الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 06 - أبعاد وطنية


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

06- أبعاد وطنية:


     يحمد لحافظ إبراهيم أنه كان يتخذ من رثائه للقادة والزعماء مناسبة يحسن انتهازها، لإيقاد العزائم وبث الأمل ودعوة الناس إلى الوحدة والتجمع لنصرة الوطن وإجلاء المستعمر عنه وبناء مجده.

     يخاطب مصطفى كامل بأن صوته لا يزال يدوي، مهيباً بأبناء مصر أن يتجمعوا وألا يهدموا ما شاد من بناء، ويجيبه بأن الناس على العهد يسمعون صوته ويستجيبون لنصحه ويحفظون بناءه:

شهيــــد العلا لازال صوتك بيننـــا
               يـرن كما قــد كان بالأمس داويــــا
يهيــــب بنــــا هذا بنــــاء أقمتــــه
               فلا تهـــدموا بالله ما كنت بانيــــــا
يصيـــح بنا لا تشعروا الناس أنني
               قضيــــت وأن الحي قد بات خاليـا
ينــــاشدنـا بــالله ألا تفـرقــــــــــوا
               وكونوا رجالاً لا تسروا الأعاديـــا
فـروحي من هذا المقــــام مطــــلة
               تشـــارفكم عني وإن كنت بـاليـــــا
فـلا تحزنــوها بالخــــلاف فــإنني
               أخاف عليكم في الخلاف الدواهيــا
أجـــل أيها الداعي إلى الخير إننـــا
               على العهد مادمنا فنم أنت هانيا[1]

     وفي القصيدة التي قالها على قبر مصطفى كامل لإحياء ذكرى وفاته الأولى عام 1909م، نرى حافظ يحسن الوصول إلى إيقاد العزائم في تصوير درامي مؤثر، يحدثنا فيه عن فؤاده الذي يرى روح الفقيد الجليلة، ومحياه الذي يبتسم، ثم يطلب من أبناء مصر أن يغضوا من أبصارهم إجلالاً له، ويحيوه من قلوبهم إن أعوزهم الكلام، ويذودوا عن مبادئه التي مات دونها:

إني أرى وفــؤادي ليــــس يكذبني
               روحـــاً يحف به الإكبار والعظــم
أرى جـــلالاً أرى نوراً أرى ملكاً
               أرى محيـــــاً يحيينـــــا ويبتســــم
الله أكبــــر هذا الوجــــه أعرفــــه
               هذا فتى النيــــل هذا المفرد العــلم
غضــوا العيــــون وحيـوه تحيــته
               من الـقــــلوب إذا لم تسعــــد الكلم
وأقســــموا أن تذودوا عن مبــادئه
               فنحن في موقف يحلو به القسم[2]

     ثم يجيب الفقيد على لسان أبناء مصر بأنهم وافون لعهده، مستمرون على طريقه في عزيمة وإصرار:

لبيك نحن الألى حركت أنفسهم     لمــــا سكنت ولما غــالك العدم
جئنا نؤدي حسابــاً عن مواقفنـا     ونســـتمد ونستعدي ونحتــــكم

     ويعتز حافظ بمصر التي لا يطوى علمها والتي تطوي الأمم الغازية لها لأن الله عز وجل يحميها ولأنها به تعتصم، ويؤكد للفقيد أن المصريين على ما يعهده حتى يسودوا وتشهد الأمم بذلك ويفرح النيل ويختال الهرم:

ماذا يريدون لا قــرت عيونهم
               إن الكنــــانة لا يطوى لها علم
كم أمة رغبت فيها فما رسخت
               لها على حولها في أرضها قدم
ما كان ربك رب البيت تاركها
               وهي التي بحبــال منه تعتصم
لبيـــك إنا على ما كنت تعهـده
               حتى نسود وحتى تشــهد الأمم
فيعلم النيل أنا خيـر من وردوا
               ويستطيل اختيــــالاً ذلك الهرم

     ويطلب من النشء الجديد أن يسيروا على طريق الفقيد لأن في كل واحد منهم مصطفى جديداً لو عزم وجد:

يا أيها النشء سيروا في طريقته     وثابروا رضي الأعداء أو نقموا
فكــلكم مصطفى لو سـار سيرته     وكلكم كامل لو جـــــازه الســقم

     ويختم القصيدة بهذين البيتين الجميلين يدعو فيهما الفقيد أن ينام هانئاً لأن الناس بعده في يقظة، والشمل ملتئم و ((لواء)) الفقيد خفاق، وشخصه ماثل في قلوب الناس:

نم أنت يكفيك ما عانيت من تعب     فنحن في يقــــظة والشمل ملتئــم
هـــذا لــواؤك خفـــاق يظللـنـــــا     وذاك شخصك في الأكباد مرتسم

     وفي رثائه لمحمد فريد يطلب منه أن يرغب إلى سلفه مصطفى كامل أن ينام في غبطة لأن ما غرسه استوى على سوقه، ويحمل إليه البشرى بذلك ويؤكد له أن مصر لن تحيد عن طريقها الذي أراده لها:

قـل لصب النيـــــل إن لاقيـــــــتـه     في جـــوار الـدائـــــم الفرد الصمد
إن مصــــــراً لاتني عن قصـــدها     رغم ما تـــلقى وإن طــــــال الأمد
جئـــــت عنـها أحـمل البشرى إلى     أول البـــــانين في هــــــــذا البـــلد
فاستــــرح واهنـــــأ ونم في غبطة     قد بذرت الحب والشعب حصد[3]

     وفي قصيدته الرائعة التي قالها في سعد زغلول، يحسن حافظ إيقاد العزائم، ويبشر بمواصلة الجهاد، ويتحدى الإنجليز، يقول عن استمرار الجهاد بعد الفقيد:

ليت سعـــداً أقـــــــام حتى يرانـــا
               كيف نعلي على الأساس القبــــابـا
قد كشـــــفنــا بهديه كل خـــــــاف
               وحسبنـــا لكل شيء حســـــــــابـا
حجــــج المبطلين تمضي سراعـاً
               مثـــلما تطــــلع الكؤوس الحبـــابا
حين قـــــال انتهيت قلنـــــا بدأنــا
               نحمل العبء وحدنا والصعابا[4]

     ويتجه إلى الإنجليز بأبيات قوية وثابة يتحداهم فيها، أن يجدوا من أبناء الوطن رجلاً حراً يتعاون معهم حتى لو حبسوا الشمس ومنعوا الماء والهواء والطعام، ويحذرهم من أن يتوهموا أن وفاة سعد سوف تضعف الوطن، ذلك أن الليوث فيه تتنزى غضباً فداء له إذا أهاب بها ودعاها:

فاحجبوا الشمس واحبسوا الروح عنا
               وامنعــــونـــا طعـــامنـا والشرابـــــا
قــد ملكـتــــم فــم السـبيــــل علـيــــنا
               وفتحـتـــــــــم لكـــل شعــــواء بـابــا
وأتيــــــــــتـم بالحائمـــــات تـــرامى
               تحـــــمل المــوت جـاثمـاً والخرابـــا
وملأتــــم جوانـــب الـنيــــل وعــــداً
               ووعـيـــــــداً ورحــــــمة وعـذابـــــا
هل ظفـــــرتم منــــا بقـــــــــلـب أبي
               أو رأيتــــم منـــــا إلـيـــــكم مثـــــابـا
لا تقــــــولـوا خـــــلا العريــــن ففيـه
               ألف لـيــــث إذا العريــــــن أهابــــــا
فاجمعـــــوا كيـــدكم وروعوا حمـاها
               إن عنـــد العـــرين أســــداً غضـــابـا

     وفي القصيدة التي قالها في رثاء الطلبة المصرين الذين قتلوا في حادث قطار في أوروبا، نجده يختمها بأربعة أبيات يدعو فيها شباب النيل ألا تقعد به الكارثة عن طلب العلا، وأن يكون مقداماً راكباً للمخاطر طالباً للعلم تاركاً للحذر والإحجام:

أي شبـــــاب النيل لا تقعد بكم
               عن خطير المجد أخطار السفر
إن من يعشق أسبــــاب العــلا
               يطرح الإحجــام عنه والحــذر
فاطلبــوا العـــــلم ولو جشمكم
               فــوق ما تحـــمل أطواق البشر
نحـن في عهــــد جهــــاد قـائم
               بين موت وحيــــاة لم تقـر[5]

     وفي رثائه لمحمد عاطف بركات، يدفع عن مصر تهمة العجز والعقم ويدعو إلى فتح الميدان أمام شبابها الذين يمشون في القيود، وإلى تحطيم هذه القيود، ويطالب الشرق أن يجد كما جد الغرب:

لم تـكن مصـــر بالعقـيــــــم ولكن
               قـد رماهــــا أعـداؤهــا بالحيــــال
أفســـحوا للجيــــاد فيــها مجــــالاً
               قد أضر الجياد ضيـــق المجــــال
أصبحت في القيود تمشي الهوينى
               كسفين يعبــــــرن مجرى القنـــال
فاصدعــــوا هذه القيــود وخــــلـو
               ها تباري في السبق ريح الشــمال
عرف الغرب كيف يستثمـر الجــد
               فيــــبني بفضـــــله كـــــل غــــال
ودرى الشرق كيف يستمرئ اللهـ
               ـــو فيفضي بــــه إلى شــر حـــال
فاتركوا اللهو في الحيـــــاة وجدوا
               إن في اسم الرئيس أيمن فــال[6]

     إن توظيف المصيبة من أجل إيقاد العزائم عمل إيجابي محمود لحافظ، نراه فيه مبشراً بالمستقبل، وحاثاً على الجهاد، وداعياً إلى العلم، ومحذراً من القنوط، ومهيباً بجمع الكلمة، وهذه معان نبيلة وكريمة، ومن أحسن ما يعمل لها مصلح أو يدعو إليها زعيم وهي أيضاً تتجاوز دائرة السلبية والأحزان والتهويمات الحائرة لتجعل للشعر دوراً وطنياً بانياً.

     على أن هذا البعد الوطني المحمود في مراثي حافظ، لا يجعلنا نغفل عن سقطتين مستنكرتين جاءتا في مراثيه. الأولى[7] أنه رثى فكتوريا ملكة إنجلترا حين توفيت عام 1901م، وبالغ فيما قاله عنها، وعزى ذويها، وعلمها، وأشاد بقوة دولتها وسعة سلطانها وغلبة جيوشها، والحقيقة أن هذا العمل من حافظ سقطة لا تقبل مهما قيل عن تسامحه الديني وبراءته من التعصب.

     أما الثانية فأخذ في نظمها لما بلغه أن جورج الخامس ملك إنجلترا قد توفي، وقد وقف جامعو ديوانه منها على هذين البيتين فقط:

إن الـذي كــانت الدنيــــــا بقبضتــــــه
               أمسى من الأرض يحويــــه ذراعـــان
وغــــــاب عن ملكه من لم تغـــب أبداً
               عن ملكه الشمس من عز وسلطان[8]

     وهذه سقطة أخرى لحافظ في باب الرثاء لا تغتفر قط، ولا يمكن التماس العذر له فيها بحال. عجباً لأمر حافظ المسلم المصري الوطني الطيب، كيف عميت بصيرته وخانه ذكاؤه فرضي أن يرثي عدو بلاده، الذي يعتدي على دينها، ويحتل أرضها، ويبطش بأحرارها، ويسرق خيراتها؟

     وهاتان السقطتان الشائنتان، تذكرنا بسقطات أخرى لحافظ في غير ميدان الرثاء، وهي سقطات شائنة أيضاً، لا يمكن التماس العذر له فيها قط، ولا يخفف من بشاعتها ما عرفنا عنه من طيبة وصدق ووطنية وحب عميق لدينه وبلاده.

     في عام 1902م يهنئ حافظ ملك بريطانيا إداورد السابع، الذي خلف الملكة فكتوريا بعد وفاتها، فيقول فيه قصيدة من أربعة وعشرين بيتاً، مطلعها:

لمحتُ من مصر ذاك التاج والقمرا
               فقـلت للشعر هذا يوم من شعرا[9]

     وللقارئ الكريم بعض أبيات هذه القصيدة ليحكم بنفسه ومن خلال تعامله معها مباشرة، على موقف حافظ الشائن فيها:

يا دولـــة فــــوق أعلام لها أســـــــد
               تخـــــــشى بوادره الدنيــــا إذا زأرا
يؤول عرشـــك من شــمس إلى قمر
               إن غابت الشمس أولت تاجها القمرا
مـن ذا ينــــاويك والأقــدار جــارية
               بما تشــــائين والـدنيـــا لمن قــــهرا
إذا ابتســـمت لـنــــا فالدهر مبتســـم
               وإن كـشــرت لنــــا عن نابه كشــرا
الـيــــوم يشــــرق إدوار على أمـــم
               كأنهــــا البحــــر بالآذي قد زخـــرا
إدوار دمت ودام المــلك في رغــــد
               ودام جنـــدك في الآفـــــاق منتصرا
هم يذكرونــــك إن عدوا عدولهــــم
               ونحن نذكر إن عـــــدوا لنا (عمرا)

     إن موقف حافظ هذا هو إسفاف بالغ، وذعر شديد، وخطل في الرأي، وهو ما جعله يهنئ تلك الدولة التي تحتل بلاده، ظلماً وعدواناً، ويبلغ الأمر منتهى السوء حين يقارن بين إدوارد السابع هذا، وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيجعلهما مثالين للعدل. إن عمر بن الخطاب من أعظم رجال الإسلام، بل من أعظم رجال الدنيا كلها، عدلاً وإخلاصاً وزهداً وذكاء وابتكاراً، وهو يحتل في وجدان كل مسلم مكانة كبيرة جداً، وحافظ من هؤلاء المحبين له، المعجبين به، وهو من نظم فيه قصيدته المطولة المشهورة، ومع ذلك يسف فيجعل من إدوارد السابع نداً له في العدل !!!.

     وفي عام 1906م تحدث فاجعة دنشواي، وهي فاجعة دلت على وحشية المحتل الإنجليزي، وقسوته، واستهتاره بأدنى مقومات العدالة، وهو ما دفع عدداً من أحرار الإنجليز إلى إدانتها، مثل برناردشو. وقد كان موقف حافظ فيها عجباً من العجب.

     ويحمد لوطنيي مصر يومذاك توظيفهم الحادثة توظيفاً إيجابياً لتعرية الاحتلال الإنجليزي وفضح ممارساته، وإهاجة الشعور الوطني، وقد تولى أكبر الجهد في ذلك مصطفى كامل، وقصيدة حافظ في هذه الفاجعة تحسب عليه ولا تحسب له، فقد كان فيها ضعيفاً خائراً مستجدياً، علماً أنه قالها في أوج قوته حيث كان في العقد الرابع من عمره، وفي الفترة التي كان فيها عاطلاً مشرداً ليس له وظيفة يخاف عليها، يقول حافظ مخاطباً الإنجليز:

أيهــــا القــــــائمون بالأمر فيـنــــــا
                هل نسيـــــتم ولاءنـــــــا والـــودادا
لا تظنـــــوا بنــا العقــــوق ولكــــن
                أرشـدونـــا إذا ضللنـــا الرشــــــادا
جـــاء جهـــــالنا بــأمر وجئتــــــــم
                ضعف ضعفيه قسوة واشتدادا[10]

     وهو حديث غريب مردود لا يليق بحافظ أبداً، يذكر فيه المحتلين بالمودة والولاء، ويطلب منهم الإرشاد الذي يقي من الضلال والعقوق، ويجد سبباً للربط بين أهل دنشواي المنكوبين وبين الطغاة الباطشين الذين يطالبهم بحسن القصاص إن لم يتكرموا بالعفو:

أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو     أقصـــاصاً أردتم أم كيــــادا
أحسنوا القتل إن ضننتم بعفو     أنفوســـاً أصبتـــم أم جـمادا

     ويصف أمة النيل بأنها أمة تحتاج من المحتل إلى إكرام، ذلك أنها استكانت إلى اليأس وأشفقت من الصراع، وليس لها إلا الحسرة والكلام:

أكرمونا بأرضنــا حيث كنتم     إنما يكــرم الجــــواد الجوادا
إن عشــرين حجة بعد خمس     علمتنــا السكون مهما تمادى
أمة النيـــل أكبرت أن تعادي     من رماها وأشفقت أن تعادى
ليس فيـــها إلا كــــــلام وإلا     حسرة بعد حســــرة تتهـادى

     والحقيقة أن الشاعر في هذه القصيدة زل زلة لا تليق به بحال، ولو سكت لكان أليق به. وإذا كان حافظ قد أحسن في السخرية من المدعي العمومي إبراهيم الهلباوي لموقفه المخزي في هذه القضية، فلعل السبب أنه لم يهبه كما هاب الإنجليز الذين ظل يخافهم ويخاف عميدهم اللورد كرومر، لذلك نجده يزل زللاً لا يغتفر في القصيدتين الأخريين المتصلتين بحادثة دنشواي، الأولى: هي استقباله اللورد كرومر عند عودته من مصيفه بعد حادثة دنشواي ومطلعها:

قصــــر الدبارة هل أتاك حديثـــــنـا
               فالشرق ريع له وضج المغرب[11]

     ويخاطب هذا القصر الذي كان يمثل سطوة الاحتلال وجرائمه، لأن كرومر كان يقيم فيه، ثم يخاطب كرومر فيقول للقصر، ثم لساكنه كرومر:

أهـــلاً بســــاكنك الكـريم ومرحباً     بعـــد التحيـــة إنني أتعتــــــــــب
علمتنـــا معنى الحيـــــاة فما لنـــا     لا نشـــرئب لهـــا ومالك تغضب
رفقــــاً عميــــد الدولتيــــن بــأمة     ضاق الرجاء بها وضاق المذهب
رفقـــــاً عميـــد الدولتيــــــن بأمة     ليســـت بغيــــر ولائهــا تتعـذب
كن كيف شئت ولا تكل أرواحنــا     للمستشــــار فــإن عدلك أخصب
فاجعـــل شعـــارك رحمة ومودة     إن القــــلوب مع المودة تكســـب

     والثانية: هي التي قالها في وداعه، وفيها يثني على اللورد المسافر ثناء عجيباً غريباً، إن لم يكن هو الملق بعينه فهو الخطل بعينه وأسوأ:

سنــطري أياديك التي قد أفضتـها
                علينا فلســـــنا أمة تجحــــد اليــدا
وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا
                وتدفع عنا حـــادث الدهر إن عدا
فيــــا أيها الشيخ الجليــــــل تحية
                ويا أيها القصر المنيــــف تجــلدا
لئن غاب هذا الليث عنــــك لعلة
                لقد لبثت آثــــاره فيك شهدا[12]

     غفر الله تعالى لحافظ هذا السقوط الشائن الذي لا يمكن قبوله بحال، وياليته إذا خانته شجاعته اعتصم بالصمت، والصمت هنا وإن كان عيباً أهون بكثير من النفاق والخطل.

     هذا وقد حاول أستاذنا الجليل الدكتور شوقي ضيف أن يلتمس لحافظ عذراً في موقفه من اللورد كرومر، بأن ذلك لم يكن موقفه وحده، بل كان موقف الطبقة الممتازة من المصريين يومذاك التي كانت تداري الإنجليز[13]، واعتذار الأستاذ الجليل مردود لأن خطأ الإنسان لا يمكن الدفاع عنه بوقوع الآخرين فيه، فالخطأ خطأ سواء كان فردياً أم جماعياً.

     وهذا الموقف المخزي لحافظ نراه يتكرر بشكل آخر بعد قرابة عقد من الزمان، ففي عام 1915م تعين إنجلترا السير مكماهون معتمداً لها في مصر، فيحييه حافظ بقصيدة مطلعها:

أي مكمهــــــون قــدمت بالـ     قصد الحميد وبالرعاية[14]

     وفيها يشيد حافظ بالإنجليز، ويجعلهم أنبل الناس، ورواد الإصلاح أنى حلوا:

أنتــــــم أطباء الشعــــو     ب وأنبـل الأقوام غـاية
أنى حللتـــــم في البـــلا     د لكم من الإصلاح آية

     وفي العام نفسه يطلب حافظ من سلطان مصر يومها، السلطان حسين كامل، في قصيدته التي هنأه فيها بالسلطنة، أن يوالي الإنجليز، ويمضي يعدد ما يدعي أنها مآثر لهم:

ووال القــــوم إنهــم كــــــرام     ميـــــامين النقيــــبة أين حـلوا
لهم ملك على التاميز أضحـت     ذراه على المعــــــالي تستـهل
وليس كقومهم في الغرب قوم     من الأخـلاق قد نهلوا وعلــوا
فـإن صـــادقتهم صدقـوك وداً     وليــــس لهم إذا فتشت مثـــل
وإن شــــاورتهم والأمر جـــد     ظفـــرت لهم برأي لا يــــزل
وإن نـــاديتهم لبـــاك منـــــهم     أســـاطيل وأسيــــــاف تســل
فمـاددهم حبـــال الود وانهض     بنا فقيـــادنا للخير سهل[15]

     إن زلاّت حافظ هذه زلات شائنة لا يمكن قبولها بحال، ولكنها لا تلغي حسناته المعروفة المقررة، ومن شأن البحث العلمي النزيه أن يذكر للإنسان جوانبه جميعاً المحمودة والمردودة.

     على أن أهم ما ينبغي أن يقال هنا، هو أن نحترس من الأحكام الأدبية التي يغلب عليها التعميم والإطلاق، ومن خلال هذا الاحتراس المطلوب يمكن لنا أن نرد الحكم الأدبي الشائع عن حافظ، بأنه كان – دائماً – شاعر الوطنية، وضمير الشعب، والشجاع الذي يواجه الإنجليز من ناحية، والقصر من ناحية، دون تردد أو وجل، ولقد رأينا مواقفه من الاحتلال الإنجليزي بصورتيها، أما مواقفه من القصر فهي على خلاف الشائع عنه، لقد تمنى أن تكون له مكانة في القصر مماثلة لمكانة شوقي، التي كان يحسده عليها، وبذل جهوداً في ذلك شعراً ومواقف، لكنه لم يوفق إلى ما يريد، وبلغ في ذلك مبلغاً مسفاً، حين أعلن على رؤوس الأشهاد أنه يريد أن يقبل يد الخديوي عباس. فقال:

إلى ســــدة العبــــاس وجهت مدحتي
               بتهنــــــئة شوقيـــــة النســــج معطار
مليـــــك أبـــــاح العيـــد لثم يميـــــنه
               وياليت ذاك العيد يبسط أعذاري[16]

-------------------------
[1] الديوان، ص 463.
[2] الديوان، ص 474.
[3] الديوان، ص 511.
[4] الديوان، ص 532.
[5] الديوان، ص 573.
[6] الديوان، ص 576.
[7] الديوان، ص 450.
[8] الديوان، ص 562.
[9] الديوان، ص 18.
[10] الديوان، ص 334.
[11] الديوان، ص 336.
[12] الديوان، ص 340.
[13] دراسات في الشعر العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1974م، ص 16.
[14] الديوان، ص 396.
[15] الديوان، ص 67.
[16] الديوان، ص 11.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة