الاثنين، 8 أغسطس 2022

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

 

الفصل الأول: محمد إقبال وقفات مع مكانته وأدبه وأندلسياته

طليطلة مشكاة الحضارة الإسلامية في الأندلس وأوروبا

     يمكن القول: إن "طليطلة" كانت أكبر مركز لترجمة الثقافة والعلوم والمعارف الإسلامية إلى لغات الثقافة الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وخاصة في أواخر القرن الثالث عشر حين ولي العرش الإسباني "ألفونسو العاشر" الذي لُقب بالعالِم أو الحكيم (1284م)، وقد أراد هذا الملك المستنير للغة القشتالية أن تصبح لغة عالمية، فأحلها محل اللغة اللاتينية، ونظم أعمال الترجمة، وعني فيها بوضع المراجعين والمحققين على رأس كل جماعة تنهض بهذا العمل.

     بل إن الترجمة اجتذبت إليها بعض العلماء الأوروبيين الآخرين مثل جيرار الكريوني، وهو من إيطاليا، وقد قصد طليطلة وعُني خاصة بالمؤلفات العلمية فترجم في الطب والفلك والكيمياء والرياضيات، وكان إلى جانبه "جند سالينوس" الذي عُني بالناحية الفلسفية، وبتلخيص بعض الكتب العربية في هذا المجال.

     وينبغي ألا يغيب عن البال أن الترجمة التي تمّت في طليطلة في القرن الثاني عشر، كانت تتم على مقربة من ابن رشد، وفي الوقت الذي كان يضع فيه شروحه ومؤلفاته في إشبيلية وقرطبة. يضاف إلى ذلك أن المدرسة التي أسست في طليطلة لتعليم العربية والعبرية تخرج منها ريمون مارثان الدومنكاني (القرن الميلادي الثالث عشر) الذي كان على اتصال بتوماس الأكويني.

     ولا ريب أن بقاء طليطلة على هذا الوضع طيلة ثلاثة قرون، أي حتى سقوط غرناطة وخروج المسلمين منها -وهي آخر معاقلهم في إسبانيا- كان له الأثر الحاسم في نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الإسبان أولاً، وإلى الأوروبيين من بعدهم ثانياً. ذلك أن الطلاب كانوا يفدون إلى طليطلة من سائر الأصقاع الأوروبية، وقد امتد هذا الأثر ووصل إلى أمريكا التي اكتشفها الإسبان عام (1492م).

     وينبغي على الدارس ألا ينسى ها هنا أن ثمة صلة وثيقة بين تلك الحركة الهائلة في الترجمة وبين المخططات الصليبية التي غيرت في طريقتها بعد فشل الحروب الصليبية في بلاد الشام، ومما يذكر في هذا المجال أن ريمون رول استطاع بعد تلك الحركة الهائلة في ترجمة المعارف الإسلامية إلى القشتالية واللاتينية بقليل عام (1316م) أن يقرر مبدأ تخصيص كرسيٍّ للغات الأجنبية في الجامعات الأوروبية، وقد كان هذا الرجل أول أوروبي نادى بعد فشل الحروب الصليبية بإرسال البعثات التبشيرية.

     لقد باتت قضيةً لا تحتاج إلى جدال أن تقرر أن الأندلس الإسلامية لعبت دوراً كبيراً في نقل المعارف والعلوم والفنون الإسلامية إلى أوروبا، مما كان له أثره البارز في نهضة أوروبا، وانتقالها إلى مطالع العصور الحديثة.

     لكن الأمر الذي قد يكون بحاجة إلى شيء من التوضيح هو أن التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية لم ينتهِ بسقوط آخر المعاقل الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل استمر بعد ذلك فترة ليست قصيرة لعلها تتجاوز القرن من الزمان. والسبب في ذلك يعود إلى الجماعات الكبيرة من المسلمين التي بقيت في البلاد تحت السلطة الإسبانية المسيحية، والتي مارست دوراً مبدعاً إيجابياً على الرغم من كل قوانين الاضطهاد، والملاحقة والبطش والتحريق التي اتخذتها الدولة كنيسةً وسلطة بحقهم.

     ويرى بعض الباحثين أن الشعب المسلم هو الذي كان يضطلع بالقسط الأكبر من النشاط الحيوي في إسبانيا من زراعة وصناعة وتجارة، مما دعا كثيراً من النبلاء والإقطاعيين النصارى إلى الاجتهاد في الحفاظ على مَنْ تحت أيديهم من المسلمين، وإلغاء القوانين المتوالية التي كانت تصدر لطردهم من إسبانيا أو تأجيلها على الأقل.

     ولقد كان هؤلاء المسلمون الذين عُرفوا بـ"الموريسكيين" أو المدجّنين، وهم الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، وأجبروا على التنصّر، شعباً مبدعاً نشيطاً استطاع بالرغم من قسوة الظروف المحيطة به أن يتابع مسيرته الحضارية المعطاءة، ويوالي دوره الإيجابي البنّاء، ويكفي لمعرفة شراسة الظروف المحيطة به؛ أن تعلم أن بعضهم يرى أنه لا توجد أمة من أمم الأرض ولا شعب من شعوبها امتُحِنَ بمثل ما امتُحِنَ به أولئك البائسون.

*****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأكثر مشاهدة