الأحد، 26 سبتمبر 2021

كتاب الرثاء في شعر البارودي وشوقي وحافظ - الفصل الثاني - 04 - الموقف الديني


الفصل الثاني
(الرثاء في شعر حافظ) 

04- الموقف الديني:


     كان حافظ عميق الإيمان، كثير الاعتزاز بالإسلام، شديد الغيرة عليه، ولابد أن محبته للعرب والعروبة، وغيرته على اللغة العربية إنما هي ثمرة من ثمرات ولائه الإسلامي، وقصائده في عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي اللغة العربية، وفي عبدالحميد الخليفة العثماني، وأيا صوفيا، تظهر ذلك بوضح وجلاء.

     وثقافة حافظ هي ثقافة عربية إسلامية خالصة، ودائرتا العروبة والإسلام في مصر دائرتان متداخلتان، خلافاً لما يبدو أحياناً في بلاد الشام من تناقض بين هاتين الدائرتين بسبب الغلو القومي المنحرف.

     ومن ولاء حافظ لإسلامه، ومن وطنيته وعروبته المتصلتين بالإسلام، ومن ثقافته العربية والإسلامية، ومن صلاته بعدد من كبار شخصيات العصر من ذوي التوجه الديني مثل محمد عبده ومصطفى كامل، برز الموقف الديني في شعره بصور وأشكال مختلفة، لكنها في النهاية تجتمع لتؤكد ولاء الشاعر وتوجهه العام، وليظهر أثر ذلك في مراثيه.

     لذلك تظل الرموز والإشارات والمعاني الإسلامية في مراثي حافظ تطل عليك حيث اتجهت من دعاء للميت، وترحم عليه، وتبشير ذويه بالجنة، ودعوتهم إلى الصبر، والإشادة بأخلاق الميت التي ترضي الله U وما إلى ذلك.

     في آخر قصيدته التي رثى بها عثمان أباظة يقول حافظ مخاطباً ذوي الفقيد، داعياً لهم بالثواب، ومبشراً إياهم بأن فقيدهم في رحمة الله، وهو ما ينبغي أن يدعوهم للطمأنينة:

وعظـــم الله في عثــــمان أجــــركم
               في رحمة الله أمسى خير مغمود[1]

     وفي رثائه لسليمان أباظة، يخاطب حافظ الفقيد ليبشره بالجنة، ويقارن بين حاله التي ترفل بالنعيم، وحال من بعده الملأى بالأحزان:

بت في حــــلة النعيـــم وبتـــنا     في ثيــاب من الأسى والسهاد
وسكنت القصور في بيت خلد     وسكنــا عليك بيت الحداد[2]

     وحتى في رثائه للملكة فكتوريا دعا الإنجليز إلى الرضا بأمر الله فالموت سنته الجارية على الجميع:

أعزي القوم لو سمعوا عزائي     وأعلن في مليـــكتهم رثــــائي
وأدعو الإنجليز إلى الرضــاء     بحـــكم الله جبــــار الســـمـاء
فكـل العـالمين إلى فنـــاء[3]

     وحين رثى عبدالحليم المصري، دعاه إلى أن يسامر في الدار الآخرة أبا بكر رضي الله عنه، في إشارة لطيفة منه إلى قصيدته فيه، وبشره بالجنة وهنأه بها:

فســــامر أبـــا بكر هنــــــاك فإنــــه
               سيظفــــر في عـــدن بخير مســـامر
هنيئـــــاً لك الدار التي قد حـللتـــــها
               وأعظم بمن جاورته من مجاور[4]

     وفي قصيدته التائية الشهيرة التي قالها في رثاء الإمام محمد عبده، نجد الروح الدينية واضحة جلية، فحزنه على الفقيد الذي كان يحبه حباً جماً لا يوازيه إلا حزنه على الإسلام الذي صار بدون حماة بعد الفقيد، حتى يمكن للدارس أن يصف القصيدة كلها بأنها رثاء للإسلام وللإمام معاً. يبدأ حافظ القصيدة قائلاً:

ســــلام على الإســــــلام بعد محــمد
               ســــلام على أيـــــــامه النضــــرات
على الدين والدنيا على العــلم والحجا
               على البر والتقوى على الحسنات[5]

     فالشاعر مشفق جداً على الإسلام بعد الإمام، مشفق على التقوى والبر والعمل الصالح، لأن ذلك كله مهدد بوفاة الفقيد.

     ويشبه نفسه وقد وقف حاسر الرأس خاشعاً بالحاج المحرم المخبت في عرفات، وقد جاء كسيراً يطلب الرحمة والغفران من ربه:

وقفت عليه حاسر الرأس خاشعاً
               كأني حيــــــال القبر في عرفات

     ولما أراد أن يبين أهمية الفقيد، ذكر أن دفنه بمصر كان جهلاً ممن دفنوه، وكان عليهم أن يدفنوه بخير بقاع الأرض:

لقد جهــــلوا قدر الإمام فأودعوا     تجــــــاليده في موحش بفـــــلاة
ولو ضرحوا بالمسجدين لأنزلوا     بخير بقاع الأرض خـــير رفات

     ثم يبين لنا أن الإسلام صار بغير حماة بعد الفقيد، فلانت قناته للغامزين الطاعنين الذين كانوا يهابونه في حياته:

تبـــــاركت هذا الدين ديــن محـمد     أيتــــرك في الدنيا بغير حمــــــاة
تباركت هذا عالم الشرق قد قضى     ولانت قنــــاة الدين للغـــــــمزات

     ويتحدث عن احتماله الأذى دون شكوى، احتساباً منه وإيماناً، بل يصفه بأنه كان يجد في هذا الاحتمال لذة:

وآذوك في ذات الإله وأنكروا     مكانك حتى سودوا الصفحات
رأيت الأذى في جانب الله لذة     ورحت ولم تهــمم له بشـــكاة

     ويشير إلى الدروس التي كان يلقيها الإمام في تفسير كتاب الله عز وجل، ويشيد بمقدرته وبراعته فيها:

أبنت لنا التنزيل حكماً وحكمة     وفرقت بين النور والظلمــات

     ويتحدث عن دور الإمام في التوفيق بين الدين والعلم ومهارته في ذلك، وهي قضية شغلت الكثيرين ولا تزال من علماء المسلمين، وكان حظهم من النجاح فيها يتفاوت، فيقول له:

ووفقت بين الدين والعلم والحجا     فأطلعت نوراً من ثــلاث جهات

     ويشيد بموقفه في الرد على كل من هانوتو ورينان حين انتقصا من الإسلام، وكيف كان موفقاً في رده الذي كان جبريل عليه السلام يعينه فيه:

وقفت لهانوتو ورينان وقفة     أمدك فيـها الروح بالنفحات

     ويصور كيف كان الإمام يخاف الله في كل موقف، ويجفو المنام متبتلاً بين يدي الله حاملاً قلمه الفياض المنير، يدفع به عدوان الباغين على الإسلام، ويفند شبهات الضالين والمشككين:

وخفــــت مقــام الله في كل موقف     فخــــافك أهل الشك والنزغــــات
وكـم لك في إغفـــاءة الفجر يقظة     نفضـــت عليها لـــــذة الهجـــعات
ووليت شطر البيت وجهــك خالياً     تنــــاجي إله الكون في الخـــلوات
وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى     ونبــهت فيها صـــــادق العزمـات
وأرصدت للبـاغي على دين أحمد     شبــــاة يـراع ســــــاحر النفثـــات
إذا مس خد الطرس فــاض جبينه     بأســـطار نور بــــــاهر اللمعــات
كـــأن قرار الكهربــــــاء بشــــقه     يريـــك سنـــــــاه أيســـر اللمسات

     من أجل ذلك كان المصاب بفقد الإمام مصاباً عم جميع المسلمين، لأنه كان عالم عصره ولم يكن عالم مصر فحسب:

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
               وضــــاقت عيــون الكون بالعبـــرات
ففي الهند محزون وفي الصين جازع
               وفي مصـر بــــاك دائــــم الحســرات
وفي الشام مفجوع وفي الفرس نـادب
               وفي تونــس ما شئــــت من زفـــرات
بـكى عــــالم الإسلام عـــالم عصــره
               ســراج الديــــــاجي هادم الشبهـــــات

     وحين رثى مصطفى كامل، وأشاد بوطنيته وجهاده، طلب منه أن يقوم من قبره ليرد عدوان كرومر على الإسلام، مذكراً إياه أنه كان يغضب للكنانة كما يغضب لربه وقرآنه، وكما غضب الفاروق للرسول صلى الله عليه وسلم:

قم وامح ماخطت يميـن كرومر     جهــــلاً بدين الواحـــد القهـــار
قد كنــت تغضب للكنـــانة كلما     همت وهم رجــــاؤها بعثـــــار
غضب التقي لربــــه وكتــــابه     أو غضبة الفاروق للمختار[6]

     ويبين أن المصاب بالفقيد مصاب للمسلمين جميعاً، ولذلك جزع الهلال وكان شعار الدولة العثمانية التي كانت زعيمة المسلمين يومذاك وأخذ يتلفت حائراً يبحث عمن يخلف الفقيد في جهاده:

جزع الهلال عليك يوم تركته     ما بين حــر أسى وحــر أوار
متــــلفتـاً متحيــــراً متخيـــراً     رجلاً ينـــاضل عنه يوم فخار

     ونلحظ الروح الإسلامية واضحة جداً في رثاء حافظ لعلي يوسف صاحب صحيفة المؤيد، الذي جعل منها معلماً للجهاد الوطني والجهاد الديني، يذب فيها عن مصر والعروبة والإسلام:

وكان ميـــدان سبق للألى غضبـــوا
               للدين والحق من داع ومحتسب[7]

     وأشاد حافظ بموقف المؤيد في نشرها رد الإمام محمد عبده على مزاعم هانوتو، وبدورها في جمع كلمة المسلمين وتعارفهم:

أي الصحــــائف في القطــرين قد وسعــــت
               رد الإمــام مزيـــل الشـــــك والريــــــــــب
أيـــــــــام يحصــــب هانوتــــو بفـريتـــــــه
               وجــــه الحقيــــــقة والإســـــــلام في نحـب
لولا المؤيـــــد ظل المســـــــلمون عـــــــلى
               تـنــــــاكر بيــــــــنهم في ظلـــمة الحجــــب
تعــــــارفوا فيـه أرواحــــــاً وضـــــــــمـهم
               رغـم التنـــــائي زمـــــام غيـــر منقضــــب
في مصر في تونـــس في الهند في عـــــدن
               في الروس في الفرس في البحرين في حلب
هــذا يحــــن إلى هــذا وقـد عقــــــــــــــدت
               مــــودة بينــــــهم موصـــــولة الســـــــــبب

     ثم يطلب من الفقيد أن ينعم بالفوز عند الله عز وجل لقاء أعماله الصالحات التي احتسبها مجاهداً صابراً:

أبـــا بثينــــة نم يكفيــــــك ما تركت     فينـــا يداك وما عـــانيت من تعـــب
جاهـــدت في الله والأوطان محتسباً     فــارجع إلى الله مأجوراً وفز وطب
واحمل بيمناك يوم النشر ما نشرت     تلك الصحيـــفة في دنيــاك وانتسب

     وحين مات الشيخ سليم البشري جعل مصابه مصاباً للمسلمين، فقد هوى ركن الحديث الشريف الذي كان الفقيد من علمائه البارزين:

هوى ركن الحديث فأي قطب     لطلاب الحقيـــــقة والصواب
موطأ مالك عـــز البخــــاري     ودع لله تعزية الكـتــــاب[8]

     وليس هناك من يقدر أن يوفي الدين حقه في هذا المصاب الجلل:

فمـــا في النــــاطقين فـــم يوفي     عزاء الدين في هذا المصــــاب
قضى الشيخ المحدث وهو يملي     على طــلابه فصـــــل الخطاب

     وحين أراد أن يناديه وصفه بأنه شيخ المسلمين:

أشيــــخ المسلمين نأيت عنا     عظيم الأجر موفور الثواب

     وختم قصيدته بأن جعل الإسلام وأهله، يظل يحيي الفقيد إلى يوم الحساب:

عليك تحية الإسلام وقفاً     وأهليه إلى يوم الحساب

     وفي القصيدة التي قالها في ذكرى الإمام محمد عبده عام 1922م، يأسى حافظ لأن ذكرى الإمام قد نسيها الناس، ولو أنهم أنصفوا لسارعوا إلى اتخاذها معهداً للدين يتعلم الناس فيه من عطاء الفقيد:

أنسي الأحيــــــاء ذكــرى عبــــده     وهي للمستـــاف من مسك وطيـب
إنهـــم لــو أنصفــــوها لـبـــــــنـوا     معـــــهداً تعتــــاده كف الوهـــوب
معـــــهـداً للدين يسقى غرســـــــه     من نمير فاض من ذاك القليب[9]

     ويختم حافظ رائعته الشهيرة في سعد زغلول بهذا البيت الذي يبشره فيه بالجنة لأنه خاف مقام ربه حياً فاستحق إكرامه ميتاً:

خفت فينا مقـــام ربك حياً     فتنظر بجنتيه الثوابا[10]

     وفي رثائه لأمين الرافعي نجده يقول عنه:

مضى نقـيــــاً عفيـــف النفس محتســباً
               فهـــد من دولــة الأخــــلاق أركـانــــا
جـــرت على ســـنـن التوحيـد نشـــأته
               في الله والرأي إخـلاصــــــاً وإيمــانــا
ظــــلم من القبـــــر أن تبــــلى أنــامله
               فــكم رمت في سبيــــل الله من خانــــا
أمين حسبــــك ما قــــدمت من عـــمل
               فـــأنت أرجحنــــا في الحشر ميزانـــا
أبشــــر فإنــــك في أخـراك أسعدنــــا
               حظـــاً وإن كنـــت في دنيــاك أشقانــا
واضـرع إلى الله في الفردوس مبتهلاً
               أن يحرس النيل ممن رام طغيانا[11]

     والروح الدينية في الأبيات واضحة جلية، فالفقيد نقي عفيف يبتغي وجه الله فيما يفعل، وهو قد نشأ على التوحيد الذي يجعله يتجه إلى الله تعالى في كل ما يريد، وليس للقبر أن يبلي أنامله التي طالما جاهدت بقلمها في سبيل الله. ولهذا يبشره الشاعر بأنه من الفائزين يوم الحشر، وأنه أسعد الناس فيه ويطلب منه أن يدعو الله تعالى حيث هو في الفردوس أن يقي النيل شر من يريد به الأذى.

ولما رثى أحمد حشمت باشا وزير المعارف الذي عينه في دار الكتب المصرية، أقر له بالجميل الذي كاد يحمله على الطواف بقبره كما يطوف المسلمون بالكعبة المشرفة لولا خوفه من أن يتهم في دينه:

تـــالله لولا أن يقـــــــال أتى     بدعاً لطفت بقبره سبعا[12]

     وهكذا تظهر روح حافظ المسلمة في مراثيه، وتعبر عن نفسها من خلال الإشارة إلى معان أو رموز أو أعلام أو مقدسات أو شعائر، لتنبئ عن روحه التي أشربت حب الإسلام أعمق الحب وأصدقه.

     على أن ولاء حافظ للإسلام وحبه الشديد له، لم يقده إلى أي نوع من أنواع التعصب الذميم ضد الأديان الأخرى، ولذلك أكثر من سبب أهمها طبيعة حافظ التي يغلب عليها الطيب والسماحة، وطبيعة مصر وهي بلد منفتح معتدل لا يحب التعصب والغلو، ثم صداقة حافظ لعدد من أعلام النصارى في مصر، وبينهم عدد من نصارى الشام الذين استوطنوها.

     وقد أشاد في ديوانه بعدد من أعلام النصارى الكبار في الغرب والشرق، مدحاً ورثاء وتمجيداً وتهنئة، مثل: هيجو وشكسبير وفكتوريا وتولستوي وخليل مطران وواصف غالي وفارس نمر ويعقوب صروف وجورج الخامس وشبلي شميل وجرجي زيدان واليازجي وحبيب المطران.

     ورثاء حافظ للملكة فكتوريا، نموذج عجيب وغريب للتسامح المبالغ فيه، فالشاعر لا يرثي شخصية عادية، ولا إنساناً من بلده، ولا صديقاً أو زميل دراسة، وإنما يرثي ملكة، هي في الدين تنتمي إلى دين آخر، وهي في الوطنية ملكة إنجلترا التي تحتل جيوشها مصر بغياً وعدواناً.

     ومع ذلك يعزي الإنجليز، ويدعوهم إلى الرضا بحكم الله جبار السماء، ويذكرهم بأن الناس جميعاً، إلى فناء فما عليهم إلا التسليم:

أعزي القوم لو سمعوا عزائي     وأعلن في مليــــكتهم رثـــائي
وأدعو الإنجليز إلى الرضــاء     بحـــكم الله جـبــار الســـــمـاء
فكـل العـالمين إلى فنــاء[13]

     ولولا الإشارة الصريحة إلى المرثية، وذلك بذكر كلمتي ((مليكتهم)) و((الإنجليز)) لكانت هذه الأبيات تصلح أن تقال في حق أي مسلم أو عربي أو مصري.

     وبعد هذا المقطع الذي تشيع فيه روح دينية عامة، ينتقل حافظ ليثني على المرثية بعظمتها وقوتها وسعة سلطانها، ويعزي فيها ملكها الكبير وتاجها والسرير، وجيش الإنجليز ورايتهم.

     وحين مات شبلي شميل عام 1917م، وكان لبنانياً نصرانياً متمصراً، وكانت له آراء إلحادية أنكرها الناس عليه، رثاه حافظ بقصيدة تدل على مودته إياه مع ما بينهما من تباعد، بين لبنانية المرثي ومصرية حافظ، ونصرانية المرثي وإسلام حافظ، وإلحاد المرثي وإيمان حافظ، وقد شعر حافظ أنه في موقف حرج دقيق استطاع أن يتخلص منه بلباقة وفق فيها حين أكد أنه يرثي أخلاق المرثي فحسب ولكنه لا يؤمن بأفكاره، يقول حافظ في هذه القصيدة:

إيه شبـــلي قد أكثر الناس فيك الـ     قــــول حتى تفنـــــنوا في عتــابي
قيــــل تــرثي ذاك الذي ينكر النو     ر ولا يهتـــــدي بهـــدي الكتــاب
قــلت كفــوا فـإنـــما قـــمت أرثي     منـــه خــلاً أمسى طويـل الغيـاب
أنــــا والله لا أحابيــــه في القـــــو     ل فقـــد كان صــاحبي لا يحــابي
أنــــا أرثي شــــمائلاً منه عنــدي     كن أحلى من الشهاد المذاب[14]

     وهو يطلب من الناس أن يتركوا المرثي لربه الذي لقيه وهو العادل، والموت فصل الخطاب بين المرثي الملوم ولائميه الناقمين عليه:

سكن الفيلسـوف بعد اضطراب     إن ذاك السكون فصل الخطاب
لـقي الله ربــــه فاتــــركوا المر     ء لديـــــانه فسيـــــح الرحــاب

     ورثاء حافظ لشبلي شميل من أبلغ الأدلة على سماحته وطيب قلبه، فإذا كان الناس قد رأوا في آراء المرثي ما يغضبهم فإن حافظ رأى في أخلاقه الشخصية ما جعله يعجب به ويرثيه، وإذا كان الناس قد حكموا عليه في حياته بالكفر فإن حافظ لا يدخل في هذا الأمر في قليل أو كثير، ولكنه ينظر إليه من زاوية أخرى فوق طوق الناس وقدرتهم، وهي أن المرثي بين يدي الله عز وجل فعليهم أن يدعوه وشأنه لأنه بين يدي الحكم العدل.

     وحين مات جرجي زيدان عام 1914م قال فيه حافظ قصيدة حزينة تنبئ عن ود صادق مطلعها:

دعـــاني رفـــاقي والقـــوافي مريضة
               وقد عقدت هوج الخطوب لساني[15]

     وجرجي زيدان من نصارى الشام المتمصرين وهو صاحب مجلة الهلال وله تآليف معروفة، وفي هذه القصيدة الحزينة، رثى حافظ نفسه، ورثى جرجي زيدان الذي نظم القصيدة من أجله ابتداء، ولام نفسه لأنه لم يرث فتحي زغلول، وضمن القصيدة رثاء لإبراهيم اليازجي وهو الآخر من نصارى الشام، فجاءت القصيدة وكأنها رثاء جماعي:

وفي ذمتي للـيـــــــازجي وديعــــة
               وأخـــرى لزيـــــدان وقد سبقـــاني
فياليت شعري ما يقولان في الثرى
               إذا التقـيـــا يومـــاً وقـــــد ذكـراني
وقد رميــــا بالطرف بين جموعكم
               ولم يشـــهدا في المشـــهدين مكاني
أيجـــمل بي هذا العقـــــــوق وإنما
               على غيــر هذا العهــد قد عرفـاني
دعــاني وفــــائي يوم ذاك فلم أكن
               ضنينــــاً ولكن القريض عصــاني
وقد تخــرس الأحزان كل مفـــــوه
               يصرف في الإنشـــــاد كل عنـــان

     وحين مات تولستوي الفيلسوف الأديب الشهير عام 1910م رثاه حافظ، على اختلاف الوطن واللغة والدين والإيمان، وصرح أنه يرثيه لنبوغه ولا يبالي أحوته جنان أم سعير، يقول حافظ:

ولست أبـــالي حين أرثيك للورى
               حوتك جنـــــان أم حواك سعيــــر
فــــإني أحــب النـــــابغين لعلمهم
               وأعشق روض الفـكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
               وهز لهـــــا عرش وماد سريـــــر
وقــال أنــــــاس إنه قول ملحـــــد
               وقــال أنــــــاس إنه لبشيــر[16]

     ويرى حافظ شبهاً كبيراً بين تولستوي والمعري، فكلاهما زهد عن قدرة وكلاهما ثار حوله لغط كثير، وكلاهما رغب في الإصلاح، لذلك طلب من تولستوي أن يعرف قدر المعري وأن يحسن الإصغاء إليه:

إذا زرت رهن المحبسيــــن بحــــفرة
               بهـــا الزهد ثـــــــاو والذكاء ستيــــــر
وأبصرت أنس الزهد في وحشة البلى
               وشــــاهدت وجه الشيـــــخ وهو منيـر
وأيقنــــت أن الديـــــن لله وحـــــــــده
               وأن قبــــور الزاهــــــدين قصــــــور
فقـــف ثم ســــلم واحتشـــم إن شيخنـا
               مهيــــب عــلى رغم الفنــــــاء وقــور
وســــائله عمـــــا غـــاب عنك فإنــــه
               عليـــم بأســــرار الحيـــــــاة بصيــــر
يخبـــرك الأعمى وإن كنت مبصـــراً
               بمــا لم تخبــــــر أحـرف وسطــــــور

     ثم يدير حافظ الحديث، ويجعله على لسان المعري يخاطب به تولستوي، ويرحب به، ويقول له: إنك عشت تقياً زاهداً باراً محارباً للظلم داعياً للعدل، ويذكر له أنه دعا بمثل دعوته من قبل فلم يوفق ولم يستجب له.

     وحين مات يعقوب صروف رثاه حافظ بقصيدة، أشاد فيها بالمرثي وعدد أعماله، ووصفه بأنه الخالد الذي لا يطويه الموت فذكراه سوف تظل حية:

أبكي وعيـــن الشـرق تبكي معي     على الأديـــب الكــــاتب الألمـعي
جـــرى عصي الدمع من أجــــله     فــــزاد في الجود على الطيـــــــع
مصـــاب صروف مصاب النهى     فـليـــــــــبكه كــل فــــــــؤاد يعي
قـــد زيـن العــــــلم بـأخـــــــلاقه     فعـــــاش ملء العيــــن والمسـمع
صـــروف لا تبعــد فـلســت الذي     يطويـــــه طـــاوي ذلك المضجـع
أسكـتـــك المـــوت ولـكنـــــــــــه     لم يســــكت الآثــــار في المجـمع
ذكـــراك لا تنفــــــك موصــــولة     في معهد العلم وفي المصنع[17]

     وحين مات حبيب المطران وهو أحد سراة النصارى في بعلبك، وكان قصره مثابة للأعيان والوجهاء، قال فيه حافظ:

أعـــزي فيك أهلي أم أعـــزي     عفـــاة النــــاس أم همم الكرام
وما أدري أركن الجـــاه أودى     وقد أوديت أم ركن الشآم[18]

     وحين مات عبدالخالق ثروت عام 1928م، رثاه بقصيدة طويلة جيدة، وأشاد فيها بموقفه في قضية اغتيال بطرس غالي على يد الورداني، وكيف كان له دور محمود في إطفاء الفتنة بين المسلمين والقبط:

كم موقـــف لك في الجهاد مسـجل     بشــــهادة الأعداء والأصحـــــاب
في خطب مصر لبطرس أخمدتها     مشبـــوبة كـــانت على الأبـــواب
ألـفـــت بين العنصرين فأصبـــحا     رتقاً وكنت موفق الأسبــاب[19]

     وهكذا ظهرت شخصية حافظ المتسامحة دينياً في رثائه لعدد من أعلام النصارى، وهو أمر يؤكد تلك الخاصية التي تنطق بها حياة حافظ وشعره بأجلى بيان، وهي سعة قلبه وسماحته وبراءته من التعصب المذموم.

     وتسامحه الديني لا يقدح في ولائه لدينه أبداً وهذا الأمر قد يبدو غريباً لكنه في الحقيقة ليس كذلك، لأن التسامح الديني وكراهية التعصب المذموم هما مما يأمر به الدين نفسه، ولذلك كان حافظ حين يمدح النصارى أو يرثيهم، يوجه عنايته إلى أخلاقهم الشخصية أو بحوثهم العلمية أو دأبهم في الكد والسعي، وحين رثى شبلي شميل صرح بأنه يرثي أخلاقه الشخصية ولا يؤمن بأفكاره لما عرف عنه من زيغ وإلحاد. وتاريخ الإسلام حافل بمواقف في التسامح الديني كانت في غاية العجب، وهو ما حمل عدداً من كبار علماء الغرب على الإشادة بذلك، وتاريخ مصر خاصة يغلب عليه التسامح في الدين وفي كل شيء، وشخص حافظ بطبعه ومزاجه وثقافته شخص متسامح، لذلك يمكن أن نعد تسامح حافظ تسامحاً منطقياً مع نفسه، ومع وطنه، ومع دينه، على السواء، وتسامحاً منطقياً منسجماً مع ولائه للإسلام.

--------------
[1] الديوان، ص 445.
[2] الديوان، ص 447.
[3] الديوان، ص 450.
[4] الديوان، ص 516.
[5] الديوان، ص 458.
[6] الديوان، ص 465.
[7] الديوان، ص 486.
[8] الديوان، ص 503.
[9] الديوان، ص 517.
[10] الديوان، ص 532.
[11] الديوان، ص 540.
[12] الديوان، ص 580.
[13] الديوان، ص 450.
[14] الديوان، ص 495.
[15] الديوان، ص 497.
[16] الديوان، ص 478.
[17] الديوان، ص 542.
[18] الديوان، ص 559.
[19] الديوان، ص 544.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة