الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 05 - الحكمة


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

05- الحكمة:


     يلاحظ الدارس أن الحكمة قليلة ونادرة في مراثي حافظ، علماً أن المراثي مكان مناسب لاستدعاء الحكمة، لأنها تتصل بالموت والقبر والآخرة، والخير والشر، وتلاقي الفقير والغني، والظالم والمظلوم، والشقي والسعيد، وما إلى ذلك مما يثير التأمل، والتأمل باب الحكمة الواسع.

     ولعل السبب أن حافظ كان صادقاً مع نفسه في مراثيه، يرسلها على سجيتها، والمعروف أنه كان شخصاً طيباً بسيطاً واضحاً لا يتكلف ولا يتعمق، ولذلك وصفه الدكتور طه حسين بحق بأنه ذو طبيعة ((يسيرة جداً لا غموض فيها ولا عسر ولا التواء، وهذا اليسر هو الذي يحببها إلينا، وهو الذي يجعلها في الوقت نفسه فقيرة قليلة الحظ من الخصب والغنى))[1]. ولذلك كان يبكي من يرثيهم بكاء صادقاً تظهر فيه نفسيته على حقيقتها، يحزن فيرثي ويبكي وتشغله أحزانه الصادقة، وشخصيته السهلة المحدودة عن الحكمة والفلسفة، وعن التعمق، والنظر إلى ما وراء الموت. من أجل ذلك كان الصدق يشيع في مراثيه إلى جانب السهولة واليسر، فيتأثر بها القارئ، ويفهمها في آن واحد، يضاف إلى ذلك أن حافظ كان مؤمناً وفي إيمانه تسليم وتفويض ورضا، يجعله لا يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن الموت وما بعده.

     وليس في مراثيه إلا نثار محدود جداً من الحكمة تقع بين الحين والآخر وهي إلى قلتها سهلة قريبة. يقول في شكوى الدنيا وهو يرثي سليمان أباظة:

لم تـــلدنا حواء إلا لنشــــــقى     لـيتـــــها عـــاطل من الأولاد
أســلمتــنا إلى صروف زمان     ثم لم توصنا بحفظ الوداد[2]

     وفي رثائه لمصطفى كامل نعثر على هذا البيت الذي يقدم لنا حكمة قريبة ساذجة كصاحبها القريب الساذج:

يموت المداوي للنفوس ولا يــرى     لما فيه من داء النفوس مداويا[3]

     وفي قصيدته التي قالها في رثاء تولستوي، يشيع نفس فلسفي، خاصة حين يتحدث المعري إلى تولستوي، فنقع على بعض الحكم، كتلك التي يجعل المعري الدنيا فيها حرباً وتناحراً خلافاً لما يريده تولستوي من شيوع السلام فيها:

حيــــاة الورى حـــرب وأنت تريــدها
               ســــلاماً وأسبــــاب الكـفـــاح كثيــــر
أبـت سنـــــة الـعمـــــران إلا تنــاحراً
               وكدحـــاً ولو أن الـبقــــــاء يســــــيـر
تحـــــاول رفـــع الشر والشر واقــــع
               وتطلب محض الخير وهو عسير[4]

     ووجود الخير والشر في الدنيا دليل على عظمة الله تعالى فهو قد جعلها دار ابتلاء، ولذلك جاء النبيون بالهدى، وتطلع إلى الحكم الأمراء، وعشق الأحرار المجد، وساد الكرام، ورجا الفقراء الغنى:

ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم     دليــــل على أن الإلــــــه قديــــر
ولم يبعــــث الله النبيـين للهـــدى     ولم يتطــــــلع للسريـــــر أميـــر
ولم يعشق العلياء حر ولم يســــد     كريم ولم يـــــرج الثراء فقيـــــر

     ووجود الشر نفسه سبب من أسباب وجود الخير، ووجود الخير نفسه سبب من أسباب وجود الشر، ثم إن ذلك يميز همم الناس وصدق توجهاتهم، فضلاً عن أنه سبب لانبلاج النور والدعوة إلى الله:

ولو كان فينا الخير محضاً لما دعا
               إلى الله داع أو تبـــــــــــــلج نـــور
ولا قيـــل هذا فيـــــلسوف موفـــق
               ولا قيـــل هذا عــــــــــالم وخبيـــر
فكم في طريق الشــــر خير ونعمة
               وكم في طريق الطيبـــــات شـرور

     والظلم في الدنيا أصيل عريق، وباق مستمر لا يزول، وحلقة تتبعها أخرى، لذلك إذا هدمت له دور شيدت له دور أعلى:

إذا هدمت للظلم دور تشيدت     له فوق أكتـاف الكواكب دور

     والأذى في الناس سوف يبقى لا يصده قول الأنبياء، والفتن في الحياة ستظل قائمة لا يردها منذر أو محذر:

وما صد عن فعل الأذى قول مرسل
            ومـا راع مفتـــــون الحيــــاة نذيـــر

     وفي رثاء حافظ لسعد زغلول نقع على بيت في الحكمة، يبين فيه الشاعر سطوة القضاء الذي لا يبالي بمن يفتك به:

والمقادير إن رمت لا تبـالي     أرؤوساً تصيب أم أذنابا[5]

     وفي رثائه لابنة البارودي يخاطب الأب المفجوع مبيناً له أن التراب هو ملتقى الناس على اختلاف منازلهم:

هذا التراب – وأنت أعلم  ملتقى     هذا الورى من ســوقة وملوك[6]

     ويخاطب شباب النيل في رثائه للطلبة الذين ذهبوا في حادث قطار في إيطاليا، فيطلب منهم الشجاعة والإقدام، لأن للمعالي ثمنها الباهظ:

إن من يعشـــق أسبـــــاب العلا     يطــرح الإحجـــام عنه والحـذر
فـاطلبـــوا العـــلم ولو جشــمكم     فوق ما تحمل أطواق البشر[7]

     وفي رثائه لمحمد عاطف بركات، يقرر أن كل شيء إلى زوال، وأن كل شيء يرجى، إلا الخلود فإنه لله عز وجل:

كل شيء إلا التحية يرجى     فهي لله والدنا للزوال[8]

     وفي رثائه لأحمد حشمت، يخبرنا أنه قد ضاق بالحياة، ولا غرابة فإن الأحبة جمال الحياة فإذا ذهبوا ذهب:

قد ضقت ذرعاً بالحياة ومن     يفقد أحبته يضق ذرعــا[9]

     وفي القصيدة نفسها نعثر على بيت يتضمن حكمة تنبض بالحرارة والحرقة والأسى، حيث يصور أن الحر ربما عابه من هم أدنى منه بكثير، وكأنه يريد بذلك نفسه:

ولرب حــــر عـــابه نفر     لا يصلحون لنعله شسعا

     ومن هذا الاستعراض يظهر بوضوح أن الحكمة في مراثي حافظ قليلة جداً، وأنها على قلتها ساذجة سهلة قريبة، وهي لا تشغل العقل، ولا تستثير الوجدان، ولا تفتح لدى المرء أبواب التأمل والتدبر، ومرجع ذلك شخصيته بكل أبعادها الفطرية والثقافية، وإيمانه الراضي العميق.

     يقول الأستاذ محمد إسماعيل كاني وهو أحد أقرباء الشاعر في مقدمته للديوان: ((ومن المظاهر الواضحة في طبيعة حافظ أيضاً أنها طبيعة قلقة لا تستقر على حال، كما أنها طبيعة جادة في تناوله الشعر وتخير الأبواب الجادة منه في بساطة نفس، أدت إلى بساطة في الأسلوب وبساطة في العرض وبساطة في التناول بغير عمق ولا تعسير))[10]. وشهادة قريب الشاعر وهو المحب له، المعجب به، المدافع عنه، الذي يبالغ في الثناء عليه، شهادة قوية تدل تمام الدلالة على شخصية حافظ، وأثر هذه الشخصية على شعر صاحبها، وعلى حكمته الساذجة القريبة السطحية. حافظ الشاعر هو حافظ الإنسان، سماحة وبساطة ووضوحاً، وبعداً عن التكلف والتعمق، وهو ما جعل الحكمة عنده نادرة، وهي مع ندرتها قريبة سهلة، تفهم بيسر ولكنها لا تنتزع الإعجاب.

     وحين أخذ الدكتور أحمد هيكل يعدد الآثار السلبية لشعر المناسبات والمحافل – وحافظ واحد من أبرز فرسان هذا الميدان – ذكر منها غياب الأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، واتضاح شخصية الشاعر ولون نظرته إلى الحياة والكون، يقول:((وقد جرت هذه الظاهرة السيئة كذلك – ظاهرة المناسبات والمحافل – إلى عدة ظواهر سيئة أخرى تفرعت عنها أيضاً، من أبرزها إهمال جوانب فنية كثيرة تأتي وراء الصياغة وأسر الأسلوب وروعة الموسيقى، ومن أهم هذه الجوانب جانب الأفكار الدقيقة والتجارب النفسية العميقة واتضاح شخصية الشاعر وطبيعته، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس وإضافاته الخلاقة إلى كل ما يتحدث عنه))[11]. وقد أصاب هذا العيب مراثي حافظ إصابة كبيرة في جانب حكمته التي هي أهم مظان هذا المطلب العزيز، لذلك كانت قليلة فقيرة ساذجة.

--------------------------
[1] حافظ وشوقي، ص 176.
[2] الديوان، ص 447.
[3] الديوان ص 463.
[4] الديوان ص 478.
[5] الديوان ص 532.
[6] الديوان، ص 560.
[7] الديوان، ص 573.
[8] الديوان، ص 576.
[9] الديوان، ص 580.
[10] مقدمة الديوان، ص 32.
[11] تطور الأدب الحديث في مصر، ص 145.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة