأنه كان رجلاً بسيطاً في خلقه، يسرف في الحب ويسرف في الرضا ويسرف في السخط ويسرف في الحزن ويسرف في الإخلاص، فهو يستدر الدمع المدرار على الفقيد، ويخيل إليه أن هذه الدموع تحمل نعشه، إلى قبره وأن أنفاس الناس تدفعه))[12].
----------------------------
[1] الديوان، ص 445.
[2] الديوان، ص 447.
[3] الديوان، ص 449.
[4] الديوان، ص 450.
[5] الديوان، ص 453.
[6] الديوان، ص 458.
[7] الديوان، ص 463.
[8] الديوان، ص 465.
[9] الديوان، ص 532.
[10] الديوان، ص 557.
[11] الديوان، ص 579.
[12] حافظ إبراهيم شاعر النيل، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1981م، ص 105.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق